إنّ تلك الأخبار العامّة المتقدّمة هي أهمّ ما استُدلّ به للاستصحاب.
و هناك أخبار خاصّة تؤيّدها، ذكر بعضها الشيخ الأنصاري. و نحن نذكر واحدة منها للاستئناس، و هي رواية عبد الله بن سنان الواردة فيمن يعير ثوبه الذمّي و هو يعلم أنّه يشرب الخمر و يأكل لحم الخنزير.
قال: فهل عليَّ أن أغسله؟
فقال: لا! لأنّك أعرته إيّاه و هو طاهر، و لم تستيقن أنّه نجّسه «1».
قال الشيخ: و فيها دلالة واضحة على أنّ وجه البناء على الطهارة و عدم وجوب غسله هو سبق طهارته و عدم العلم بارتفاعها «2».
و المهمّ لنا أن نبحث الآن عن مدى دلالة تلكم الأخبار من جهة بعض التفصيلات المهمّة في الاستصحاب. فنقول:
1- التفصيل بين الشبهة الحكميّة و الموضوعيّة:
إنّ المنسوب إلى الأخباريّين اعتبار الاستصحاب في خصوص الشبهة الموضوعيّة، و أمّا الشبهات الحكميّة مطلقاً فعلى القاعدة عندهم من
______________________________
(1) الوسائل: ج 2 ص 1095، الباب 74 من أبواب النجاسات، ح 1.
(2) فرائد الاصول 2: 571.
أصول الفقه ( مظفر، محمد رضا - طبع انتشارات اسلامى )، ج4، ص: 315
وجوب الرجوع إلى قاعدة الاحتياط. و علّل ذلك بعضهم بأنّ أخبار الاستصحاب لا عموم لها و لا إطلاق يشمل الشبهة الحكمية، لأنّ القدر المتيقّن منها خصوص الشبهة الموضوعيّة. لا سيّما أنّ بعضها وارد في خصوصها، فلا تعارض أدلة الاحتياط «1».
و لكنّ الإنصاف: أنّ لأخبار الاستصحاب من قوّة الإطلاق و الشمول ما يجعلها ظاهرة في شمولها للشبهة الحكميّة، و لا سيّما أنّ أكثرها وارد موردَ التعليل، و ظاهرها تعليق الحكم على اليقين من جهة ما هو يقين، كما سبق بيان ذلك في الصحيحة الاولى. فيكون شمولها للشبهة الحكميّة حينئذٍ من باب التمسّك بالعلّة المنصوصة. على أنّ رواية محمّد بن مسلم- المتقدّمة- عامّة لم ترد في خصوص الشبهة الموضوعيّة. فالحقّ شمول الأخبار للشبهتين.
و أمّا أدلّة الاحتياط: فقد تقدّمت المناقشة في دلالتها فلا تصلح لمعارضة أدلّة الاستصحاب.
2- التفصيل بين الشكّ في المقتضي و الرافع:
هذا هو القول التاسع- المتقدّم- و الأصل فيه المحقّق الحلّي «2» ثمّ المحقّق الخوانساري «3» و أيّده كلَّ التأييد الشيخ الأعظم «4» قد دعمه جملة من تأخّر عنه. و خالفهم في ذلك الشيخ الآخوند، فذهب إلى اعتبار الاستصحاب مطلقاً «5». و هو الحقّ، و لكن بطريقة اخرى غير الّتي سلكها الشيخ الآخوند.
______________________________
(1) الحدائق الناضرة: ج 1 ص 54.
(2) راجع ص 294، معارج الاصول: ص 206.
(3) مشارق الشموس: ص 141- 142.
(4) راجع فرائد الاصول: ج 2 ص 561.
(5) كفاية الاصول: ص 439.
أصول الفقه ( مظفر، محمد رضا - طبع انتشارات اسلامى )، ج4، ص: 316
و من أجل هذا أصبح هذا التفصيل من أهمّ الأقوال الّتي عليها مدار المناقشات العلميّة في عصرنا. و يلزمنا النظر فيه من جهتين: من جهة المقصود من «المقتضي و المانع» و من جهة مدى دلالة الأخبار عليه.
- 1- المقصود من المقتضي و المانع
و نحيل ذلك إلى تصريح الشيخ نفسه، فقد قال: المراد بالشكّ من جهة المقتضى: الشكّ من حيث استعداده و قابليّته في ذاته للبقاء، كالشكّ في بقاء الليل و النهار، و خيار الغبن بعد الزمان الأوّل «1».
فيُفهم منه أنّه ليس المراد من «المقتضي»- كما قد ينصرف ذلك من إطلاق كلمة المقتضي- مقتضي الحكم، أي الملاك و المصلحة فيه، و لا المقتضي لوجود الشيء في باب الأسباب و المسبّبات بحسب الجعل الشرعي، مثل أن يقال: إنّ الوضوء مقتضٍ للطهارة و عقد النكاح مقتضٍ للزوجيّة، بل المراد نفس استعداد المستصحب في ذاته للبقاء و قابليّته له من أيّة جهةٍ كانت تلك القابليّة و سواء فُهمت هذه القابليّة من الدليل أو من الخارج. و يختلف ذلك باختلاف المستصحبات و أحوالها، فليس فيه نوع و لا صنف مضبوط من حيث مقدار الاستعداد، كما صرّح بذلك الشيخ.
و التعبير عن الشكّ في القابلية بالشكّ في المقتضي فيه نوع من المسامحة توجب الإيهام. و ينبغي أن يُعبّر عنه بالشكّ في اقتضائه للبقاء لا الشكّ في المقتضي، و لكن بعد وضوح المقصود فالأمر سهل.
و أمّا الشكّ في الرافع: فعلى هذا يكون المقصود منه الشكّ في طروّ ما
______________________________
(1) فرائد الاصول: ج 2 ص 558- 559.
أصول الفقه ( مظفر، محمد رضا - طبع انتشارات اسلامى )، ج4، ص: 317
يرفع المستصحب مع القطع باستعداده و قابليّته للبقاء لو لا طروّ الرفع، كما صرّح به الشيخ و ذكر أنّه على أقسام. و المتحصّل من مجموع كلامه في جملة مقامات: أنّه ينقسم إلى قسمين رئيسين: الشكّ في وجود الرافع، و الشك في رافعيّة الموجود.
و هذا القسم الثاني أنكر المحقّق السبزواري حجّية الاستصحاب فيه بأقسامه الثلاثة الآتية «1» و هو القول العاشر في تعداد الأقوال. و نحن نذكر هذه الأقسام لتوضيح مقصود الشيخ.
