إنّ القياس- على ما سيأتي تحديده و بيان موضع البحث فيه- من الأمارات الّتي وقعت فيها معركة الآراء بين الفقهاء.
و علماء الإماميّة- تبعاً لآل البيت عليهم السلام- أبطلوا العمل به. و من الفرق الاخرى أهل الظاهر المعروفين ب «الظاهريّة» أصحاب داود بن خلف إمام أهل الظاهر- و كذلك الحنابلة- لم يكن يقيمون له وزناً «1».
و أوّل من توسّع فيه في القرن الثاني أبو حنيفة- رأس القياسيّين- و قد نشط في عصره و أخذ به الشافعيّة و المالكيّة. و لقد بالغ به جماعة فقدّموه على الإجماع، بل غلا آخرون فردّوا الأحاديث بالقياس، و ربما صار بعضهم يؤوّل الآيات بالقياس!.
و من المعلوم عند آل البيت عليهم السلام أنّهم لا يجوّزون العمل به و قد شاع عنهم: «إنّ دين اللَّه لا يصاب بالعقول» «2» و «أنّ السنّة إذا قيست محق الدين» «3» بل شنّوا حرباً شعواء لا هوادة فيها على أهل الرأي و قياسهم ما وجدوا للكلام متّسعاً. و مناظرات الإمام الصادق عليه السلام معهم معروفة،
______________________________
(1) راجع المستصفى: ج 2 ص 234، و العُدّة: ج 2 ص 650.
(2) كمال الدين: ص 324 ح 9.
(3) المحاسن: ج 1 ص 339 ح 96.
أصول الفقه ( مظفر، محمد رضا - طبع انتشارات اسلامى )، ج3، ص: 185
لا سيّما مع أبي حنيفة- و قد رواها حتّى أهل السنّة- إذ قال له فيما رواه ابن حزم «1»: اتّق اللَّه! و لا تقس، فإنّا نقف غداً بين يدي اللَّه فنقول: «قال اللَّه و قال رسوله» و تقول أنت و أصحابك: «سمعنا و رأينا».
و الّذي يبدو أنّ المخالفين لآل البيت الّذين سلكوا غير طريقهم و لم يعجبهم أن يستقوا من منبع علومهم أعوزهم العلم بأحكام اللَّه و ما جاء به الرسول صلى الله عليه و آله و سلم فالتجئوا إلى أن يصطنعوا الرأي و الاجتهادات الاستحسانيّة للفتيا و القضاء بين الناس، بل حكّموا الرأي و الاجتهاد حتّى فيما يخالف النصّ، أو جعلوا ذلك عذراً مبرّراً لمخالفة النصّ، كما في قصّة تبرير الخليفة الأوّل لفعلة خالد بن الوليد في قتل مالك ابن نويرة، و قد خلا بزوجته ليلة قتله، فقال عنه: «إنّه اجتهد فأخطأ»! و ذلك لمّا أراد الخليفة عمر بن الخطّاب أن يقاد به و يقام عليه الحدّ «2».
و كان الرأي و القياس غير واضح المعالم عند من كان يأخذ به من الصحابة و التابعين، حتّى بدأ البحث فيه لتركيزه و توسعة الأخذ به في القرن الثاني على يد أبي حنيفة و أصحابه. ثمّ بعد أن أخذت الدولة العبّاسية تساند أهل القياس و بعد ظهور النقّاد له، انبرى جماعة من علمائهم لتحديد معالمه و توسيع أبحاثه، و وضع القيود و الاستدراكات له، حتّى صار فنّاً قائماً بنفسه.
و نحن يهمّنا منه البحث عن موضع الخلاف فيه و حجّيته، فنقول:
______________________________
(1) (*) إبطال القياس: ص 71، مطبعة جامعة دمشق 1379.
(2) راجع كتاب «السقيفة» للمؤلّف: ص 22، طبعة مؤسّسة الأعلمي.
أصول الفقه ( مظفر، محمد رضا - طبع انتشارات اسلامى )، ج3، ص: 186
1- تعريف القياس
إنّ خير التعريفات للقياس- في رأينا «1»- أن يقال: هو «إثبات حكمٍ في محلٍّ بعلّة لثبوته في محلٍّ آخر بتلك العلّة». و المحلّ الأوّل- و هو المقيس- يسمّى «فرعاً». و المحلّ الثاني- و هو المقيس عليه- يُسمّى «أصلًا». و العلّة المشتركة تُسمّى «جامعاً».
و في الحقيقة أنّ القياس عمليّة من المستدلّ- أي القائس- لغرض استنتاج حكمٍ شرعي لمحلّ لم يرد فيه نصّ بحكمه الشرعي، إذ توجب هذه العمليّة عنده الاعتقاد يقيناً أو ظنّاً بحكم الشارع.
و العمليّة القياسيّة هي نفس حمل الفرع على الأصل في الحكم الثابت للأصل شرعاً، فيعطي القائس حكماً للفرع مثلَ حكم الأصل، فإن كان الوجوب أعطى له الوجوب، و إن كان الحرمة فالحرمة ... و هكذا.
و معنى هذا الإعطاء أن يحكم بأنّ الفرع ينبغي أن يكون محكوماً عند الشارع بمثل حكم الأصل للعلّة المشتركة بينهما. و هذا الإعطاء أو الحكم هو الّذي يوجب عنده الاعتقاد بأنّ للفرع مثل ما للأصل من الحكم عند الشارع، و يكون هذا الإعطاء أو الحكم أو الإثبات أو الحمل- ما شئت فعبّر- دليلًا عنده على حكم اللَّه في الفرع.
وعليه ف «الدليل» هو الإثبات الّذي هو نفس عمليّة الحمل و إعطاء الحكم للفرع من قبل القائس.
و «نتيجة الدليل» هو الحكم بأنّ الشارع قد حكم فعلًا على هذا الفرع بمثل حكم الأصل.
______________________________
(1) في ط الاولى: في رأيي أنّ خير التعريفات للقياس.
أصول الفقه ( مظفر، محمد رضا - طبع انتشارات اسلامى )، ج3، ص: 187
فتكون هذه العمليّة من القائس دليلًا على حكم الشارع، لأنّها توجب اعتقاده اليقيني أو الظنّي بأنّ الشارع له هذا الحكم.
و بهذا التقرير يندفع الاعتراض على مثل هذا التعريف بأنّ الدليل- و هو الإثبات- نفسه نتيجة الدليل، بينما أنّه يجب أن يكون الدليل مغايراً للمستدلّ عليه.
وجه الدفع: أنّه اتّضح بذلك البيان أنّ الإثبات في الحقيقة (و هو عمليّة الحمل) عمل القائس و حكمه، لا حكم الشارع (و هو الدليل). و أمّا «المستدلّ عليه» فهو حكم الشارع على الفرع. و إنّما حصل للقائس هذا الاستدلال لحصول الاعتقاد له بحكم الشارع من تلك العمليّة القياسيّة الّتي أجراها.
و من هنا يظهر: أنّ هذا التعريف أفضل التعريفات و أبعدها عن المناقشات.
و أمّا تعريفه بالمساواة بين الفرع و الأصل في العلّة أو نحو ذلك، فإنّه تعريف بمورد القياس، و ليست المساواة قياساً.
و على كلّ حالٍ، لا يستحقّ الموضوع الإطالة بعد أن كان المقصود من القياس واضحاً.
2- أركان القياس
بما تقدّم من البيان يتّضح أنّ للقياس أربعة أركان:
1- «الاصل» و هو المقيس عليه المعلوم ثبوت الحكم له شرعاً.
2- «الفرع» و هو المقيس، المطلوب إثبات الحكم له شرعاً.
أصول الفقه ( مظفر، محمد رضا - طبع انتشارات اسلامى )، ج3، ص: 188
3- «العلّة» و هي الجهة المشتركة بين الأصل و الفرع الّتي اقتضت ثبوت الحكم. و تُسمّى «جامعاً».
4- «الحكم» و هو نوع الحكم الّذي ثبت للأصل و يراد إثباته للفرع.
و قد وقعت أبحاث عن كلّ من هذه الأركان ممّا لا يهمّنا التعرّض لها إلّا فيما يتعلّق بأصل حجّيته و ما يرتبط بذلك. و بهذا الكفاية.
3- حجّية القياس
إنّ حجّية كلّ أمارةٍ تُناط بالعلم- و قد سبق بيان ذلك في هذا الجزء أكثر من مرّة- فالقياس- كباقي الأمارات- لا يكون حجّة إلّا في صورتين لا ثالث لهما:
1- أن يكون بنفسه موجباً للعلم بالحكم الشرعي.
2- أن يقوم دليل قاطع على حجّيته إذا لم يكن بنفسه موجباً للعلم، و حينئذٍ لا بدّ من بحث موضوع حجّية القياس من الناحيتين، فنقول:
1- هل القياس يوجب العلم؟
إنّ القياس نوع من «التمثيل» المصطلح عليه في المنطق- راجع «المنطق» للمؤلّف «1» و قلنا هناك: إنّ التمثيل من الأدلّة الّتي لا تفيد إلا الاحتمال، لأنّه لا يلزم من تشابه شيئين في أمرٍ- بل في عدّة امورٍ- أن يتشابها من جميع الوجوه و الخصوصيّات.
نعم، إذا قويت وجوه الشبه بين الأصل و الفرع و تعدّدت يقوى في النفس الاحتمال حتّى يكون ظنّاً و يقرب من اليقين (و القيافة من هذا الباب) و لكن كلّ ذلك لا يغني عن الحقّ شيئاً.
______________________________
(1) الجزء الثاني ص 316 من طبعتنا الحديثة.
أصول الفقه ( مظفر، محمد رضا - طبع انتشارات اسلامى )، ج3، ص: 189
غير أنّه إذا علمنا- بطريقةٍ من الطرق- أنّ جهة المشابهة علّة تامّة لثبوت الحكم في الأصل عند الشارع، ثمّ علمنا أيضاً بأنّ هذه العلّة التامّة موجودة بخصوصيّاتها في الفرع، فإنّه لا محالة يحصل لنا- على نحو اليقين- استنباط أنّ مثل هذا الحكم ثابت في الفرع كثبوته في الأصل، لاستحالة تخلّف المعلول عن علّته التامّة. و يكون من القياس المنطقي البرهاني الّذي يفيد اليقين.
و لكن الشأن كلَّ الشأن في حصول الطريق لنا إلى العلم بأنّ الجامع علّة تامّة للحكم الشرعي. و قد سبق ص 134 من هذا الجزء أنّ ملاكات الأحكام لا مسرح للعقول أو لا مجال للنظر العقلي فيها، فلا تُعلم إلّا من طريق السماع من مبلّغ الأحكام الّذي نصبه اللَّه تعالى مبلّغاً و هادياً.
و الغرض من «كون الملاكات لا مسرح للعقول فيها» أنّ أصل تعليل الحكم بالملاك لا يُعرف إلّا من طريق السماع، لأنّه أمر توقيفي. أمّا نفس وجود الملاك في ذاته فقد يُعرف من طريق الحسّ و نحوه، لكن لا بما هو علّة و ملاك، كالإسكار، فإنّ كونه علّة للتحريم في الخمر لا يمكن معرفته من غير طريق التبليغ بالأدلّة السمعيّة. أمّا وجود الإسكار في الخمر و غيره من المسكرات فأمر يُعرف بالوجدان، و لكن لا ربط لذلك بمعرفة كونه هو الملاك في التحريم، فإنّه ليس هذا من الوجدانيّات.
و على كلّ حالٍ، فانّ السرّ في أنّ الأحكام و ملاكاتها لا مسرح للعقول في معرفتها واضح، لأنّها امور توقيفيّة من وضع الشارع- كاللغات و العلامات و الإشارات الّتي لا تُعرف إلّا من قبل واضعيها- و لا تُدرك بالنظر العقلي إلّا من طريق الملازمات العقليّة القطعيّة الّتي تكلّمنا عنها فيما تقدّم في بحث الملازمات العقليّة في الجزء الثاني، و في دليل العقل
أصول الفقه ( مظفر، محمد رضا - طبع انتشارات اسلامى )، ج3، ص: 190
من هذا الجزء. و القياس لا يشكّل ملازمة عقليّة بين حكم المقيس عليه و حكم المقيس.
نعم، إذا ورد نصّ من قبل الشارع في بيان علّة الحكم في المقيس عليه، فإنّه يصحّ الاكتفاء به في تعدية الحكم إلى المقيس بشرطين:
الأوّل: أن نعلم بأنّ العلّة المنصوصة تامّة يدور معها الحكم أينما دارت.
و الثاني: أن نعلم بوجودها في المقيس.
و الخلاصة: أنّ القياس في نفسه لا يفيد العلم بالحكم، لأنّه لا يتكفّل ثبت الملازمة بين حكم المقيس عليه و حكم المقيس. و يُستثنى منه منصوص العلة بالشرطين اللذين تقدّما. و في الحقيقة: أنّ منصوص العلّة ليس من نوع القياس، كما سيأتي بيانه. و كذلك قياس الأولويّة.
