حضرت فاطمه زهرا عليها‌السلام نے فرمایا: عورتوں کے لئے خیر و صلاح اس میں ہے کہ نہ تو وہ نا محرم مردوں کو دیکھیں اور نہ نامحرم مرد ان کو دیکھیں تحف العقول ص۹۶۰

اصول الفقہ حصہ سوم

*** الباب الخامس: حجّية الظواهر

تمهيدات:

1- تقدّم في الجزء الأوّل (ص 93) أنّ الغرض من المقصد الأوّل تشخيص ظواهر بعض الألفاظ من ناحيةٍ عامّة، و الغاية منه- كما ذكرنا- تنقيح صغريات أصالة الظهور. و طبعاً إنّما يكون ذلك في خصوص الموارد الّتي وقع فيها الخلاف بين الناس.

و قلنا: إنّنا سنبحث عن الكبرى- و هي حجّية أصالة الظهور- في المقصد الثالث. و قد حلّ بحمد اللَّه تعالى موضع البحث عنها.

2- إنّ البحث عن حجّية الظواهر من توابع البحث عن الكتاب و السنّة، أعني أنّ الظواهر ليست دليلًا قائماً بنفسه في مقابل الكتاب و السنّة، بل إنّما نحتاج إلى إثبات حجّيتها لغرض الأخذ بالكتاب و السنّة، فهي من متمّمات حجّيتهما، إذ من الواضح أنّه لا مجال للأخذ بهما من دون أن تكون ظواهرهما حجّة. و النصوص الّتي هي قطعيّة الدلالة أقلّ القليل فيهما.

3- تقدّم أنّ الأصل حرمة العمل بالظنّ ما لم يدلّ دليل قطعي على حجّيته. و الظواهر من جملة الظنون، فلا بدّ من التماس دليلٍ قطعي على حجّيتها ليصحّ التمسّك بظواهر الآيات و الأخبار. و سيأتي بيان هذا الدليل.

أصول الفقه ( مظفر، محمد رضا - طبع انتشارات اسلامى )، ج‏3، ص: 145

4- إنّ البحث عن الظهور يتمّ بمرحلتين:

الاولى: في أنّ هذا اللفظ المخصوص ظاهر في هذا المعنى المخصوص أم غير ظاهر. و المقصد الأوّل كلّه متكفّل بالبحث عن ظهور بعض الألفاظ الّتي وقع الخلاف في ظهورها، كالأوامر و النواهي و العموم و الخصوص و الإطلاق و التقييد. و هي في الحقيقة من بعض صغريات أصالة الظهور.

الثانية: في أنّ اللفظ الّذي قد احرز ظهوره هل هو حجّة عند الشارع في ذلك المعنى، فيصحّ أن يحتجّ به المولى على المكلّفين و يصحّ أن يحتجّ به المكلَّفون؟

و البحث عن هذه المرحلة الثانية هو المقصد الّذي عقد من أجله هذا الباب، و هو الكبرى الّتي إذا ضممناها إلى صغرياتها يتمّ لنا الأخذ بظواهر الآيات و الروايات.

5- إنّ المرحلة الاولى- و هي تشخيص صغريات أصالة الظهور- تقع بصورة عامّة في موردين:

الأوّل: في وضع اللفظ للمعنى المبحوث عنه، فإنّه إذا احرز وضعه له لا محالة يكون ظاهراً فيه، نحو وضع صيغة «افعل» للوجوب و الجملة الشرطية لما يستلزم المفهوم ... إلى غير ذلك.

الثاني: في قيام قرينة عامّة أو خاصّة على إرادة المعنى من اللفظ.

و الحاجة إلى القرينة: إمّا في مورد إرادة غير ما وُضع له اللفظ، و إمّا في مورد اشتراك اللفظ في أكثر من معنى. و مع فرض وجود القرينة لا محالة يكون اللفظ ظاهراً فيما قامت عليه القرينة، سواء كانت القرينة متّصلة أو منفصلة.

أصول الفقه ( مظفر، محمد رضا - طبع انتشارات اسلامى )، ج‏3، ص: 146

و إذا اتّضحت هذه التمهيدات، فينبغي أن نتحدّث عمّا يهمّ من كلّ من المرحلتين في مباحث مفيدة في الباب.

طرق إثبات الظواهر

إذا وقع الشكّ في الموردين السابقين، فهناك طرق لمعرفة وضع الألفاظ و معرفة القرائن العامّة: منها: أن يتتبّع الباحث بنفسه استعمالات العرب و يعمل رأيه و اجتهاده إذا كان من أهل الخبرة باللسان و المعرفة بالنكات البيانيّة. و نظير ذلك ما استنبطناه (ج 1 ص 106) من أنّ كلمة «الأمر» لفظ مشترك بين ما يفيد معنى الشي‏ء و الطلب، و ذلك بدلالة اختلاف اشتقاق الكلمة بحسب المعنيين و اختلاف الجمع فيها بحسبهما.

و منها: أن يرجع إلى علامات الحقيقة و المجاز، كالتبادر و أخواته. و قد تقدّم الكلام عن هذه العلامات (ج 1 ص 68).

و منها: أن يرجع إلى أقوال علماء اللغة. و سيأتي بيان قيمة أقوالهم.

و هناك اصول اتّبعها بعض القدماء لتعيين وضع الألفاظ أو ظهوراتها في موارد تعارض أحوال اللفظ. و الحقّ أنّه لا أصل لها مطلقاً، لأنّه لا دليل على اعتبارها. و قد أشرنا إلى ذلك فيما تقدّم (ج 1 ص 74).

و هي: مثل ما ذهبوا إليه من أصالة عدم الاشتراك في مورد الدوران بين الاشتراك و بين الحقيقة و المجاز، و مثل أصالة الحقيقة لإثبات وضع اللفظ عند الدوران بين كونه حقيقة أو مجازاً.

أمّا أنّه لا دليل على اعتبارها، فلأنّ حجّية مثل هذه الاصول لا بدّ من استنادها إلى بناء العقلاء، و

المسلّم من بنائهم هو ثبوته في الاصول الّتي‏

أصول الفقه ( مظفر، محمد رضا - طبع انتشارات اسلامى )، ج‏3، ص: 147

تجري لإثبات مرادات المتكلّم دون ما يجري لتعيين وضع الألفاظ و القرائن. و لا دليل آخر في مثلها غير بناء العقلاء.

