السنّة في اصطلاح الفقهاء: «قول النبيّ أو فعله أو تقريره»
و منشأ هذا الاصطلاح أمر النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم باتّباع سنّته، فغلبت كلمة «السنّة» حينما تُطلق مجرّدة عن نسبتها إلى أحد على خصوص ما يتضمّن بيان حكم من الأحكام من النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم سواء كان ذلك بقول أو فعل أو تقرير، على ما سيأتي من ذكر مدى ما يدلّ الفعل و التقرير على بيان الأحكام.
أمّا فقهاء الإماميّة بالخصوص فلمّا ثبت لديهم أنّ المعصوم من آل البيت يجري قوله مجرى قول النبيّ من كونه حجّةً على العباد واجبَ الاتّباع فقد توسّعوا في اصطلاح «السنّة» إلى ما يشمل قول كلّ واحد من المعصومين أو فعله أو تقريره، فكانت السنّة باصطلاحهم: «قول المعصوم أو فعله أو تقريره».
و السرّ في ذلك: أنّ الأئمّة من آل البيت عليهم السلام ليسوا هم من قبيل الرواة عن النبيّ و المحدّثين عنه ليكون قولهم حجّة من جهة أنهم ثقات في الرواية، بل لأنّهم هم المنصوبون من اللَّه تعالى على لسان النبيّ لتبليغ الأحكام الواقعيّة، فلا يحكون إلّا عن الأحكام الواقعيّة عند اللَّه تعالى
أصول الفقه ( مظفر، محمد رضا - طبع انتشارات اسلامى )، ج3، ص: 65
كما هي، و ذلك من طريق الإلهام كالنبيّ من طريق الوحي، أو من طريق التلقّي من المعصوم قبله، كما قال مولانا أمير المؤمنين عليه السلام «علّمني رسول اللَّه صلى الله عليه و آله و سلم ألف باب من العلم ينفتح لي من كلّ باب ألف باب» «1».
وعليه، فليس بيانهم للأحكام من نوع رواية السنّة و حكايتها، و لا من نوع الاجتهاد في الرأي و الاستنباط من مصادر التشريع، بل هم أنفسهم مصدر للتشريع، فقولهم سنّةٌ لا حكاية السنّة.
و أمّا ما يجيء على لسانهم أحياناً من روايات و أحاديث عن نفس النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم فهي إمّا لأجل نقل النصّ عنه كما يتّفق في نقلهم لجوامع كلمه، و إمّا لأجل إقامة الحجّة على الغير، و إمّا لغير ذلك من الدواعي.
و أمّا إثبات إمامتهم و أنّ قولهم يجري مجرى قول الرسول صلى الله عليه و آله و سلم فهو بحث يتكفّل به علم الكلام.
و إذا ثبت أنّ السنّة بما لها من المعنى الواسع الّذي عندنا هي مصدر من مصادر التشريع الإسلامي، فإن حصل عليها الإنسان بنفسه بالسماع من نفس المعصوم و مشاهدته فقد أخذ الحكم الواقعي من مصدره الأصلي على سبيل الجزم و اليقين من ناحية السند، كالأخذ من القرآن الكريم ثقل اللَّه الأكبر، و الأئمّة من آل البيت ثقله الأصغر.
أمّا إذا لم يحصل ذلك لطالب الحكم الواقعي- كما في العهود المتأخّرة عن عصرهم- فإنّه لا بدّ له في أخذ الأحكام من أن يرجع- بعد القرآن الكريم- إلى الأحاديث الّتي تنقل السنّة، إمّا من طريق التواتر أو من طريق أخبار الآحاد على الخلاف الّذي سيأتي في مدى حجّية أخبار الآحاد.
______________________________
(1) بحار الأنوار: ج 26 ص 29 ح 36، بلفظ: لقد علّمني رسول اللَّه صلى الله عليه و آله ألفَ بابٍ يفتح كلُّ بابٍ ألفَ باب.
أصول الفقه ( مظفر، محمد رضا - طبع انتشارات اسلامى )، ج3، ص: 66
و على هذا، فالأحاديث ليست هي السنّة بل هي الناقلة لها و الحاكية عنها و لكن قد تُسمّى بالسنّة توسّعاً من أجل كونها مثبتة لها.
و من أجل هذا يلزمنا البحث عن الأخبار في باب السنّة، لأنّه يتعلّق ذلك بإثباتها. و نعقد الفصل في مباحث أربعة:
1- دلالة فعل المعصوم
لا شكّ في أنّ فعل المعصوم- بحكم كونه معصوماً- يدلّ على إباحة الفعل على الأقلّ، كما أنّ تركه لفعلٍ يدلّ على عدم وجوبه على الأقلّ.
و لا شكّ في أنّ هذه الدلالة بهذا الحدّ أمر قطعي ليس موضعاً للشبهة بعد ثبوت عصمته.
ثم نقول بعد هذا: إنّه قد يكون لفعل المعصوم من الدلالة ما هو أوسع من ذلك، و ذلك فيما إذا صدر منه الفعل محفوفاً بالقرينة كأن يحرز أنّه في مقام بيان حكمٍ من الأحكام أو عبادةٍ من العبادات كالوضوء و الصلاة و نحوهما، فإنّه حينئذٍ يكون لفعله ظهور في وجه الفعل من كونه واجباً أو مستحبّاً أو غير ذلك حسبما تقتضيه القرينة.
و لا شبهة في أنّ هذا الظهور حجّة كظواهر الألفاظ بمناطٍ واحد، و كم استدلّ الفقهاء على حكم أفعال الوضوء و الصلاة و الحجّ و غيرها و كيفيّاتها بحكاية فعل النبيّ أو الإمام في هذه الامور. كلّ هذا لا كلام و لا خلاف لأحد فيه.
و إنّما وقع الكلام للقوم في موضعين:
1- في دلالة فعل المعصوم المجرّد عن القرائن على أكثر من إباحة الفعل. فقد قال بعضهم: إنّه يدلّ بمجرّده على وجوب الفعل بالنسبة إلينا.
أصول الفقه ( مظفر، محمد رضا - طبع انتشارات اسلامى )، ج3، ص: 67
و قيل: يدلّ على استحبابه. و قيل: لا دلالة له على شيءٍ منهما «1» أي أنّه لا يدلّ على أكثر من إباحة الفعل في حقّنا.
و الحقّ هو الأخير، لعدم ما يصلح أن يجعل له مثل هذه الدلالة.
و قد يظنّ ظانّ أنّ قوله تعالى في سورة الأحزاب 21: «لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كانَ يَرْجُوا اللَّهَ وَ الْيَوْمَ الْآخِرَ» يدلّ على وجوب التأسّي و الاقتداء برسول اللَّه صلى الله عليه و آله و سلم في أفعاله. و وجوب الاقتداء بفعله يلزم منه وجوب كلّ فعل يفعله في حقّنا و إن كان بالنسبة إليه لم يكن واجباً، إلّا ما دلّ الدليل الخاصّ على عدم وجوبه في حقّنا.
و قيل: إنّه إن لم تدلّ الآية على وجوب الاقتداء فعلى الأقلّ تدلّ على حسن الاقتداء به و استحبابه.
و قد أجاب العلّامة الحلّي عن هذا الوهم فأحسن- كما نقل عنه- إذ قال: إنّ الاسوة عبارة عن الإتيان بفعل الغير لأنّه فعله على الوجه الّذي فعله، فإن كان واجباً تعبّدنا بإيقاعه واجباً، و إن كان مندوباً تعبّدنا بإيقاعه مندوباً، و إن كان مباحاً تعبّدنا باعتقاد إباحته «2».
و غرضه قدس سره من التعبّد باعتقاد إباحته فيما إذا كان مباحا ليس مجرّد الاعتقاد حتّى يرد عليه- كما في الفصول- بأنّ ذلك اسوة في الاعتقاد لا الفعل «3» بل يريد- كما هو الظاهر من صدر كلامه- أنّ معنى الاسوة في المباح هو أن نتخيّر في الفعل و الترك، أي لا نلتزم بالفعل و لا بالترك،
______________________________
(1) قال المحقّق الحلّي قدس سره في مسألة أفعال النبيّ صلى الله عليه و آله: «قال ابن سريج: تدلّ على الوجوب في حقّنا، و قال الشافعي: تدلّ على الندب، و قال مالك: على الإباحة، و الأولى التوقّف» معارج الاصول: ص 118. و إن شئت التفصيل راجع مفاتيح الاصول: باب الأفعال و التأسّي ص 279.
(2) راجع نهاية الوصول: الورقة 94.
(3) الفصول الغرويّة: 313.
أصول الفقه ( مظفر، محمد رضا - طبع انتشارات اسلامى )، ج3، ص: 68
إذ الاسوة في كلّ شيء بحسب ما له من الحكم، فلا تتحقّق الاسوة في المباح بالنسبة إلى الإتيان بفعل الغير إلّا بالاعتقاد بالإباحة.
ثمّ نزيد على ما ذكره العلّامة فنقول: إنّ الآية الكريمة لا دلالة لها على أكثر من رجحان الاسوة و حسنها، فلا نسلّم دلالتها على وجوب التأسّي. مضافاً إلى أنّ الآية نزلت في واقعة الأحزاب فهي واردة موردَ الحثّ على التأسّي به في الصبر على القتال و تحمّل مصائب الجهاد في سبيل الله، فلا عموم لها بلزوم التأسّي أو حسنه في كلّ فعل حتّى الأفعال العادية. و ليس معنى هذا أنّنا نقول: بأنّ المورد يقيّد المطلق أو يخصّص العامّ، بل إنّما نقول: إنّه يكون عقبة في إتمام مقدّمات الحكمة للتمسّك بالإطلاق.
فهو يضرّ بالإطلاق من دون أن يكون له ظهور في التقييد، كما نبّهنا على ذلك في أكثر من مناسبةٍ.
و الخلاصة: أنّ دعوى دلالة هذه الآية الكريمة على وجوب فعل ما يفعله النبيّ مطلقاً أو استحبابه مطلقاً بالنسبة إلينا بعيدة كلّ البعد عن التحقيق.
و كذلك دعوى دلالة الآيات الآمرة بإطاعة الرسول أو باتّباعه على وجوب كلّ ما يفعله في حقّنا، فإنّها أوهن من أن نذكرها لردّها.
2- في حجّية فعل المعصوم بالنسبة إلينا. فإنّه قد وقع كلام للُاصوليّين في أنّ فعله إذا ظهر وجهه أنّه على نحو الإباحة أو الوجوب أو الاستحباب مثلًا هل هو حجّة بالنسبة إلينا؟ أي أنّه هل يدلّ على اشتراكنا معه و تعدّيه إلينا فيكون مباحاً لنا كما كان مباحاً له أو واجباً علينا كما كان واجباً عليه ... و هكذا؟
و منشأ الخلاف: أنّ النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم اختصّ بأحكام لا تتعدّى إلى غيره
أصول الفقه ( مظفر، محمد رضا - طبع انتشارات اسلامى )، ج3، ص: 69
و لا يشترك معه باقي المسلمين، مثل وجوب التهجّد في الليل، و جواز العقد على اكثر من أربع زوجات. و كذلك له من الأحكام ما يختصّ بمنصب الولاية العامّة، فلا تكون لغير النبيّ أو الإمام باعتبار أنّه أولى بالمؤمنين من أنفسهم.