1- الشكّ في وجود الرافع: و مثّل له بالشكّ في حدوث البول مع العلم بسبق الطهارة. و هو رحمه الله لا يعني به إلّا الشكّ في الشبهة الموضوعيّة خاصّة، و أمّا ما كان في الشبهة الحكميّة فلا يعمّه كلامه، لأنّ الشكّ في وجود الرافع فيها ينحصر عنده في الشكّ في النسخ خاصّة، لأنّه لا معنى لرفع الحكم إلّا نسخه. و إجراء الاستصحاب في عدم النسخ- كما قال- إجماعي بل ضروري. و السرّ في ذلك: ما تقدّم في مباحث النسخ- في الجزء الثالث «2»- من أنّ إجماع المسلمين قائم على أنّه لا يصحّ النسخ إلّا بدليل قطعي، فمع الشكّ لا بدّ أن يؤخذ بالحكم السابق المشكوك نسخه، أي أنّ الأصل عدم النسخ لأجل هذا الإجماع، لا لأجل حجّية الاستصحاب.
v
2- الشكّ في رافعية الموجود: و ذلك بأن يحصل شيء معلوم الوجود قطعاً و لكن يشكّ في كونه رافعاً للحكم. و هو على أقسامٍ ثلاثة:
الأوّل: فيما إذا كان الشكّ من أجل تردّد المستصحب بين ما يكون الموجود رافعاً له و بين ما لا يكون. و مثّل له بما إذا علم بأنّه مشغول الذمّة
أصول الفقه ( مظفر، محمد رضا - طبع انتشارات اسلامى )، ج4، ص: 318
بصلاةٍ ما في ظهر يوم الجمعة، و لا يعلم أنّها صلاة الجمعة أو صلاة الظهر، فإذا صلّى الظهر- مثلًا- فإنّه يتردّد أمره لا محالة في أنّ هذه الصلاة الموجودة الّتي وقعت منه هل هي رافعة لشغل الذمّة بالتكليف المذكور أو غير رافعة؟
الثاني: فيما إذا كان الشكّ من أجل الجهل بصفة الموجود في كونه رافعاً مستقلّاً في الشرع، كالمذي المشكوك في كونه ناقضاً للطهارة، مع العلم بعدم كونه مصداقاً للرافع المعلوم و هو البول.
الثالث: فيما إذا كان الشكّ من أجل الجهل بصفة الموجود في كونه مصداقاً للرافع المعلوم مفهومه، أو من أجل الجهل به في كونه مصداقاً للرافع المجهول مفهومه. مثال الأوّل: الشكّ في الرطوبة الخارجة في كونها بولًا أو مذياً مع معلوميّة مفهوم البول و المذي و حكمهما. و مثال الثاني:
الشك في النوم الحادث في كونه غالباً للسمع و البصر أو غالباً للبصر فقط مع الجهل بمفهوم النوم الناقض في أنّه يشمل النوم الغالب للبصر فقط.
و رأي الشيخ أنّ الاستصحاب يجري في جميع هذه الأقسام، سواء كان شكّاً في وجود الرافع أو في رافعيّة الموجود بأقسامه الثلاثة. خلافاً للمحقّق السبزواري اذ اعتبر الاستصحاب في الشكّ في وجود الرافع فقط دون الشكّ في رافعيّة الموجود، كما تقدمت الإشارة إلى ذلك.
- 2- مدى دلالة الأخبار على هذا التفصيل
قال الشيخ الأعظم: إنّ حقيقة النقض هو رفع الهيئة الاتّصاليّة، كما في نقض الحبل. و الأقرب إليه على تقدير مجازيّته هو رفع الأمر الثابت- إلى
أصول الفقه ( مظفر، محمد رضا - طبع انتشارات اسلامى )، ج4، ص: 319
أن قال- فيختصّ متعلّقه بما من شأنه الاستمرار «1».
وعليه، فلا يشمل «اليقينُ» المنهيّ عن نقضه بالشكّ في الأخبار «اليقينَ» إذا تعلّق بأمرٍ ليس من شأنه الاستمرار أو المشكوك استمراره.
توضيح مقصوده- مع المحافظة على ألفاظه حدّ الإمكان- أنّ «النقض» لغةً لمّا كان معناه «رفع الهيئة الاتّصالية» كما في نقض الحبل، فإنّ هذا المعنى الحقيقي ليس هو المراد من الروايات قطعاً، لأنّ المفروض في مواردها طروّ الشكّ في استمرار المتيقّن، فلا هيئة اتّصاليّة باقية لليقين و لا لمتعلّقه بعد الشكّ في بقائه و استمراره.
فيتعيّن أن يكون إسناد النقض إلى اليقين على نحو المجاز. و لكن هذا المجاز له معنيان يدور الأمر بينهما، و إذا تعدّدت المعاني المجازيّة فلا بدّ أن يُحمل اللفظ على أقربها إلى المعنى الحقيقي، و هذا يكون قرينة معيّنة للمعنى المجازي. و هنا المعنيان المجازيّان أحدهما أقرب من الآخر، و هما:
1- أن يراد من «النقض» مطلق رفع اليد عن الشيء و ترك العمل به و ترتيب الأثر عليه و لو لعدم المقتضي له، فيكون المنقوض عامّاً شاملًا لكلّ يقينٍ.
2- أن يراد منه رفع الأمر الثابت.
و هذا المعنى الثاني هو الأقرب إلى المعنى الحقيقي، فهو الظاهر من إسناد النقض.
و حينئذٍ فيختصّ متعلّقه بما من شأنه الاستمرار المختصّ بالموارد
______________________________
(1) فرائد الاصول: ج 2 ص 574.v
أصول الفقه ( مظفر، محمد رضا - طبع انتشارات اسلامى )، ج4، ص: 320
الّتي يوجد فيها هذا المعنى.
و الظاهر رجحان هذا المعنى الثاني على الأوّل، لأنّ الفعل الخاصّ يصير مخصّصاً لمتعلّقه إذا كان متعلّقه عامّاً، كما في قول القائل:
«لا تضرب أحداً» فإن «الضرب» يكون قرينة على اختصاص متعلّقه بالأحياء، و لا يكون عمومه للأموات قرينة على إرادة مطلق الضرب.
هذه خلاصة ما أفاده الشيخ. و قد وقعت فيه عدّة مناقشات نذكر أهمّها و نذكر ما عندنا ليتّضح مقصوده و ليتجلّى الحقّ- إن شاء اللَّه تعالى-.
1- المناقشة الاولى: إنّ «النقض» يقابل «الإبرام» و النقض- كما فسّروه في اللغة-: إفساد ما أبرمت من عقد أو بناءٍ أو حبل أو نحو ذلك «1». وعليه، فتفسيره من الشيخ ب «رفع الهيئة الاتّصالية» ليس واضحاً، بل ليس صحيحاً، إذ أنّ مقابل الاتّصال الانفصال، فيكون معنى «النقض» حينئذٍ انفصال المتّصل. و هو بعيد جدّاً عن معنى نقض العهد و العقد.
أقول: ليس من البعيد أن يريد الشيخ من «الاتّصال» ما يقابل «الانحلال» و إن كان ذلك على نحو المسامحة منه في التعبير، لا ما يقابل «الانفصال». فلا إشكال.