حجّية قول اللغوي‏

إنّ أقوال اللغويّين لا عبرة بأكثرها في مقام استكشاف وضع الألفاظ، لأنّ أكثر المدوّنين للّغة همّهم أن يذكروا المعاني الّتي شاع استعمال اللفظ فيها من دون كثير عناية منهم بتمييز المعاني الحقيقيّة من المجازيّة إلّا نادراً، عدا الزمخشري في كتابه (أساس اللغة) وعدا بعض المؤلَّفات في فقه اللغة «1». و على تقدير أن ينصّ اللغويّون على المعنى الحقيقي، فإن أفاد نصّهم العلم بالوضع فهو، و إلّا فلا بدّ من التماس الدليل على حجّية الظنّ الناشئ من قولهم. و قيل في الاستدلال عليه وجوه من الأدلّة لا بأس بذكرها و ما عندنا فيها:

أوّلًا- قيل: الدليل الإجماع‏ «2» و ذلك لأنّه قائم على الأخذ بقول اللغوي بلا نكير من أحد و إن كان اللغوي واحداً.

أقول: و أنّى لنا بتحصيل هذا الإجماع العملي المدَّعى بالنسبة إلى جميع الفقهاء؟ و على تقدير تحصيله فأنّى لنا من إثبات حجّية مثله؟ و قد تقدّم البحث مفصّلًا عن منشأ حجّية الإجماع، و ليس هو ممّا يشمل هذا المقام بما هو حجّة، لأنّ المعصوم لا يرجع إلى نصوص أهل اللغة حتّى‏

______________________________ (1) مثل فقه اللغة لابن الفارسي، وفقه اللغة و سرّ العربيّة للثعالبي.

(2) نقله الشيخ الأعظم الأنصاري عن محكيّ السيّد المرتضى، و المحقّق الآشتياني عن الفاضل

النراقي، راجع فرائد الاصول: ج 1 ص 74 و بحر الفوائد: ص 112.

أصول الفقه ( مظفر، محمد رضا - طبع انتشارات اسلامى )، ج‏3، ص: 148

يستكشف من الإجماع موافقته في هذه المسألة، أي رجوعه إلى أهل اللغة عملًا.

ثانياً- قيل: الدليل بناء العقلاء «1»

لأنّ من‏ «2» سيرة العقلاء و بنائهم العملي على الرجوع إلى أهل الخبرة الموثوق بهم في جميع الامور الّتي يحتاج في معرفتها إلى خبرة و إعمال الرأي و الاجتهاد، كالشئون الهندسيّة و الطبيّة و منها اللغات و دقائقها، و من المعلوم: أنّ اللغوي معدود من أهل الخبرة في فنّه. و الشارع لم يثبت منه الردع عن هذه السيرة العمليّة، فيُستكشف من ذلك موافقته لهم و رضاه بها.

أقول: إنّ بناء العقلاء إنّما يكون حجّة إذا كان يُستكشف منه على نحو اليقين موافقة الشارع و إمضاؤه لطريقتهم، و هذا بديهي. و لكن نحن نناقش إطلاق المقدّمة المتقدّمة القائلة: «إنّ موافقة الشارع لبناء العقلاء تُستكشف من مجرّد عدم ثبوت ردعه عن طريقتهم» بل لا يحصل هذا الاستكشاف إلّا بأحد شروطٍ ثلاثة كلّها غير متوفّرة في المقام:

1- ألّا يكون مانع من كون الشارع متّحد المسلك مع العقلاء في البناء و السيرة، فإنّه في هذا الفرض لا بدّ أن يُستكشف أنّه متّحد المسلك معهم بمجرّد عدم ثبوت ردعه لأنّه من العقلاء بل رئيسهم، و لو كان له مسلك ثانٍ لبيَّنه و لعرفناه. و ليس هذا ممّا يخفى.

و من هذا الباب الظواهر و خبر الواحد، فإنّ الأخذ بالظواهر و الاعتماد عليها في التفهيم ممّا جرت عليها سيرة العقلاء، و الشارع لا بدّ أن يكون متّحد المسلك معهم، لأنّه لا مانع من ذلك بالنسبة إليه و هو منهم بما هم‏

______________________________ (1) نقله الشيخ الأعظم الأنصاري عن محكيّ الفاضل السبزواري، فرائد الاصول: ج 1 ص 75.

(2) الظاهر كلمة «من» زائدة، و لك أن تجعل كلمة «على» زائدة.

أصول الفقه ( مظفر، محمد رضا - طبع انتشارات اسلامى )، ج‏3، ص: 149

عقلاء و لم يثبت منه ردع. و كذلك يقال في خبر الواحد الثقة، فإنّه لا مانع من أن يكون الشارع متّحد المسلك مع العقلاء في الاعتماد عليه في تبليغ الأحكام و لم يثبت منه الردع.

أمّا الرجوع إلى أهل الخبرة فلا معنى لفرض أن يكون الشارع متّحد المسلك مع العقلاء في ذلك، لأنّه لا معنى لفرض حاجته إلى اهل الخبرة في شأنٍ من الشئون حتّى يمكن فرض أن تكون له سيرة عمليّة في ذلك، لا سيّما في اللغة العربيّة.

2- إذا كان هناك مانع من أن يكون الشارع متّحد المسلك مع العقلاء فلا بدّ أن يثبت لدينا جريان السيرة العمليّة حتّى في الامور الشرعيّة بمرأى و مسمع من الشارع، فإذا لم يثبت حينئذٍ الردع منه يكون سكوته من قبيل التقرير لمسلك العقلاء. و هذا مثل الاستصحاب، فإنّه لمّا كان مورده الشكّ في الحالة السابقة فلا معنى لفرض اتّحاد الشارع في المسلك مع العقلاء بالأخذ بالحالة السابقة، إذ لا معنى لفرض شكّه في بقاء حكمه، و لكن لمّا كان الاستصحاب قد جرت السيرة فيه حتّى في الامور الشرعيّة و لم يثبت ردعُ الشارع عنه، فإنّه يُستكشف منه إمضاؤه لطريقتهم.

أمّا الرجوع إلى أهل الخبرة في اللغة فلم يُعلم جريان السيرة العقلائيّة في الأخذ بقول اللغوي في خصوص الامور الشرعيّة، حتّى يُستكشف من عدم ثبوت ردعه رضاه بهذه السيرة في الامور الشرعيّة. 3- إذا انتفى الشرطان المتقدّمان فلا بدّ حينئذٍ من قيام دليلٍ خاصّ قطعي على رضا الشارع و إمضائه للسيرة العمليّة عند العقلاء. و في مقامنا ليس عندنا هذا الدليل، بل الآيات الناهية عن اتّباع الظنّ كافية في ثبوت الردع عن هذه السيرة العمليّة.