فإن عُلم أنّ الفعل الّذي وقع من المعصوم أنّه من مختصّات فلا شكّ في أنّه لا مجال لتوهّم تعدّيه إلى غيره. و إن عُلم عدم اختصاصه به بأيّ نحو من أنحاء الاختصاص فلا شكّ في أنّه يعمّ جميع المسلمين، فيكون فعله حجّةً علينا. هذا كلّه ليس موضع الكلام.
و إنّما موضع الشبهة في الفعل الّذي لم يظهر حاله في كونه من مختصّاته أو ليس من مختصّاته و لا قرينة تُعيّن أحدهما، فهل هذا بمجرّده كافٍ للحكم بأنّه من مختصّاته، أو للحكم بعمومه للجميع، أو أنّه غير كافٍ فلا ظهور له أصلًا في كلّ من النحوين؟ وجوه، بل أقوال.
و الأقرب هو الوجه الثاني.
و الوجه في ذلك: أنّ النبيّ بشر مثلنا، له ما لنا وعليه ما علينا، و هو مكلّف من اللَّه تعالى بما كُلّف به الناس إلّا ما قام الدليل الخاصّ على اختصاصه ببعض الأحكام إمّا من جهة شخصه بذاته و إمّا من جهة منصب الولاية، فما لم يخرجه الدليل فهو كسائر الناس في التكليف.
هذا مقتضى عموم أدلّة اشتراكه معنا في التكليف. فإذا صدر منه فعل و لم يُعلم اختصاصه به، فالظاهر في فعله أنّ حكمه فيه حكم سائر الناس، فيكون فعله حجّة علينا و حجّة لنا، لا سيّما مع ما دلّ على عموم حسن التأسّي به.
و لا نقول ذلك من جهة قاعدة الحمل على الأعمّ الأغلب، فإنّا لا نرى
أصول الفقه ( مظفر، محمد رضا - طبع انتشارات اسلامى )، ج3، ص: 70
حجّية مثل هذه القاعدة في كلّ مجالاتها، و إنّما ذلك من باب التمسّك بالعامّ في الدوران في التخصيص بين الأقل و الأكثر.
2- دلالة تقرير المعصوم
المقصود من «تقرير المعصوم» أن يفعل شخص بمشهد المعصوم و حضوره فعلًا، فيسكت المعصوم عنه مع توجّهه إليه و علمه بفعله، و كان المعصوم بحالةٍ يسعه تنبيه الفاعل لو كان مخطئاً. و السعة تكون من جهة عدم ضيق الوقت عن البيان، و من جهة عدم المانع، منه، كالخوف و التقيّة و اليأس من تأثير الإرشاد و التنبيه و نحو ذلك.
فإنّ سكوت المعصوم عن ردع الفاعل أو عن بيان شيءٍ حولَ الموضوع لتصحيحه يُسمّى تقريراً للفعل، أو إقراراً عليه، أو إمضاءً له؛ ما شئت فعبّر.
و هذا التقرير- إذا تحقّق بشروطه المتقدّمة- فلا شكّ في أنّه يكون ظاهراً في كون الفعل جائزاً فيما إذا كان محتمل الحرمة. كما أنّه يكون ظاهراً في كون الفعل مشروعاً صحيحاً فيما إذا كان عبادة أو معاملة، لأنّه لو كان في الواقع محرّماً أو كان فيه خلل لكان على المعصوم نهيه عنه و ردعه إذا كان الفاعل عالماً عارفاً بما يفعل، و ذلك من باب الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر. و لكان عليه بيان الحكم و وجه الفعل إذا كان الفاعل جاهلًا بالحكم، و ذلك من باب وجوب تعليم الجاهل.
و يلحق بتقرير الفعل التقرير لبيان الحكم، كما لو بيّن شخص بمحضر المعصوم حكماً أو كيفيّة عبادة أو معاملة، و كان بوسع المعصوم البيان، فإنّ
أصول الفقه ( مظفر، محمد رضا - طبع انتشارات اسلامى )، ج3، ص: 71
سكوت الإمام يكون ظاهراً في كونه إقراراً على قوله و تصحيحاً و إمضاءً له.
و هذا كلّه واضح، ليس فيه موضع للخلاف.
3- الخبر المتواتر
إنّ الخبر على قسمين رئيسين «1»: خبر متواتر، و خبر واحد.
و «المتواتر»: ما أفاد سكون النفس سكوناً يزول معه الشكّ و يحصل الجزم القاطع من أجل إخبار جماعة يمتنع تواطؤهم على الكذب. و يقابله «خبر الواحد» في اصطلاح الاصوليّين، و إن كان المخبر أكثر من واحد و لكن لم يبلغ المخبرون حدّ التواتر.
و قد شرحنا حقيقة التواتر في كتاب المنطق (الجزء الثالث ص 10) «2» فراجع.
و الّذي ينبغي ذكره هنا: أنّ الخبر قد يكون له وسائط كثيرة في النقل، كالأخبار الّتي تصلنا عن الحوادث القديمة، فإنّه يجب- ليكون الخبر متواتراً موجباً للعلم- أن تتحقّق شروط التواتر في كلّ طبقةٍ طبقةٍ من وسائط الخبر، و إلّا فلا يكون الخبر متواتراً في الوسائط المتأخّرة، لأنّ النتيجة تتبع أخسّ المقدّمات.
و السرّ في ذلك واضح، لأنّ الخبر ذو الوسائط يتضمّن في الحقيقة عدّة أخبار متتابعة، إذ أنّ كلّ طبقة تخبر عن خبر الطبقة السابقة عليها، فحينما يقول جماعة: «حدّثنا جماعة عن كذا» بواسطة واحدة مثلًا، فإنّ خبر الطبقة الاولى الناقلة لنا يكون في الحقيقة خبرها ليس عن نفس الحادثة،
______________________________
(1) في ط الاولى: رئيسيين.
(2) الصفحة 333 من طبعتنا الحديثة.
أصول الفقه ( مظفر، محمد رضا - طبع انتشارات اسلامى )، ج3، ص: 72
بل عن خبر الطبقة الثانية عن الحادثة. و كذلك إذا تعدّدت الوسائط إلى أكثر من واحدة. فهذه الوسائط هي خبر عن خبر حتّى تنتهي إلى الواسطة الأخيرة الّتي تنقل عن نفس الحادثة، فلا بدّ أن تكون الجماعة الاولى خبرها متواتراً عن خبرٍ متواتر عن متواتر ... و هكذا، إذ كلّ خبر من هذه الأخبار له حكمه في نفسه. و متى اختلّ شرط التواتر في طبقةٍ واحدة خرج الخبر جملةً عن كونه متواتراً و صار من أخبار الآحاد.
و هكذا الحال في أخبار الآحاد، فإنّ الخبر الصحيح ذا الوسائط إنّما يكون صحيحاً إذا توفّرت شروط الصحّة في كلّ واسطة من وسائطه، و إلّا فالنتيجة تتبع أخسّ المقدّمات.
أصول الفقه ( مظفر، محمد رضا - طبع انتشارات اسلامى ) ؛ ج3 ؛ ص72
4- خبر الواحد
إنّ خبر الواحد- و هو ما لا يبلغ حدّ التواتر من الأخبار- قد يفيد علماً و إن كان المخبر شخصاً واحداً، و ذلك فيما إذا احتفّ خبره بقرائن توجب العلم بصدقه، و لا شكّ في أنّ مثل هذا الخبر حجّة. و هذا لا بحث لنا فيه، لأنّه مع حصول العلم تحصل الغاية القصوى، إذ ليس وراء العلم غاية في الحجّية و إليه تنتهي حجّية كلّ حجّة كما تقدّم.
و أمّا إذا لم يحتفّ بالقرائن الموجبة للعلم بصدقه- و إن احتفّ بالقرائن الموجبة للاطمئنان إليه دون مرتبة العلم- فقد وقع الخلاف العظيم في حجّيته و شروط حجّيته. و الخلاف في الحقيقة- عند الإماميّة بالخصوص- يرجع إلى الخلاف في قيام الدليل القطعي على حجّية خبر الواحد و عدم قيامه، و إلّا فمن المتّفق عليه عندهم أنّ خبر الواحد بما هو
أصول الفقه ( مظفر، محمد رضا - طبع انتشارات اسلامى )، ج3، ص: 73
خبر مفيد «1» للظنّ الشخصي أو النوعي لا عبرة به، لأنّ الظنّ في نفسه ليس حجّة عندهم قطعاً،
فالشأن كلّ الشأن عندهم في حصول هذا الدليل القطعي و مدى دلالته.
فمن ينكر حجّية خبر الواحد- كالسيّد الشريف المرتضى «2» و من اتّبعه- إنّما ينكر وجود هذا الدليل القطعي. و من يقول بحجّيته- كالشيخ الطوسي «3» و باقي العلماء- يرى وجود الدليل القاطع.
و لأجل أن يتّضح ما نقول ننقل نصّ أقوال الطرفين في ذلك:
قال الشيخ الطوسي في العدّة (ج 1 ص 44): من عمل بخبر الواحد فإنّما يعمل به إذا دلّ دليل على وجوب العمل به إمّا من الكتاب أو السنّة أو الإجماع، فلا يكون قد عمل بغير علم «4».
و صرّح بذلك السيّد المرتضى في الموصليّات- حسبما نقله عنه الشيخ ابن إدريس في مقدّمة كتابه السرائر- فقال: لا بدّ في الأحكام الشرعيّة من طريق يوصل إلى العلم- إلى أن قال- و لذلك أبطلنا في الشريعة العمل بأخبار الآحاد، لأنّها لا توجب علماً و لا عملًا، و أوجبنا أن يكون العمل تابعاً للعلم، لأنّ خبر الواحد إذا كان عدلًا فغاية ما يقتضيه الظنّ بصدقه، و من ظننت صدقَه يجوز أن يكون كاذباً «5».
و أصرح منه قوله بعد ذلك: و العقل لا يمنع من العبادة بالقياس و العمل بخبر الواحد، و لو تعبّد اللَّه تعالى بذلك لساغ و لدخل في باب الصحّة،
______________________________
(1) في ط الاولى: مفيداً.
(2) الذريعة إلى اصول الشريعة: ج 2 ص 530- 531.
(3) العُدّة: ج 1 ص 100.
(4) العدّة: ج 1 ص 106 (ط الحديثة).
(5) السرائر: ج 1 ص 46، انظر رسائل الشريف المرتضى، المجموعة الاولى: ص 202- 203.
أصول الفقه ( مظفر، محمد رضا - طبع انتشارات اسلامى )، ج3، ص: 74
لأنّ عبادته بذلك توجب العلم الّذي لا بدّ أن يكون العمل تابعاً له «1».
و على هذا فيتّضح أنّ المسلّم فيه عند الجميع أنّ خبر الواحد لو خُلّي و نفسَه لا يجوز الاعتماد عليه، لأنّه لا يفيد إلا الظنّ الّذي لا يغني من الحقّ شيئا. و إنّما موضع النزاع هو قيام الدليل القطعي على حجّيته.
و على هذا فقد وقع الخلاف في ذلك على أقوال كثيرة:
فمنهم من أنكر حجّيته مطلقاً، و قد حكي هذا القول عن السيّد المرتضى و القاضي و ابن زهرة و الطبرسي و ابن إدريس «2» و ادّعوا في ذلك الإجماع. و لكن هذا القول منقطع الآخر، فإنّه لم يُعرف موافق لهم بعد عصر ابن إدريس إلى يومنا هذا.