و لأجل أن يتّضح الموضوع أكثر نقول: إنّ الاحتمالات الموجودة في كلّ قياسٍ خمسة، و مع هذه الاحتمالات لا تحصل الملازمة بين حكم الأصل و حكم الفرع، و لا يمكن رفع هذه الاحتمالات إلّا بورود النصّ من الشارع. و الاحتمالات هي:
1- احتمال أن يكون الحكم في الأصل معلّلًا عند اللَّه بعلّة اخرى غير ما ظنّه القائس. بل يُحتمل على مذهب هؤلاء ألّا يكون الحكم معلّلًا عند اللَّه بشيءٍ أصلًا، لأنّهم لا يرون الأحكام الشرعيّة معلّلة بالمصالح و المفاسد. و هذا من مفارقات آرائهم، فإنّهم إذا كانوا لا يرون تبعيّة الأحكام للمصالح و المفاسد فكيف يؤكّدون تعليل الحكم الشرعي في المقيس عليه بالعلّة الّتي يظنّونها؟ بل كيف يحصل لهم الظنّ بالتعليل؟
2- احتمال أنّ هناك وصفاً آخر ينضمّ إلى ما ظنّه القائس علّة بأن
أصول الفقه ( مظفر، محمد رضا - طبع انتشارات اسلامى )، ج3، ص: 191
يكون المجموع منهما هو العلّة للحكم لو فرض أنّ القائس أصاب في أصل التعليل.
3- احتمال أن يكون القائس قد أضاف شيئاً أجنبيّاً إلى العلّة الحقيقيّة لم يكن له دخل في الحكم في المقيس عليه.
4- احتمال أن يكون ما ظنّه القائس علّة- إن كان مصيباً في ظنّه- ليس هو الوصف المجرّد، بل بما هو مضاف إلى موضوعه- أعني الأصل- لخصوصيةٍ فيه. مثال ذلك:
لو علم بأنّ الجهل بالثمن علّة موجبة شرعاً في إفساد البيع، و أراد أن يقيس على البيع عقد النكاح إذا كان المهر فيه مجهولًا، فإنّه يحتمل أن يكون الجهل بالعوض الموجب لفساد البيع هو الجهل بخصوص العوض في البيع، لا مطلق الجهل بالعوض من حيث هو جهل بالعوض ليسري الحكم إلى كلّ معاوضة حتّى في مثل الصلح المعاوضي و النكاح باعتبار أنّه يتضمّن معنى المعاوضة عن البُضع.
5- احتمال أن تكون العلّة الحقيقيّة لحكم المقيس عليه غير موجودة أو غير متوفّرة بخصوصياتها في المقيس.
و كلّ هذه الاحتمالات لا بدّ من دفعها ليحصل لنا العلم بالنتيجة، و لا يدفعها إلا الأدلّة السمعيّة الواردة عن الشارع.
و قيل: من الممكن تحصيل العلم بالعلّة بطريق برهان السبر و التقسيم «1». و برهان السبر و التقسيم عبارة عن عدّ جميع الاحتمالات الممكنة، ثمّ يقام الدليل على نفي واحدٍ واحدٍ حتّى ينحصر الأمر في واحدٍ منها، فيتعيّن، فيقال مثلًا:
______________________________
(1) المستصفى: ج 2 ص 295.
أصول الفقه ( مظفر، محمد رضا - طبع انتشارات اسلامى )، ج3، ص: 192
حرمة الربا في البُرّ: إمّا أن تكون معلّلة بالطعم، أو بالقوت، أو بالكيل.
و الكلّ باطل ما عدا الكيل، فيتعيّن التعليل به.
أقول: من شرط برهان السبر و التقسيم ليكون برهاناً حقيقيّاً أن تحصر المحتملات حصراً عقليّاً من طريق القسمة الثنائية الّتي تتردّد بين النفي و الإثبات. و ما يُذكر من الاحتمالات في تعليل الحكم الشرعي لا تعدو أن تكون احتمالات استطاع القائس أن يحتملها و لم يحتمل غيرها، لا أنّها مبنيّة على الحصر العقلي المردّد بين النفي و الإثبات.
و إذا كان الأمر كذلك فكلّ ما يفرضه من الاحتمالات يجوز أن يكون وراءها احتمالات لم يتصوّرها أصلًا و من الاحتمالات: أن تكون العلّة اجتماع محتملين أو أكثر ممّا احتمله القائس. و من الاحتمالات: أن يكون ملاك الحكم شيئاً آخر خارجاً عن أوصاف المقيس عليه لا يمكن أن يهتدي إليه القائس، مثل التعليل في قوله تعالى (سورة النساء 160):
«فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ طَيِّباتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ» فإنّ الظاهر من الآية أنّ العلّة في تحريم الطيّبات عصيانهم، لا أوصاف تلك الأشياء.
بل من الاحتمالات عند هذا القائس الّذي لا يرى تبعيّة الأحكام للمصالح و المفاسد أنّ الحكم لا ملاك و لا علّة له، فكيف يمكن أن يدّعى حصر العلل فيما احتمله و قد لا تكون له علّة؟
و على كلّ حالٍ، فلا يمكن أن يُستنتج من مثل السبر و التقسيم هنا أكثر من الاحتمال. و إذا تنزّلنا فأكثر ما يحصل منه الظنّ.
فرجع الأمر بالأخير إلى الظنّ و أنّ الظنّ لا يغني من الحقّ شيئاً.
و في الحقيقة أنّ القائلين بالقياس لا يدّعون إفادته العلم، بل أقصى ما يتوقّعونه إِفادته للظنّ، غير أنّهم يرون أنّ مثل هذا الظنّ حجّة. و في البحث الآتي نبحث عن أدلّة حجّيته.
أصول الفقه ( مظفر، محمد رضا - طبع انتشارات اسلامى )، ج3، ص: 193
2- الدليل على حجّية القياس الظنّي:
بعد أن ثبت أنّ القياس في حدّ ذاته لا يفيد العلم، بقي علينا أن نبحث عن الأدلّة على حجّية الظنّ الحاصل منه، ليكون من الظنون الخاصّة المستثناة من عموم الآيات الناهية عن اتّباع الظنّ، كما صنعنا في خبر الواحد و الظواهر، فنقول:
أمّا نحن- الإمامية- ففي غنىً عن «1» هذا البحث، لأنّه ثبت لدينا على سبيل القطع من طريق آل البيت عليهم السلام عدم اعتبار هذا الظنّ الحاصل من القياس، فقد تواتر عنهم النهي عن الأخذ بالقياس و أنّ دين اللَّه لا يصاب بالعقول، فلا الأحكام في أنفسها تصيبها العقول، و لا ملاكاتها و عللها.
على أنّه يكفينا في إبطال القياس أن نبطل ما تمسّكوا به لإثبات حجّيته من الأدلّة، لنرجع إلى عمومات النهي عن اتّباع الظنّ و ما وراء العلم.
أمّا غيرنا- من أهل السنّة الّذين ذهبوا إلى حجّيته- فقد تمسّكوا بالأدلّة الأربعة: الكتاب و السنّة و الإجماع و العقل. و لا بأس أن نشير إلى نماذج من استدلالاتهم لنرى أنّ ما تمسّكوا به لا يصلح لإثبات مقصودهم، فنقول:
الدليل من الآيات القرآنيّة:
منها: قوله تعالى (الحشر 59): «فَاعْتَبِرُوا يا أُولِي الْأَبْصارِ» بناءً على تفسير «الاعتبار» بالعبور و المجاوزة، و القياس عبور و مجاوزة من الأصل إلى الفرع.
______________________________
(1) في ط الاولى: ففي راحةٍ من.
أصول الفقه ( مظفر، محمد رضا - طبع انتشارات اسلامى )، ج3، ص: 194
و فيه: أنّ الاعتبار هو الاتّعاظ لغةً، و هو الأنسب بمعنى الآية الواردة في الّذين كفروا من أهل الكتاب، إذ قذف اللَّه في قلوبهم الرعب يخربون بيوتهم بأيديهم و أيدي المؤمنين. و أين هي من القياس الّذي نحن فيه؟
و قال ابن حزم في كتابه (إبطال القياس ص 30): و محال أن يقول لنا:
«فاعتبروا يا اولي الأبصار» و يريد القياس، ثمّ لا يبيّن لنا في القرآن و لا في الحديث: أيّ شيءٍ نقيس؟ و لا متى نقيس؟ و لا على أيٍّ نقيس؟ و لو وجدنا ذلك لوجب أن نقيس ما امرنا بقياسه حيث امرنا، و حرم علينا أن نقيس ما لا نصّ فيه جملة، و لا نتعدّى حدوده.
و منها: قوله تعالى (يس 78- 79): «قالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظامَ وَ هِيَ رَمِيمٌ* قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَها أَوَّلَ مَرَّةٍ» باعتبار أنّ الآية تدلّ على مساواة النظير للنظير، بل هي استدلال بالقياس لإفحام من ينكر إحياء العظام و هي رميم. و لو لا أنّ القياس حجّة لما صحّ الاستدلال فيها.
و فيه: أنّ الآية لا تدلّ على هذه المساواة بين النظيرين كنظيرين في أيّة جهةٍ كانت، كما أنّها ليست استدلالًا بالقياس، و إنّما جاءت لرفع استغراب المنكرين للبعث، إذ يتخيّلون العجز عن إحياء الرميم، فأرادت الآية أن تثبت الملازمة بين القدرة على إنشاء العظام و إيجادها لأوّل مرّة- بلا سابق وجود- و بين القدرة على إحيائها من جديد، بل القدرة على الثاني أولى، و إذا ثبتت الملازمة و المفروض أنّ الملزوم (و هو القدرة على إنشائها أوّل مرّة) موجود مسلّم، فلا بدّ أن يثبت اللازم (و هو القدرة على إحيائها و هي رميم). و أين هذا من القياس؟
و لو صحّ أن يراد من الآية القياس فهو نوع من قياس الأولويّة المقطوعة، و أين هذا من قياس المساواة المطلوب إثبات حجّيته، و هو الّذي يبتني على ظنّ المساواة في العلّة؟
أصول الفقه ( مظفر، محمد رضا - طبع انتشارات اسلامى )، ج3، ص: 195
و قد استدلّوا بآيات اخر مثل قوله تعالى: «فَجَزاءٌ مِثْلُ ما قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ» «1» «يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَ الْإِحْسانِ» «2». و التشبّث بمثل هذه الآيات لا يعدو أن يكون من باب تشبّث الغريق بالطحلب- كما يقولون-.
الدليل من السنّة:
رووا عن النبي صلى الله عليه و آله و سلم أحاديث لتصحيح القياس لا تنهض حجّةً لهم.
و لا بأس أن نذكر بعضها كنموذج عنها، فنقول:
منها: الحديث المأثور عن معاذ أنّ رسول اللَّه صلى الله عليه و آله و سلم بعثه قاضياً إلى اليمن و قال له فيما قال: بما ذا تقضي إذا لم تجد في كتاب اللَّه و لا في سنّة رسول اللَّه؟ قال معاذ: «أجتهد رأيي و لا آلو»، فقال صلى الله عليه و آله و سلم: «الحمد للَّه الّذي وفّق رسولَ رسولِ اللَّه لما يرضي رسول اللَّه» «3».
قالوا: قد أقرّ النبيّ الاجتهاد بالرأي، و اجتهاد الرأي لا بدّ من ردّه إلى أصلٍ، و إلّا كان رأيا مرسلًا، و الرأي المرسل غير معتبر. فانحصر الأمر بالقياس.
و الجواب: أنّ الحديث مرسل لا حجّة فيه، لأنّ راويه- و هو «الحارث ابن عمرو» ابن أخي المغيرة بن شعبة- رواه عن اناسٍ من أهل حمص!.
ثم الحارث هذا نفسه مجهول لا يدري أحد من هو؟ و لا يُعرف له غير هذا الحديث.
ثمّ إنّ الحديث معارض بحديث آخر «4» في نفس الواقعة، إذ جاء فيه:
«لا تقضينَّ و لا تفصلنّ «5» إِلّا بما تعلم، و إن اشكل عليك أمر فقف حتّى
______________________________
(1) المائدة: 95.
(2) النحل: 90.
(3) سنن الترمذي: ج 3 ص 616 ح 1227 و سنن أبي داود: ج 3 ص 303 ح 3592.
أصول الفقه ( مظفر، محمد رضا - طبع انتشارات اسلامى )، ج3، ص: 196
تتبيّنه أو تكتب إليَّ». فأجدر بذلك الحديث أن يكون موضوعاً على الحارث أو منه.
مضافاً إلى أنّه لا حصر فيما ذكروا، فقد يراد من الاجتهاد بالرأي استفراغ الوسع في الفحص عن الحكم، و لو بالرجوع إلى العمومات أو الاصول. و لعلّه يشير إلى ذلك قوله: «و لا آلو».
و منها: حديث الخثعميّة- الّتي سألت رسول اللَّه صلى الله عليه و آله و سلم عن قضاء الحجّ عن أبيها الّذي فاتته فريضة الحجّ- أ ينفعه ذلك؟ فقال صلى الله عليه و آله و سلم لها:
«أ رأيت لو كان على أبيك دين فقضيته أ كان ينفعه ذلك؟» قالت: نعم. قال:
«فدين اللَّه أحقّ بالقضاء» «1».
قالوا: فألحق الرسول دَيْن اللَّه بدَيْن الآدمي في وجوب القضاء. و هو عين القياس.