أصول الفقه ( مظفر، محمد رضا - طبع انتشارات اسلامى )، ج‏3، ص: 150

ثالثاً- قيل: الدليل حكم العقل‏ «1»

لأنّ العقل يحكم بوجوب رجوع الجاهل إلى العالم، فلا بدّ أن يحكم الشارع بذلك أيضاً، إذ أنّ هذا الحكم العقلي من «الآراء المحمودة» الّتي تطابقت عليها آراء العقلاء، و الشارع منهم، بل رئيسهم. و بهذا الحكم العقلي أوجبنا رجوع العامّي إلى المجتهد في التقليد، غاية الأمر أنّا اشترطنا في المجتهد شروطاً خاصّة- كالعدالة و الذكورة- لدليلٍ خاصّ. و هذا الدليل الخاصّ غير موجود في الرجوع إلى قول اللغوي، لأنّه في الشئون الفنّية لم يحكم العقل إلّا برجوع الجاهل إلى العالم الموثوق به من دون اعتبار عدالة أو نحوها، كالرجوع إلى الأطبّاء و المهندسين. و ليس هناك دليل خاصّ يشترط العدالة أو نحوها في اللغوي، كما ورد في المجتهد.

أقول: و هذا الوجه أقرب الوجوه في إثبات حجّية قول اللغوي. و لم أجد الآن ما يقدح به.

الظهور التصوّري و التصديقي‏

قيل: إنّ الظهور على قسمين: تصوّري و تصديقي‏ «2».

1- «الظهور التصوّري» الّذي ينشأ من وضع اللفظ لمعنىً مخصوص، و هو عبارة عن دلالة مفردات الكلام على معانيها اللغويّة أو العرفيّة. و هو تابع للعلم بالوضع، سواء كان في الكلام أو في خارجه قرينة على خلافه، أو لم تكن.

2- «الظهور التصديقي» الّذي ينشأ من مجموع الكلام، و هو عبارة عن دلالة جملة الكلام على ما يتضمّنه من المعنى. فقد تكون دلالة

______________________________ (1) لم نظفر بقائله.

(2) راجع فوائد الاصول: ج 3 ص 140.

أصول الفقه ( مظفر، محمد رضا - طبع انتشارات اسلامى )، ج‏3، ص: 151

الجملة مطابقة لدلالة المفردات، و قد تكون مغايرةً لها، كما إذا احتفّ الكلام بقرينةٍ توجب صَرف مفاد جملة الكلام عمّا يقتضيه مفاد المفردات.

و الظهور التصديقي يتوقّف على فراغ المتكلّم من كلامه، فإنّ لكلّ متكلّم أن يلحق بكلامه ما شاء من القرائن، فما دام متشاغلًا بالكلام لا ينعقد لكلامه الظهور التصديقي.

و يستتبع هذا الظهور التصديقي ظهور ثانٍ تصديقي، و هو الظهور بأنّ هذا هو مراد المتكلّم. و هذا هو المعيِّن لمراد المتكلّم في نفس الأمر، فيتوقّف على عدم القرينة المتّصلة و المنفصلة، لأنّ القرينة مطلقاً تهدم هذا الظهور. بخلاف الظهور التصديقي الأوّل، فإنّه لا تهدمه القرينة المنفصلة.

أقول: و نحن لا نتعقّل هذا التقسيم، بل الظهور قسمٌ واحد، و ليس هو إلّا دلالة اللفظ على مراد المتكلّم. و هذه الدلالة هي الّتي نسمّيها «الدلالة التصديقيّة» و هي أن يلزم من العلم بصدور اللفظ من المتكلّم العلم بمراده من اللفظ، أو يلزم منه الظنّ بمراده. و الأوّل يُسمّى «النصّ» و يختصّ الثاني باسم «الظهور».

و لا معنى للقول بأنّ اللفظ ظاهر ظهوراً تصوّريّاً في معناه الموضوع له، و قد سبق في الجزء الأوّل (ص 65) بيان حقيقة الدلالة و أنّ ما يسمّونه ب «الدلالة التصوّرية» ليست بدلالة، و إنّما كان ذلك منهم تسامحاً في التعبير، بل هي من باب «تداعي المعاني» فلا علم و لا ظنّ فيها بمراد المتكلّم، فلا دلالة فلا ظهور، و إنّما كان خطور. و الفرق بعيد بينهما.

و أمّا تقسيم «الظهور التصديقي» إلى قسمين فهو تسامح أيضاً، لأنّه لا يكون الظهور ظهوراً إلّا إذا كشف عن المراد الجدّي للمتكلّم إمّا على نحو اليقين أو الظنّ، فالقرينة المنفصلة لا محالة تهدم الظهور مطلقاً. نعم، قبل‏

أصول الفقه ( مظفر، محمد رضا - طبع انتشارات اسلامى )، ج‏3، ص: 152

العلم بها يحصل للمخاطب قطع بدوي أو ظنّ بدوي يزولان عند العلم بها، فيقال حينئذٍ: قد انعقد للكلام ظهور على خلاف ما تقتضيه القرينة المنفصلة. و هذا كلام شايع عند الاصوليّين (راجع ج 1 ص 194) و في الحقيقة أنّ غرضهم من ذلك: الظهور الابتدائي البدوي الّذي يزول عند العلم بالقرينة المنفصلة، لا أنّه هناك ظهوران: ظهور لا يزول بالقرينة المنفصلة، و ظهور يزول بها. و لا بأس أن يُسمّى هذا الظهور البدوي «الظهور الذاتي» و تسميته بالظهور مسامحة على كلّ حال.

و على كلّ حال، سواء سُمّيت الدلالة التصوّرية ظهوراً أم لم تُسمَّ، و سواء سُمّي الظنّ البدوي ظهوراً أم لم يُسمَّ، فإنّ موضع الكلام في حجّية الظهور هو الظهور الكاشف عن مراد المتكلّم بما هو كاشف و إن كان كشفاً نوعيّاً.

وجه حجّية الظهور

إنّ الدليل على حجّية الظاهر منحصر في بناء العقلاء. و الدليل يتألّف من مقدّمتين قطعيّتين- على نحو ما تقدّم في الدليل على حجّية خبر الواحد من طريق بناء العقلاء- و تفصيلهما هنا أن نقول:

المقدّمة الاولى: إنّه من المقطوع به الّذي لا يعتريه الريب أنّ أهل المحاورة من العقلاء قد جرت سيرتهم العمليّة و تبانيهم في محاوراتهم الكلاميّة على اعتماد المتكلّم على ظواهر كلامه في تفهيم مقاصده، و لا يفرضون عليه أن يأتي بكلامٍ قطعي في مطلوبه لا يحتمل الخلاف.

و كذلك هم- تبعاً لسيرتهم الاولى- تبانوا أيضاً على العمل بظواهر كلام المتكلّم و الأخذ بها في فهم مقاصده، و لا يحتاجون في ذلك إلى أن يكون كلامه نصّاً في مطلوبه لا يحتمل الخلاف.

أصول الفقه ( مظفر، محمد رضا - طبع انتشارات اسلامى )، ج‏3، ص: 153

فلذلك يكون الظاهر حجّة للمتكلّم على السامع، يحاسبه عليه و يحتجّ به عليه لو حمله على خلاف الظاهر. و يكون أيضاً حجّة للسامع على المتكلّم، يحاسبه عليه و يحتجّ به عليه لو ادّعى خلاف الظاهر. و من أجل هذا يؤخذ المرء بظاهر إقراره و يُدان به و إن لم يكن نصّاً في المراد.