و منهم من قال: «إنّ الأخبار المدوّنة في الكتب المعروفة- لا سيّما الكتب الأربعة- مقطوعة الصدق». و هذا ما يُنسب إلى شرذمة «3» من متأخّري الأخباريّين. قال الشيخ الأنصاري تعقيباً على ذلك: و هذا قول لا فائدة في بيانه و الجواب عنه إلّا التحرّز عن حصول هذا الوهم لغيرهم كما حصل لهم، و إلّا فمدّعي القطع لا يلزم بذكر ضعف مبنى قطعه ... «4».
و أمّا القائلون بحجّية خبر الواحد فقد اختلفوا أيضاً: فبعضهم يرى أنّ المعتبر من الأخبار هو كلّ ما في الكتب الأربعة بعد استثناء ما كان فيها مخالفاً للمشهور. و بعضهم يرى أنّ المعتبر بعضها و المناط في الاعتبار عمل الأصحاب، كما يظهر ذلك من المنقول عن المحقّق في المعارج «5».
______________________________
(1) السرائر: ج 1 ص 47.
(2) الذريعة: ج 2 ص 528، المهذّب: ج 2 ص 598، الغنية: ج 2 ص 356، مجمع البيان: ذيل الآية 6 من سورة الحجرات، السرائر: ج 1 ص 47.
(3) في ط 2: جماعة.
(4) فرائد الاصول: ج 1 ص 109.
(5) معارج الاصول: ص 147.
أصول الفقه ( مظفر، محمد رضا - طبع انتشارات اسلامى )، ج3، ص: 75
و قيل: المناط فيه عدالة الراوي أو مطلق وثاقته، أو مجرّد الظنّ بالصدور من غير اعتبار صفةٍ في الراوي ... إلى غير ذلك من التفصيلات «1».
و المقصود لنا الآن بيان إثبات حجّيته بالخصوص في الجملة في مقابل السلب الكلّي، ثمّ ننظر في مدى دلالة الأدلّة على ذلك. فالعمدة أن ننظر أوّلًا في الأدلّة الّتي ذكروها من الكتاب و السنّة و الإجماع و بناء العقلاء، ثمّ في مدى دلالتها:
- أ- أدلّة حجّية خبر الواحد من الكتاب العزيز
تمهيد:
لا يخفى أنّ من يستدلّ على حجّية خبر الواحد بالآيات الكريمة لا يدّعى بأنّها نصّ قطعي الدلالة على المطلوب، و إنّما أقصى ما يدّعيه أنّها ظاهرة فيه.
و إذا كان الأمر كذلك فقد يشكل الخصم بأنّ الدليل على حجّية الحجّة يجب أن يكون قطعيّاً- كما تقدّم- فلا يصحّ الاستدلال بالآيات الّتي هي ظنّية الدلالة، لأنّ ذلك استدلال بالظنّ على حجّية الظنّ. و لا ينفع كونها قطعيّة الصدور.
و لكنّ الجواب عن هذا الوهم واضح، لأنّه قد ثبت بالدليل القطعي حجّية ظواهر الكتاب العزيز- كما سيأتي- فالاستدلال بها ينتهي بالأخير إلى العلم، فلا يكون استدلالًا بالظنّ على حجّية الظنّ.
و نحن على هذا المبنى نذكر الآيات الّتي ذكروها على حجّية خبر الواحد، فنكتفي بإثبات ظهورها في المطلوب:
أصول الفقه ( مظفر، محمد رضا - طبع انتشارات اسلامى )، ج3، ص: 76
الآية الاولى- آية النبأ:
و هي قوله تعالى في سورة الحجرات 6: «إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلى ما فَعَلْتُمْ نادِمِينَ».
و قد استدلّ بهذه الآية الكريمة من جهة مفهوم الوصف و من جهة مفهوم الشرط. و الّذي يبدو أنّ الاستدلال بها من جهة مفهوم الشرط كافٍ في المطلوب.
و تقريب الاستدلال يتوقّف على شرح ألفاظ الآية أوّلًا، فنقول:
1- «التبيّن» إنّ لهذه المادّة معنيين:
الأوّل: بمعنى الظهور، فيكون فعلها لازماً، فنقول: «تبيّن الشيء» إذا ظهر و بان. و منه قوله تعالى:
و الثاني: بمعنى الظهور عليه- يعني العلم به و استكشافه، أو التصدّي للعلم به و طلبه- فيكون فعلها متعدّياً، فتقول: «تبيّنت الشيء» إذا علمته، أو إذا تصدّيت للعلم به و طلبته.
و على المعنى الثاني- و هو التصدّي للعلم به- يتضمّن معنى التثبّت فيه و التأنّي فيه لكشفه و إظهاره و العلم به. و منه قوله تعالى في سورة النساء 94: «إِذا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُوا» و من أجل هذا قُرئ بدل «فتبيّنوا»: «فتثبّتوا» «3» و منه كذلك هذه الآية الّتي نحن بصددها
______________________________
(1) البقرة: 187.
(2) فصّلت: 53.
(3) قراءة حمزة و الكسائي راجع كتاب السبعة في القراءات لابن مجاهد: ص 236، و الكشف عن وجوه القراءات للقيسي: ج 1 ص 394، و تفسير القرطبي: ج 5 ص 337، و في التبيان: ج 3 ص 297: و هي قراءة أهل الكوفة إلا عاصم، كنز الدقائق: ج 9 ص 589.
أصول الفقه ( مظفر، محمد رضا - طبع انتشارات اسلامى )، ج3، ص: 77
«إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا» و كذلك قُرئ فيها «فتثبّتوا» «1» فإنّ هذه القراءة ممّا تدلّ على أنّ المعنيين- و هما التبيّن و التثبّت- متقاربان.
2- «أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهالَةٍ» يظهر من كثير من التفاسير أنّ هذا المقطع من الآية كلام مستأنف جاء لتعليل وجوب التبيّن «2». و تبعهم على ذلك بعض الاصوليّين «3» الّذين بحثوا هذه الآية هنا.
و لأجل ذلك قدّروا لكلمة «فتبيّنوا» مفعولًا، فقالوا مثلًا: معناه:
«فتبيّنوا صدقَه من كذبه». كما قدّروا لتحقيق نظم الآية و ربطها- لتصلح هذه الفقرة أن تكون تعليلًا- كلمةً تدلّ على التعليل بأن قالوا: معناها:
«خشية أن تصيبوا قوماً بجهالة» أو «حذارَ أن تصيبوا» أو «لئلّا تصيبوا قوماً» ... و نحو ذلك.
و هذه التقديرات كلّها تكلّف و تمحّل لا تساعد عليها قرينة و لا قاعدة عربيّة. و من العجيب! أن يؤخذ ذلك بنظر الاعتبار و يرسل إرسالَ المسلَّمات.
و الّذي ارجّحه: أنّ مقتضى سياق الكلام و الاتّساق مع اصول القواعد العربيّة أن يكون قوله: «أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً ...» مفعولًا ل «تبيّنوا» فيكون معناه: «فتثبّتوا و احذروا إصابةَ قومٍ بجهالة».
و الظاهر أنّ قوله تعالى: «فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهالَةٍ» يكون كنايةً عن لازم معناه، و هو عدم حجّية خبر الفاسق، لأنّه لو كان حجّة لما دعا إلى الحذر من إصابة قوم بجهالة عند العمل به ثمّ من الندم على العمل به.
______________________________
(1) كتاب السبعة في القراءات لابن مجاهد: ص 236، و تفسير القرطبي: ج 16 ص 312.
(2) راجع التبيان و مجمع البيان ذيل الآية 6 من سورة الحجرات، و الميزان: ج 18 ص 312.
(3) انظر فرائد الاصول: ج 1 ص 117.
أصول الفقه ( مظفر، محمد رضا - طبع انتشارات اسلامى )، ج3، ص: 78
3- «الجهالة»: اسم مأخوذ من الجهل أو مصدر ثانٍ له، قال عنها أهل اللغة: «الجهالة: أن تفعل فعلًا بغير العلم» ثمّ هم [الّذين] «1» فسّروا الجهل بأنّه المقابل للعلم عبّروا عنه تارةً بتقابل التضادّ، و اخرى بتقابل النقيض.
و إن كان الأصحّ في التعبير العلمي أنّه من تقابل العدم و الملكة.
و الّذي يبدو لي من تتبّع استعمال كلمة «الجهل» و مشتقّاتها في اصول اللغة العربيّة: أنّ إعطاء لفظ «الجهل» معنى يقابل «العلم» بهذا التحديد الضيّق لمعناه جاء مصطلحاً جديداً عند المسلمين في عهدهم لنقل الفلسفة اليونانيّة إلى العربيّة الّذي استدعى تحديد معاني كثير من الألفاظ و كسبها إطاراً يناسب الأفكار الفلسفيّة، و إلّا فالجهل في أصل اللغة كان يعطي معنى يقابل الحكمة و التعقّل و الرويّة، فهو يؤدّي تقريباً معنى السفه أو الفعل السفهي عند ما يكون عن غضب مثلًا و حماقة و عدم بصيرة و علم.
و على كلّ حال، هو بمعناه الواسع اللغوي يلتقي مع معنى الجهل المقابل، للعلم الّذي صار مصطلحاً علميّاً بعد ذلك. و لكنّه ليس هو إيّاه.
وعليه، فيكون معنى «الجهالة» أن تفعل فعلًا بغير حكمة و تعقّل و رويّة الّذي لازمه عادةً إصابة عدم الواقع و الحقّ.
إذا عرفت هذه الشروح لمفردات الآية الكريمة يتّضح لك معناها و ما تؤدّي إليه من دلالةٍ على المقصود في المقام:
إنّها تعطي أنّ النبأ من شأنه أن يصدّق به عند الناس و يؤخذ به من جهة أنّ ذلك من سيرتهم، و إلّا فلما ذا نهي عن الأخذ بخبر الفاسق من جهة أنّه فاسق؟ فأراد تعالى أن يلفت أنظار المؤمنين إلى أنّه لا ينبغي أن يعتمدوا كلّ خبرٍ من أيّ مصدرٍ كان، بل إذا جاء به فاسق ينبغي ألّا يؤخذ
أصول الفقه ( مظفر، محمد رضا - طبع انتشارات اسلامى )، ج3، ص: 79
به بلا تروٍّ و إنما يجب فيه أن يتثبّتوا أن يصيبوا قوماً بجهالة، أي بفعل ما فيه سَفَهٌ و عدم حكمة قد يضرّ بالقوم. و السرّ في ذلك: أنّ المتوقّع من الفاسق ألّا يصدق في خبره، فلا ينبغي أن يصدَّق و يُعمل بخبره.
فتدلّ الآية بحسب المفهوم على أنّ خبر العادل يتوقّع منه الصدق، فلا يجب فيه الحذر و التثبّت من إصابة قوم بجهالة. و لازم ذلك أنّه حجّة.
و الّذي نقوله و نستفيده و له دخل في استفادة المطلوب من الآية: أنّ «النبأ» في مفروض الآية ممّا يُعتمد عليه عند الناس و تعارفوا الأخذ به بلا تثبّتٍ. و إلّا لما كانت حاجة للأمر فيه بالتبيّن في خبر الفاسق إذا كان «النبأ» من جهة ما هو نبأ لا يعمل به الناس.