2- المناقشة الثانية: و هي أهمّ مناقشةٍ عليها يبتني صحّة استدلاله على التفصيل أو بطلانه. و حاصلها:
أنّ هذا التوجيه من الشيخ للاستدلال يتوقّف على التصرّف في «اليقين» بإرادة المتيقّن منه، كما نبّه عليه نفسه، لأنّه لو كان النقض مستنداً إلى نفس اليقين- كما هو ظاهر التعبير- فإنّ اليقين بنفسه مبرم و محكم فيصحّ إسناد النقض إليه و لو لم يكن لمتعلّقه في ذاته استعداد البقاء،
______________________________
(1) لسان العرب: ج 7 ص 242.
أصول الفقه ( مظفر، محمد رضا - طبع انتشارات اسلامى )، ج4، ص: 321
ضرورة أنّه لا يحتاج فرض الإبرام في المنقوض إلى فرض أن يكون متعلّق اليقين ثابتاً و مبرماً في نفسه حتّى تختصّ حرمة النقض بالشكّ في الرافع.
و لكن لا يصحّ إرادة المتيقّن من «اليقين» على وجهٍ يكون الإسناد اللفظي إلى نفس المتيقّن، لأنّه إنّما يصحّ ذلك إذا كان على نحو المجاز في الكلمة أو على نحو حذف المضاف، و كلا الوجهين بعيدان كلَّ البُعد، إذ لا علاقة بين «اليقين» و «المتيقّن» حتّى يصح استعمال أحدهما مكان الآخر على نحو المجاز في الكلمة، بل ينبغي أن يُعدّ ذلك من الأغلاط. و أمّا تقدير المضاف بأن تقدّر «متعلّق» اليقين، أو نحو ذلك، فإنّ تقدير المحذوف يحتاج إلى قرينةٍ لفظيّةٍ مفقودة.
و من أجل هذا استظهر المحقّق الآخوند عموم الأخبار لموردي الشكّ في المقتضي و الرافع، لأنّ «النقض» إذا كان مسنداً إلى نفس «اليقين» فلا يحتاج في صحّة إسناد النقض إليه إلى فرض أن يكون المتيقّن ممّا له استعداد للبقاء «1».
أقول: إنّ البحث عن هذا الموضوع بجميع أطرافه و تعقيب كلّ ما قيل في هذا الشأن من أساتذتنا و غيرهم يخرجنا عن طور هذه الرسالة، فالجدير بنا أن نكتفي بذكر خلاصة ما نراه من الحقّ في المسألة متجنّبين الإشارة إلى خصوصيّات الآراء و الأقوال فيها حدّ الإمكان.
وعليه فنقول: ينبغي تقديم مقدّمات قبل بيان المختار، و هي:
أوّلًا: انّه لا شكّ في أنّ النقض المنهيّ عنه مسند إلى «اليقين» في لفظ
أصول الفقه ( مظفر، محمد رضا - طبع انتشارات اسلامى )، ج4، ص: 322
الأخبار، و ظاهرها أنّ وثاقة اليقين من جهة ما هو يقين هي المقتضية للتمسّك به و عدم نقضه في قبال الشكّ الّذي هو عين الوهن و التزلزل، لا سيّما مع التعبير في بعضها بقوله عليه السلام: «لا ينبغي» و التعليل في البعض الآخر بوجود اليقين المشعر بعلّيته للحكم، كما سبق بيانه في قوله عليه السلام:
«فإنّه على يقينٍ من وضوئه» و لا سيّما مع مقابلة اليقين بالشكّ، و لا شكّ أنّه ليس المراد من «الشكّ» المشكوك.
و على هذا يتّضح جليّاً أنّ حمل «اليقين» على إرادة المتيقّن على وجهٍ يكون الإسناد اللفظي إلى المتيقّن بنحو المجاز في الكلمة أو بنحو حذف المضاف خلاف الظاهر منها، بل خلاف سياقها بل مستهجن جدّاً، فيتأيّد ما قاله المعترض. و لذا استبعد شيخنا المحقّق النائيني أن يريد الشيخ الأعظم من «المجاز» المجاز في الكلمة «1» و هو استبعاد في محلّه.
و أبعد منه إرادة حذف المضاف.
ثانياً: انّه من المسلّم به عند الجميع- الّذي لا شكّ فيه أيضاً- أنّ النهي عن نقض اليقين في الأخبار ليس على حقيقته. و السرّ واضح، لأنّ اليقين- حسب الفرض- منتقض فعلًا بالشكّ، فلا يقع تحت اختيار المكلّف فلا يصحّ النهي عنه.
و حينئذٍ، فلا معنى للنهي عنه إلّا أن يراد به عدم الاعتناء بالشكّ عملًا و البناء عليه كأنّه لم يكن لغرض ترتيب أحكام اليقين عند الشكّ. و لكن لا يصحّ أن يقصد أحكام اليقين من جهة أنّه صفة من الصفات، لارتفاع أحكامه بارتفاعه قطعاً، فلم يكن رفع اليد عن الحكم عملًا نقضاً له بالشكّ
______________________________
(1) انظر فوائد الاصول: ج 4 ص 374.
أصول الفقه ( مظفر، محمد رضا - طبع انتشارات اسلامى )، ج4، ص: 323
بل باليقين، لزوال موضوع الحكم قطعاً.
وعليه، فالمراد من «الأحكام» الأحكام الثابتة للمتيقّن بواسطة اليقين به، فهو تعبير آخر عن الأمر بالعمل بالحالة السابقة في الوقت اللاحق، بمعنى وجوب العمل في مقام الشكّ بمثل العمل في مقام اليقين كأنّ الشكّ لم يكن، فكأنّه قال: اعمل في حال شكّك كما كنت تعمل في حال يقينك و لا تعتنِ بالشكّ.
إذا عرفت ذلك فيبقى أن نعرف على أيّ وجهٍ يصحّ أن يكون التعبير بحرمة نقض اليقين تعبيراً عن ذلك المعنى، فإنّ ذلك لا يخلو بحسب التصوّر عن أحد امور أربعة:
1- أن يكون المراد من «اليقين» المتيقّن على نحو المجاز في الكلمة.
2- أن يكون «النقض» أيضاً متعلّقاً في لسان الدليل بنفس المتيقّن، و لكن على حذف المضاف.
3- أن يكون «النقض» المنهيّ عنه مسنداً إلى اليقين على نحو المجاز في الإسناد و يكون في الحقيقة مسنداً إلى نفس المتيقّن، و المصحّح لذلك اتّحاد اليقين و المتيقّن أو كون اليقين آلةً و طريقاً إلى المتيقّن.
4- أن يكون النهي عن «نقض اليقين» كنايةً عن لزوم العمل بالمتيقّن و إجراء أحكامه، لأنّ ذلك لازم معناه، باعتبار أنّ اليقين بالشيء مقتضٍ للعمل به، فحلّه يلازم رفع اليد عن ذلك الشيء أو عن حكمه، إذ لا يبقى حينئذٍ ما يقتضي العمل به، فالنهي عن حلّه يلزمه النهي عن ترك مقتضاه، أعني النهي عن ترك العمل بمتعلّقه.