و الجواب: أنّه لا معنى للقول بأنّ الرسول أجرى القياس في حكمه بقضاء الحجّ، و هو المشرّع المتلقّي الأحكام من اللَّه تعالى بالوحي، فهل كان لا يعلم بحكم قضاء الحجّ فاحتاج أن يستدلّ عليه بالقياس؟ ما لكم كيف تحكمون!
و إنّما المقصود من الحديث- على تقدير صحّته- تنبيه الخثعميّة على تطبيق العامّ على ما سألت عنه، و هو- أعني العامّ- وجوب قضاء كلّ دين، إذ خفي عليها أنّ الحجّ ممّا يُعدّ من الديون الّتي يجب قضاؤها عن الميّت، و هو أولى بالقضاء لأنّه دين اللَّه.
و لا شكّ في أنّ تطبيق العامّ على مصاديقه المعلومة لا يحتاج إلى تشريعٍ جديدٍ غير تشريع نفس العامّ، لأنّ الانطباق قهري. و ليس هو من نوع القياس.
______________________________
(1) سنن النسائي: ج 8 ص 227 و الذريعة: ج 2 ص 713.
أصول الفقه ( مظفر، محمد رضا - طبع انتشارات اسلامى )، ج3، ص: 197
و لا ينقضي العجب ممّن يذهب إلى عدم وجوب قضاء الحجّ و لا الصوم- كالحنفيّة- و يقول: «دين الناس أحقّ بالقضاء» ثمّ يستدلّ بهذا الحديث على حجّية القياس!
و منها: حديث بيع الرطب بالتمر، فإنّ رسول اللَّه صلى الله عليه و آله و سلم سأل: أ ينقص الرطب إذا يبس؟ فلما اجيب بنعم، قال: «فلا، إذاً» «1».
و الجواب: أنّ هذا الحديث- على تقدير صحّته- يشبه حديث الخثعميّة، فإنّ المقصود منه التنبيه على تطبيق العامّ على أحد مصاديقه الخفيّة. و ليس هو من القياس في شيءٍ.
و كذلك يقال في أكثر الأحاديث المرويّة في الباب.
على أنّها بجملتها معارضة بأحاديث اخر يفهم منها النهي عن الأخذ بالرأي من دون الرجوع إلى الكتاب و السنّة.
الدليل من الإجماع:
و الإجماع هو أهمّ دليل عندهم، وعليه معوّلهم في هذه المسألة.
و الغرض منه إجماع الصحابة.
و يجب الاعتراف بأنّ بعض الصحابة استعملوا الاجتهاد بالرأي و أكثروا، بل حتّى فيما خالف النصّ تصرّفاً في الشريعة باجتهاداتهم.
و الإنصاف: أنّ ذلك لا ينبغي أن يُنكر من طريقتهم، و لكن- كما سبق أن أوضحناه- لم تكن الاجتهادات واضحة المعالم عندهم من كونها على نحو القياس أو الاستحسان أو المصالح المرسلة، و لم يُعرف عنهم على أيّ أساسٍ كانت اجتهاداتهم، أ كانت تأويلًا للنصوص أو جهلًا بها أو استهانة بها؟ ربما كان بعض هذا أو كلّه من بعضهم.
______________________________
(1) سنن ابي ماجة: ج 2 ص 761 ح 2264، و الموطأ: ج 2 ص 624 ح 22.
أصول الفقه ( مظفر، محمد رضا - طبع انتشارات اسلامى )، ج3، ص: 198
و في الحقيقة إنّما تطوّر البحث عن الاجتهاد بالرأي في تنويعه و خصائصه في القرن الثاني و الثالث- كما سبق بيانه- فميّزوا بين القياس و الاستحسان و المصالح المرسلة.
و من الاجتهادات قول عمر بن الخطّاب: «متعتان كانتا على عهد رسول اللَّه أنا محرّمهما و معاقبٌ عليهما» «1». و منها: جمعه الناس لصلاة التراويح «2». و منها: إلغاؤه في الأذان «حيَّ على خير العمل» «3». فهل كان ذلك من القياس أو من الاستحسان المحض؟
لا ينبغي أن يشكّ أنّ مثل هذه الاجتهادات ليست من القياس في شيءٍ. و كذلك كثير من الاجتهادات عندهم.
وعليه فابن حزم على حقّ إذا كان يقصد إنكار أن يكون القياس سابقاً معروفاً بحدوده في اجتهادات الصحابة، حينما قال في كتابه (إبطال القياس ص 5): «ثمّ حدث القياس في القرن الثاني فقال به بعضهم و أنكره سائرهم و تبرّءوا منه» و قال في كتابه (الإحكام 7/ 177): «إنّه بدعة حدث في القرن الثاني ثمّ فشا و ظهر في القرن الثالث». أمّا إذا أراد إنكار أصل الاجتهادات بالرأي من بعض الصحابة- و هو لا يريد ذلك قطعاً- فهو انكار لأمرٍ ضروري متواترٍ عنهم.
و قد ذكر الغزالي في كتابه (المستصفى 2/ 58- 62) كثيراً من مواضع اجتهادات الصحابة برأيهم، و لكن لم يستطع أن يثبت أنّها على نحو القياس إلّا لأنّه لم يَرَ وجهاً لتصحيحها إلّا بالقياس و تعليل النصّ.
و ليس هو منه إلّا من باب حسن الظنّ، لا أكثر. و أكثرها لا يصحّ تطبيقها على القياس.
______________________________
(1) كنز العمّال: ج 16 ص 519 ح 45715.
(2) سنن البيهقي: ج 2 ص 493.
(3) علل الشرائع: ج 2 ص 367 و 368 ح 3.
أصول الفقه ( مظفر، محمد رضا - طبع انتشارات اسلامى )، ج3، ص: 199
و على كلّ حالٍ، فالشأن كلَّ الشأن في تحقيق إجماع الامّة و الصحابة على الأخذ بالقياس و نحن نمنعه أشدّ المنع.
أمّا أوّلًا: فلما قلناه قريباً أنّه لم يثبت أنّ اجتهاداتهم كانت من نوع القياس بل في بعضها ثبت عكس ذلك، كاجتهادات عمر بن الخطّاب- المتقدّمة- و مثلها اجتهاد عثمان في حرق المصاحف، و نحو ذلك.
و أمّا ثانياً: فإنّ استعمال بعضهم للرأي- سواء كان مبنيّاً على القياس أم على غيره- لا يكشف عن موافقة الجميع، كما قال ابن حزم «1» فأنصف:
أين وجدتم هذا الاجماع؟ و قد علمتم أنّ الصحابة الوف لا تُحفظ الفتيا عنهم في أشخاص المسائل إلّا عن مائة و نيّفٍ و ثلاثين نفراً: منهم سبعة مكثرون، و ثلاثة عشر نفساً متوسّطون، و الباقون مقلّون جدّاً تُروى عنهم المسألة و المسألتان. حاشا المسائل الّتي تيقّن إجماعهم عليها «2» كالصلوات وصوم رمضان- فأين الإجماع على القول بالرأي؟
و الغرض الّذي نرمي إليه أنّه لا يُنكر ثبوت الاجتهاد بالرأي عند جملة من الصحابة: كأبي بكر، و عمر، و عثمان، و زيد بن ثابت- بل ربما من غيرهم- و إنّما الّذي يُنكر أن يكون ذلك بمجرّده محقّقاً لإجماع الامّة أو الصحابة. و اتّفاق الثلاثة أو العشرة بل العشرين ليس إجماعاً مهما كانوا.
نعم، أقصى ما يقال في هذا الصدد: إنّ الباقين سكتوا و سكوتهم إقرار، فيتحقّق الإجماع.
و لكن يُجاب عن ذلك: أنّ السكوت لا نسلّم أنّه يحقّق الإجماع، لأنّه
______________________________
(1) (*) إبطال القياس: ص 19.
(2) هذه ليست من المسائل الإجماعيّة، بل هذه من ضروريات الدين. و قد تقدّم أنّ الأخذ بها ليس أخذاً بالإجماع.
أصول الفقه ( مظفر، محمد رضا - طبع انتشارات اسلامى )، ج3، ص: 200
لا يدلّ على الإقرار إلّا من المعصوم بشروط الإقرار. و السرّ في ذلك: أنّ السكوت في حدّ ذاته مجمل، فيه عند غير المعصوم أكثر من وجهٍ واحد و احتمالٍ، إذ قد ينشأ من الخوف، أو الجبن، أو الخجل، أو المداهنة، أو عدم العناية ببيان الحقّ، أو الجهل بالحكم الشرعي أو وجهه، أو عدم وصول نبأ الفتيا إليهم ... إلى ما شاء اللَّه من هذه الاحتمالات الّتي لا دافع لها بالنسبة إلى غير المعصوم. و قد يجتمع في شخصٍ واحد أكثر من سببٍ واحد للسكوت عن الحقّ. و من الاحتمالات أيضاً أن يكون قد أنكر بعض الناس و لكن لم يصل نبأ الإنكار إلينا. و دواعي إخفاء الإنكار و خفائه كثيرة لا تُحدّ و لا تُحصر.
و أمّا ثالثاً: فإنّ سكوت الباقين غير مسلَّم. و يكفي لإبطال الإجماع إنكار شخص واحد له شأن في الفتيا، إذ لا يتحقّق معه اتّفاق الجميع، فكيف إذا كان المنكرون أكثر من واحد! و قد ثبت تخطئة القول بالرأي عن ابن عبّاس و ابن مسعود و أضرابهما، بل روي ذلك حتّى عن عمر بن الخطّاب «1»: «إيّاكم و أصحاب الرأي! فإنّهم أعداء السنن أعيتهم الأحاديث أن يحفظوها فقالوا بالرأي فضلّوا و أضلّوا» و إن كنت أظنّ أنّ هذه الرواية موضوعة عليه، لثبوت أنّه في مقدّمة أصحاب الرأي، مع أنّ اسلوب بيان الرواية بعيد عن النسبة إليه و إلى عصره.
و على كلّ حالٍ، لا شيء أبلغ في الإنكار من المجاهرة بالخلاف و الفتوى بالضدّ، و هذا قد كان من جماعةٍ كما قلنا، بل زاد بعضهم كابن عبّاس و ابن مسعود أن انتهى إلى ذكر المباهلة و التخويف من اللَّه تعالى.
و هل شيء أبلغ في الإنكار من هذا؟ فأين الإجماع؟
______________________________
(1) إبطال القياس: ص 58 و المستصفى: 2/ 247.
أصول الفقه ( مظفر، محمد رضا - طبع انتشارات اسلامى )، ج3، ص: 201
و نحن يكفينا إنكار عليّ بن أبي طالب عليه السلام و هو المعصوم الّذي يدور معه الحقّ كيفما دار كما في الحديث النبوي المعروف «1». و إنكاره معلوم من طريقته، و قد رووا عنه قوله: «لو كان الدين بالرأي لكان المسح على باطن الخفّ أولى من ظاهره» «2» و هو يريد بذلك إبطال القول بجواز المسح على الخفّ الّذي لا مدرك له إلّا القياس أو الاستحسان.
الدليل من العقل:
لم يذكر أكثر الباحثين عن القياس دليلًا عقليّاً على حجّيته «3» غير أنّ جملة منهم ذكر له وجوهاً أحسنها فيما أحسب ما سأذكره، مع أنّه من أوهن الاستدلالات.
الدليل: إنّا نعلم قطعاً بأنّ الحوادث لا نهاية لها.
و نعلم قطعاً أنّه لم يرد النصّ في جميع الحوادث، لتناهي النصوص، و يستحيل أن يستوعب المتناهي ما لا يتناهى.
إذن فيُعلم أنّه لا بدّ من مرجعٍ لاستنباط الأحكام لتلافي النواقص من الحوادث. و ليس هو إلّا القياس.
و الجواب: صحيح أنّ الحوادث الجزئيّة غير متناهية، و لكن لا يجب في كلّ حادثة جزئيّة أن يرد نصّ من الشارع بخصوصها، بل يكفي أن تدخل في أحد العمومات. و الامور العامّة محدودة متناهية لا يمتنع ضبطها و لا يمتنع استيعاب النصوص لها.
على أنّ فيه مناقشات اخرى لا حاجة بذكرها.
______________________________
(1) بحار الأنوار: ج 38 ص 28.
(2) سنن أبي داود: ج 1 ص 42 ح 162 و سنن البيهقي: ج 1 ص 292.
(3) (*) قال الشيخ الطوسي في العدّة: 2/ 651: فأمّا من أثبته فاختلفوا، فمنهم من أثبته عقلًا و هم شذاذ غير محصّلين.
أصول الفقه ( مظفر، محمد رضا - طبع انتشارات اسلامى )، ج3، ص: 202
- 4- منصوص العلّة و قياس الأولويّة
ذهب بعض علمائنا- كالعلّامة الحلّي- إلى أنّه يُستثنى من القياس الباطل ما كان «منصوص العلّة» و «قياس الأولويّة» فإنّ القياس فيهما حجّة «1». و بعضٌ قال: لا «2» إنّ الدليل الدالّ على حرمة الأخذ بالقياس شامل للقسمين، و ليس هناك ما يوجب استثناءهما.