و لمّا علّقت الآية وجوبَ التبيّن و التثبّت على مجيء الفاسق يظهر منه- بمقتضى مفهوم الشرط- أنّ خبر العادل ليس له هذا الشأن، بل الناس لهم أن يبقوا فيه على سجيّتهم من الأخذ به و تصديقه من دون تثبّتٍ و تبيّنٍ لمعرفة صدقه من كذبه من جهة خوف إصابة قوم بجهالة. و طبعاً لا يكون ذلك إلّا من جهة اعتبار خبر العادل و حجّيته، لأنّ المترقّب منه الصدق.
فيكشف ذلك عن حجّية قول العادل عند الشارع و إلغاء احتمال الخلاف فيه.
و الظاهر أنّ بهذا البيان للآية يرتفع كثير من الشكوك الّتي قيلت على الاستدلال بها على المطلوب «1». فلا نطيل في ذكرها و ردّها.
الآية الثانية- آية النفر:
و هي قوله تعالى في سورة التوبة 123: «وَ ما كانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا
______________________________
(1) قال الشيخ الأعظم الأنصاري: فقد اورد على الآية إيرادات كثيرة ربما تبلغ إلى نيِّفٍ و عشرين، فرائد الاصول: ج 1 ص 117.
أصول الفقه ( مظفر، محمد رضا - طبع انتشارات اسلامى )، ج3، ص: 80
إنّ الاستدلال بهذه الآية الكريمة على المطلوب يتمّ بمرحلتين من البيان:
1- الكلام في صدر الآية: «وَ ما كانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً» تمهيداً للاستدلال، فإنّ الظاهر من هذه الفقرة نفي وجوب النفر على المؤمنين كافّة «1» و المراد من النفر- بقرينة باقي الآية- النفر إلى الرسول للتفقّه في الدين، لا النفر إلى الجهاد و إن كانت الآيات الّتي قبلها واردة في الجهاد، فإنّ ذلك وحدَه غير كافٍ ليكون قرينة مع ظهور باقي الآية في النفر إلى التعلّم و التفقّه. إنّ الكلام الواحد يفسّر بعضه بعضاً.
و هذه الفقرة إمّا جملة خبرية يراد بها إنشاء نفي الوجوب، فتكون في الحقيقة جملة إنشائيّة. و إمّا جملة خبريّة يراد بها الإخبار جدّاً عن عدم وقوعه من الجميع إمّا لاستحالته عادةً أو لتعذّره اللازم له عدم وجوب النفر عليهم جميعاً، فتكون دالّة بالدلالة الالتزاميّة على عدم جعل مثل هذا الوجوب من الشارع. و على كلا الحالين فهي تدلّ على عدم تشريع وجوب النفر على كلّ واحدٍ واحدٍ إِمّا إنشاءً أو إخباراً.
و لكن ليس من شأن الشارع بما هو شارع أن ينفي وجوب شيء إنشاءً أو إخباراً إلّا إذا كان في مقام رفع توهّم الوجوب لذلك الشيء أو اعتقاده. و اعتقاد وجوب النفر أمر متوقّع لدى العقلاء، لأنّ التعلّم واجب عقلي على كلّ أحد و تحصيل اليقين فيه المنحصر عادة في مشافهة
______________________________
(1) (*) يستفيد بعضهم من الآية النهي عن نفر الكافّة. و هي استفادة بعيدة جدّاً، و ليست كلمة «ما» من أدوات النهي. إذاً ليس لهذه الآية أكثر من الدلالة على نفي الوجوب.
أصول الفقه ( مظفر، محمد رضا - طبع انتشارات اسلامى )، ج3، ص: 81
الرسول أيضاً واجب عقلي. فحقّ أن يعتقد المؤمنون بوجوب النفر إلى الرسول شرعاً لتحصيل المعرفة بالأحكام.
و من جهة اخرى، فإنّه ممّا لا شبهة فيه أنّ نفر جميع المؤمنين في جميع أقطار الإسلام إلى الرسول لأخذ الأحكام منه بلا واسطة كلّما عنت حاجة و عرضت لهم مسألة أمر ليس عمليّاً من جهات كثيرة، فضلًا عمّا فيه من مشقّة عظيمة لا توصف، بل هو مستحيل عادةً.
إذا عرفت ذلك فنقول: إنّ اللَّه تعالى أراد بهذه الفقرة- و اللَّه العالم- أن يرفع عنهم هذه الكلفة و المشقّة برفع وجوب النفر رحمةً بالمؤمنين. و لكن هذا التخفيف ليس معناه أن يستلزم رفع أصل وجوب التفقّه، بل الضرورات تُقدّر بقدرها. و لا شكّ أن التخفيف يحصل برفع الوجوب على كلّ واحدٍ واحدٍ، فلا بدّ من علاجٍ لهذا الأمر اللازم تحقيقه على كلّ حال- و هو التعلّم- بتشريع طريقة اخرى للتعلّم غير طريقة التعلّم اليقيني من نفس لسان الرسول. و قد بيّنت بقيّة الآية هذا العلاج و هذه الطريقة و هو قوله تعالى: «فَلَوْ لا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ ...» و التفريع بالفاء شاهد على أنّ هذا علاج متفرّع على نفي وجوب النفر على الجميع.
و من هذا البيان يظهر أنّ هذه الفقرة (صدر الآية) لها الدخل الكبير في فهم الباقي من الآية الّذي هو موضع الاستدلال على حجّية خبر الواحد.
و قد أغفل هذه الناحية المستدلّون بهذه الآية على المطلوب، فلم يوجّهوا الارتباط بين صدر الآية و بقيّتها للاستدلال بها، على نحو ما يأتي.
2- الكلام عن نفس موقع الاستدلال من الآية على حجّية خبر الواحد المتفرّع هذا الموقع على صدرها، لمكان فاء التفريع.
إنّه تعالى بعد أن بيَّن عدم وجوب النفر على كلّ واحدٍ واحدٍ تخفيفاً
أصول الفقه ( مظفر، محمد رضا - طبع انتشارات اسلامى )، ج3، ص: 82
عليهم حرّضهم على اتّباع طريقة اخرى بدلالة «لو لا» الّتي هي للتحضيض، و الطريقة هي أن ينفر قسم من كلّ قوم ليرجعوا إلى قومهم فيبلّغونهم الأحكام بعد أن يتفقّهوا في الدين و يتعلّموا الأحكام. و هو في الواقع خير علاجٍ لتحصيل التعليم بل الأمر منحصر فيه.
فالآية الكريمة بمجموعها تقرّر أمراً عقليّاً و هو وجوب المعرفة و التعلّم، و إذ تعذّرت المعرفة اليقينيّة بنفر كلّ واحد إلى النبيّ ليتفقّه في الدين فلم يجب، رخّص اللَّه تعالى لهم لتحصيل تلك الغاية- أعني التعلّم- بأن ينفر طائفة من كلّ فرقة. و الطائفة المتفقّهة هي الّتي تتولّى حينئذٍ تعليم الباقين من قومهم، بل ليس «1» قد رخّصهم فقط بذلك و إنّما أوجب عليهم أن ينفر طائفة من كلّ قوم. و يستفاد الوجوب من «لو لا» التحضيضيّة و من الغاية من النفر، و هو التفقّه لإنذار القوم الباقين لأجل أن يحذروا من العقاب؛ مضافاً إلى أنّ أصل التعلّم واجب عقلي كما قرّرنا.
كلّ ذلك شواهد ظاهرة على وجوب تفقّه جماعة من كلّ قوم لأجل تعليم قومهم الحلال و الحرام. و يكون ذلك- طبعاً- وجوباً كفائيّاً.
و إذا استفدنا وجوب تفقّه كلّ طائفة من كلّ قوم أو تشريع ذلك بالترخيص فيه على الأقلّ لغرض إنذار قومهم إذا رجعوا إليهم، فلا بدّ أن نستفيد من ذلك أنّ نقلهم للأحكام قد جعله اللَّه تعالى حجّة على الآخرين و إلّا لكان تشريع هذا النفر على نحو الوجوب أو الترخيص لغواً بلا فائدة بعد أن نفى وجوب النفر على الجميع. بل لو لم يكن نقل الأحكام حجّة لما بقيت طريقة لتعلّم الأحكام تكون معذّرة للمكلّف و حجّة له أو عليه.
______________________________
(1) في ط 2 بدل «ليس»: إنّه لم يكن.
أصول الفقه ( مظفر، محمد رضا - طبع انتشارات اسلامى )، ج3، ص: 83
و الحاصل: أنّ رفع وجوب النفر على الجميع و الاكتفاء بنفر قسمٍ منهم ليتفقّهوا في الدين و يعلّموا الآخرين «1» بمجموعه دليل واضح على حجية نقل الأحكام في الجملة و إن لم يستلزم العلم اليقيني، لأنّ الآية من ناحية اشتراط الإنذار بما يوجب العلم مطلقة، فكذلك تكون مطلقة من ناحية قبول الإنذار و التعليم، و إلّا كان هذا التدبير الّذي شرّعه اللَّه لغواً و بلا فائدة و غير محصّل للغرض الّذي من أجله كان النفر و تشريعه.
هكذا ينبغي أن تُفهم الآية الكريمة في الاستدلال على المطلوب [و اللَّه أعلم بأسرار آياته] «2» و بهذا البيان يندفع كثير ممّا اورد على الاستدلال بها للمطلوب.
و ينبغي ألّا يخفى «3»: أنّه لا يتوقّف الاستدلال بها على أن يكون نفر الطائفة من كلّ قوم واجباً، بل يكفي ثبوت أنّ هذه الطريقة مشرعة من قبل اللَّه و إن كان بنحو الترخيص بها، لأنّ نفس تشريعها يستلزم تشريع حجّية نقل الأحكام من المتفقّه؛ فلذلك لا تبقى حاجة إلى التطويل في استفادة الوجوب.
كما أن الاستدلال بها لا يتوقف على كون الحذر عند إنذار النافرين المتفقّهين واجباً و استفادة ذلك من «لعلّ» أو من أصل حسن الحذر، بل الأمر بالعكس، فإنّ نفس جعل حجّية قول النافرين المتفقّهين المستفاد من الآية يكون دليلًا على وجوب الحذر.
نعم يبقى شيء، و هو أنّ الواجب أن ينفر من كلّ فرقة طائفة، و الطائفة ثلاثة فأكثر، أو اكثر من ثلاثة، و حينئذٍ لا تشمل الآية خبر الشخص
______________________________
(1) في ط زيادة: هو.
(2) لم يرد في ط 2.
(3) في ط 2 زيادة: عليكم.
أصول الفقه ( مظفر، محمد رضا - طبع انتشارات اسلامى )، ج3، ص: 84
الواحد أو الاثنين. و لكن يمكن دفع ذلك بأنّه لا دلالة في الآية على أنّه يجب في الطائفة أن ينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم مجتمعين بشرط الاجتماع، فالآية من هذه الناحية مطلقة، و بمقتضى إطلاقها يكون خبر الواحد لو انفرد بالإخبار حجّة أيضاً، يعني أنّ العموم فيها أفرادي لا مجموعي.