المقدّمة الثانية: إنّ من المقطوع به أيضاً أنّ الشارع المقدّس لم يخرج في محاوراته و استعماله للألفاظ عن مسلك أهل المحاورة من العقلاء في تفهيم مقاصده، بدليل أنّ الشارع من العقلاء بل رئيسهم، فهو متّحد المسلك معهم. و لا مانع من اتّحاده معهم في هذا المسلك، و لم يثبت من قِبَله ما يخالفه.

و إذا ثبتت هاتان المقدّمتان القطعيّتان لا محالة يثبت- على سبيل الجزم- أنّ الظاهر حجّة عند الشارع، حجّة له على المكلّفين، و حجّة معذِّرة للمكلّفين.

هذا، و لكن وقعت لبعض الناس شكوك في عموم كلٍّ من المقدّمتين، لا بدّ من التعرض لها و كشف الحقيقة فيها.

أمّا المقدّمة الاولى: فقد وقعت عدّة أبحاث فيها:

1- في أنّ تباني العقلاء على حجّية الظاهر هل يشترط فيه حصول الظنّ الفعلي بالمراد؟ 2- في أنّ تبانيهم هل يشترط فيه عدم الظنّ بخلاف الظاهر؟

3- في أنّ تبانيهم هل يشترط فيه جريان أصالة عدم القرينة؟

4- في أنّ تبانيهم هل هو مختصّ بمن قُصد إفهامه فقط، أو يعمّ غيرهم فيكون الظاهر حجّة مطلقاً؟ أصول الفقه ( مظفر، محمد رضا - طبع انتشارات اسلامى )، ج‏3، ص: 154

و أمّا المقدمة الثانية: فقد وقع البحث فيها «1» في حجّية ظواهر الكتاب العزيز، بل قيل: إنّ الشارع رَدَع عن الأخذ بظواهر الكتاب فلم يكن متّحد المسلك فيه مع العقلاء. و هذه المقالة منسوبة إلى الأخباريّين‏ «2». وعليه، فينبغي البحث عن كلّ واحدٍ واحدٍ من هذه الامور، فنقول:

1- اشتراط الظنّ الفعلي بالوفاق:

قيل: لا بدّ في حجّية الظاهر من حصول ظنٍّ فعليٍّ بمراد المتكلّم، و إلّا فهو ليس بظاهر «3». يعني أنّ المقوّم لكون الكلام ظاهراً حصولُ الظنّ الفعلي للمخاطب بالمراد منه، و إلّا فلا يكون ظاهراً، بل يكون مجملًا.

أقول: من المعلوم: أنّ الظهور صفة قائمة باللفظ، و هو «كونه بحالةٍ يكون كاشفاً عن مراد المتكلّم و دالًّا عليه» و الظنّ بما هو ظنّ أمر قائم بالسامع لا باللفظ، فكيف يكون مقوّماً لكون اللفظ ظاهراً؟ و إنّما أقصى ما يقال: إنّه يستلزم الظنّ فمن هذه الجهة يُتوهّم أنّ الظنّ يكون مقوّماً لظهوره.

و في الحقيقة: أنّ المقوّم لكون الكلام ظاهراً عند أهل المحاورة هو كشفه الذاتي عن المراد، أي كون الكلام من شأنه أن يثير الظنّ عند السامع بالمراد منه و إن لم يحصل ظنّ فعلي للسامع، لأنّ ذلك هو الصفة القائمة بالكلام المقوّمة لكونه ظاهراً عند أهل المحاورة. و المدرك لحجّية الظاهر

______________________________ (1) لم ترد «فيها» في ط الاولى.

(2) إن شئت التحقيق في هذه المقالة و نسبتها إلى الأخباريّين راجع الدرر النجفيّة للمحدّث البحراني قدس سره: ص 169.

(3) قال الشيخ الأعظم الأنصاري: ربما يجري على لسان بعض متأخّري المتأخّرين من المعاصرين عدم الدليل على حجّية الظواهر إذا لم تفد الظنّ، أو إذا حصل الظنّ الغير المعتبر على خلافها، فرائد الاصول: ج 1 ص 72.

أصول الفقه ( مظفر، محمد رضا - طبع انتشارات اسلامى )، ج‏3، ص: 155

ليس إلّا بناء العقلاء، فهو المتّبع في أصل الحجّية و خصوصيّاتها. أ لا ترى لا يصحّ للسامع أن يحتجّ بعدم حصول الظنّ الفعلي عنده من الظاهر إذا أراد مخالفته- مهما كان السبب لعدم حصول ظنّه- ما دام أنّ اللفظ بحالةٍ من شأنه أن يثير الظنّ لدى عامّة الناس؟

و هذا ما يُسمّى ب «الظنّ النوعي» فيكتفى به في حجّية الظاهر، كما يكتفى به في حجّية خبر الواحد كما تقدّم. و إلّا لو كان «الظنّ الفعلي» معتبراً في حجّية الظهور لكان كلّ كلامٍ في آنٍ واحد حجّة بالنسبة إلى شخصٍ غير حجّة بالنسبة إلى شخصٍ آخر، و هذا ما لا يتوهّمه أحد. و من البديهي أنّه لا يصحّ ادّعاء أنّ الظاهر ليكون‏ «1» حجّة لا بدّ أن يستلزم الظنّ الفعلي عند جميع الناس بغير استثناء، و إلّا فلا يكون حجّة بالنسبة إلى كلّ أحد.

2- اعتبار عدم الظنّ بالخلاف:

قيل: إن لم يعتبر الظنّ بالوفاق فعلى الأقلّ يعتبر ألّا يحصل ظنّ بالخلاف‏ «2».

قال الشيخ صاحب الكفاية في ردّه: و الظاهر أنّ سيرتهم على اتّباعها- أي الظواهر- من غير تقييدٍ بإفادتها الظنّ فعلًا و لا بعدم الظن كذلك على خلافها قطعاً، ضرورة أنّه لا مجال للاعتذار من مخالفتها بعدم إفادتها الظنّ بالوفاق و لا بوجود الظنّ بالخلاف‏ «3».

______________________________ (1) في ط 2: لكي يكون.

(2) قال الشيخ الأعظم الأنصاري ... و لعلّه الوجه فيما حكاه لي بعض المعاصرين عن شيخه أنّه ذكر له مشافهة: أنّه يتوقّف في الظواهر المعارضة بمطلق الظنّ على الخلاف حتّى القياس و أشباهه، فرائد الاصول: ج 1 ص 293.

(3) كفاية الاصول: ص 324.