و الصحيح أن يقال: إنّ «منصوص العلة» و «قياس الأولويّة» هما حجّة، و لكن لا استثناءً من القياس، لأنّهما في الحقيقة ليسا من نوع القياس، بل هما من نوع الظواهر، فحجّيتهما من باب حجّية الظهور. و هذا ما يحتاج إلى البيان، فنقول:
منصوص العلّة:
أمّا منصوص العلّة: فإن فُهم من النصّ على العلّة أنّ العلّة عامّة على وجه لا اختصاص لها بالمعلّل- الّذي هو كالأصل في القياس- فلا شك في أنّ الحكم يكون عامّاً شاملًا للفرع، مثل ما لو قال: «حرم الخمر لأنّه مسكر» فيُفهم منه حرمة النبيذ لأنّه مسكر أيضاً. و أمّا إذا لم يُفهم منه ذلك، فلا وجه لتعدية الحكم إلى الفرع إلّا بنوعٍ من القياس الباطن، مثل ما لو قيل: «هذا العنب حلوٌ لأنّ لونه أسود» فإنّه لا يفهم منه أنّ كلّ ما لونه أسود حلوٌ، بل العنب الأسود خاصّة حلوٌ.
و في الحقيقة: إنّه بظهور النصّ في كون العلّة عامّة ينقلب موضوع
______________________________
(1) نهاية الوصول: الورقة: 160، معارج الاصول: ص 185.
(2) قال صاحب المعالم: ظاهر المرتضى قدس سره المنع منه أيضاً، معالم الدين: ص 226، راجع الذريعة: ج 2 ص 684.
أصول الفقه ( مظفر، محمد رضا - طبع انتشارات اسلامى )، ج3، ص: 203
الحكم من كونه خاصّاً بالمعلّل إلى كون موضوعه «كلّ ما فيه العلّة» فيكون الموضوع عامّاً يشمل المعلّل (الأصل) و غيرَه، و يكون المعلّل من قبيل المثال للقاعدة العامّة، لا أنّ موضوع الحكم هو خصوص المعلّل (الأصل) و نستنبط منه الحكم في الفرع من جهة العلّة المشتركة حتّى يكون المدرك مجرّد الحمل و القياس كما في الصورة الثانية، أي الّتي لم يُفهم فيها عموم العلّة.
و لأجل هذا نقول: إنّ الأخذ بالحكم في الفرع في الصورة الاولى يكون من باب الأخذ بظاهر العموم، و ليس هو من القياس في شيءٍ ليكون القول بحجّية التعليل استثناءً من عمومات النهي عن القياس.
مثال ذلك: قوله عليه السلام في صحيحة ابن بزيع: «ماء البئر واسع لا يفسده شيء ... لأنّ له مادّة» فإنّ المفهوم منه- أي الظاهر منه- أنّ كلّ ماءٍ له مادّة واسع لا يفسده شيء، و أمّا ماء البئر فإنّما هو أحد مصاديق الموضوع العامّ للقاعدة، فيشمل الموضوع بعمومه كلّاً: من ماء البئر، و ماء الحمّام، و ماء العيون، و ماء حنفيّة الاسالة ... و غيرها، فالأخذ بهذا الحكم و تطبيقه على هذه الامور غير ماء البئر ليس أخذاً بالقياس، بل هو أخذ بظهور العموم، و الظهور حجّة.
هذا، و في عين الوقت لمّا كنّا لا نستظهر من هذه الرواية شمول العلّة (لأنّ له مادّة) لكلّ ما له مادّة و إن لم يكن ماء مطلقاً، فإنّ الحكم- و هو الاعتصام من التنجس- لا نعدّيه إلى الماء المضاف الّذي له مادّة إلا بالقياس، و هو ليس بحجّة.
و من هنا يتّضح الفرق بين الأخذ بالعموم في منصوص العلّة و الأخذ بالقياس، فلا بدّ من التفرقة بينهما في كلّ علّة منصوصة لئلّا يقع الخلط بينهما. و من أجل هذا الخلط بينهما يكثر العثار في تعرّف الموضوع للحكم.
أصول الفقه ( مظفر، محمد رضا - طبع انتشارات اسلامى )، ج3، ص: 204
و بهذا البيان و التفريق بين الصورتين يمكن التوفيق بين المتنازعين في حجّية منصوص العلّة، فمن يراه حجّة يراه فيما إذا كان له ظهور في عموم العلّة، و من لا يرى حجّيته يراه فيما إذا كان الأخذ به أخذاً به على نهج القياس.
و الخلاصة: أنّ المدار في منصوص العلّة أن يكون له ظهور في عموم الموضوع لغير ما له الحكم- أي المعلّل الأصل- فإنّه عموم من جملة الظواهر الّتي هي حجّة. و لا بد حينئذٍ أن تكون حجّيته على مقدار ما له من الظهور في العموم، فإذا أردنا تعديته إلى غير ما يشمله ظهور العموم فإنّ التعدية لا محالة تكون من نوع الحمل و القياس الّذي لا دليل عليه، بل قام الدليل على بطلانه.
قياس الأولويّة:
أمّا قياس الأولويّة: فهو نفسه الّذي يُسمّى «مفهوم الموافقة» الّذي تقدّمت الإشارة إليه (1/ 157) و قلنا هناك: إنّه يُسمّى «فحوى الخطاب» كمثال الآية الكريمة «فَلا تَقُلْ لَهُما أُفٍّ» «1» الدالّة بالأولويّة على النهي عن الشتم و الضرب و نحوهما.
و تقدّم في هذا الجزء (ص 131) أنّ هذا من الظواهر. فهو حجّة من أجل كونه ظاهراً من اللفظ، لا من أجل كونه قياساً حتّى يكون استثناءً من عموم النهي عن القياس، و إن أشبه القياس؛ و لذلك سُمّي ب «قياس الأولويّة» و «القياس الجليّ».
و من هنا لا يُفرض «مفهوم الموافقة» إلّا حيث يكون للّفظ ظهور
______________________________
(1) الإسراء: 23.
أصول الفقه ( مظفر، محمد رضا - طبع انتشارات اسلامى )، ج3، ص: 205
بتعدّي الحكم إلى ما هو أولى في علّة الحكم، كآية التأفيف المتقدّمة.
و منه دلالة الإذن بسكنى الدار على جواز التصرّف بمرافقها بطريق أولى.
و يقال لمثل هذا في عرف الفقهاء: «إذن الفحوى» و منه الآية الكريمة «فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ» «1» الدالّة بالأولويّة على ثبوت الجزاء على عمل الخير الكثير.
و بالجملة، إنّما نأخذ بقياس الأولويّة إذا كان يفهم ذلك من فحوى الخطاب، إذ يكون للكلام ظهور بالفحوى في ثبوت الحكم فيما هو أولى في علّة الحكم، فيكون حجّة من باب الظواهر؛ و من أجل هذا عدّوه من المفاهيم و سمّوه «مفهوم الموافقة».
أمّا إذا لم يكن ذلك مفهوماً من فحوى الخطاب، فلا يُسمّى ذلك مفهوماً بالاصطلاح، و لا تكفي مجرّد الأولويّة وحدها في تعدية الحكم، إذ يكون من القياس الباطل.
و يشهد لذلك ما ورد من النهي عن مثله في صحيحة أبان بن تغلب عن أبي عبد الله الصادق عليه السلام:
قال أبان: قلت له: ما تقول في رجل قطع إصبعاً من أصابع المرأة؟ كم فيها؟
قال: عشر من الإبل.
قلت: قطع اثنتين؟ «2»
قال: عشرون.
قلت: قطع ثلاثاً؟
قال: ثلاثون.
______________________________
(1) الزلزلة: 7.
(2) (*) في النسخة المطبوعة: اثنين.
أصول الفقه ( مظفر، محمد رضا - طبع انتشارات اسلامى )، ج3، ص: 206
قلت: قطع أربعاً؟
قال: عشرون.
قلت: سبحان اللَّه! يقطع ثلاثاً فيكون عليه ثلاثون، و يقطع أربعاً فيكون عليه عشرون!؟ إنّ هذا كان يبلغنا و نحن بالعراق فنبرأ ممّن قاله، و نقول: الّذي جاء به شيطان.
فقال: مهلًا يا أبان! هذا حكم رسول اللَّه صلى الله عليه و آله و سلم إنّ المرأة تعاقل «1» الرجل إلى ثلث الدية، فإذا بلغت الثلث رجعت إلى النصف. يا أبان! إنّك أخذتني بالقياس، و السنّة إذا قيست مُحق الدين «2».
فهنا في هذا المثال لم يكن في المسألة خطاب يُفهم منه في الفحوى من جهة الأولويّة تعدية الحكم إلى غير ما تضمّنه الخطاب حتّى يكون من باب «مفهوم الموافقة». و إنّما الّذي وقع من أبان قياس مجرّد لم يكن مستنده فيه إلّا جهة الأولويّة، إذ تصوّر- بمقتضى القاعدة العقليّة الحسابيّة- أنّ الدية تتضاعف بالنسبة بتضاعف قطع الأصابع، فإذا كان في قطع الثلاث ثلاثون من الإبل، فلا بدّ أن يكون في قطع الأربع أربعون، لأنّ قطع الأربع قطع للثلاث و زيادة. و لكن أبان كان لا يدري أنّ المرأة ديتها نصف دية الرجل شرعاً فيما يبلغ ثلث الدية فما زاد، و هي مائة من الإبل.
و الخلاصة: أنّا نقول ببطلان قياس الأولويّة إذا كان الأخذ به لمجرّد الأولويّة. أمّا إذا كان مفهوماً من التخاطب بالفحوى من جهة الأولويّة فهو حجّة من باب الظواهر، فلا يكون قياساً مستثنى من القياس الباطل.
***______________________________
(1) تعاقل: توازن، و في النسخة المطبوعة: تقابل. و أحسبه من تصحيح الناشر اشتباهاً.
(2) الكافي: ج 7 ص 299، ح 6.
أصول الفقه ( مظفر، محمد رضا - طبع انتشارات اسلامى )، ج3، ص: 207
تنبيه:
الاستحسان، و المصالح المرسلة، و سدّ الذرائع
بقي من الأدلّة المعتبرة عند جملة من علماء السنّة: «الاستحسان» و «المصالح المرسلة» و «سدّ الذرائع».
و هي- إن لم ترجع إلى ظواهر الأدلّة السمعيّة أو الملازمات العقليّة- لا دليل على حجّيتها، بل هي أظهر أفراد الظنّ المنهي عنه. و هي دون القياس من ناحية الاعتبار.
و لو أردنا إخراجها من عمومات حرمة العمل بالظنّ لا يبقى عندنا ما يصلح لانطباق هذه العمومات عليه ممّا يستحقّ الذكر، فيبقى النهي عن الظنّ بلا موضوع. و من البديهي عدم جواز تخصيص الأكثر.
على أنّه قد أوضحنا فيما سبق في الدليل العقلي أنّ الأحكام و ملاكاتها لا يستقلّ العقل بإدراكها ابتداءً، أي: ليس من الممكن للعقول أن تنالها ابتداءً من دون السماع من مبلّغ الأحكام أو بالملازمة العقليّة.
و شأنها في ذلك شأن جميع المجعولات كاللغات و الإشارات و العلامات و نحوها، فإنّه لا معنى للقول بأنّها تُعلم من طريقٍ عقليٍّ مجرّد، سواء كان من طريقٍ بديهي أم نظري.
أصول الفقه ( مظفر، محمد رضا - طبع انتشارات اسلامى )، ج3، ص: 208
و لو صحّ للعقل هذا الأمر لما كان هناك حاجة لبعثة الرسل و نصب الأئمّة، إذ يكون حينئذٍ كلّ ذي عقل متمكّناً بنفسه من معرفة أحكام اللَّه تعالى، و يصبح كلّ مجتهدٍ نبيّاً أو إماماً!
و من هنا تعرف السرّ في إصرار أصحاب الرأي على قولهم بأنّ «كلّ مجتهد مصيب» و قد اعترف الإمام الغزالي بأنّه لا يمكن إثبات حجّية القياس إلّا بتصويب كلّ مجتهد. و زاد على ذلك قوله بأنّ المجتهد و إن خالف النصّ فهو مصيب و أنّ الخطأ غير ممكن في حقّه «1».
و من أجل ما ذكرناه- من عدم إمكان إثبات حجّية مثل هذه الادلّة- رأينا الاكتفاء بذلك عن شرح هذه الأدلّة و مرادهم منها و مناقشة أدلّتهم.
و نحيل الطلّاب على محاضرات «مدخل الفقه المقارن» الّتي ألقاها استاذ المادّة في كلّية الفقه الأخ السيّد محمد تقي الحكيم، فإنّ فيها الكفاية.
***______________________________
(1) المستصفى: ج 2 ص 239.
أصول الفقه ( مظفر، محمد رضا - طبع انتشارات اسلامى )، ج3، ص: 210
حوزوی کتب
اصول الفقہ حصہ سوم
المقصد الثالث مباحث الحجّة
المقدّمة
الباب الأوّل: الكتاب العزيز
الباب الثاني: السنّة
الباب الثالث: الإجماع
الباب الرابع: الدليلُ العقلي
*** الباب الخامس: حجّية الظواهر
الباب السادس: الشهرة
الباب السابع: السيرة
الباب الثامن: القياس
اصول الفقہ حصہ سوم
الباب الثامن: القياس
تمهيد:
إنّ القياس- على ما سيأتي تحديده و بيان موضع البحث فيه- من الأمارات الّتي وقعت فيها معركة الآراء بين الفقهاء.