و قد عرفت- في المقدّمة الاولى و في مناقشة الشيخ- بُعد إرادة
أصول الفقه ( مظفر، محمد رضا - طبع انتشارات اسلامى )، ج4، ص: 324
الوجهين الأوّلين، فيدور الأمر بين الثالث و الرابع، و الرابع هو الأوجه و الأقرب. و لعلّه هو مراد الشيخ الأعظم، و إن كان الّذي يبدو من بعض تعبيراته إرادة الوجه الأوّل الّذي استبعد شيخنا المحقّق النائيني أن يكون مقصوده ذلك، كما تقدّم.
أمّا هو- أعني شيخنا النائيني- فلم يصرّح بإرادة أيّ من الوجهين الآخرين. و الأنسب في عبارة بعض المقرّرين لبحثه إرادة الوجه الثالث، إذ قال: إنّه يصحّ ورود النقض على اليقين بعناية المتيقّن «1».
و على كلّ حالٍ، فالوجه الرابع- أعني الاستعمال الكنائي- أقرب الوجوه و أولاها، و فيه من البلاغة في البيان ما ليس في غيره. كما أن فيه المحافظة على ظهور الأخبار و سياقها في إسناد النقض إلى نفس اليقين، و قد استظهرنا منها- كما تقدم في المقدّمة الاولى- أنّ وثاقة «اليقين» بما هو يقين هي المقتضية للتمسّك به. و في الكناية- كما هو المعروف- بيان المراد مع إقامة الدليل عليه، فإنّ المراد الاستعمالي هنا- الّذي هو حرمة نقض اليقين بالشك- يكون كالدليل و المستند للمراد الجدّي المقصود الأصلي في البيان، و المراد الجدّي هو: لزوم العمل على وفق المتيقّن بلسان النهي عن نقض اليقين.
ثالثاً: بعد ما تقدّم ينبغي أن نسأل عن المراد من «النقض» في الأخبار هل المراد النقض الحقيقي أو النقض العملي؟ المعروف أنّ إرادة النقض الحقيقي محال، فلا بدّ أن يراد النقض العملي، لأنّ نقض اليقين- كما تقدّم- ليس تحت اختيار المكلّف، فلا يصحّ النهي عنه. و على هذا بنى الشيخ
______________________________
(1) فوائد الاصول: ج 4 ص 375.
أصول الفقه ( مظفر، محمد رضا - طبع انتشارات اسلامى )، ج4، ص: 325
الأعظم و صاحب الكفاية و غيرهما.
و لكن التدقيق في المسألة يعطي غير هذا؛ إنّما يلزم هذا المحذور لو كان النهي عن نقض اليقين مراداً جدّيّاً، أمّا على ما ذكرناه: من أنّه على وجه الكناية، فإنّه- كما ذكرناه- يكون مراداً استعماليّاً فقط، و لا محذور في كون المراد الاستعمالي- في الكناية- محالًا أو كاذباً في نفسه، إنّما المحذور إذا كان المراد الجدّي المكنّى عنه كذلك.
وعليه، فحمل «النقض» على معناه الحقيقي أولى ما دام أنّ ذلك يصحّ بلا محذور.
النتيجة:
أنّه إذا تمّت هذه المقدّمات فصحّ إسناد النقض الحقيقي من أجل وثاقته من جهة ما هو يقين- و إن كان النهي عنه يراد به لازم معناه على سبيل الكناية- فإنّا نقول: إنّ اليقين لمّا كان في نفسه مبرماً و محكماً فلا يحتاج في صحّة إسناد النقض إليه إلى فرض أن يكون متعلّقه ممّا له استعداد في ذاته للبقاء، و إنّما يلزم ذلك لو كان الإسناد اللفظي إلى نفس المتيقّن و لو على نحو المجاز. و أمّا كون أنّ المراد الجدّي هو النهي عن ترك مقتضى اليقين الّذي عبارة عن لزوم العمل بالمتيقّن، فإنّ ذلك مراد لُبّي و ليس فيه إسناد للنقض إلى المتيقّن في مقام اللفظ حتّى يكون ذلك قرينة لفظيّة على المراد من المتيقّن. و السرّ في ذلك: أنّ الكناية لا يقدّر فيها لفظ المكنّى عنه؛ على أنّ المكنّى عنه ليس هو حرمة نقض المتيقّن، بل- كما تقدّم- هو حرمة ترك مقتضى اليقين الّذي هو عبارة عن لزوم العمل بالمتيقّن، فلا نقض مسند إلى المتيقّن- لا لفظاً و لا لُبّاً- حتّى يكون
أصول الفقه ( مظفر، محمد رضا - طبع انتشارات اسلامى )، ج4، ص: 326
ذلك قرينة على أنّ المراد من المتيقّن هو ما له استعداد في ذاته للبقاء لأجل أن يكون مبرماً يصحّ إسناد النقض إليه.
الخلاصة:
و خلاصة ما توصّلنا إليه هو: أنّ الحقّ أنّ «النقض» مسند إلى نفس اليقين بلا مجاز في الكلمة و لا في الإسناد و لا على حذف مضاف، و لكنّ النهي عنه جُعل عنواناً على سبيل الكناية عن لازم معناه، و هو لزوم الأخذ بالمتيقّن في ثاني الحال بترتيب آثاره الشرعيّة عليه. و هذا المكنّى عنه عبارة اخرى عن الحكم ببقاء المتيقّن. و إذا كان النهي عن نقض اليقين من باب الكناية فلا يستدعي ذلك أن نفرض في متعلّقه استعداد البقاء ليتحقّق معنى «النقض» لأنّه متحقّق بدون ذلك.
وعليه فمقتضى الأخبار حجّية الاستصحاب في موردي الشكّ في المقتضي و الرافع معاً.
و نحن إذا توصّلنا إلى هنا من بيان حجّية الاستصحاب مطلقاً في مقابل التفصيل الّذي ذهب إليه الشيخ الأنصاري، لا نجد كثير حاجة في التعرّض للتفصيلات الاخرى في هذا المختصر، و نحيل ذلك إلى المطوّلات لا سيّما رسالة الشيخ في الاستصحاب، فإنّ في ما ذكره الغنى و الكفاية.
***
أصول الفقه ( مظفر، محمد رضا - طبع انتشارات اسلامى )، ج4، ص: 327
حوزوی کتب
اصول الفقہ حصہ چہارم
الباب التاسع: التعادل و التراجيح
المقصد الرابع: مباحث الاصول العمليّة
الاستصحاب
مقوّمات الاستصحاب:
معنى حجّية الاستصحاب:
هل الاستصحاب أمارة أو أصل؟
الأقوال في الاستصحاب:
أدلّة الاستصحاب:
الدليل الثاني- حكم العقل:
الدليل الثالث- الإجماع:
الدليل الرابع- الأخبار:
مدى دلالة الأخبار
تنبيهات الاستصحاب
اصول الفقہ حصہ چہارم
مدى دلالة الأخبار
إنّ تلك الأخبار العامّة المتقدّمة هي أهمّ ما استُدلّ به للاستصحاب.