أصول الفقه ( مظفر، محمد رضا - طبع انتشارات اسلامى )، ج‏3، ص: 156

أقول: إن كان منشأ الظنّ بالخلاف أمر يصحّ في نظر العقلاء الاعتماد عليه في التفهيم، فإنّه لا ينبغي الشكّ في أنّ مثل هذا الظنّ يضرّ في حجّية الظهور بل- على التحقيق- لا يبقى معه ظهور للكلام حتّى يكون موضعاً لبناء العقلاء، لأنّ الظهور يكون حينئذٍ على طبق ذلك الأمر المعتمد عليه في التفهيم، حتّى لو فُرض أنّ ذلك الأمر ليس بأمارة معتبرة عند الشارع، لأنّ الملاك في ذلك بناء العقلاء.

و أمّا إذا كان منشأ الظنّ ليس ممّا يصحّ الاعتماد عليه في التفهيم عند العقلاء فلا قيمة لهذا الظنّ من ناحية بناء العقلاء على اتّباع الظاهر، لأنّ الظهور قائم في خلافه، و لا ينبغي الشكّ في عدم تأثير مثله في تبانيهم على حجّية الظهور. و الظاهر أنّ مراد الشيخ صاحب الكفاية من الظنّ بالخلاف هذا القسم الثاني فقط، لا ما يعمّ القسم الأوّل.

و لعلّ مراد القائل باعتبار عدم الظنّ بالخلاف هو القسم الأوّل فقط، لا ما يعمّ القسم الثاني. فيقع التصالح بين الطرفين.

3- أصالة عدم القرينة:

ذهب الشيخ الأعظم في رسائله إلى أنّ الاصول الوجوديّة- مثل أصالة الحقيقة، و أصالة العموم، و أصالة الإطلاق، و نحوها الّتي هي كلّها أنواع لأصالة الظهور- ترجع كلّها الى أصالة عدم القرينة بمعنى: أنّ أصالة الحقيقة ترجع إلى أصالة عدم قرينة المجاز، و أصالة العموم إلى أصالة عدم المخصّص ... و هكذا «1».

و الظاهر أنّ غرضه من الرجوع: أنّ حجّية أصالة الظهور إنّما هي من جهة بناء العقلاء على حجّية أصالة عدم القرينة.

______________________________ (1) فرائد الاصول: ج 1 ص 54.

أصول الفقه ( مظفر، محمد رضا - طبع انتشارات اسلامى )، ج‏3، ص: 157

و ذهب الشيخ صاحب الكفاية إلى العكس من ذلك‏ «1» أي أنّه يرى أنّ أصالة عدم القرينة هي الّتي ترجع إلى أصالة الظهور، يعني أنّ العقلاء ليس لهم إلّا بناء واحد و هو البناء على أصالة الظهور، و هو نفسه بناءٌ على أصالة عدم القرينة، لا أنّه هناك بناءان عندهم: بناءٌ على أصالة عدم القرينة و بناءٌ آخر على أصالة الظهور، و البناء الثاني بعد البناء الأوّل و متوقّف عليه، و لا أنّ البناء على أصالة الظهور مرجع حجّيته و معناه إلى البناء على أصالة عدم القرينة.

أقول: الحقّ أنّ الأمر لا كما أفاده الشيخ الأعظم و لا كما أفاده صاحب الكفاية، فإنّه ليس هناك أصل عند العقلاء غير أصالة الظهور يصحّ أن يقال له: «أصالة عدم القرينة» فضلًا عن أن يكون هو المرجع لأصالة الظهور أو أنّ أصالة الظهور هي المرجع له.

بيان ذلك: أنّه عند الحاجة إلى إجراء أصالة الظهور لا بدّ أن يُحتمل أنّ المتكلّم الحكيم أراد خلاف ظاهر كلامه. و هذا الاحتمال لا يخرج عن إحدى صورتين لا ثالثة لهما:

الاولى: أن يُحتمل إرادة خلاف الظاهر مع العلم بعدم نصب قرينة من قبله لا متّصلة و لا منفصلة. و هذا الاحتمال إمّا من جهة احتمال الغفلة عن نصب القرينة، أو احتمال قصد الإيهام، أو احتمال الخطأ، أو احتمال قصد الهزل- أو لغير ذلك- فإنّه في هذه الموارد يُلزم المتكلّم بظاهر كلامه فيكون حجّة عليه، و يكون حجّة له أيضاً على الآخرين. و لا تُسمع منه دعوى الغفلة و نحوها، و كذلك لا تُسمع من الآخرين دعوى احتمالهم للغفلة و نحوها. و هذا معنى أصالة الظهور عند العقلاء، أي أنّ الظهور هو الحجّة عندهم كالنصّ بإلغاء كلّ تلك الاحتمالات.

______________________________ (1) كفاية الاصول: ص 329.

أصول الفقه ( مظفر، محمد رضا - طبع انتشارات اسلامى )، ج‏3، ص: 158

و من الواضح: أنّه في هذه الموارد لا موقع لأصالة عدم القرينة سالبةً بانتفاء الموضوع، لأنّه لا احتمال لوجودها حتّى نحتاج إلى نفيها بالأصل.

فلا موقع إذاً في هذه الصورة للقول برجوع أصالة الظهور إلى هذا الأصل، و لا للقول برجوعه إلى أصالة الظهور.

الثانية: أن يُحتمل إرادة خلاف الظاهر من جهة احتمال نصب قرينةٍ خفيت علينا، فإنّه في هذه الصورة يكون موقع لتوهّم جريان أصالة عدم القرينة. و لكن في الحقيقة أنّ معنى بناء العقلاء على أصالة الظهور- كما تقدّم- أنّهم يعتبرون الظهور حجّة كالنصّ بإلغاء احتمال الخلاف، أيّ احتمالٍ كان. و من جملة الاحتمالات الّتي تُلغى إن وُجدت احتمال نصب القرينة. و حكمه حكم احتمال الغفلة و نحوها من جهة أنّه احتمال ملغى و منفيّ لدى العقلاء.

وعليه، فالمنفي عند العقلاء هو الاحتمال، لا أنّ المنفي وجود القرينة الواقعيّة، لأنّ القرينة الواقعيّة غير الواصلة لا أثر لها في نظر العقلاء و لا تضرّ في الظهور حتّى يحتاج إلى نفيها بالأصل. بينما أنّ معنى أصالة عدم القرينة- لو كانت- البناء على نفي وجود القرينة، لا البناء على نفي احتمالها، و البناء على نفي الاحتمال هو معنى البناء على أصالة الظهور ليس شيئاً آخر.

و إذا اتّضح ذلك يكون واضحاً لدينا أنّه ليس للعقلاء في هذه الصورة الثانية أيضاً أصل يقال له: «أصالة عدم القرينة» حتى يقال برجوعه إلى أصالة الظهور أو برجوعها إليه سالبةً بانتفاء الموضوع.