و علماء الإماميّة- تبعاً لآل البيت عليهم السلام- أبطلوا العمل به. و من الفرق الاخرى أهل الظاهر المعروفين ب «الظاهريّة» أصحاب داود بن خلف إمام أهل الظاهر- و كذلك الحنابلة- لم يكن يقيمون له وزناً «1».
و أوّل من توسّع فيه في القرن الثاني أبو حنيفة- رأس القياسيّين- و قد نشط في عصره و أخذ به الشافعيّة و المالكيّة. و لقد بالغ به جماعة فقدّموه على الإجماع، بل غلا آخرون فردّوا الأحاديث بالقياس، و ربما صار بعضهم يؤوّل الآيات بالقياس!.
و من المعلوم عند آل البيت عليهم السلام أنّهم لا يجوّزون العمل به و قد شاع عنهم: «إنّ دين اللَّه لا يصاب بالعقول» «2» و «أنّ السنّة إذا قيست محق الدين» «3» بل شنّوا حرباً شعواء لا هوادة فيها على أهل الرأي و قياسهم ما وجدوا للكلام متّسعاً. و مناظرات الإمام الصادق عليه السلام معهم معروفة،
______________________________ (1) راجع المستصفى: ج 2 ص 234، و العُدّة: ج 2 ص 650.
(2) كمال الدين: ص 324 ح 9.
(3) المحاسن: ج 1 ص 339 ح 96.
أصول الفقه ( مظفر، محمد رضا - طبع انتشارات اسلامى )، ج3، ص: 185
لا سيّما مع أبي حنيفة- و قد رواها حتّى أهل السنّة- إذ قال له فيما رواه ابن حزم «1»: اتّق اللَّه! و لا تقس، فإنّا نقف غداً بين يدي اللَّه فنقول: «قال اللَّه و قال رسوله» و تقول أنت و أصحابك: «سمعنا و رأينا».
و الّذي يبدو أنّ المخالفين لآل البيت الّذين سلكوا غير طريقهم و لم يعجبهم أن يستقوا من منبع علومهم أعوزهم العلم بأحكام اللَّه و ما جاء به الرسول صلى الله عليه و آله و سلم فالتجئوا إلى أن يصطنعوا الرأي و الاجتهادات الاستحسانيّة للفتيا و القضاء بين الناس، بل حكّموا الرأي و الاجتهاد حتّى فيما يخالف النصّ، أو جعلوا ذلك عذراً مبرّراً لمخالفة النصّ، كما في قصّة تبرير الخليفة الأوّل لفعلة خالد بن الوليد في قتل مالك ابن نويرة، و قد خلا بزوجته ليلة قتله، فقال عنه: «إنّه اجتهد فأخطأ»! و ذلك لمّا أراد الخليفة عمر بن الخطّاب أن يقاد به و يقام عليه الحدّ «2».
و كان الرأي و القياس غير واضح المعالم عند من كان يأخذ به من الصحابة و التابعين، حتّى بدأ البحث فيه لتركيزه و توسعة الأخذ به في القرن الثاني على يد أبي حنيفة و أصحابه. ثمّ بعد أن أخذت الدولة العبّاسية تساند أهل القياس و بعد ظهور النقّاد له، انبرى جماعة من علمائهم لتحديد معالمه و توسيع أبحاثه، و وضع القيود و الاستدراكات له، حتّى صار فنّاً قائماً بنفسه.
و نحن يهمّنا منه البحث عن موضع الخلاف فيه و حجّيته، فنقول:
______________________________
(1) (*) إبطال القياس: ص 71، مطبعة جامعة دمشق 1379.
(2) راجع كتاب «السقيفة» للمؤلّف: ص 22، طبعة مؤسّسة الأعلمي.
أصول الفقه ( مظفر، محمد رضا - طبع انتشارات اسلامى )، ج3، ص: 186
1- تعريف القياس
إنّ خير التعريفات للقياس- في رأينا «1»- أن يقال: هو «إثبات حكمٍ في محلٍّ بعلّة لثبوته في محلٍّ آخر بتلك العلّة». و المحلّ الأوّل- و هو المقيس- يسمّى «فرعاً». و المحلّ الثاني- و هو المقيس عليه- يُسمّى «أصلًا». و العلّة المشتركة تُسمّى «جامعاً».
و في الحقيقة أنّ القياس عمليّة من المستدلّ- أي القائس- لغرض استنتاج حكمٍ شرعي لمحلّ لم يرد فيه نصّ بحكمه الشرعي، إذ توجب هذه العمليّة عنده الاعتقاد يقيناً أو ظنّاً بحكم الشارع.
و العمليّة القياسيّة هي نفس حمل الفرع على الأصل في الحكم الثابت للأصل شرعاً، فيعطي القائس حكماً للفرع مثلَ حكم الأصل، فإن كان الوجوب أعطى له الوجوب، و إن كان الحرمة فالحرمة ... و هكذا.
و معنى هذا الإعطاء أن يحكم بأنّ الفرع ينبغي أن يكون محكوماً عند الشارع بمثل حكم الأصل للعلّة المشتركة بينهما. و هذا الإعطاء أو الحكم هو الّذي يوجب عنده الاعتقاد بأنّ للفرع مثل ما للأصل من الحكم عند الشارع، و يكون هذا الإعطاء أو الحكم أو الإثبات أو الحمل- ما شئت فعبّر- دليلًا عنده على حكم اللَّه في الفرع.
وعليه ف «الدليل» هو الإثبات الّذي هو نفس عمليّة الحمل و إعطاء الحكم للفرع من قبل القائس.
و «نتيجة الدليل» هو الحكم بأنّ الشارع قد حكم فعلًا على هذا الفرع بمثل حكم الأصل.
______________________________ (1) في ط الاولى: في رأيي أنّ خير التعريفات للقياس.
أصول الفقه ( مظفر، محمد رضا - طبع انتشارات اسلامى )، ج3، ص: 187
فتكون هذه العمليّة من القائس دليلًا على حكم الشارع، لأنّها توجب اعتقاده اليقيني أو الظنّي بأنّ الشارع له هذا الحكم.
و بهذا التقرير يندفع الاعتراض على مثل هذا التعريف بأنّ الدليل- و هو الإثبات- نفسه نتيجة الدليل، بينما أنّه يجب أن يكون الدليل مغايراً للمستدلّ عليه.
وجه الدفع: أنّه اتّضح بذلك البيان أنّ الإثبات في الحقيقة (و هو عمليّة الحمل) عمل القائس و حكمه، لا حكم الشارع (و هو الدليل). و أمّا «المستدلّ عليه» فهو حكم الشارع على الفرع. و إنّما حصل للقائس هذا الاستدلال لحصول الاعتقاد له بحكم الشارع من تلك العمليّة القياسيّة الّتي أجراها.
و من هنا يظهر: أنّ هذا التعريف أفضل التعريفات و أبعدها عن المناقشات.
و أمّا تعريفه بالمساواة بين الفرع و الأصل في العلّة أو نحو ذلك، فإنّه تعريف بمورد القياس، و ليست المساواة قياساً.
و على كلّ حالٍ، لا يستحقّ الموضوع الإطالة بعد أن كان المقصود من القياس واضحاً.
2- أركان القياس
بما تقدّم من البيان يتّضح أنّ للقياس أربعة أركان:
1- «الاصل» و هو المقيس عليه المعلوم ثبوت الحكم له شرعاً.
2- «الفرع» و هو المقيس، المطلوب إثبات الحكم له شرعاً.
أصول الفقه ( مظفر، محمد رضا - طبع انتشارات اسلامى )، ج3، ص: 188
3- «العلّة» و هي الجهة المشتركة بين الأصل و الفرع الّتي اقتضت ثبوت الحكم. و تُسمّى «جامعاً».
4- «الحكم» و هو نوع الحكم الّذي ثبت للأصل و يراد إثباته للفرع.
و قد وقعت أبحاث عن كلّ من هذه الأركان ممّا لا يهمّنا التعرّض لها إلّا فيما يتعلّق بأصل حجّيته و ما يرتبط بذلك. و بهذا الكفاية.
3- حجّية القياس
إنّ حجّية كلّ أمارةٍ تُناط بالعلم- و قد سبق بيان ذلك في هذا الجزء أكثر من مرّة- فالقياس- كباقي الأمارات- لا يكون حجّة إلّا في صورتين لا ثالث لهما:
1- أن يكون بنفسه موجباً للعلم بالحكم الشرعي.
2- أن يقوم دليل قاطع على حجّيته إذا لم يكن بنفسه موجباً للعلم، و حينئذٍ لا بدّ من بحث موضوع حجّية القياس من الناحيتين، فنقول:
1- هل القياس يوجب العلم؟
إنّ القياس نوع من «التمثيل» المصطلح عليه في المنطق- راجع «المنطق» للمؤلّف «1» و قلنا هناك: إنّ التمثيل من الأدلّة الّتي لا تفيد إلا الاحتمال، لأنّه لا يلزم من تشابه شيئين في أمرٍ- بل في عدّة امورٍ- أن يتشابها من جميع الوجوه و الخصوصيّات.
نعم، إذا قويت وجوه الشبه بين الأصل و الفرع و تعدّدت يقوى في النفس الاحتمال حتّى يكون ظنّاً و يقرب من اليقين (و القيافة من هذا الباب) و لكن كلّ ذلك لا يغني عن الحقّ شيئاً.
______________________________
(1) الجزء الثاني ص 316 من طبعتنا الحديثة.
أصول الفقه ( مظفر، محمد رضا - طبع انتشارات اسلامى )، ج3، ص: 189
غير أنّه إذا علمنا- بطريقةٍ من الطرق- أنّ جهة المشابهة علّة تامّة لثبوت الحكم في الأصل عند الشارع، ثمّ علمنا أيضاً بأنّ هذه العلّة التامّة موجودة بخصوصيّاتها في الفرع، فإنّه لا محالة يحصل لنا- على نحو اليقين- استنباط أنّ مثل هذا الحكم ثابت في الفرع كثبوته في الأصل، لاستحالة تخلّف المعلول عن علّته التامّة. و يكون من القياس المنطقي البرهاني الّذي يفيد اليقين.
و لكن الشأن كلَّ الشأن في حصول الطريق لنا إلى العلم بأنّ الجامع علّة تامّة للحكم الشرعي. و قد سبق ص 134 من هذا الجزء أنّ ملاكات الأحكام لا مسرح للعقول أو لا مجال للنظر العقلي فيها، فلا تُعلم إلّا من طريق السماع من مبلّغ الأحكام الّذي نصبه اللَّه تعالى مبلّغاً و هادياً.
و الغرض من «كون الملاكات لا مسرح للعقول فيها» أنّ أصل تعليل الحكم بالملاك لا يُعرف إلّا من طريق السماع، لأنّه أمر توقيفي. أمّا نفس وجود الملاك في ذاته فقد يُعرف من طريق الحسّ و نحوه، لكن لا بما هو علّة و ملاك، كالإسكار، فإنّ كونه علّة للتحريم في الخمر لا يمكن معرفته من غير طريق التبليغ بالأدلّة السمعيّة. أمّا وجود الإسكار في الخمر و غيره من المسكرات فأمر يُعرف بالوجدان، و لكن لا ربط لذلك بمعرفة كونه هو الملاك في التحريم، فإنّه ليس هذا من الوجدانيّات. و على كلّ حالٍ، فانّ السرّ في أنّ الأحكام و ملاكاتها لا مسرح للعقول في معرفتها واضح، لأنّها امور توقيفيّة من وضع الشارع- كاللغات و العلامات و الإشارات الّتي لا تُعرف إلّا من قبل واضعيها- و لا تُدرك بالنظر العقلي إلّا من طريق الملازمات العقليّة القطعيّة الّتي تكلّمنا عنها فيما تقدّم في بحث الملازمات العقليّة في الجزء الثاني، و في دليل العقل
أصول الفقه ( مظفر، محمد رضا - طبع انتشارات اسلامى )، ج3، ص: 190
من هذا الجزء. و القياس لا يشكّل ملازمة عقليّة بين حكم المقيس عليه و حكم المقيس.
نعم، إذا ورد نصّ من قبل الشارع في بيان علّة الحكم في المقيس عليه، فإنّه يصحّ الاكتفاء به في تعدية الحكم إلى المقيس بشرطين:
الأوّل: أن نعلم بأنّ العلّة المنصوصة تامّة يدور معها الحكم أينما دارت.
و الثاني: أن نعلم بوجودها في المقيس.
و الخلاصة: أنّ القياس في نفسه لا يفيد العلم بالحكم، لأنّه لا يتكفّل ثبت الملازمة بين حكم المقيس عليه و حكم المقيس. و يُستثنى منه منصوص العلة بالشرطين اللذين تقدّما. و في الحقيقة: أنّ منصوص العلّة ليس من نوع القياس، كما سيأتي بيانه. و كذلك قياس الأولويّة.