و هناك أخبار خاصّة تؤيّدها، ذكر بعضها الشيخ الأنصاري. و نحن نذكر واحدة منها للاستئناس، و هي رواية عبد الله بن سنان الواردة فيمن يعير ثوبه الذمّي و هو يعلم أنّه يشرب الخمر و يأكل لحم الخنزير.
قال: فهل عليَّ أن أغسله؟
فقال: لا! لأنّك أعرته إيّاه و هو طاهر، و لم تستيقن أنّه نجّسه «1».
قال الشيخ: و فيها دلالة واضحة على أنّ وجه البناء على الطهارة و عدم وجوب غسله هو سبق طهارته و عدم العلم بارتفاعها «2».
و المهمّ لنا أن نبحث الآن عن مدى دلالة تلكم الأخبار من جهة بعض التفصيلات المهمّة في الاستصحاب. فنقول:
1- التفصيل بين الشبهة الحكميّة و الموضوعيّة:
إنّ المنسوب إلى الأخباريّين اعتبار الاستصحاب في خصوص الشبهة الموضوعيّة، و أمّا الشبهات الحكميّة مطلقاً فعلى القاعدة عندهم من
______________________________ (1) الوسائل: ج 2 ص 1095، الباب 74 من أبواب النجاسات، ح 1.
(2) فرائد الاصول 2: 571.
أصول الفقه ( مظفر، محمد رضا - طبع انتشارات اسلامى )، ج4، ص: 315
وجوب الرجوع إلى قاعدة الاحتياط. و علّل ذلك بعضهم بأنّ أخبار الاستصحاب لا عموم لها و لا إطلاق يشمل الشبهة الحكمية، لأنّ القدر المتيقّن منها خصوص الشبهة الموضوعيّة. لا سيّما أنّ بعضها وارد في خصوصها، فلا تعارض أدلة الاحتياط «1».
و لكنّ الإنصاف: أنّ لأخبار الاستصحاب من قوّة الإطلاق و الشمول ما يجعلها ظاهرة في شمولها للشبهة الحكميّة، و لا سيّما أنّ أكثرها وارد موردَ التعليل، و ظاهرها تعليق الحكم على اليقين من جهة ما هو يقين، كما سبق بيان ذلك في الصحيحة الاولى. فيكون شمولها للشبهة الحكميّة حينئذٍ من باب التمسّك بالعلّة المنصوصة. على أنّ رواية محمّد بن مسلم- المتقدّمة- عامّة لم ترد في خصوص الشبهة الموضوعيّة. فالحقّ شمول الأخبار للشبهتين.
و أمّا أدلّة الاحتياط: فقد تقدّمت المناقشة في دلالتها فلا تصلح لمعارضة أدلّة الاستصحاب.
2- التفصيل بين الشكّ في المقتضي و الرافع:
هذا هو القول التاسع- المتقدّم- و الأصل فيه المحقّق الحلّي «2» ثمّ المحقّق الخوانساري «3» و أيّده كلَّ التأييد الشيخ الأعظم «4» قد دعمه جملة من تأخّر عنه. و خالفهم في ذلك الشيخ الآخوند، فذهب إلى اعتبار الاستصحاب مطلقاً «5». و هو الحقّ، و لكن بطريقة اخرى غير الّتي سلكها الشيخ الآخوند.
______________________________ (1) الحدائق الناضرة: ج 1 ص 54.
(2) راجع ص 294، معارج الاصول: ص 206.
(3) مشارق الشموس: ص 141- 142.
(4) راجع فرائد الاصول: ج 2 ص 561.
(5) كفاية الاصول: ص 439.
أصول الفقه ( مظفر، محمد رضا - طبع انتشارات اسلامى )، ج4، ص: 316
و من أجل هذا أصبح هذا التفصيل من أهمّ الأقوال الّتي عليها مدار المناقشات العلميّة في عصرنا. و يلزمنا النظر فيه من جهتين: من جهة المقصود من «المقتضي و المانع» و من جهة مدى دلالة الأخبار عليه.
- 1- المقصود من المقتضي و المانع
و نحيل ذلك إلى تصريح الشيخ نفسه، فقد قال: المراد بالشكّ من جهة المقتضى: الشكّ من حيث استعداده و قابليّته في ذاته للبقاء، كالشكّ في بقاء الليل و النهار، و خيار الغبن بعد الزمان الأوّل «1».
فيُفهم منه أنّه ليس المراد من «المقتضي»- كما قد ينصرف ذلك من إطلاق كلمة المقتضي- مقتضي الحكم، أي الملاك و المصلحة فيه، و لا المقتضي لوجود الشيء في باب الأسباب و المسبّبات بحسب الجعل الشرعي، مثل أن يقال: إنّ الوضوء مقتضٍ للطهارة و عقد النكاح مقتضٍ للزوجيّة، بل المراد نفس استعداد المستصحب في ذاته للبقاء و قابليّته له من أيّة جهةٍ كانت تلك القابليّة و سواء فُهمت هذه القابليّة من الدليل أو من الخارج. و يختلف ذلك باختلاف المستصحبات و أحوالها، فليس فيه نوع و لا صنف مضبوط من حيث مقدار الاستعداد، كما صرّح بذلك الشيخ. و التعبير عن الشكّ في القابلية بالشكّ في المقتضي فيه نوع من المسامحة توجب الإيهام. و ينبغي أن يُعبّر عنه بالشكّ في اقتضائه للبقاء لا الشكّ في المقتضي، و لكن بعد وضوح المقصود فالأمر سهل.
و أمّا الشكّ في الرافع: فعلى هذا يكون المقصود منه الشكّ في طروّ ما
______________________________ (1) فرائد الاصول: ج 2 ص 558- 559.
أصول الفقه ( مظفر، محمد رضا - طبع انتشارات اسلامى )، ج4، ص: 317
يرفع المستصحب مع القطع باستعداده و قابليّته للبقاء لو لا طروّ الرفع، كما صرّح به الشيخ و ذكر أنّه على أقسام. و المتحصّل من مجموع كلامه في جملة مقامات: أنّه ينقسم إلى قسمين رئيسين: الشكّ في وجود الرافع، و الشك في رافعيّة الموجود.
و هذا القسم الثاني أنكر المحقّق السبزواري حجّية الاستصحاب فيه بأقسامه الثلاثة الآتية «1» و هو القول العاشر في تعداد الأقوال. و نحن نذكر هذه الأقسام لتوضيح مقصود الشيخ.