و الخلاصة: أنّه ليس لدى العقلاء إلّا أصل واحد، هو «أصالة الظهور» و ليس لهم إلّا بناء واحد، و هو البناء على إِلغاء كلّ احتمالٍ ينافي الظهور من نحو احتمال الغفلة، أو الخطأ، أو تعمّد الإيهام، أو نصب القرينة على‏

أصول الفقه ( مظفر، محمد رضا - طبع انتشارات اسلامى )، ج‏3، ص: 159

الخلاف أو غير ذلك. فكلّ هذه الاحتمالات- إن وُجدت- ملغية في نظر العقلاء. و ليس معنى إلغائها إلّا اعتبار الظهور حجّةً كأنّه نصّ لا احتمال معه بالخلاف، لا أنّه هناك لدى العقلاء اصول متعدّدة و بناءات مترتّبة مترابطة- كما ربما يُتوهّم- حتّى يكون بعضها متقدّماً على بعض، أو بعضها يساند بعضاً.

نعم، لا بأس بتسمية إلغاء احتمال الغفلة بأصالة عدم الغفلة من باب المسامحة، و كذلك تسمية إلغاء احتمال القرينة بأصالة عدمها ... و هكذا في كلّ تلك الاحتمالات. و لكن ليس ذلك إلّا تعبيراً آخر عن أصالة الظهور.

و لعلّ من يقول برجوع أصالة الظهور إلى أصالة عدم القرينة أو بالعكس أراد هذا المعنى من أصالة عدم القرينة. و حينئذٍ لو كان هذا مرادهم لكان كلّ من القولين صحيحاً و لكان مآلهما واحداً، فلا خلاف. 4- حجية الظهور بالنسبة إلى غير المقصودين بالإفهام:

ذهب المحقّق القمّي في قوانينه إلى عدم حجّية الظهور بالنسبة إلى من لم يُقصد إفهامه بالكلام، و مثّل لغير المقصودين بالإفهام بأهل زماننا و أمثالهم الّذين لم يشافهوا بالكتاب العزيز و بالسنّة، نظراً إلى أنّ الكتاب العزيز ليست خطاباته موجّهة لغير المشافهين، و ليس هو من قبيل تأليفات المصنّفين الّتي يُقصد بها إفهام كلّ قارئ لها. و أمّا السنّة فبالنسبة إلى الأخبار الصادرة عن المعصومين في مقام الجواب عن سؤال السائلين لا يُقصد منها إلّا إفهام السائلين دون سواهم‏ «1».

أقول: إنّ هذا القول لا يستقيم، و قد ناقشه كلّ من جاء بعده من المحقّقين. و خلاصة ما ينبغي مناقشته به أن يقال: إنّ هذا كلام مجمل غير

______________________________ (1) القوانين المحكمة: ج 1 ص 398 و ج 2 ص 103.

أصول الفقه ( مظفر، محمد رضا - طبع انتشارات اسلامى )، ج‏3، ص: 160

واضح، فما الغرض من نفي حجّية الظهور بالنسبة إلى غير المقصود إفهامه؟

1- إن كان الغرض أنّ الكلام لا ظهور ذاتي له بالنسبة إلى هذا الشخص، فهو أمر يكذّبه الوجدان. 2- و إن كان الغرض- كما قيل في توجيه كلامه‏ «1»- دعوى أنّه ليس للعقلاء بناء على إلغاء احتمال القرينة في الظواهر بالنسبة إلى غير المقصود بالإفهام، فهي دعوى بلا دليل، بل المعروف في بناء العقلاء عكس ذلك.

قال الشيخ الأعظم في مقام ردّه: إنّه لا فرق في العمل بالظهور اللفظي و أصالة عدم الصارف عن الظاهر بين من قُصد إفهامه و من لم يُقصد «2».

3- و إن كان الغرض- كما قيل في توجيه كلامه أيضاً «3»- أنّه لمّا كان من الجائز عقلًا أن يعتمد المتكلّم الحكيم على قرينةٍ غير معهودة و لا معروفة إلّا لدى من قُصد إفهامه، فهو احتمال لا ينفيه العقل، لأنّه لا يقبح من الحكيم و لا يلزم نقض غرضه إذا نصب قرينة تخفى على غير المقصودين بالإفهام. و مثل هذه القرينة الخفيّة على تقدير وجودها لا يتوقّع من غير المقصود بالإفهام أن يعثر عليها بعد الفحص.

فهو كلام صحيح في نفسه، إلّا أنّه غير مرتبط بما نحن فيه، أي لا يضرّ بحجّية الظهور ببناء العقلاء.

و توضيح ذلك: أنّ الّذي يقوّم حجّية الظهور هو نفي احتمال القرينة ببناء العقلاء، لا نفي احتمالها بحكم العقل، و لا ملازمة بينهما، أي أنّه إذا كان احتمال القرينة لا ينفيه العقل فلا يلزم منه عدم نفيه ببناء العقلاء النافع في حجّية الظهور. بل الأمر أكثر من أن يقال: إنّه لا ملازمة بينهما، فإنّ‏ ______________________________ (1) انظر فرائد الاصول: ج 1 ص 67.

(2) فرائد الاصول: ج 1 ص 69.

(3) انظر فرائد الاصول: ج 1 ص 68.

أصول الفقه ( مظفر، محمد رضا - طبع انتشارات اسلامى )، ج‏3، ص: 161

الظهور لا يكون ظهوراً إلّا إذا كان هناك احتمال للقرينة غير منفيّ بحكم العقل، و إلّا لو كان احتمالها منفيّاً بحكم العقل كان الكلام نصّاً لا ظاهراً.

و على نحو العموم نقول: لا يكون الكلام ظاهراً ليس بنصٍّ قطعي في المقصود إلّا إذا كان مقترناً باحتمال عقلي أو احتمالات عقليّة غير مستحيلة التحقّق، مثل احتمال خطأ المتكلّم، أو غفلته، أو تعمّده للإيهام لحكمةٍ، أو نصبه لقرينةٍ تخفى على الغير أو لا تخفى. ثمّ لا يكون الظاهر حجّة إلّا إذا كان البناء العملي من العقلاء على إِلغاء مثل هذه الاحتمالات، أي عدم الاعتناء بها في مقام العمل بالظاهر. وعليه، فالنفي الادّعائي العملي للاحتمالات هو المقوّم لحجّية الظهور، لا نفي الاحتمالات عقلًا من جهة استحالة تحقّق المحتمل، فإنّه إذا كانت الاحتمالات مستحيلة التحقّق لا تكون محتملات و يكون الكلام حينئذٍ نصّاً لا نحتاج في الأخذ به إلى فرض بناء العقلاء على إلغاء الاحتمالات.