و لأجل أن يتّضح الموضوع أكثر نقول: إنّ الاحتمالات الموجودة في كلّ قياسٍ خمسة، و مع هذه الاحتمالات لا تحصل الملازمة بين حكم الأصل و حكم الفرع، و لا يمكن رفع هذه الاحتمالات إلّا بورود النصّ من الشارع. و الاحتمالات هي:
1- احتمال أن يكون الحكم في الأصل معلّلًا عند اللَّه بعلّة اخرى غير ما ظنّه القائس. بل يُحتمل على مذهب هؤلاء ألّا يكون الحكم معلّلًا عند اللَّه بشيءٍ أصلًا، لأنّهم لا يرون الأحكام الشرعيّة معلّلة بالمصالح و المفاسد. و هذا من مفارقات آرائهم، فإنّهم إذا كانوا لا يرون تبعيّة الأحكام للمصالح و المفاسد فكيف يؤكّدون تعليل الحكم الشرعي في المقيس عليه بالعلّة الّتي يظنّونها؟ بل كيف يحصل لهم الظنّ بالتعليل؟
2- احتمال أنّ هناك وصفاً آخر ينضمّ إلى ما ظنّه القائس علّة بأن
أصول الفقه ( مظفر، محمد رضا - طبع انتشارات اسلامى )، ج3، ص: 191
يكون المجموع منهما هو العلّة للحكم لو فرض أنّ القائس أصاب في أصل التعليل.
3- احتمال أن يكون القائس قد أضاف شيئاً أجنبيّاً إلى العلّة الحقيقيّة لم يكن له دخل في الحكم في المقيس عليه.
4- احتمال أن يكون ما ظنّه القائس علّة- إن كان مصيباً في ظنّه- ليس هو الوصف المجرّد، بل بما هو مضاف إلى موضوعه- أعني الأصل- لخصوصيةٍ فيه. مثال ذلك: لو علم بأنّ الجهل بالثمن علّة موجبة شرعاً في إفساد البيع، و أراد أن يقيس على البيع عقد النكاح إذا كان المهر فيه مجهولًا، فإنّه يحتمل أن يكون الجهل بالعوض الموجب لفساد البيع هو الجهل بخصوص العوض في البيع، لا مطلق الجهل بالعوض من حيث هو جهل بالعوض ليسري الحكم إلى كلّ معاوضة حتّى في مثل الصلح المعاوضي و النكاح باعتبار أنّه يتضمّن معنى المعاوضة عن البُضع.
5- احتمال أن تكون العلّة الحقيقيّة لحكم المقيس عليه غير موجودة أو غير متوفّرة بخصوصياتها في المقيس.
و كلّ هذه الاحتمالات لا بدّ من دفعها ليحصل لنا العلم بالنتيجة، و لا يدفعها إلا الأدلّة السمعيّة الواردة عن الشارع.
و قيل: من الممكن تحصيل العلم بالعلّة بطريق برهان السبر و التقسيم «1». و برهان السبر و التقسيم عبارة عن عدّ جميع الاحتمالات الممكنة، ثمّ يقام الدليل على نفي واحدٍ واحدٍ حتّى ينحصر الأمر في واحدٍ منها، فيتعيّن، فيقال مثلًا:
______________________________ (1) المستصفى: ج 2 ص 295.
أصول الفقه ( مظفر، محمد رضا - طبع انتشارات اسلامى )، ج3، ص: 192
حرمة الربا في البُرّ: إمّا أن تكون معلّلة بالطعم، أو بالقوت، أو بالكيل.
و الكلّ باطل ما عدا الكيل، فيتعيّن التعليل به.
أقول: من شرط برهان السبر و التقسيم ليكون برهاناً حقيقيّاً أن تحصر المحتملات حصراً عقليّاً من طريق القسمة الثنائية الّتي تتردّد بين النفي و الإثبات. و ما يُذكر من الاحتمالات في تعليل الحكم الشرعي لا تعدو أن تكون احتمالات استطاع القائس أن يحتملها و لم يحتمل غيرها، لا أنّها مبنيّة على الحصر العقلي المردّد بين النفي و الإثبات.
و إذا كان الأمر كذلك فكلّ ما يفرضه من الاحتمالات يجوز أن يكون وراءها احتمالات لم يتصوّرها أصلًا و من الاحتمالات: أن تكون العلّة اجتماع محتملين أو أكثر ممّا احتمله القائس. و من الاحتمالات: أن يكون ملاك الحكم شيئاً آخر خارجاً عن أوصاف المقيس عليه لا يمكن أن يهتدي إليه القائس، مثل التعليل في قوله تعالى (سورة النساء 160):
«فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ طَيِّباتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ» فإنّ الظاهر من الآية أنّ العلّة في تحريم الطيّبات عصيانهم، لا أوصاف تلك الأشياء.
بل من الاحتمالات عند هذا القائس الّذي لا يرى تبعيّة الأحكام للمصالح و المفاسد أنّ الحكم لا ملاك و لا علّة له، فكيف يمكن أن يدّعى حصر العلل فيما احتمله و قد لا تكون له علّة؟
و على كلّ حالٍ، فلا يمكن أن يُستنتج من مثل السبر و التقسيم هنا أكثر من الاحتمال. و إذا تنزّلنا فأكثر ما يحصل منه الظنّ.
فرجع الأمر بالأخير إلى الظنّ و أنّ الظنّ لا يغني من الحقّ شيئاً.
و في الحقيقة أنّ القائلين بالقياس لا يدّعون إفادته العلم، بل أقصى ما يتوقّعونه إِفادته للظنّ، غير أنّهم يرون أنّ مثل هذا الظنّ حجّة. و في البحث الآتي نبحث عن أدلّة حجّيته.
أصول الفقه ( مظفر، محمد رضا - طبع انتشارات اسلامى )، ج3، ص: 193
2- الدليل على حجّية القياس الظنّي:
بعد أن ثبت أنّ القياس في حدّ ذاته لا يفيد العلم، بقي علينا أن نبحث عن الأدلّة على حجّية الظنّ الحاصل منه، ليكون من الظنون الخاصّة المستثناة من عموم الآيات الناهية عن اتّباع الظنّ، كما صنعنا في خبر الواحد و الظواهر، فنقول:
أمّا نحن- الإمامية- ففي غنىً عن «1» هذا البحث، لأنّه ثبت لدينا على سبيل القطع من طريق آل البيت عليهم السلام عدم اعتبار هذا الظنّ الحاصل من القياس، فقد تواتر عنهم النهي عن الأخذ بالقياس و أنّ دين اللَّه لا يصاب بالعقول، فلا الأحكام في أنفسها تصيبها العقول، و لا ملاكاتها و عللها.
على أنّه يكفينا في إبطال القياس أن نبطل ما تمسّكوا به لإثبات حجّيته من الأدلّة، لنرجع إلى عمومات النهي عن اتّباع الظنّ و ما وراء العلم.
أمّا غيرنا- من أهل السنّة الّذين ذهبوا إلى حجّيته- فقد تمسّكوا بالأدلّة الأربعة: الكتاب و السنّة و الإجماع و العقل. و لا بأس أن نشير إلى نماذج من استدلالاتهم لنرى أنّ ما تمسّكوا به لا يصلح لإثبات مقصودهم، فنقول:
الدليل من الآيات القرآنيّة:
منها: قوله تعالى (الحشر 59): «فَاعْتَبِرُوا يا أُولِي الْأَبْصارِ» بناءً على تفسير «الاعتبار» بالعبور و المجاوزة، و القياس عبور و مجاوزة من الأصل إلى الفرع.
______________________________ (1) في ط الاولى: ففي راحةٍ من.
أصول الفقه ( مظفر، محمد رضا - طبع انتشارات اسلامى )، ج3، ص: 194
و فيه: أنّ الاعتبار هو الاتّعاظ لغةً، و هو الأنسب بمعنى الآية الواردة في الّذين كفروا من أهل الكتاب، إذ قذف اللَّه في قلوبهم الرعب يخربون بيوتهم بأيديهم و أيدي المؤمنين. و أين هي من القياس الّذي نحن فيه؟
و قال ابن حزم في كتابه (إبطال القياس ص 30): و محال أن يقول لنا:
«فاعتبروا يا اولي الأبصار» و يريد القياس، ثمّ لا يبيّن لنا في القرآن و لا في الحديث: أيّ شيءٍ نقيس؟ و لا متى نقيس؟ و لا على أيٍّ نقيس؟ و لو وجدنا ذلك لوجب أن نقيس ما امرنا بقياسه حيث امرنا، و حرم علينا أن نقيس ما لا نصّ فيه جملة، و لا نتعدّى حدوده.
و منها: قوله تعالى (يس 78- 79): «قالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظامَ وَ هِيَ رَمِيمٌ* قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَها أَوَّلَ مَرَّةٍ» باعتبار أنّ الآية تدلّ على مساواة النظير للنظير، بل هي استدلال بالقياس لإفحام من ينكر إحياء العظام و هي رميم. و لو لا أنّ القياس حجّة لما صحّ الاستدلال فيها.
و فيه: أنّ الآية لا تدلّ على هذه المساواة بين النظيرين كنظيرين في أيّة جهةٍ كانت، كما أنّها ليست استدلالًا بالقياس، و إنّما جاءت لرفع استغراب المنكرين للبعث، إذ يتخيّلون العجز عن إحياء الرميم، فأرادت الآية أن تثبت الملازمة بين القدرة على إنشاء العظام و إيجادها لأوّل مرّة- بلا سابق وجود- و بين القدرة على إحيائها من جديد، بل القدرة على الثاني أولى، و إذا ثبتت الملازمة و المفروض أنّ الملزوم (و هو القدرة على إنشائها أوّل مرّة) موجود مسلّم، فلا بدّ أن يثبت اللازم (و هو القدرة على إحيائها و هي رميم). و أين هذا من القياس؟
و لو صحّ أن يراد من الآية القياس فهو نوع من قياس الأولويّة المقطوعة، و أين هذا من قياس المساواة المطلوب إثبات حجّيته، و هو الّذي يبتني على ظنّ المساواة في العلّة؟
أصول الفقه ( مظفر، محمد رضا - طبع انتشارات اسلامى )، ج3، ص: 195
و قد استدلّوا بآيات اخر مثل قوله تعالى: «فَجَزاءٌ مِثْلُ ما قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ» «1» «يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَ الْإِحْسانِ» «2». و التشبّث بمثل هذه الآيات لا يعدو أن يكون من باب تشبّث الغريق بالطحلب- كما يقولون-.
الدليل من السنّة:
رووا عن النبي صلى الله عليه و آله و سلم أحاديث لتصحيح القياس لا تنهض حجّةً لهم.
و لا بأس أن نذكر بعضها كنموذج عنها، فنقول:
منها: الحديث المأثور عن معاذ أنّ رسول اللَّه صلى الله عليه و آله و سلم بعثه قاضياً إلى اليمن و قال له فيما قال: بما ذا تقضي إذا لم تجد في كتاب اللَّه و لا في سنّة رسول اللَّه؟ قال معاذ: «أجتهد رأيي و لا آلو»، فقال صلى الله عليه و آله و سلم: «الحمد للَّه الّذي وفّق رسولَ رسولِ اللَّه لما يرضي رسول اللَّه» «3».
قالوا: قد أقرّ النبيّ الاجتهاد بالرأي، و اجتهاد الرأي لا بدّ من ردّه إلى أصلٍ، و إلّا كان رأيا مرسلًا، و الرأي المرسل غير معتبر. فانحصر الأمر بالقياس.
و الجواب: أنّ الحديث مرسل لا حجّة فيه، لأنّ راويه- و هو «الحارث ابن عمرو» ابن أخي المغيرة بن شعبة- رواه عن اناسٍ من أهل حمص!.
ثم الحارث هذا نفسه مجهول لا يدري أحد من هو؟ و لا يُعرف له غير هذا الحديث.
ثمّ إنّ الحديث معارض بحديث آخر «4» في نفس الواقعة، إذ جاء فيه:
«لا تقضينَّ و لا تفصلنّ «5» إِلّا بما تعلم، و إن اشكل عليك أمر فقف حتّى
______________________________ (1) المائدة: 95.
(2) النحل: 90.
(3) سنن الترمذي: ج 3 ص 616 ح 1227 و سنن أبي داود: ج 3 ص 303 ح 3592.
(4) (*) راجع تعليقة الناشر لكتاب إبطال القياس لابن حزم: ص 15.
(5) في ط 2: لا تفضلنّ (بالضاد المعجمة).
أصول الفقه ( مظفر، محمد رضا - طبع انتشارات اسلامى )، ج3، ص: 196
تتبيّنه أو تكتب إليَّ». فأجدر بذلك الحديث أن يكون موضوعاً على الحارث أو منه.
مضافاً إلى أنّه لا حصر فيما ذكروا، فقد يراد من الاجتهاد بالرأي استفراغ الوسع في الفحص عن الحكم، و لو بالرجوع إلى العمومات أو الاصول. و لعلّه يشير إلى ذلك قوله: «و لا آلو».
و منها: حديث الخثعميّة- الّتي سألت رسول اللَّه صلى الله عليه و آله و سلم عن قضاء الحجّ عن أبيها الّذي فاتته فريضة الحجّ- أ ينفعه ذلك؟ فقال صلى الله عليه و آله و سلم لها:
«أ رأيت لو كان على أبيك دين فقضيته أ كان ينفعه ذلك؟» قالت: نعم. قال:
«فدين اللَّه أحقّ بالقضاء» «1».
قالوا: فألحق الرسول دَيْن اللَّه بدَيْن الآدمي في وجوب القضاء. و هو عين القياس.