1- الشكّ في وجود الرافع: و مثّل له بالشكّ في حدوث البول مع العلم بسبق الطهارة. و هو رحمه الله لا يعني به إلّا الشكّ في الشبهة الموضوعيّة خاصّة، و أمّا ما كان في الشبهة الحكميّة فلا يعمّه كلامه، لأنّ الشكّ في وجود الرافع فيها ينحصر عنده في الشكّ في النسخ خاصّة، لأنّه لا معنى لرفع الحكم إلّا نسخه. و إجراء الاستصحاب في عدم النسخ- كما قال- إجماعي بل ضروري. و السرّ في ذلك: ما تقدّم في مباحث النسخ- في الجزء الثالث «2»- من أنّ إجماع المسلمين قائم على أنّه لا يصحّ النسخ إلّا بدليل قطعي، فمع الشكّ لا بدّ أن يؤخذ بالحكم السابق المشكوك نسخه، أي أنّ الأصل عدم النسخ لأجل هذا الإجماع، لا لأجل حجّية الاستصحاب.
v 2- الشكّ في رافعية الموجود: و ذلك بأن يحصل شيء معلوم الوجود قطعاً و لكن يشكّ في كونه رافعاً للحكم. و هو على أقسامٍ ثلاثة: الأوّل: فيما إذا كان الشكّ من أجل تردّد المستصحب بين ما يكون الموجود رافعاً له و بين ما لا يكون. و مثّل له بما إذا علم بأنّه مشغول الذمّة
______________________________ (1) ذخيرة المعاد: ص 115.
(2) ص 60.
أصول الفقه ( مظفر، محمد رضا - طبع انتشارات اسلامى )، ج4، ص: 318
بصلاةٍ ما في ظهر يوم الجمعة، و لا يعلم أنّها صلاة الجمعة أو صلاة الظهر، فإذا صلّى الظهر- مثلًا- فإنّه يتردّد أمره لا محالة في أنّ هذه الصلاة الموجودة الّتي وقعت منه هل هي رافعة لشغل الذمّة بالتكليف المذكور أو غير رافعة؟
الثاني: فيما إذا كان الشكّ من أجل الجهل بصفة الموجود في كونه رافعاً مستقلّاً في الشرع، كالمذي المشكوك في كونه ناقضاً للطهارة، مع العلم بعدم كونه مصداقاً للرافع المعلوم و هو البول.
الثالث: فيما إذا كان الشكّ من أجل الجهل بصفة الموجود في كونه مصداقاً للرافع المعلوم مفهومه، أو من أجل الجهل به في كونه مصداقاً للرافع المجهول مفهومه. مثال الأوّل: الشكّ في الرطوبة الخارجة في كونها بولًا أو مذياً مع معلوميّة مفهوم البول و المذي و حكمهما. و مثال الثاني: الشك في النوم الحادث في كونه غالباً للسمع و البصر أو غالباً للبصر فقط مع الجهل بمفهوم النوم الناقض في أنّه يشمل النوم الغالب للبصر فقط. و رأي الشيخ أنّ الاستصحاب يجري في جميع هذه الأقسام، سواء كان شكّاً في وجود الرافع أو في رافعيّة الموجود بأقسامه الثلاثة. خلافاً للمحقّق السبزواري اذ اعتبر الاستصحاب في الشكّ في وجود الرافع فقط دون الشكّ في رافعيّة الموجود، كما تقدمت الإشارة إلى ذلك.
- 2- مدى دلالة الأخبار على هذا التفصيل
قال الشيخ الأعظم: إنّ حقيقة النقض هو رفع الهيئة الاتّصاليّة، كما في نقض الحبل. و الأقرب إليه على تقدير مجازيّته هو رفع الأمر الثابت- إلى أصول الفقه ( مظفر، محمد رضا - طبع انتشارات اسلامى )، ج4، ص: 319
أن قال- فيختصّ متعلّقه بما من شأنه الاستمرار «1».
وعليه، فلا يشمل «اليقينُ» المنهيّ عن نقضه بالشكّ في الأخبار «اليقينَ» إذا تعلّق بأمرٍ ليس من شأنه الاستمرار أو المشكوك استمراره. توضيح مقصوده- مع المحافظة على ألفاظه حدّ الإمكان- أنّ «النقض» لغةً لمّا كان معناه «رفع الهيئة الاتّصالية» كما في نقض الحبل، فإنّ هذا المعنى الحقيقي ليس هو المراد من الروايات قطعاً، لأنّ المفروض في مواردها طروّ الشكّ في استمرار المتيقّن، فلا هيئة اتّصاليّة باقية لليقين و لا لمتعلّقه بعد الشكّ في بقائه و استمراره.
فيتعيّن أن يكون إسناد النقض إلى اليقين على نحو المجاز. و لكن هذا المجاز له معنيان يدور الأمر بينهما، و إذا تعدّدت المعاني المجازيّة فلا بدّ أن يُحمل اللفظ على أقربها إلى المعنى الحقيقي، و هذا يكون قرينة معيّنة للمعنى المجازي. و هنا المعنيان المجازيّان أحدهما أقرب من الآخر، و هما:
1- أن يراد من «النقض» مطلق رفع اليد عن الشيء و ترك العمل به و ترتيب الأثر عليه و لو لعدم المقتضي له، فيكون المنقوض عامّاً شاملًا لكلّ يقينٍ. 2- أن يراد منه رفع الأمر الثابت. و هذا المعنى الثاني هو الأقرب إلى المعنى الحقيقي، فهو الظاهر من إسناد النقض.
و حينئذٍ فيختصّ متعلّقه بما من شأنه الاستمرار المختصّ بالموارد
______________________________ (1) فرائد الاصول: ج 2 ص 574.v أصول الفقه ( مظفر، محمد رضا - طبع انتشارات اسلامى )، ج4، ص: 320
الّتي يوجد فيها هذا المعنى.
و الظاهر رجحان هذا المعنى الثاني على الأوّل، لأنّ الفعل الخاصّ يصير مخصّصاً لمتعلّقه إذا كان متعلّقه عامّاً، كما في قول القائل:
«لا تضرب أحداً» فإن «الضرب» يكون قرينة على اختصاص متعلّقه بالأحياء، و لا يكون عمومه للأموات قرينة على إرادة مطلق الضرب.
هذه خلاصة ما أفاده الشيخ. و قد وقعت فيه عدّة مناقشات نذكر أهمّها و نذكر ما عندنا ليتّضح مقصوده و ليتجلّى الحقّ- إن شاء اللَّه تعالى-.
1- المناقشة الاولى: إنّ «النقض» يقابل «الإبرام» و النقض- كما فسّروه في اللغة-: إفساد ما أبرمت من عقد أو بناءٍ أو حبل أو نحو ذلك «1». وعليه، فتفسيره من الشيخ ب «رفع الهيئة الاتّصالية» ليس واضحاً، بل ليس صحيحاً، إذ أنّ مقابل الاتّصال الانفصال، فيكون معنى «النقض» حينئذٍ انفصال المتّصل. و هو بعيد جدّاً عن معنى نقض العهد و العقد.
أقول: ليس من البعيد أن يريد الشيخ من «الاتّصال» ما يقابل «الانحلال» و إن كان ذلك على نحو المسامحة منه في التعبير، لا ما يقابل «الانفصال». فلا إشكال.