و إذا اتّضح ذلك نستطيع أن نعرف أنّ هذا التوجيه المذكور للقول بالتفصيل في حجّية الظهور لا وجه له، فإنّه أكثر ما يثبت به أنّ نصب القرينة الخفيّة بالنسبة إلى من لم يُقصد إفهامه أمر محتمل غير مستحيل التحقّق، لأنّه لا يقبح من الحكيم أن يصنع مثل ذلك، فالقرينة محتملة عقلًا.

و لكن هذا لا يمنع من أن يكون البناء العملي من العقلاء على إلغاء مثل هذا الاحتمال، سواء أمكن أن يعثر على هذه القرينة بعد الفحص- لو كانت- أم لا يمكن.

4- ثمّ على تقدير تسليم الفرق في حجّية الظهور بين المقصود بالإفهام و بين غيره، فالشأن كلَّ الشأن في انطباق ذلك على واقعنا بالنسبة إلى الكتاب العزيز و السنّة:

أصول الفقه ( مظفر، محمد رضا - طبع انتشارات اسلامى )، ج‏3، ص: 162

أمّا الكتاب العزيز: فإنّه من المعلوم لنا أنّ التكاليف الّتي يتضمّنها عامّة لجميع المكلّفين و لا اختصاص لها بالمشافهين، و بمقتضى عمومها يجب ألّا تقترن بقرائن تخفى على غير المشافهين. بل لا شكّ في أنّ المشافهين ليسوا وحدهم المقصودين بالإفهام بخطابات القرآن الكريم.

و أمّا السنّة: فإنّ الأحاديث الحاكية لها- على الأكثر- تتضمّن تكاليف عامّةً لجميع المكلّفين أو المقصود بها إفهام الجميع حتّى غير المشافهين، و قلّما يُقصد بها إفهام خصوص المشافهين في بعض الجوابات على أسئلةٍ خاصة. و إذا قُصد ذلك فإنّ التكليف فيها لا بدّ أن يعمّ غير السائل بقاعدة الاشتراك. و مقتضى الأمانة في النقل و عدم الخيانة من الراوي- المفروض فيه ذلك- أن ينبّه على كلّ قرينةٍ دخيلةٍ في الظهور، و مع عدم بيانها منه يُحكم بعدمها.

5- حجّية ظواهر الكتاب:

نُسب إلى جماعة من الأخباريّين القول بعدم حجّية ظواهر الكتاب العزيز، و أكّدوا: أنّه لا يجوز العمل بها من دون أن يرد بيان و تفسير لها من طريق آل البيت عليهم السلام‏ «1».

أقول: إنّ القائلين بحجّية ظواهر الكتاب:

1- لا يقصدون حجّية كلّ ما في الكتاب، و فيه آيات محكمات و اخر متشابهات. بل المتشابهات لا يجوز تفسيرها بالرأي. و لكن التمييز بين المحكم و المتشابه ليس بالأمر العسير على الباحث المتدبّر إذا كان هذا ما يمنع من الأخذ بالظواهر الّتي هي من نوع المحكم.

______________________________ (1) المنسوب إليهم: الأمين الأسترابادي و السيّد الجزائري، و المحدّث البحراني، إن شئت التحقيق في المقام راجع الدرر النجفيّة: ص 169.

أصول الفقه ( مظفر، محمد رضا - طبع انتشارات اسلامى )، ج‏3، ص: 163

2- لا يقصدون أيضاً بالعمل بالمحكم من آياته جواز التسرّع بالعمل به من دون فحصٍ كامل عن كلّ ما يصلح لصرفه عن الظهور في الكتاب و السنّة من نحو الناسخ و المخصّص و المقيّد و قرينة المجاز ... 3- لا يقصدون أيضاً أنّه يصحّ لكلّ أحد أن يأخذ بظواهره و إن لم تكن له سابقة معرفة و علم و دراسة لكلّ ما يتعلّق بمضمون آياته. فالعامّي و شبه العامّي ليس له أن يدّعي فهم ظواهر الكتاب و الأخذ بها. و هذا أمر لا اختصاص له بالقرآن الكريم، بل هذا شأن كلّ كلام يتضمّن المعارف العالية و الامور العلميّة و هو يتوخّى الدقّة في التعبير.

أ لا ترى أنّ لكلّ علمٍ أهلًا يُرجع إليهم في فهم مقاصد كتب ذلك العلم، و أنّ له أصحاباً يؤخذ منهم آراء ما فيه من مؤلَّفات. مع أنّ هذه الكتب و المؤلَّفات لها ظواهر تجري على قوانين الكلام و اصول اللغة، و سنن أهل المحاورة هي حجّة على المخاطبين بها و هي حجّة على مؤلّفيها، و لكن لا يكفي للعامّي ان يرجع إليها ليكون عالماً بها يحتجّ بها أو يحتجّ بها عليه بغير تلمذةٍ على أحد أهلها، و لو فعل ذلك هل تراه لا يؤنَّب على ذلك و لا يلام‏ «1». و كلّ ذلك لا يسقط ظواهرها عن كونها حجّة في نفسها، و لا يخرجها عن كونها ظواهر يصحّ الاحتجاج بها.

و على هذا، فالقرآن الكريم إذ نقول: إنّه حجّة على العباد، فليس معنى ذلك أنّ ظواهره كلّها هي حجّة بالنسبة إلى كلّ أحد حتّى بالنسبة إلى من لم يتنوّر بنور «2» العلم و المعرفة.

و حينئذٍ نقول لمن ينكر حجّية ظواهر الكتاب: ما ذا تعني من هذا الإنكار؟

______________________________ (1) في ط الاولى زيادة: على تطفّله.

(2) في ط 2: من لم يتزوّد بشي‏ءٍ من العلم و المعرفة.

أصول الفقه ( مظفر، محمد رضا - طبع انتشارات اسلامى )، ج‏3، ص: 164

1- إن كنت تعني هذا المعنى الّذي تقدّم ذكره- و هو عدم جواز التسرّع بالأخذ بها من دون فحصٍ عمّا يصلح لصرفها عن ظواهرها و عدم جواز التسرّع بالأخذ بها من كلّ أحد- فهو كلام صحيح. و هو أمر طبيعي في كلّ كلامٍ عالٍ رفيع و في كلّ مؤلَّف في المعارف العالية. و لكن قلنا: إنّه ليس معنى ذلك أنّ ظواهره مطلقاً ليست بحجّة بالنسبة إلى كلّ أحد.

2- و إن كنت تعني الجمود على خصوص ما ورد من آل البيت عليهم السلام على وجهٍ لا يجوز التعرّض لظواهر القرآن و الأخذ بها مطلقاً فيما لم يرد فيه بيان من قِبَلهم- حتّى بالنسبة إلى من يستطيع فهمه من العارفين بمواقع الكلام و أساليبه و مقتضيات الأحوال، مع الفحص عن كلّ ما يصلح للقرينة أو ما يصلح لنسخه- فإنّه أمر لا يثبته ما ذكروه له من أدلّة.