تنبيه مهمّ «1»:
إنّ هذه الآية الكريمة تدلّ أيضاً على وجوب قبول فتوى المجتهد بالنسبة إلى العامّيّ، كما دلّت على وجوب قبول خبر الواحد. و ذلك ظاهر، لأنّ كلمة «التفقّه» عامّة للطرفين. و قد أفاد ذلك شيخنا النائيني قدس سره- كما في تقريرات بعض الأساطين من تلامذته- فإنه قال: إنّ التفقّه في العصور المتأخّرة و إن كان هو استنباط الحكم الشرعي بتنقيح جهات ثلاث:
الصدور وجهة الصدور و الدلالة، و من المعلوم: أنّ تنقيح الجهتين الأخيرتين ممّا يحتاج إلى إعمال النظر و الدقّة، إلّا أنّ التفقّه في الصدر الأوّل لم يكن محتاجاً إلّا إلى إثبات الصدور ليس إلّا، لكن اختلاف محقّق التفقّه باختلاف الأزمنة لا يوجب اختلافاً في مفهومه، فكما أنّ العارف بالأحكام الشرعيّة بإعمال النظر و الفكر يصدق عليه «الفقيه» كذلك العارف بها من دون إعمال النظر و الفكر يصدق عليه «الفقيه» حقيقة «2».
و بمقتضى عموم «التفقّه» فإنّ الآية الكريمة أيضاً تدلّ على وجوب الاجتهاد في العصور المتأخّرة عن عصور المعصومين وجوباً كفائيّاً،
______________________________
(1) لم يرد «مهمّ» في ط 2.
(2) أجود التقريرات: ج 2 ص 110.
أصول الفقه ( مظفر، محمد رضا - طبع انتشارات اسلامى )، ج3، ص: 85
بمعنى أنّه يجب على كلّ قومٍ أن ينفر منهم طائفة فيرحلوا لتحصيل التفقّه- و هو الاجتهاد- لينذروا قومهم إذا رجعوا اليهم. كما تدلّ أيضاً بالملازمة الّتي سبق ذكرها على حجّية قول المجتهد على الناس الآخرين و وجوب قبول فتواه عليهم.
الآية الثالثة- آية حرمة الكتمان:
و هي قوله تعالى في سورة البقرة 159: «إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ ما أَنْزَلْنا مِنَ الْبَيِّناتِ وَ الْهُدى مِنْ بَعْدِ ما بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتابِ أُولئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ ...».
وجه الاستدلال بها يشبه الاستدلال بآية النفر، فإنّه لمّا حرّم اللَّه تعالى كتمان البيّنات و الهدى وجب أن يقبل قول من يُظهر البيّنات و الهدى و يبيّنه للناس و إن كان ذلك المُظهر و المبيّن واحداً لا يوجب قوله العلم، و إلا لكان تحريم الكتمان لغواً و بلا فائدة لو لم يكن قوله حجّة مطلقا.
و الحاصل: أنّ هناك ملازمة عقليّة بين وجوب الإظهار و وجوب القبول، و إلّا لكان وجوب الإظهار لغواً و بلا فائدة. و لمّا كان وجوب الإظهار لم يشترط فيه أن يكون الإظهار موجباً للعلم فكذلك لازمه و هو وجوب القبول لا بدّ أن يكون مطلقاً من هذه الناحية غير مشترط فيه بما يوجب العلم. و على هذا الأساس من الملازمة قلنا بدلالة آية النفر على حجّية خبر الواحد و حجّية فتوى المجتهد.
و لكنّ الإنصاف: أن الاستدلال لا يتمّ بهذه الآية الكريمة، بل هي أجنبيّة جدّاً عمّا نحن فيه، لأنّ ما نحن فيه- و هو حجّية خبر الواحد- أن يظهر المخبر شيئاً لم يكن ظاهراً و يعلّم ما تعلّم من أحكام غير معلومة للآخرين كما في آية النفر، فإذا وجب التعليم و الإظهار وجب قبوله على
أصول الفقه ( مظفر، محمد رضا - طبع انتشارات اسلامى )، ج3، ص: 86
الآخرين، و إلّا كان وجوب التعليم و الإظهار لغواً، و أمّا هذه الآية فهي واردة في مورد كتمان ما هو ظاهر و بيِّن للناس جميعاً، بدليل قوله تعالى:
«مِنْ بَعْدِ ما بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتابِ» لا إظهار ما هو خفيّ على الآخرين.
و الغرض: أنّ هذه الآية واردة في مورد ما هو بيِّن واجب القبول سواء كتم أم أظهر، لا في موردٍ يكون قبوله من جهة الإظهار حتّى تكون ملازمة بين وجوب القبول و حرمة الكتمان، فيقال: «لو لم يُقبل لما حرم الكتمان». و بهذا يظهر الفرق بين هذه الآية و آية النفر.
و ينسق على هذه الآية باقي الآيات الاخر الّتي ذكرت للاستدلال بها على المطلوب، فلا نطيل بذكرها.
- ب- دليل حجّية خبر الواحد من السنّة
من البديهي أنّه لا يصحّ الاستدلال على حجّية خبر الواحد بنفس خبر الواحد، فإنّه دور ظاهر، بل لا بدّ أن تكون الأخبار المستدلّ بها على حجّيته معلومة الصدور من المعصومين، إمّا بتواتر أو قرينة قطعيّة.
و لا شكّ في أنّه ليس في أيدينا من الأخبار ما هو متواتر بلفظه في هذا المضمون و إنّما كلّ ما قيل هو تواتر الأخبار معنىً في حجّية خبر الواحد إذا كان ثقة مؤتمناً في الرواية، كما رآه الشيخ الحرّ صاحب الوسائل «1». و هذه دعوى غير بعيدة، فإنّ المتتبّع يكاد يقطع جازماً بتواتر الأخبار في هذا المعنى، بل هي بالفعل متواترة لا ينبغي أن يعتري فيها
______________________________
(1) انظر الوسائل: ج 20 ص 98، الفائدة التاسعة.
أصول الفقه ( مظفر، محمد رضا - طبع انتشارات اسلامى )، ج3، ص: 87
الريب للمنصف «1».
و قد ذكر الشيخ الأنصاري- قدّس اللَّه نفسه الزكيّة- طوائف من الأخبار، يحصل بانضمام بعضها إلى بعضٍ العلم بحجّية خبر الواحد الثقة المأمون من الكذب في الشريعة، و أنّ هذا أمر مفروغ عنه عند آل البيت عليهم السلام.
و نحن نشير إلى هذه الطوائف على الإجمال و على الطالب أن يرجع إلى الوسائل (كتاب القضاء) «2» و إلى رسائل الشيخ في حجّية خبر الواحد «3» للاطّلاع على تفاصيلها.
الطائفة الاولى: ما ورد في الخبرين المتعارضين في الأخذ بالمرجّحات، كالأعدل و الأصدق و المشهور ثمّ التخيير عند التساوي «4».
و سيأتي ذكر بعضها في باب التعادل و التراجيح. و لو لا أنّ خبر الواحد الثقة حجّة لما كان معنى لفرض التعارض بين الخبرين، و لا معنى للترجيح بالمرجّحات المذكورة و التخيير عند عدم المرجّح، كما هو واضح.
الطائفة الثانية: ما ورد في إرجاع آحاد الرواة إلى آحاد أصحاب الأئمة عليهم السلام على وجهٍ يظهر فيه عدم الفرق في الإرجاع بين الفتوى و الرواية، مثل إرجاعه عليه السلام إلى زرارة بقوله: «إذا أردت حديثاً فعليك بهذا الجالس» «5»
______________________________
(1) (*) إنّ الشيخ صاحب الكفاية لم يتّضح له تواتر الأخبار معنىً، و إنّما أقصى ما اعترف به «أنّها متواترة إجمالًا» و غرضه من التواتر الإجمالي هو العلم بصدور بعضها عنهم عليهم السلام يقيناً. و تسمية ذلك بالتواتر مسامحة ظاهرة.
(2) راجع الوسائل: ج 18 ص 98، الباب 11 من أبواب صفات القاضي.
(3) راجع فرائد الاصول: ج 1 ص 137- 144.
(4) راجع الوسائل: ج 18 ص 75، الباب 9 من أبواب صفات القاضي.
(5) الكشّي: ص 136، ح 216.
أصول الفقه ( مظفر، محمد رضا - طبع انتشارات اسلامى )، ج3، ص: 88
يشير بذلك إلى زرارة. و مثل قوله عليه السلام لمّا قال له عبد العزيز بن المهتدي:
ربما أحتاج و لست ألقاك في كلّ وقت، أ فيونس بن عبد الرحمان ثقة آخذ عنه معالم ديني؟ قال: نعم «1».
قال الشيخ الأعظم: و ظاهر هذه الرواية أنّ قبول قول الثقة كان أمراً مفروغاً عنه عند الراوي، فسأل عن وثاقة يونس ليرتّب عليه أخذَ المعالم منه «2».
إلى غير ذلك من الروايات الّتي تنسق على هذا المضمون و نحوه.
الطائفة الثالثة: ما دلّ على وجوب الرجوع إلى الرواة و الثقات و العلماء، مثل قوله عليه السلام: «و أمّا الحوادث الواقعة فارجعوا فيها إلى رواة حديثنا، فإنّهم حجّتي عليكم و أنا حجّة اللَّه عليهم» «3» ... إلى ما شاء اللَّه من الروايات في أمثال هذا المعنى.
الطائفة الرابعة: ما دلّ على الترغيب في الرواية و الحثّ عليها و كتابتها و إبلاغها، مثل الحديث النبوي المستفيض بل المتواتر: «من حفظ على امّتي أربعين حديثاً بعثه اللَّه فقيهاً عالماً يوم القيامة» «4» الّذي لأجله صنّف كثير من العلماء الأربعينيّات. و مثل قوله عليه السلام للراوي: «اكتب و بثّ علمك في بني عمّك، فإنّه يأتي زمان هرج لا يأنسون إلّا بكتبهم» «5» إلى غير ذلك من الأحاديث.
______________________________
(1) الوسائل: ج 18 ص 107 باب 11 من أبواب صفات القاضي ح 33.
(2) فرائد الاصول: ج 1 ص 139.
(3) الوسائل: ج 18 ص 101، الباب 11 من أبواب صفات القاضي، ح 9.
(4) الوسائل: ج 18 ص 54، الباب 8 من أبواب صفات القاضي، ح 5، 6 و ...
(5) الوسائل: ج 18 ص 56، الباب 8 من أبواب صفات القاضي، ح 18، و فيه بدل «بني عمّك»: إخوانك.
أصول الفقه ( مظفر، محمد رضا - طبع انتشارات اسلامى )، ج3، ص: 89
الطائفة الخامسة: ما دلّ على ذمّ الكذب عليهم و التحذير من الكذّابين عليهم «1» فإنّه لو لم يكن الأخذ بأخبار الآحاد أمراً معروفاً بين المسلمين لما كان مجال للكذب عليهم، و لما كان مورد للخوف من الكذب عليهم و لا التحذير من الكذّابين، لأنّه لا أثر للكذب لو كان خبر الواحد على كلّ حالٍ غير مقبول عند المسلمين.