2- المناقشة الثانية: و هي أهمّ مناقشةٍ عليها يبتني صحّة استدلاله على التفصيل أو بطلانه. و حاصلها:
أنّ هذا التوجيه من الشيخ للاستدلال يتوقّف على التصرّف في «اليقين» بإرادة المتيقّن منه، كما نبّه عليه نفسه، لأنّه لو كان النقض مستنداً إلى نفس اليقين- كما هو ظاهر التعبير- فإنّ اليقين بنفسه مبرم و محكم فيصحّ إسناد النقض إليه و لو لم يكن لمتعلّقه في ذاته استعداد البقاء،
______________________________ (1) لسان العرب: ج 7 ص 242.
أصول الفقه ( مظفر، محمد رضا - طبع انتشارات اسلامى )، ج4، ص: 321
ضرورة أنّه لا يحتاج فرض الإبرام في المنقوض إلى فرض أن يكون متعلّق اليقين ثابتاً و مبرماً في نفسه حتّى تختصّ حرمة النقض بالشكّ في الرافع.
و لكن لا يصحّ إرادة المتيقّن من «اليقين» على وجهٍ يكون الإسناد اللفظي إلى نفس المتيقّن، لأنّه إنّما يصحّ ذلك إذا كان على نحو المجاز في الكلمة أو على نحو حذف المضاف، و كلا الوجهين بعيدان كلَّ البُعد، إذ لا علاقة بين «اليقين» و «المتيقّن» حتّى يصح استعمال أحدهما مكان الآخر على نحو المجاز في الكلمة، بل ينبغي أن يُعدّ ذلك من الأغلاط. و أمّا تقدير المضاف بأن تقدّر «متعلّق» اليقين، أو نحو ذلك، فإنّ تقدير المحذوف يحتاج إلى قرينةٍ لفظيّةٍ مفقودة. و من أجل هذا استظهر المحقّق الآخوند عموم الأخبار لموردي الشكّ في المقتضي و الرافع، لأنّ «النقض» إذا كان مسنداً إلى نفس «اليقين» فلا يحتاج في صحّة إسناد النقض إليه إلى فرض أن يكون المتيقّن ممّا له استعداد للبقاء «1».
أقول: إنّ البحث عن هذا الموضوع بجميع أطرافه و تعقيب كلّ ما قيل في هذا الشأن من أساتذتنا و غيرهم يخرجنا عن طور هذه الرسالة، فالجدير بنا أن نكتفي بذكر خلاصة ما نراه من الحقّ في المسألة متجنّبين الإشارة إلى خصوصيّات الآراء و الأقوال فيها حدّ الإمكان.
وعليه فنقول: ينبغي تقديم مقدّمات قبل بيان المختار، و هي:
أوّلًا: انّه لا شكّ في أنّ النقض المنهيّ عنه مسند إلى «اليقين» في لفظ
______________________________ (1) كفاية الاصول: ص 443.
أصول الفقه ( مظفر، محمد رضا - طبع انتشارات اسلامى )، ج4، ص: 322
الأخبار، و ظاهرها أنّ وثاقة اليقين من جهة ما هو يقين هي المقتضية للتمسّك به و عدم نقضه في قبال الشكّ الّذي هو عين الوهن و التزلزل، لا سيّما مع التعبير في بعضها بقوله عليه السلام: «لا ينبغي» و التعليل في البعض الآخر بوجود اليقين المشعر بعلّيته للحكم، كما سبق بيانه في قوله عليه السلام:
«فإنّه على يقينٍ من وضوئه» و لا سيّما مع مقابلة اليقين بالشكّ، و لا شكّ أنّه ليس المراد من «الشكّ» المشكوك.
و على هذا يتّضح جليّاً أنّ حمل «اليقين» على إرادة المتيقّن على وجهٍ يكون الإسناد اللفظي إلى المتيقّن بنحو المجاز في الكلمة أو بنحو حذف المضاف خلاف الظاهر منها، بل خلاف سياقها بل مستهجن جدّاً، فيتأيّد ما قاله المعترض. و لذا استبعد شيخنا المحقّق النائيني أن يريد الشيخ الأعظم من «المجاز» المجاز في الكلمة «1» و هو استبعاد في محلّه.
و أبعد منه إرادة حذف المضاف.
ثانياً: انّه من المسلّم به عند الجميع- الّذي لا شكّ فيه أيضاً- أنّ النهي عن نقض اليقين في الأخبار ليس على حقيقته. و السرّ واضح، لأنّ اليقين- حسب الفرض- منتقض فعلًا بالشكّ، فلا يقع تحت اختيار المكلّف فلا يصحّ النهي عنه.
و حينئذٍ، فلا معنى للنهي عنه إلّا أن يراد به عدم الاعتناء بالشكّ عملًا و البناء عليه كأنّه لم يكن لغرض ترتيب أحكام اليقين عند الشكّ. و لكن لا يصحّ أن يقصد أحكام اليقين من جهة أنّه صفة من الصفات، لارتفاع أحكامه بارتفاعه قطعاً، فلم يكن رفع اليد عن الحكم عملًا نقضاً له بالشكّ ______________________________ (1) انظر فوائد الاصول: ج 4 ص 374.
أصول الفقه ( مظفر، محمد رضا - طبع انتشارات اسلامى )، ج4، ص: 323
بل باليقين، لزوال موضوع الحكم قطعاً.
وعليه، فالمراد من «الأحكام» الأحكام الثابتة للمتيقّن بواسطة اليقين به، فهو تعبير آخر عن الأمر بالعمل بالحالة السابقة في الوقت اللاحق، بمعنى وجوب العمل في مقام الشكّ بمثل العمل في مقام اليقين كأنّ الشكّ لم يكن، فكأنّه قال: اعمل في حال شكّك كما كنت تعمل في حال يقينك و لا تعتنِ بالشكّ.
إذا عرفت ذلك فيبقى أن نعرف على أيّ وجهٍ يصحّ أن يكون التعبير بحرمة نقض اليقين تعبيراً عن ذلك المعنى، فإنّ ذلك لا يخلو بحسب التصوّر عن أحد امور أربعة:
1- أن يكون المراد من «اليقين» المتيقّن على نحو المجاز في الكلمة.
2- أن يكون «النقض» أيضاً متعلّقاً في لسان الدليل بنفس المتيقّن، و لكن على حذف المضاف.
3- أن يكون «النقض» المنهيّ عنه مسنداً إلى اليقين على نحو المجاز في الإسناد و يكون في الحقيقة مسنداً إلى نفس المتيقّن، و المصحّح لذلك اتّحاد اليقين و المتيقّن أو كون اليقين آلةً و طريقاً إلى المتيقّن.
4- أن يكون النهي عن «نقض اليقين» كنايةً عن لزوم العمل بالمتيقّن و إجراء أحكامه، لأنّ ذلك لازم معناه، باعتبار أنّ اليقين بالشيء مقتضٍ للعمل به، فحلّه يلازم رفع اليد عن ذلك الشيء أو عن حكمه، إذ لا يبقى حينئذٍ ما يقتضي العمل به، فالنهي عن حلّه يلزمه النهي عن ترك مقتضاه، أعني النهي عن ترك العمل بمتعلّقه.