كيف! و قد ورد عنهم عليهم السلام إرجاع الناس إلى القرآن الكريم، مثل ما ورد من الأمر بعرض الأخبار المتعارضة عليه‏ «1» بل ورد عنهم ما هو أعظم من ذلك و هو عرض كلّ ما ورد عنهم على القرآن الكريم‏ «2» كما ورد عنهم الأمر بردّ الشروط المخالفة للكتاب في أبواب العقود «3» و وردت عنهم أخبار خاصّة دالّة على جواز التمسّك بظواهره نحو قوله عليه السلام لزرارة لمّا قال له: «من أين علمت أنّ المسح ببعض الرأس؟» فقال عليه السلام: «لمكان الباء» «4» و يقصد الباء من قوله تعالى: «وَ امْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ» «5». فعرّف زرارةَ كيف يستفيد الحكم من ظاهر الكتاب.

______________________________ (1) الوسائل: ج 18 ص 76، الباب 9 من أبواب صفات القاضي، ح 1.

(2) المصدر السابق: ص 78 ح 12 و 14.

(3) الوسائل: ج 12 ص 352، الباب 6 من أبواب الخيار.

(4) الوسائل: ج 2 ص 980، الباب 13 من أبواب التيمّم، ح 1.

(5) المائدة: 6.

أصول الفقه ( مظفر، محمد رضا - طبع انتشارات اسلامى )، ج‏3، ص: 165

ثمّ إذا كان يجب الجمود على ما ورد من أخبار بيت العصمة، فإنّ معنى ذلك هو الأخذ بظواهر أقوالهم لا بظواهر الكتاب. و حينئذٍ ننقل الكلام إلى نفس أخبارهم حتّى فيما يتعلّق منها بتفسير الكتاب، فنقول: هل يكفي لكلّ أحدٍ أن يرجع إلى ظواهرها من دون تدبّر و بصيرة و معرفة، و من دون فحصٍ عن القرائن و اطّلاعٍ على كلّ ما له دخل في مضامينها؟

بل هذه الأخبار لا تقلّ من هذه الجهة عن ظواهر الكتاب، بل الأمر فيها أعظم لأنّ سندها يحتاج إلى تصحيح و تنقيح و فحص، و لأنّ جملة منها منقول بالمعنى، و ما يُنقل بالمعنى لا يُحرز فيه نصّ ألفاظ المعصوم و تعبيره و لا مراداته، و لا يُحرز في أكثرها أنّ النقل كان لنصّ الألفاظ.

و أمّا ما ورد من النهي عن التفسير بالرأي:

مثل النبويّ المشهور: «من فسّر القرآن برأيه فليتبوّأ مقعده من النار» «1» فالجواب عنه أنّ التفسير غير الأخذ بالظاهر، و الأخذ بالظاهر لا يُسمّى تفسيراً. على أنّ مقتضى الجمع بينها و بين تلك الأخبار المجوِّزة للأخذ بالكتاب و الرجوع إليه حمل «التفسير بالرأي»- إذا سلّمنا أنّه يشمل الأخذ بالظاهر- على معنى التسرّع بالأخذ به بالاجتهادات الشخصيّة من دون فحصٍ و من دون سابق معرفة و تأمّل و دِربةٍ «2» كما يعطيه التعليل في بعضها بأنّ فيه ناسخاً و منسوخاً و عامّاً و خاصّاً.

مع أنّه في الكتاب العزيز من المقاصد العالية ما لا ينالها إلّا أهل الذكر، و فيه ما يقصر عن الوصول إلى إدراكه أكثر الناس. و لا يزال تنكشف له من الأسرار ما كان خافياً على المفسّرين كلّما تقدّمت العلوم و المعارف ممّا يوجب الدهشة و يحقّق إعجازه من هذه الناحية.

______________________________ (1) عوالي اللآلي: ج 4 ص 104 ح 154.

(2) في ط 2: دراسة.

أصول الفقه ( مظفر، محمد رضا - طبع انتشارات اسلامى )، ج‏3، ص: 166

و التحقيق أنّ في الكتاب العزيز جهات كثيرة من الظهور تختلف ظهوراً و خفاءً، و ليست ظواهره من هذه الناحية على نسقٍ واحد بالنسبة إلى أكثر الناس. و كذلك كلّ كلام، و لا يخرج الكلام بذلك عن كونه ظاهراً يصلح للاحتجاج به عند أهله، بل قد تكون الآية الواحدة لها ظهور من جهةٍ لا يخفى على كل أحد، و ظهور آخر يحتاج إلى تأمّل و بصيرة فيخفى على كثير من الناس.

و لنضرب لذلك مثلًا، قوله تعالى: «إِنَّا أَعْطَيْناكَ الْكَوْثَرَ»، فإنّ هذه الآية الكريمة ظاهرة في أنّ اللَّه تعالى قد أنعم على نبيّه محمّد صلى الله عليه و آله و سلم بإعطائه «الكوثر» و هذا الظهور بهذا المقدار لا شكّ فيه لكلّ أحد. و لكن ليس كلّ الناس فهموا المراد من «الكوثر» فقيل: المراد به نهر في الجنّة، و قيل: المراد القرآن و النبوّة، و قيل: المراد به ابنته فاطمة عليها السلام‏ «1». و قيل غير ذلك. و لكن من يدقّق في السورة يجد أنّ فيها قرينة على المراد منه، و هي الآية الّتي بعدها «إِنَّ شانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ» و الأبتر: الّذي لا عقب له، فإنّه بمقتضى المقابلة يُفهم منها أنّ المراد الإنعام عليه بكثرة العقب و الذّريّة. و كلمة «الكوثر» لا تأبى عن ذلك، فإنّ «فَوْعَل» تأتي للمبالغة، فيراد بها المبالغة في الكثرة، و الكثرة: نماء العدد. فيكون المعنى: إنّا أعطيناك الكثير من الذّريّة و النسل. و بعد هذه المقارنة و وضوح معنى «الكوثر» يكون للآية ظهور يصحّ الاحتجاج به، و لكنّه ظهور بعد التأمّل و التبصّر. و حينئذٍ ينكشف صحّة تفسير كلمة «الكوثر» بفاطمة لانحصار ذرّيّته الكثيرة من طريقها، لا على أن تكون الكلمة من أسمائها.

______________________________ (1) راجع تفسير الطبري: ج 30 ص 175 (ط بولاق) و خصوصاً ما بهامشه من تفسير غرائب القرآن

للنيسابوري؛ و سائر التفاسير من الفريقين.

أصول الفقه ( مظفر، محمد رضا - طبع انتشارات اسلامى )، ج‏3، ص: 168