قال الشيخ الأعظم بعد نقله لهذه الطوائف من الأخبار- و هو على حقّ فيما قال [و لقد أجاد فيما أفاد] «2»-: إلى غير ذلك من الأخبار الّتي يستفاد من مجموعها رضى الأئمّة بالعمل بالخبر و إن لم يفد القطع، و قد ادّعى في الوسائل تواتر الأخبار بالعمل بخبر الثقة، إلّا أنّ القدر المتيقّن منها هو خبر الثقة الّذي يضعف فيه احتمال الكذب على وجهٍ لا يعتني به العقلاء و يقبّحون التوقّف فيه لأجل ذلك الاحتمال، كما دلّ عليه ألفاظ «الثقة» و «المأمون» و «الصادق» و غيرها الواردة في الأخبار المتقدّمة، و هي أيضاً منصرف إطلاق غيرها «3».
و أضاف «4»: و أمّا «العدالة» فأكثر الأخبار المتقدّمة خالية عنها، بل و في كثير منها التصريح بخلافه «5».
- ج دليل حجّية خبر الواحد من الإجماع
حكى جماعة كبيرة تصريحاً و تلويحاً الإجماع من قبل علماء الإماميّة على حجّية خبر الواحد إذا كان ثقةً مأموناً في نقله و إن لم يفد
______________________________
(1) الوسائل: ج 18 ص 95، الباب 10 من أبواب صفات القاضي، ح 20.
(2) لم يرد في ط 2.
(3) فرائد الاصول: ج 1 ص 144.
(4) في ط الاولى بدل «و أضاف»: ثمّ قال و نعم ما قال.
(5) فرائد الاصول: ج 1 ص 144.
أصول الفقه ( مظفر، محمد رضا - طبع انتشارات اسلامى )، ج3، ص: 90
خبره العلم. و على رأس الحاكين للإجماع شيخ الطائفة الطوسي- أعلى اللَّه مقامه- في كتابه العدّة (ج 1 ص 47) «1» لكنّه اشترط فيما اختاره من الرأي و حكى عليه الإجماع: أن يكون خبر الواحد وارداً من طريق أصحابنا القائلين بالإمامة، و كان ذلك مرويّاً عن النبيّ أو عن الواحد من الأئمّة، و كان ممّن لا يُطعن في روايته و يكون سديداً في نقله. و تبعه على ذلك في التصريح بالإجماع السيّد رضي الدين بن طاووس «2» و العلّامة الحلّي في النهاية «3» و المحدّث المجلسي في بعض رسائله «4» كما حكى ذلك عنهم الشيخ الأعظم في الرسائل «5».
و في مقابل ذلك حكى جماعة اخرى إجماع الإماميّة على عدم الحجّية. و على رأسهم السيّد الشريف المرتضى- أعلى اللَّه درجته- و جعله بمنزلة القياس في كون ترك العمل به معروفاً من مذهب الشيعة «6». و تبعه على ذلك الشيخ ابن إدريس في السرائر و نقل كلاماً للسيّد المرتضى في المقدّمة، و انتقد في أكثر من موضع في كتابه «7» الشيخ الطوسي في عمله بخبر الواحد، و كرّر تبعاً للسيّد قوله:
«إنّ خبر الواحد لا يوجب علماً و لا عملًا» «8» و كذلك نقل عن الطبرسي- صاحب مجمع البيان- تصريحَه في نقل الإجماع على عدم العمل بخبر الواحد «9».
______________________________
(1) الصفحة 126 من الطبعة الحديثة.
(2) لم نقف على مأخذه في غير فرائد الاصول.
(3) نهاية الوصول: الورقة 139.
(4) لم نظفر بالرسالة، قال في البحار (ج 2 ص 245): و عمل أصحاب الأئمّة عليهم السلام على أخبار الآحاد الّتي لا تفيد العلم في أعصارهم متواتر بالمعنى لا يمكن إنكاره.
(5) فرائد الاصول: ج 1 ص 156- 157.
(6) رسائل الشريف المرتضى (المجموعة الاولى): ص 211.
(7) في ط الاولى: و شنّع ... على الشيخ الطوسي.
(8) راجع السرائر: ج 1 ص 47، 50، 127، 267.
(9) مجمع البيان ذيل الآية 6 من سورة الحجرات.
أصول الفقه ( مظفر، محمد رضا - طبع انتشارات اسلامى )، ج3، ص: 91
و الغريب في الباب! وقوع مثل هذا التدافع بين نقل الشيخ و السيّد عن إجماع الإماميّة، مع أنّهما متعاصران بل الأوّل تَلْمَّذَ على الثاني، و هما الخبيران العالمان بمذهب الإماميّة، و ليس من شأنهما أن يحكيا مثل هذا الأمر بدون تثبّتٍ و خبرةٍ كاملة.
فلذلك وقع الباحثون في حيرة عظيمة من أجل التوفيق بين نقليهما.
و قد حكى الشيخ الأعظم في الرسائل وجوهاً للجمع: مثل أن يكون مراد السيّد المرتضى من «خبر الواحد»- الّذي حكى الإجماع على عدم العمل به- هو خبر الواحد الّذي يرويه مخالفونا «1» و الشيخ يتّفق معه على ذلك. و قيل: يجوز أن يكون مراده من «خبر الواحد» ما يقابل المأخوذ من الثقات المحفوظ في الاصول المعمول بها عند جميع خواصّ الطائفة «2» و حينئذٍ يتقارب مع الشيخ في الحكاية عن الإجماع. و قيل:
يجوز أن يكون مراد الشيخ من «خبر الواحد» خبر الواحد المحفوظ بالقرائن المفيدة للعلم بصدقه «3» فيتّفق حينئذٍ نقله مع نقل السيّد.
و هذه الوجوه من التوجيهات قد استحسن الشيخ الأعظم منها الأوّل ثمّ الثاني. و لكنّه يرى أنّ الأرجح من الجميع ما ذكره هو من الوجه «4» و أكّد عليه أكثر من مرّة، فقال:
و يمكن الجمع بينهما بوجه أحسن، و هو أنّ مراد السيّد من «العلم»
______________________________
(1) راجع فرائد الاصول: ج 1 ص 112 و 156.
(2) راجع فرائد الاصول: ج 1 ص 112 و 156.
(3) راجع فرائد الاصول: ج 1 ص 112 و 156.
(4) ذكر المحقّق الآشتياني في حاشيته على الرسائل في هذا الموقع: أنّ هذا الوجه من التوجيه سبق إليه بعض أفاضل المتأخّرين، و هو المحقّق النراقي- صاحب المناهج- و نقل نصّ عبارته.
أصول الفقه ( مظفر، محمد رضا - طبع انتشارات اسلامى )، ج3، ص: 92
الّذي ادّعاه في صدق الأخبار هو مجرّد الاطمئنان، فإنّ المحكيّ عنه في تعريف العلم أنّه «ما اقتضى سكون النفس» و هو الّذي ادّعى بعض الأخباريّين أنّ مرادنا من العلم بصدور الأخبار هو هذا المعنى، لا اليقين الّذي لا يقبل الاحتمال رأساً. فمراد الشيخ من تجرّد هذه الأخبار عن القرائن تجرّدها عن القرائن الأربع الّتي ذكرها أوّلًا، و هي: موافقة الكتاب و السنّة و الإجماع و الدليل العقلي. و مراد السيّد من القرائن الّتي ادّعى في عبارته المتقدّمة «1» احتفاف أكثر الأخبار بها، هي الامور الموجبة للوثوق بالراوي أو بالرواية، بمعنى سكون النفس بهما و ركونها إليهما.
ثمّ قال: و لعلّ هذا الوجه أحسن وجوه الجمع بين كلامي الشيخ و السيّد، خصوصاً مع ملاحظة تصريح السيّد في كلامه بأنّ أكثر الأخبار متواترة أو محفوفة، و تصريح الشيخ في كلامه المتقدّم بإنكار ذلك «2».
هذا ما أفاده الشيخ الأنصاري في توجيه كلام هذين العلمين. و لكنّي لا أحسب أنّ السيّد المرتضى يرتضي بهذا الجمع، لأنّه صرّح في عبارته- المنقولة في مقدمة السرائر- بأنّ مراده من «العلم» القطع الجازم، قال:
اعلم أنّه لا بدّ في الأحكام الشرعيّة من طريقٍ يوصل إلى العلم بها، لأنّه متى لم نعلم الحكم و نقطع بالعلم على أنّه مصلحة جوّزنا كونه مفسدة.
و أصرح منه «3» قوله بعد ذلك: و لذلك أبطلنا في الشريعة العمل بأخبار الآحاد لأنّها لا توجب علماً و لا عملًا، و أوجبنا أن يكون العمل تابعاً للعلم لأنّ خبر الواحد إذا كان عدلًا فغاية ما يقتضيه الظنّ لصدقه «4» و من
______________________________
(1) (*) غرضه من «عبارته المتقدّمة» عبارته الّتي نقلها في السرائر عن السيّد، و قد نقلها الشيخ الأعظم في الرسائل.
(2) فرائد الاصول: ج 1 ص 156.
(3) (**) إنّما قلت: «أصرح منه» لأنّه يحتمل في العبارة المتقدّمة أنّه يريد من «العلم» ما يعمّ العلم بالحكم و العلم بمشروعيّة الطريق إليه و إن كان الطريق في نفسه ظنّياً. و هذا الاحتمال لا يتطرّق إلى عبارته الثانية.
(4) بصدقه، ظ.
أصول الفقه ( مظفر، محمد رضا - طبع انتشارات اسلامى )، ج3، ص: 93
ظننتَ صدقَه يجوز أن يكون كاذباً و إن ظننتَ به الصدق، فإن الظنّ لا يمنع من التجويز، فعاد الأمر في العمل بأخبار الآحاد إلى أنّه إقدام على ما لا نأمن من كونه فساداً أو غير صلاح «1».
هذا، و يحتمل احتمالًا بعيداً: أنّ السيّد لم يرد من «التجويز»- الّذي قال عنه: إنّه لا يمنع منه الظنّ- كلَّ تجويزٍ حتّى الضعيف الذي لا يعتني به العقلاء و يجتمع مع اطمئنان النفس، بل أراد منه التجويز الّذي لا يجتمع مع اطمئنان النفس و يرفع الأمان بصدق الخبر.
و إنّما قلنا: إنّ هذا الاحتمال بعيد، لأنّه يدفعه: أنّ السيّد حصر في بعض عباراته ما يُثبت الأحكام عند من نأى عن المعصومين أو وجد بعدهم، حصره في خصوص الخبر المتواتر المفضي إلى العلم و إجماع الفرقة المحقّة لا غيرهما.
و أمّا تفسيره للعلم بسكون النفس فهذا تفسير شايع في عبارات المتقدّمين و منهم الشيخ نفسه في العُدّة. و الظاهر أنّهم يريدون من سكون النفس «الجزم القاطع» لا مجرّد الاطمئنان و إن لم يبلغ القطع كما هو متعارف التعبير به في لسان المتأخّرين.
نعم، لقد عمل السيّد المرتضى على خلاف ما أصّله هنا- و كذلك ابن إدريس الّذي تابعه في هذا القول- لأنّه كان كثيراً ما يأخذ بأخبار الآحاد الموثوقة المرويّة في كتب أصحابنا. و من العسير عليه و على غيره أن يدّعى تواترها جميعاً أو احتفافها بقرائن توجب القطع بصدورها. و على
______________________________
(1) السرائر: ج 1 ص 46 و 47.