و الجواب: أنّه لا معنى للقول بأنّ الرسول أجرى القياس في حكمه بقضاء الحجّ، و هو المشرّع المتلقّي الأحكام من اللَّه تعالى بالوحي، فهل كان لا يعلم بحكم قضاء الحجّ فاحتاج أن يستدلّ عليه بالقياس؟ ما لكم كيف تحكمون!
و إنّما المقصود من الحديث- على تقدير صحّته- تنبيه الخثعميّة على تطبيق العامّ على ما سألت عنه، و هو- أعني العامّ- وجوب قضاء كلّ دين، إذ خفي عليها أنّ الحجّ ممّا يُعدّ من الديون الّتي يجب قضاؤها عن الميّت، و هو أولى بالقضاء لأنّه دين اللَّه.
و لا شكّ في أنّ تطبيق العامّ على مصاديقه المعلومة لا يحتاج إلى تشريعٍ جديدٍ غير تشريع نفس العامّ، لأنّ الانطباق قهري. و ليس هو من نوع القياس.
______________________________ (1) سنن النسائي: ج 8 ص 227 و الذريعة: ج 2 ص 713.
أصول الفقه ( مظفر، محمد رضا - طبع انتشارات اسلامى )، ج3، ص: 197
و لا ينقضي العجب ممّن يذهب إلى عدم وجوب قضاء الحجّ و لا الصوم- كالحنفيّة- و يقول: «دين الناس أحقّ بالقضاء» ثمّ يستدلّ بهذا الحديث على حجّية القياس! و منها: حديث بيع الرطب بالتمر، فإنّ رسول اللَّه صلى الله عليه و آله و سلم سأل: أ ينقص الرطب إذا يبس؟ فلما اجيب بنعم، قال: «فلا، إذاً» «1».
و الجواب: أنّ هذا الحديث- على تقدير صحّته- يشبه حديث الخثعميّة، فإنّ المقصود منه التنبيه على تطبيق العامّ على أحد مصاديقه الخفيّة. و ليس هو من القياس في شيءٍ.
و كذلك يقال في أكثر الأحاديث المرويّة في الباب.
على أنّها بجملتها معارضة بأحاديث اخر يفهم منها النهي عن الأخذ بالرأي من دون الرجوع إلى الكتاب و السنّة.
الدليل من الإجماع:
و الإجماع هو أهمّ دليل عندهم، وعليه معوّلهم في هذه المسألة.
و الغرض منه إجماع الصحابة.
و يجب الاعتراف بأنّ بعض الصحابة استعملوا الاجتهاد بالرأي و أكثروا، بل حتّى فيما خالف النصّ تصرّفاً في الشريعة باجتهاداتهم.
و الإنصاف: أنّ ذلك لا ينبغي أن يُنكر من طريقتهم، و لكن- كما سبق أن أوضحناه- لم تكن الاجتهادات واضحة المعالم عندهم من كونها على نحو القياس أو الاستحسان أو المصالح المرسلة، و لم يُعرف عنهم على أيّ أساسٍ كانت اجتهاداتهم، أ كانت تأويلًا للنصوص أو جهلًا بها أو استهانة بها؟ ربما كان بعض هذا أو كلّه من بعضهم.
______________________________
(1) سنن ابي ماجة: ج 2 ص 761 ح 2264، و الموطأ: ج 2 ص 624 ح 22.
أصول الفقه ( مظفر، محمد رضا - طبع انتشارات اسلامى )، ج3، ص: 198
و في الحقيقة إنّما تطوّر البحث عن الاجتهاد بالرأي في تنويعه و خصائصه في القرن الثاني و الثالث- كما سبق بيانه- فميّزوا بين القياس و الاستحسان و المصالح المرسلة.
و من الاجتهادات قول عمر بن الخطّاب: «متعتان كانتا على عهد رسول اللَّه أنا محرّمهما و معاقبٌ عليهما» «1». و منها: جمعه الناس لصلاة التراويح «2». و منها: إلغاؤه في الأذان «حيَّ على خير العمل» «3». فهل كان ذلك من القياس أو من الاستحسان المحض؟
لا ينبغي أن يشكّ أنّ مثل هذه الاجتهادات ليست من القياس في شيءٍ. و كذلك كثير من الاجتهادات عندهم.
وعليه فابن حزم على حقّ إذا كان يقصد إنكار أن يكون القياس سابقاً معروفاً بحدوده في اجتهادات الصحابة، حينما قال في كتابه (إبطال القياس ص 5): «ثمّ حدث القياس في القرن الثاني فقال به بعضهم و أنكره سائرهم و تبرّءوا منه» و قال في كتابه (الإحكام 7/ 177): «إنّه بدعة حدث في القرن الثاني ثمّ فشا و ظهر في القرن الثالث». أمّا إذا أراد إنكار أصل الاجتهادات بالرأي من بعض الصحابة- و هو لا يريد ذلك قطعاً- فهو انكار لأمرٍ ضروري متواترٍ عنهم.
و قد ذكر الغزالي في كتابه (المستصفى 2/ 58- 62) كثيراً من مواضع اجتهادات الصحابة برأيهم، و لكن لم يستطع أن يثبت أنّها على نحو القياس إلّا لأنّه لم يَرَ وجهاً لتصحيحها إلّا بالقياس و تعليل النصّ.
و ليس هو منه إلّا من باب حسن الظنّ، لا أكثر. و أكثرها لا يصحّ تطبيقها على القياس.
______________________________ (1) كنز العمّال: ج 16 ص 519 ح 45715.
(2) سنن البيهقي: ج 2 ص 493.
(3) علل الشرائع: ج 2 ص 367 و 368 ح 3.
أصول الفقه ( مظفر، محمد رضا - طبع انتشارات اسلامى )، ج3، ص: 199
و على كلّ حالٍ، فالشأن كلَّ الشأن في تحقيق إجماع الامّة و الصحابة على الأخذ بالقياس و نحن نمنعه أشدّ المنع.
أمّا أوّلًا: فلما قلناه قريباً أنّه لم يثبت أنّ اجتهاداتهم كانت من نوع القياس بل في بعضها ثبت عكس ذلك، كاجتهادات عمر بن الخطّاب- المتقدّمة- و مثلها اجتهاد عثمان في حرق المصاحف، و نحو ذلك.
و أمّا ثانياً: فإنّ استعمال بعضهم للرأي- سواء كان مبنيّاً على القياس أم على غيره- لا يكشف عن موافقة الجميع، كما قال ابن حزم «1» فأنصف:
أين وجدتم هذا الاجماع؟ و قد علمتم أنّ الصحابة الوف لا تُحفظ الفتيا عنهم في أشخاص المسائل إلّا عن مائة و نيّفٍ و ثلاثين نفراً: منهم سبعة مكثرون، و ثلاثة عشر نفساً متوسّطون، و الباقون مقلّون جدّاً تُروى عنهم المسألة و المسألتان. حاشا المسائل الّتي تيقّن إجماعهم عليها «2» كالصلوات وصوم رمضان- فأين الإجماع على القول بالرأي؟
و الغرض الّذي نرمي إليه أنّه لا يُنكر ثبوت الاجتهاد بالرأي عند جملة من الصحابة: كأبي بكر، و عمر، و عثمان، و زيد بن ثابت- بل ربما من غيرهم- و إنّما الّذي يُنكر أن يكون ذلك بمجرّده محقّقاً لإجماع الامّة أو الصحابة. و اتّفاق الثلاثة أو العشرة بل العشرين ليس إجماعاً مهما كانوا.
نعم، أقصى ما يقال في هذا الصدد: إنّ الباقين سكتوا و سكوتهم إقرار، فيتحقّق الإجماع.
و لكن يُجاب عن ذلك: أنّ السكوت لا نسلّم أنّه يحقّق الإجماع، لأنّه
______________________________
(1) (*) إبطال القياس: ص 19.
(2) هذه ليست من المسائل الإجماعيّة، بل هذه من ضروريات الدين. و قد تقدّم أنّ الأخذ بها ليس أخذاً بالإجماع.
أصول الفقه ( مظفر، محمد رضا - طبع انتشارات اسلامى )، ج3، ص: 200
لا يدلّ على الإقرار إلّا من المعصوم بشروط الإقرار. و السرّ في ذلك: أنّ السكوت في حدّ ذاته مجمل، فيه عند غير المعصوم أكثر من وجهٍ واحد و احتمالٍ، إذ قد ينشأ من الخوف، أو الجبن، أو الخجل، أو المداهنة، أو عدم العناية ببيان الحقّ، أو الجهل بالحكم الشرعي أو وجهه، أو عدم وصول نبأ الفتيا إليهم ... إلى ما شاء اللَّه من هذه الاحتمالات الّتي لا دافع لها بالنسبة إلى غير المعصوم. و قد يجتمع في شخصٍ واحد أكثر من سببٍ واحد للسكوت عن الحقّ. و من الاحتمالات أيضاً أن يكون قد أنكر بعض الناس و لكن لم يصل نبأ الإنكار إلينا. و دواعي إخفاء الإنكار و خفائه كثيرة لا تُحدّ و لا تُحصر.
و أمّا ثالثاً: فإنّ سكوت الباقين غير مسلَّم. و يكفي لإبطال الإجماع إنكار شخص واحد له شأن في الفتيا، إذ لا يتحقّق معه اتّفاق الجميع، فكيف إذا كان المنكرون أكثر من واحد! و قد ثبت تخطئة القول بالرأي عن ابن عبّاس و ابن مسعود و أضرابهما، بل روي ذلك حتّى عن عمر بن الخطّاب «1»: «إيّاكم و أصحاب الرأي! فإنّهم أعداء السنن أعيتهم الأحاديث أن يحفظوها فقالوا بالرأي فضلّوا و أضلّوا» و إن كنت أظنّ أنّ هذه الرواية موضوعة عليه، لثبوت أنّه في مقدّمة أصحاب الرأي، مع أنّ اسلوب بيان الرواية بعيد عن النسبة إليه و إلى عصره.
و على كلّ حالٍ، لا شيء أبلغ في الإنكار من المجاهرة بالخلاف و الفتوى بالضدّ، و هذا قد كان من جماعةٍ كما قلنا، بل زاد بعضهم كابن عبّاس و ابن مسعود أن انتهى إلى ذكر المباهلة و التخويف من اللَّه تعالى.
و هل شيء أبلغ في الإنكار من هذا؟ فأين الإجماع؟
______________________________ (1) إبطال القياس: ص 58 و المستصفى: 2/ 247.
أصول الفقه ( مظفر، محمد رضا - طبع انتشارات اسلامى )، ج3، ص: 201
و نحن يكفينا إنكار عليّ بن أبي طالب عليه السلام و هو المعصوم الّذي يدور معه الحقّ كيفما دار كما في الحديث النبوي المعروف «1». و إنكاره معلوم من طريقته، و قد رووا عنه قوله: «لو كان الدين بالرأي لكان المسح على باطن الخفّ أولى من ظاهره» «2» و هو يريد بذلك إبطال القول بجواز المسح على الخفّ الّذي لا مدرك له إلّا القياس أو الاستحسان.
الدليل من العقل:
لم يذكر أكثر الباحثين عن القياس دليلًا عقليّاً على حجّيته «3» غير أنّ جملة منهم ذكر له وجوهاً أحسنها فيما أحسب ما سأذكره، مع أنّه من أوهن الاستدلالات. الدليل: إنّا نعلم قطعاً بأنّ الحوادث لا نهاية لها.
و نعلم قطعاً أنّه لم يرد النصّ في جميع الحوادث، لتناهي النصوص، و يستحيل أن يستوعب المتناهي ما لا يتناهى.
إذن فيُعلم أنّه لا بدّ من مرجعٍ لاستنباط الأحكام لتلافي النواقص من الحوادث. و ليس هو إلّا القياس.
و الجواب: صحيح أنّ الحوادث الجزئيّة غير متناهية، و لكن لا يجب في كلّ حادثة جزئيّة أن يرد نصّ من الشارع بخصوصها، بل يكفي أن تدخل في أحد العمومات. و الامور العامّة محدودة متناهية لا يمتنع ضبطها و لا يمتنع استيعاب النصوص لها.
على أنّ فيه مناقشات اخرى لا حاجة بذكرها.
______________________________
(1) بحار الأنوار: ج 38 ص 28.
(2) سنن أبي داود: ج 1 ص 42 ح 162 و سنن البيهقي: ج 1 ص 292.
(3) (*) قال الشيخ الطوسي في العدّة: 2/ 651: فأمّا من أثبته فاختلفوا، فمنهم من أثبته عقلًا و هم شذاذ غير محصّلين.
أصول الفقه ( مظفر، محمد رضا - طبع انتشارات اسلامى )، ج3، ص: 202
- 4- منصوص العلّة و قياس الأولويّة
ذهب بعض علمائنا- كالعلّامة الحلّي- إلى أنّه يُستثنى من القياس الباطل ما كان «منصوص العلّة» و «قياس الأولويّة» فإنّ القياس فيهما حجّة «1». و بعضٌ قال: لا «2» إنّ الدليل الدالّ على حرمة الأخذ بالقياس شامل للقسمين، و ليس هناك ما يوجب استثناءهما.