و قد عرفت- في المقدّمة الاولى و في مناقشة الشيخ- بُعد إرادة
أصول الفقه ( مظفر، محمد رضا - طبع انتشارات اسلامى )، ج4، ص: 324
الوجهين الأوّلين، فيدور الأمر بين الثالث و الرابع، و الرابع هو الأوجه و الأقرب. و لعلّه هو مراد الشيخ الأعظم، و إن كان الّذي يبدو من بعض تعبيراته إرادة الوجه الأوّل الّذي استبعد شيخنا المحقّق النائيني أن يكون مقصوده ذلك، كما تقدّم.
أمّا هو- أعني شيخنا النائيني- فلم يصرّح بإرادة أيّ من الوجهين الآخرين. و الأنسب في عبارة بعض المقرّرين لبحثه إرادة الوجه الثالث، إذ قال: إنّه يصحّ ورود النقض على اليقين بعناية المتيقّن «1».
و على كلّ حالٍ، فالوجه الرابع- أعني الاستعمال الكنائي- أقرب الوجوه و أولاها، و فيه من البلاغة في البيان ما ليس في غيره. كما أن فيه المحافظة على ظهور الأخبار و سياقها في إسناد النقض إلى نفس اليقين، و قد استظهرنا منها- كما تقدم في المقدّمة الاولى- أنّ وثاقة «اليقين» بما هو يقين هي المقتضية للتمسّك به. و في الكناية- كما هو المعروف- بيان المراد مع إقامة الدليل عليه، فإنّ المراد الاستعمالي هنا- الّذي هو حرمة نقض اليقين بالشك- يكون كالدليل و المستند للمراد الجدّي المقصود الأصلي في البيان، و المراد الجدّي هو: لزوم العمل على وفق المتيقّن بلسان النهي عن نقض اليقين.
ثالثاً: بعد ما تقدّم ينبغي أن نسأل عن المراد من «النقض» في الأخبار هل المراد النقض الحقيقي أو النقض العملي؟ المعروف أنّ إرادة النقض الحقيقي محال، فلا بدّ أن يراد النقض العملي، لأنّ نقض اليقين- كما تقدّم- ليس تحت اختيار المكلّف، فلا يصحّ النهي عنه. و على هذا بنى الشيخ
______________________________ (1) فوائد الاصول: ج 4 ص 375.
أصول الفقه ( مظفر، محمد رضا - طبع انتشارات اسلامى )، ج4، ص: 325
الأعظم و صاحب الكفاية و غيرهما.
و لكن التدقيق في المسألة يعطي غير هذا؛ إنّما يلزم هذا المحذور لو كان النهي عن نقض اليقين مراداً جدّيّاً، أمّا على ما ذكرناه: من أنّه على وجه الكناية، فإنّه- كما ذكرناه- يكون مراداً استعماليّاً فقط، و لا محذور في كون المراد الاستعمالي- في الكناية- محالًا أو كاذباً في نفسه، إنّما المحذور إذا كان المراد الجدّي المكنّى عنه كذلك.
وعليه، فحمل «النقض» على معناه الحقيقي أولى ما دام أنّ ذلك يصحّ بلا محذور.
النتيجة:
أنّه إذا تمّت هذه المقدّمات فصحّ إسناد النقض الحقيقي من أجل وثاقته من جهة ما هو يقين- و إن كان النهي عنه يراد به لازم معناه على سبيل الكناية- فإنّا نقول: إنّ اليقين لمّا كان في نفسه مبرماً و محكماً فلا يحتاج في صحّة إسناد النقض إليه إلى فرض أن يكون متعلّقه ممّا له استعداد في ذاته للبقاء، و إنّما يلزم ذلك لو كان الإسناد اللفظي إلى نفس المتيقّن و لو على نحو المجاز. و أمّا كون أنّ المراد الجدّي هو النهي عن ترك مقتضى اليقين الّذي عبارة عن لزوم العمل بالمتيقّن، فإنّ ذلك مراد لُبّي و ليس فيه إسناد للنقض إلى المتيقّن في مقام اللفظ حتّى يكون ذلك قرينة لفظيّة على المراد من المتيقّن. و السرّ في ذلك: أنّ الكناية لا يقدّر فيها لفظ المكنّى عنه؛ على أنّ المكنّى عنه ليس هو حرمة نقض المتيقّن، بل- كما تقدّم- هو حرمة ترك مقتضى اليقين الّذي هو عبارة عن لزوم العمل بالمتيقّن، فلا نقض مسند إلى المتيقّن- لا لفظاً و لا لُبّاً- حتّى يكون
أصول الفقه ( مظفر، محمد رضا - طبع انتشارات اسلامى )، ج4، ص: 326
ذلك قرينة على أنّ المراد من المتيقّن هو ما له استعداد في ذاته للبقاء لأجل أن يكون مبرماً يصحّ إسناد النقض إليه.
الخلاصة:
و خلاصة ما توصّلنا إليه هو: أنّ الحقّ أنّ «النقض» مسند إلى نفس اليقين بلا مجاز في الكلمة و لا في الإسناد و لا على حذف مضاف، و لكنّ النهي عنه جُعل عنواناً على سبيل الكناية عن لازم معناه، و هو لزوم الأخذ بالمتيقّن في ثاني الحال بترتيب آثاره الشرعيّة عليه. و هذا المكنّى عنه عبارة اخرى عن الحكم ببقاء المتيقّن. و إذا كان النهي عن نقض اليقين من باب الكناية فلا يستدعي ذلك أن نفرض في متعلّقه استعداد البقاء ليتحقّق معنى «النقض» لأنّه متحقّق بدون ذلك.
وعليه فمقتضى الأخبار حجّية الاستصحاب في موردي الشكّ في المقتضي و الرافع معاً.
و نحن إذا توصّلنا إلى هنا من بيان حجّية الاستصحاب مطلقاً في مقابل التفصيل الّذي ذهب إليه الشيخ الأنصاري، لا نجد كثير حاجة في التعرّض للتفصيلات الاخرى في هذا المختصر، و نحيل ذلك إلى المطوّلات لا سيّما رسالة الشيخ في الاستصحاب، فإنّ في ما ذكره الغنى و الكفاية.
*** أصول الفقه ( مظفر، محمد رضا - طبع انتشارات اسلامى )، ج4، ص: 327
مقبول
طہارۃ، استعمال طہور مشروط بالنیت
المدخل۔۔۔
الزکاۃ،کتاب الزکاۃ وفصولہ اربعۃ۔۔۔
مقدمہ و تعریف :الامرلاول تعریف علم الاصول۔۔۔
الطہارۃ و مختصر حالات زندگانی
الفصل السابع :نسخ الوجوب۔۔
الفصل الثالث؛ تقسیم القطع الی طریقی ...
مقالات
دینی مدارس کی قابل تقلید خوبیاں
ایک اچھے مدرس کے اوصاف
اسلام میں استاد کا مقام و مرتبہ
طالب علم کے لئے کامیابی کے زریں اصول