أصول الفقه ( مظفر، محمد رضا - طبع انتشارات اسلامى )، ج3، ص: 94
ذلك جرت استنباطاته الفقهيّة. و كذلك ابن ادريس في السرائر. و لعلّ عمله هذا يكون قرينة على مراده من ذلك الكلام و مفسّراً له على نحو ما احتمله الشيخ الأنصاري.
و على كلّ حالٍ، سواء استطعنا تأويل كلام السيّد بما يوافق كلام الشيخ أو لم نستطع، فإنّ دعوى الشيخ إجماع الطائفة على اعتبار «خبر الواحد الموثوق به المأمون من الكذب و إن لم يكن عادلًا بالمعنى الخاصّ و لم يوجب قوله العلم القاطع» دعوى مقبولة و مؤيَّدة، يؤيّدها عمل جميع العلماء من لدن الصدر الأوّل إلى اليوم حتّى نفس السيّد و ابن إدريس كما ذكرنا، بل السيّد نفسه اعترف في بعض كلامه بعمل الطائفة بأخبار الآحاد.
إلّا أنّه ادّعى أنّه لمّا كان من المعلوم عدم عملهم بالأخبار المجرّدة- كعدم عملهم بالقياس- فلا بدّ من حمل موارد عملهم على الأخبار المحفوفة بالقرائن، قائلًا:
ليس ينبغي أن يرجع عن الامور المعلومة المشهورة المقطوع عليها (و يقصد بالامور المعلومة عدم عملهم بالظنون) إلى ما هو مشتبه و ملتبس و مجمل «1» (و يقصد بالمشتبه المجمل وجه عملهم بأخبار الآحاد) و قد علم كلّ موافق و مخالف أنّ الشيعة الإماميّة تُبطل القياس في الشريعة حيث لا يؤدّي إلى العلم، و كذلك نقول في أخبار الآحاد «2».
و نحن نقول للسيّد- أعلى اللَّه درجته-: صحيح أنّ المعلوم من طريقة الشيعة الإماميّة عدم عملهم بالظنون بما هي ظنون. و لكن خبر الواحد الثقة المأمون و ما سواه من الظنون المعتبرة- كالظواهر- إذا كانوا قد عملوا بها فإنّهم لم يعملوا بها إلّا لأنّها ظنون قام الدليل القاطع على
______________________________
(1) في المصدر: بما هو مشتبه ملتبس محتمل.
(2) رسائل الشريف المرتضى (المجموعة الاولى): ص 211.
أصول الفقه ( مظفر، محمد رضا - طبع انتشارات اسلامى )، ج3، ص: 95
اعتبارها و حجّيتها، فلم يكن العمل بها عملًا بالظنّ، بل يكون- بالأخير- عملًا بالعلم.
وعليه، فنحن نقول معه: «إنّه لا بدّ في الأحكام الشرعيّة من طريق يوصل إلى العلم بها، لأنّه متى لم نعلم الحكم و نقطع بالعلم على أنّه مصلحة جوّزنا كونه مفسدة» و خبر الواحد الثقة المأمون لمّا ثبت اعتباره فهو طريق يوصل إلى العلم بالأحكام، و نقطع بالعلم- على حدّ تعبيره- على أنّه مصلحة لا نجوّز كونه مفسدة.
و يؤيّد أيضاً دعوى الشيخ للإجماع قرائن كثيرة، ذكر جملةً منها الشيخ الأعظم في الرسائل: «1»
منها: ما ادّعاه الكشّي من إجماع العصابة على تصحيح ما يصحّ عن جماعة «2» فإنّه من المعلوم أنّ معنى التصحيح المجمع عليه هو عدّ خبره صحيحاً بمعنى عملهم به، لا القطع بصدوره، إذ الإجماع وقع على «التصحيح» لا على «الصحّة».
و منها: دعوى النجاشي أنّ مراسيل ابن أبي عمير مقبولة عند الأصحاب «3». و هذه العبارة من النجاشي تدلّ دلالة صريحة على عمل الأصحاب بمراسيل مثل ابن ابي عمير لا من أجل القطع بالصدور، بل لعلمهم أنّه لا يروي- أو لا يرسل- إلّا عن ثقة. إلى غير ذلك من القرائن الّتي ذكرها الشيخ الأعظم من هذا القبيل.
و عليك بمراجعة الرسائل في هذا الموضوع، فقد استوفت البحث أحسن استيفاء، و أجاد فيها الشيخ فيما أفاد، و ألمّت بالموضوع من جميع
______________________________
(1) فرائد الاصول: ج 1 ص 158.
(2) رجال الكشّي: ص 556، الرقم 1050.
(3) رجال النجاشي: 326، الرقم 887.
أصول الفقه ( مظفر، محمد رضا - طبع انتشارات اسلامى )، ج3، ص: 96
أطرافه، كعادته في جميع أبحاثه. و قد ختم البحث بقوله السديد:
و الإنصاف: أنّه لم يحصل في مسألة يُدّعى فيها الإجماع من الإجماعات المنقولة و الشهرة العظيمة و الأمارات الكثيرة الدالّة على العمل ما حصل في هذه المسألة، فالشاكّ في تحقّق الإجماع في هذه المسألة لا أراه يحصل له الإجماع في مسألة من المسائل الفقهيّة، اللّهمّ إلّا في ضروريّات المذهب.
و أضاف «1» لكن الإنصاف: أنّ المتيقّن من هذا كلّه الخبر المفيد للاطمئنان لا مطلق الظنّ «2».
و نحن له من المؤيّدين. جزاه اللَّه خير ما يجزي العلماء العاملين.
- د- دليل حجّية خبر الواحد من بناء العقلاء
إنّه من المعلوم قطعاً الّذي لا يعتريه الريب استقرار بناء العقلاء طرّاً و اتّفاق سيرتهم العمليّة- على اختلاف مشاربهم و أذواقهم- على الأخذ بخبر من يثقون بقوله و يطمئنّون إلى صدقه و يأمنون كذبه، و على اعتمادهم في تبليغ مقاصدهم على الثقات. و هذه السيرة العمليّة جارية حتّى في الأوامر الصادرة من ملوكهم و حكّامهم و ذوي الأمر منهم.
و سرّ هذه السيرة: أنّ الاحتمالات الضعيفة المقابلة ملغيةٌ «3» بنظرهم لا يعتنون بها، فلا يلتفتون إلى احتمال تعمّد الكذب من الثقة، كما لا يلتفتون إلى احتمال خطأه و اشتباهه أو غفلته.
______________________________
(1) في ط الاولى بدل «و أضاف»: ثمّ قال و نعم ما قال.
(2) فرائد الاصول: ج 1 ص 161.
(3) كذا، و القياس: ملغاة.
أصول الفقه ( مظفر، محمد رضا - طبع انتشارات اسلامى )، ج3، ص: 97
و كذلك أخذهم بظواهر الكلام و ظواهر الأفعال، فإنّ بناءهم العملي على إلغاء الاحتمالات الضعيفة المقابلة. و ذلك من كلّ ملّة و نحلة.
و على هذه السيرة العمليّة قامت معايش الناس و انتظمت حياة البشر، و لولاها لاختلّ نظامهم الاجتماعي و لسادهم الهرج و المرج «1» لقلّة ما يوجب العلم القطعي من الأخبار المتعارفة سنداً و متناً.
و المسلمون بالخصوص كسائر الناس جرت سيرتهم العمليّة على مثل ذلك في استفادة الأحكام الشرعيّة من القديم إلى يوم الناس هذا، لأنّهم متّحدو المسلك و الطريقة مع سائر البشر، كما جرت سيرتهم بما هم عقلاء على ذلك في غير الأحكام الشرعيّة.
أ لا ترى هل كان يتوقّف المسلمون من أخذ أحكامهم الدينيّة من أصحاب النبي صلى الله عليه و آله و سلم أو من أصحاب الأئمة عليهم السلام الموثوقين عندهم؟
و هل ترى هل يتوقّف المقلّدون اليوم و قبلَ اليوم في العمل بما يخبرهم الثقات عن رأي المجتهد الّذي يرجعون إليه؟
و هل ترى تتوقّف الزوجة في العمل بما يحكيه لها زوجها الّذي تطمئنّ إلى خبره عن رأي المجتهد في المسائل الّتي تخصّها كالحيض مثلًا؟
و إذا ثبتت سيرة العقلاء من الناس بما فيهم المسلمون على الأخذ بخبر الواحد الثقة، فإنّ الشارع المقدّس متّحد المسلك معهم، لأنّه منهم، بل هو رئيسهم، فلا بدّ أن نعلم بأنّه متّخذ لهذه الطريقة العقلائية كسائر الناس ما دام أنّه لم يثبت لنا أنّ له في تبليغ الأحكام طريقاً خاصّاً مخترعاً منه غير طريق العقلاء. و لو كان له طريق خاصّ قد اخترعه غير مسلك العقلاء لأذاعه و بيّنه للناس و لظهر و اشتهر، و لما جرت سيرة المسلمين على طبق سيرة باقي البشر.
______________________________
(1) في ط 2: لسادهم الاضطراب.
أصول الفقه ( مظفر، محمد رضا - طبع انتشارات اسلامى )، ج3، ص: 98
و هذا الدليل قطعي لا يداخله الشكّ، لأنّه مركّب من مقدّمتين قطعيّتين:
1- ثبوت بناء العقلاء على الاعتماد على خبر الثقة و الأخذ به.
2- كشف هذا البناء منهم عن موافقة الشارع لهم و اشتراكه معهم، لأنّه متّحد المسلك معهم.
قال شيخنا النائيني قدس سره كما في تقريرات تلميذه الكاظمي قدس سره (ج 3 ص 69): و أمّا طريقة العقلاء فهي عمدة أدلّة الباب بحيث لو فُرض أنّه كان سبيل إلى المناقشة في بقيّة الأدلّة فلا سبيل إلى المناقشة في الطريقة العقلائيّة القائمة على الاعتماد على خبر الثقة و الاتّكال عليه في محاوراتهم «1».
و أقصى ما قيل في الشك في هذا الاستدلال هو: إنّ الشارع لئن كان متّحد المسلك مع العقلاء فإنّما يستكشف موافقته لهم و رضاه بطريقتهم إذا لم يثبت الردع منه عنها. و يكفي في الردع الآيات الناهية عن اتّباع الظنّ و ما وراء العلم الّتي ذكرناها سابقاً في البحث السادس من المقدّمة «2» لأنّها بعمومها تشمل خبر الواحد غير المفيد للعلم.
و قد عالجنا هذا الأمر فيما يتعلّق بشمول هذه الآيات الناهية للاستصحاب في الجزء الرابع (مبحث الاستصحاب) فقلنا: إنّ هذه الآيات غير صالحة للردع عن الاستصحاب الّذي جرت سيرة العقلاء على الأخذ به، لأنّ المقصود من النهي عن اتّباع غير العلم النهي عنه إذ يراد به إثبات الواقع، كقوله تعالى: «إِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً» «3»* بينما أنّه ليس المقصود من الاستصحاب إثبات الواقع و الحقّ، بل هو أصل و قاعدة عمليّة
______________________________
(1) فوائد الاصول: ج 3 ص 194 (ط- مؤسسة النشر الإسلامي).
(2) راجع ص 18- 22.
(3) النجم: 28.