و الصحيح أن يقال: إنّ «منصوص العلة» و «قياس الأولويّة» هما حجّة، و لكن لا استثناءً من القياس، لأنّهما في الحقيقة ليسا من نوع القياس، بل هما من نوع الظواهر، فحجّيتهما من باب حجّية الظهور. و هذا ما يحتاج إلى البيان، فنقول:
منصوص العلّة:
أمّا منصوص العلّة: فإن فُهم من النصّ على العلّة أنّ العلّة عامّة على وجه لا اختصاص لها بالمعلّل- الّذي هو كالأصل في القياس- فلا شك في أنّ الحكم يكون عامّاً شاملًا للفرع، مثل ما لو قال: «حرم الخمر لأنّه مسكر» فيُفهم منه حرمة النبيذ لأنّه مسكر أيضاً. و أمّا إذا لم يُفهم منه ذلك، فلا وجه لتعدية الحكم إلى الفرع إلّا بنوعٍ من القياس الباطن، مثل ما لو قيل: «هذا العنب حلوٌ لأنّ لونه أسود» فإنّه لا يفهم منه أنّ كلّ ما لونه أسود حلوٌ، بل العنب الأسود خاصّة حلوٌ.
و في الحقيقة: إنّه بظهور النصّ في كون العلّة عامّة ينقلب موضوع
______________________________
(1) نهاية الوصول: الورقة: 160، معارج الاصول: ص 185.
(2) قال صاحب المعالم: ظاهر المرتضى قدس سره المنع منه أيضاً، معالم الدين: ص 226، راجع الذريعة: ج 2 ص 684.
أصول الفقه ( مظفر، محمد رضا - طبع انتشارات اسلامى )، ج3، ص: 203
الحكم من كونه خاصّاً بالمعلّل إلى كون موضوعه «كلّ ما فيه العلّة» فيكون الموضوع عامّاً يشمل المعلّل (الأصل) و غيرَه، و يكون المعلّل من قبيل المثال للقاعدة العامّة، لا أنّ موضوع الحكم هو خصوص المعلّل (الأصل) و نستنبط منه الحكم في الفرع من جهة العلّة المشتركة حتّى يكون المدرك مجرّد الحمل و القياس كما في الصورة الثانية، أي الّتي لم يُفهم فيها عموم العلّة.
و لأجل هذا نقول: إنّ الأخذ بالحكم في الفرع في الصورة الاولى يكون من باب الأخذ بظاهر العموم، و ليس هو من القياس في شيءٍ ليكون القول بحجّية التعليل استثناءً من عمومات النهي عن القياس.
مثال ذلك: قوله عليه السلام في صحيحة ابن بزيع: «ماء البئر واسع لا يفسده شيء ... لأنّ له مادّة» فإنّ المفهوم منه- أي الظاهر منه- أنّ كلّ ماءٍ له مادّة واسع لا يفسده شيء، و أمّا ماء البئر فإنّما هو أحد مصاديق الموضوع العامّ للقاعدة، فيشمل الموضوع بعمومه كلّاً: من ماء البئر، و ماء الحمّام، و ماء العيون، و ماء حنفيّة الاسالة ... و غيرها، فالأخذ بهذا الحكم و تطبيقه على هذه الامور غير ماء البئر ليس أخذاً بالقياس، بل هو أخذ بظهور العموم، و الظهور حجّة.
هذا، و في عين الوقت لمّا كنّا لا نستظهر من هذه الرواية شمول العلّة (لأنّ له مادّة) لكلّ ما له مادّة و إن لم يكن ماء مطلقاً، فإنّ الحكم- و هو الاعتصام من التنجس- لا نعدّيه إلى الماء المضاف الّذي له مادّة إلا بالقياس، و هو ليس بحجّة.
و من هنا يتّضح الفرق بين الأخذ بالعموم في منصوص العلّة و الأخذ بالقياس، فلا بدّ من التفرقة بينهما في كلّ علّة منصوصة لئلّا يقع الخلط بينهما. و من أجل هذا الخلط بينهما يكثر العثار في تعرّف الموضوع للحكم.
أصول الفقه ( مظفر، محمد رضا - طبع انتشارات اسلامى )، ج3، ص: 204
و بهذا البيان و التفريق بين الصورتين يمكن التوفيق بين المتنازعين في حجّية منصوص العلّة، فمن يراه حجّة يراه فيما إذا كان له ظهور في عموم العلّة، و من لا يرى حجّيته يراه فيما إذا كان الأخذ به أخذاً به على نهج القياس.
و الخلاصة: أنّ المدار في منصوص العلّة أن يكون له ظهور في عموم الموضوع لغير ما له الحكم- أي المعلّل الأصل- فإنّه عموم من جملة الظواهر الّتي هي حجّة. و لا بد حينئذٍ أن تكون حجّيته على مقدار ما له من الظهور في العموم، فإذا أردنا تعديته إلى غير ما يشمله ظهور العموم فإنّ التعدية لا محالة تكون من نوع الحمل و القياس الّذي لا دليل عليه، بل قام الدليل على بطلانه.
قياس الأولويّة:
أمّا قياس الأولويّة: فهو نفسه الّذي يُسمّى «مفهوم الموافقة» الّذي تقدّمت الإشارة إليه (1/ 157) و قلنا هناك: إنّه يُسمّى «فحوى الخطاب» كمثال الآية الكريمة «فَلا تَقُلْ لَهُما أُفٍّ» «1» الدالّة بالأولويّة على النهي عن الشتم و الضرب و نحوهما.
و تقدّم في هذا الجزء (ص 131) أنّ هذا من الظواهر. فهو حجّة من أجل كونه ظاهراً من اللفظ، لا من أجل كونه قياساً حتّى يكون استثناءً من عموم النهي عن القياس، و إن أشبه القياس؛ و لذلك سُمّي ب «قياس الأولويّة» و «القياس الجليّ».
و من هنا لا يُفرض «مفهوم الموافقة» إلّا حيث يكون للّفظ ظهور
______________________________ (1) الإسراء: 23.
أصول الفقه ( مظفر، محمد رضا - طبع انتشارات اسلامى )، ج3، ص: 205
بتعدّي الحكم إلى ما هو أولى في علّة الحكم، كآية التأفيف المتقدّمة.
و منه دلالة الإذن بسكنى الدار على جواز التصرّف بمرافقها بطريق أولى.
و يقال لمثل هذا في عرف الفقهاء: «إذن الفحوى» و منه الآية الكريمة «فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ» «1» الدالّة بالأولويّة على ثبوت الجزاء على عمل الخير الكثير.
و بالجملة، إنّما نأخذ بقياس الأولويّة إذا كان يفهم ذلك من فحوى الخطاب، إذ يكون للكلام ظهور بالفحوى في ثبوت الحكم فيما هو أولى في علّة الحكم، فيكون حجّة من باب الظواهر؛ و من أجل هذا عدّوه من المفاهيم و سمّوه «مفهوم الموافقة».
أمّا إذا لم يكن ذلك مفهوماً من فحوى الخطاب، فلا يُسمّى ذلك مفهوماً بالاصطلاح، و لا تكفي مجرّد الأولويّة وحدها في تعدية الحكم، إذ يكون من القياس الباطل. و يشهد لذلك ما ورد من النهي عن مثله في صحيحة أبان بن تغلب عن أبي عبد الله الصادق عليه السلام:
قال أبان: قلت له: ما تقول في رجل قطع إصبعاً من أصابع المرأة؟ كم فيها؟
قال: عشر من الإبل.
قلت: قطع اثنتين؟ «2»
قال: عشرون.
قلت: قطع ثلاثاً؟
قال: ثلاثون.
______________________________ (1) الزلزلة: 7.
(2) (*) في النسخة المطبوعة: اثنين.
أصول الفقه ( مظفر، محمد رضا - طبع انتشارات اسلامى )، ج3، ص: 206
قلت: قطع أربعاً؟
قال: عشرون.
قلت: سبحان اللَّه! يقطع ثلاثاً فيكون عليه ثلاثون، و يقطع أربعاً فيكون عليه عشرون!؟ إنّ هذا كان يبلغنا و نحن بالعراق فنبرأ ممّن قاله، و نقول: الّذي جاء به شيطان.
فقال: مهلًا يا أبان! هذا حكم رسول اللَّه صلى الله عليه و آله و سلم إنّ المرأة تعاقل «1» الرجل إلى ثلث الدية، فإذا بلغت الثلث رجعت إلى النصف. يا أبان! إنّك أخذتني بالقياس، و السنّة إذا قيست مُحق الدين «2».
فهنا في هذا المثال لم يكن في المسألة خطاب يُفهم منه في الفحوى من جهة الأولويّة تعدية الحكم إلى غير ما تضمّنه الخطاب حتّى يكون من باب «مفهوم الموافقة». و إنّما الّذي وقع من أبان قياس مجرّد لم يكن مستنده فيه إلّا جهة الأولويّة، إذ تصوّر- بمقتضى القاعدة العقليّة الحسابيّة- أنّ الدية تتضاعف بالنسبة بتضاعف قطع الأصابع، فإذا كان في قطع الثلاث ثلاثون من الإبل، فلا بدّ أن يكون في قطع الأربع أربعون، لأنّ قطع الأربع قطع للثلاث و زيادة. و لكن أبان كان لا يدري أنّ المرأة ديتها نصف دية الرجل شرعاً فيما يبلغ ثلث الدية فما زاد، و هي مائة من الإبل.
و الخلاصة: أنّا نقول ببطلان قياس الأولويّة إذا كان الأخذ به لمجرّد الأولويّة. أمّا إذا كان مفهوماً من التخاطب بالفحوى من جهة الأولويّة فهو حجّة من باب الظواهر، فلا يكون قياساً مستثنى من القياس الباطل.
***______________________________
(1) تعاقل: توازن، و في النسخة المطبوعة: تقابل. و أحسبه من تصحيح الناشر اشتباهاً.
(2) الكافي: ج 7 ص 299، ح 6.
أصول الفقه ( مظفر، محمد رضا - طبع انتشارات اسلامى )، ج3، ص: 207
تنبيه:
الاستحسان، و المصالح المرسلة، و سدّ الذرائع
بقي من الأدلّة المعتبرة عند جملة من علماء السنّة: «الاستحسان» و «المصالح المرسلة» و «سدّ الذرائع».
و هي- إن لم ترجع إلى ظواهر الأدلّة السمعيّة أو الملازمات العقليّة- لا دليل على حجّيتها، بل هي أظهر أفراد الظنّ المنهي عنه. و هي دون القياس من ناحية الاعتبار.
و لو أردنا إخراجها من عمومات حرمة العمل بالظنّ لا يبقى عندنا ما يصلح لانطباق هذه العمومات عليه ممّا يستحقّ الذكر، فيبقى النهي عن الظنّ بلا موضوع. و من البديهي عدم جواز تخصيص الأكثر.
على أنّه قد أوضحنا فيما سبق في الدليل العقلي أنّ الأحكام و ملاكاتها لا يستقلّ العقل بإدراكها ابتداءً، أي: ليس من الممكن للعقول أن تنالها ابتداءً من دون السماع من مبلّغ الأحكام أو بالملازمة العقليّة.
و شأنها في ذلك شأن جميع المجعولات كاللغات و الإشارات و العلامات و نحوها، فإنّه لا معنى للقول بأنّها تُعلم من طريقٍ عقليٍّ مجرّد، سواء كان من طريقٍ بديهي أم نظري.
أصول الفقه ( مظفر، محمد رضا - طبع انتشارات اسلامى )، ج3، ص: 208
و لو صحّ للعقل هذا الأمر لما كان هناك حاجة لبعثة الرسل و نصب الأئمّة، إذ يكون حينئذٍ كلّ ذي عقل متمكّناً بنفسه من معرفة أحكام اللَّه تعالى، و يصبح كلّ مجتهدٍ نبيّاً أو إماماً!
و من هنا تعرف السرّ في إصرار أصحاب الرأي على قولهم بأنّ «كلّ مجتهد مصيب» و قد اعترف الإمام الغزالي بأنّه لا يمكن إثبات حجّية القياس إلّا بتصويب كلّ مجتهد. و زاد على ذلك قوله بأنّ المجتهد و إن خالف النصّ فهو مصيب و أنّ الخطأ غير ممكن في حقّه «1».
و من أجل ما ذكرناه- من عدم إمكان إثبات حجّية مثل هذه الادلّة- رأينا الاكتفاء بذلك عن شرح هذه الأدلّة و مرادهم منها و مناقشة أدلّتهم.
و نحيل الطلّاب على محاضرات «مدخل الفقه المقارن» الّتي ألقاها استاذ المادّة في كلّية الفقه الأخ السيّد محمد تقي الحكيم، فإنّ فيها الكفاية.
***______________________________ (1) المستصفى: ج 2 ص 239.
أصول الفقه ( مظفر، محمد رضا - طبع انتشارات اسلامى )، ج3، ص: 210
مقبول
طہارۃ، استعمال طہور مشروط بالنیت
المدخل۔۔۔
الزکاۃ،کتاب الزکاۃ وفصولہ اربعۃ۔۔۔
مقدمہ و تعریف :الامرلاول تعریف علم الاصول۔۔۔
الطہارۃ و مختصر حالات زندگانی
الفصل السابع :نسخ الوجوب۔۔
الفصل الثالث؛ تقسیم القطع الی طریقی ...
مقالات
دینی مدارس کی قابل تقلید خوبیاں
ایک اچھے مدرس کے اوصاف
اسلام میں استاد کا مقام و مرتبہ
طالب علم کے لئے کامیابی کے زریں اصول