أصول الفقه ( مظفر، محمد رضا - طبع انتشارات اسلامى )، ج3، ص: 99
يرجع إليها في مقام العمل عند الشكّ في الواقع و الحقّ، فيخرج الاستصحاب عن عموم هذه الآيات موضوعاً.
و هذا العلاج- طبعاً- لا يجري في مثل خبر الواحد، لأنّ المقصود به كسائر الأمارات الاخرى إثبات الواقع و تحصيل الحقّ.
و لكن مع ذلك نقول: إنّ خبر الواحد خارج عن عموم هذه الآيات تخصّصاً، كالظواهر التي أيضاً حجّيتها مستندة إلى بناء العقلاء على ما سيأتي.
و ذلك بأن يقال، حسبما أفاده استاذنا المحقّق الاصفهاني قدس سره في حاشيته على الكفاية (ج 3 ص 14) قال: إنّ لسان النهي عن اتّباع الظنّ و أنّه لا يغني من الحقّ شيئاً ليس لسان التعبّد بأمرٍ على خلاف الطريقة العقلائيّة، بل من باب إيكال الأمر إلى عقل المكلّف من جهة أنّ الظنّ بما هو ظنّ لا مسوّغ للاعتماد عليه و الركون إليه. فلا نظر في- الآيات الناهية- إلى ما استقرّت عليه سيرة العقلاء بما هم عقلاء على اتّباعه من أجل كونه خبر الثقة؛ و لذا كان الرواة يسألون عن وثاقة الراوي للفراغ عن لزوم اتّباع روايته بعد فرض وثاقته «1».
أو يقال- حسبما أفاده شيخنا النائيني قدس سره على ما في تقريرات الكاظمي قدس سره ج 3 ص 69- قال: إنّ الآيات الناهية عن العمل بالظنّ لا تشمل خبر الثقة، لأنّ العمل بخبر الثقة في طريقة العقلاء ليس من العمل بما وراء العلم، بل هو من أفراد العلم، لعدم التفات العقلاء إلى مخالفة الخبر للواقع، لما قد جرت على ذلك طباعهم و استقرّت عليه عادتهم. فهو خارج عن العمل بالظنّ موضوعاً، فلا تصلح أن تكون الآيات الناهية عن العمل
______________________________
(1) نهاية الدراية، ج 5 ص 34.
أصول الفقه ( مظفر، محمد رضا - طبع انتشارات اسلامى )، ج3، ص: 100
بما وراء العلم رادعة عن العمل بخبر الثقة، بل الردع يحتاج إلى قيام الدليل عليه بالخصوص «1».
و على كلّ حال، لو كانت هذه الآيات صالحة للردع عن مثل خبر الواحد و الظواهر التي جرت سيرة العقلاء على العمل بها- و منهم المسلمون- لعُرف ذلك بين المسلمين و انكشف لهم و لما أطبقوا على العمل بها و جرت سيرتهم عليه.
فهذا دليل قطعي على عدم صلاحيّة هذه الآيات للردع عن العمل بخبر الواحد، فلا نطيل بذكر الدور الّذي أشكلوا به في المقام، و الجواب عنه. و إن شئت الاطّلاع، فراجع الرسائل «2» و كفاية الاصول «3».
***______________________________
(1) فوائد الاصول: ج 3 ص 195 (ط- مؤسسة النشر الإسلامي).
(2) لم نظفر بذكر الدور في الرسائل، راجع ج 1 ص 164.
(3) كفاية الاصول: 348.
أصول الفقه ( مظفر، محمد رضا - طبع انتشارات اسلامى )، ج3، ص: 102
حوزوی کتب
اصول الفقہ حصہ سوم
المقصد الثالث مباحث الحجّة
المقدّمة
الباب الأوّل: الكتاب العزيز
الباب الثاني: السنّة
الباب الثالث: الإجماع
الباب الرابع: الدليلُ العقلي
*** الباب الخامس: حجّية الظواهر
الباب السادس: الشهرة
الباب السابع: السيرة
الباب الثامن: القياس
اصول الفقہ حصہ سوم
الباب الثاني: السنّة
تمهيد:
السنّة في اصطلاح الفقهاء: «قول النبيّ أو فعله أو تقريره»
و منشأ هذا الاصطلاح أمر النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم باتّباع سنّته، فغلبت كلمة «السنّة» حينما تُطلق مجرّدة عن نسبتها إلى أحد على خصوص ما يتضمّن بيان حكم من الأحكام من النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم سواء كان ذلك بقول أو فعل أو تقرير، على ما سيأتي من ذكر مدى ما يدلّ الفعل و التقرير على بيان الأحكام.
أمّا فقهاء الإماميّة بالخصوص فلمّا ثبت لديهم أنّ المعصوم من آل البيت يجري قوله مجرى قول النبيّ من كونه حجّةً على العباد واجبَ الاتّباع فقد توسّعوا في اصطلاح «السنّة» إلى ما يشمل قول كلّ واحد من المعصومين أو فعله أو تقريره، فكانت السنّة باصطلاحهم: «قول المعصوم أو فعله أو تقريره».
و السرّ في ذلك: أنّ الأئمّة من آل البيت عليهم السلام ليسوا هم من قبيل الرواة عن النبيّ و المحدّثين عنه ليكون قولهم حجّة من جهة أنهم ثقات في الرواية، بل لأنّهم هم المنصوبون من اللَّه تعالى على لسان النبيّ لتبليغ الأحكام الواقعيّة، فلا يحكون إلّا عن الأحكام الواقعيّة عند اللَّه تعالى
أصول الفقه ( مظفر، محمد رضا - طبع انتشارات اسلامى )، ج3، ص: 65
كما هي، و ذلك من طريق الإلهام كالنبيّ من طريق الوحي، أو من طريق التلقّي من المعصوم قبله، كما قال مولانا أمير المؤمنين عليه السلام «علّمني رسول اللَّه صلى الله عليه و آله و سلم ألف باب من العلم ينفتح لي من كلّ باب ألف باب» «1».
وعليه، فليس بيانهم للأحكام من نوع رواية السنّة و حكايتها، و لا من نوع الاجتهاد في الرأي و الاستنباط من مصادر التشريع، بل هم أنفسهم مصدر للتشريع، فقولهم سنّةٌ لا حكاية السنّة.
و أمّا ما يجيء على لسانهم أحياناً من روايات و أحاديث عن نفس النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم فهي إمّا لأجل نقل النصّ عنه كما يتّفق في نقلهم لجوامع كلمه، و إمّا لأجل إقامة الحجّة على الغير، و إمّا لغير ذلك من الدواعي.
و أمّا إثبات إمامتهم و أنّ قولهم يجري مجرى قول الرسول صلى الله عليه و آله و سلم فهو بحث يتكفّل به علم الكلام.
و إذا ثبت أنّ السنّة بما لها من المعنى الواسع الّذي عندنا هي مصدر من مصادر التشريع الإسلامي، فإن حصل عليها الإنسان بنفسه بالسماع من نفس المعصوم و مشاهدته فقد أخذ الحكم الواقعي من مصدره الأصلي على سبيل الجزم و اليقين من ناحية السند، كالأخذ من القرآن الكريم ثقل اللَّه الأكبر، و الأئمّة من آل البيت ثقله الأصغر.
أمّا إذا لم يحصل ذلك لطالب الحكم الواقعي- كما في العهود المتأخّرة عن عصرهم- فإنّه لا بدّ له في أخذ الأحكام من أن يرجع- بعد القرآن الكريم- إلى الأحاديث الّتي تنقل السنّة، إمّا من طريق التواتر أو من طريق أخبار الآحاد على الخلاف الّذي سيأتي في مدى حجّية أخبار الآحاد.
______________________________ (1) بحار الأنوار: ج 26 ص 29 ح 36، بلفظ: لقد علّمني رسول اللَّه صلى الله عليه و آله ألفَ بابٍ يفتح كلُّ بابٍ ألفَ باب.
أصول الفقه ( مظفر، محمد رضا - طبع انتشارات اسلامى )، ج3، ص: 66
و على هذا، فالأحاديث ليست هي السنّة بل هي الناقلة لها و الحاكية عنها و لكن قد تُسمّى بالسنّة توسّعاً من أجل كونها مثبتة لها.
و من أجل هذا يلزمنا البحث عن الأخبار في باب السنّة، لأنّه يتعلّق ذلك بإثباتها. و نعقد الفصل في مباحث أربعة:
1- دلالة فعل المعصوم
لا شكّ في أنّ فعل المعصوم- بحكم كونه معصوماً- يدلّ على إباحة الفعل على الأقلّ، كما أنّ تركه لفعلٍ يدلّ على عدم وجوبه على الأقلّ.
و لا شكّ في أنّ هذه الدلالة بهذا الحدّ أمر قطعي ليس موضعاً للشبهة بعد ثبوت عصمته.
ثم نقول بعد هذا: إنّه قد يكون لفعل المعصوم من الدلالة ما هو أوسع من ذلك، و ذلك فيما إذا صدر منه الفعل محفوفاً بالقرينة كأن يحرز أنّه في مقام بيان حكمٍ من الأحكام أو عبادةٍ من العبادات كالوضوء و الصلاة و نحوهما، فإنّه حينئذٍ يكون لفعله ظهور في وجه الفعل من كونه واجباً أو مستحبّاً أو غير ذلك حسبما تقتضيه القرينة.
و لا شبهة في أنّ هذا الظهور حجّة كظواهر الألفاظ بمناطٍ واحد، و كم استدلّ الفقهاء على حكم أفعال الوضوء و الصلاة و الحجّ و غيرها و كيفيّاتها بحكاية فعل النبيّ أو الإمام في هذه الامور. كلّ هذا لا كلام و لا خلاف لأحد فيه.
و إنّما وقع الكلام للقوم في موضعين:
1- في دلالة فعل المعصوم المجرّد عن القرائن على أكثر من إباحة الفعل. فقد قال بعضهم: إنّه يدلّ بمجرّده على وجوب الفعل بالنسبة إلينا.
أصول الفقه ( مظفر، محمد رضا - طبع انتشارات اسلامى )، ج3، ص: 67
و قيل: يدلّ على استحبابه. و قيل: لا دلالة له على شيءٍ منهما «1» أي أنّه لا يدلّ على أكثر من إباحة الفعل في حقّنا.
و الحقّ هو الأخير، لعدم ما يصلح أن يجعل له مثل هذه الدلالة.
و قد يظنّ ظانّ أنّ قوله تعالى في سورة الأحزاب 21: «لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كانَ يَرْجُوا اللَّهَ وَ الْيَوْمَ الْآخِرَ» يدلّ على وجوب التأسّي و الاقتداء برسول اللَّه صلى الله عليه و آله و سلم في أفعاله. و وجوب الاقتداء بفعله يلزم منه وجوب كلّ فعل يفعله في حقّنا و إن كان بالنسبة إليه لم يكن واجباً، إلّا ما دلّ الدليل الخاصّ على عدم وجوبه في حقّنا.
و قيل: إنّه إن لم تدلّ الآية على وجوب الاقتداء فعلى الأقلّ تدلّ على حسن الاقتداء به و استحبابه. و قد أجاب العلّامة الحلّي عن هذا الوهم فأحسن- كما نقل عنه- إذ قال: إنّ الاسوة عبارة عن الإتيان بفعل الغير لأنّه فعله على الوجه الّذي فعله، فإن كان واجباً تعبّدنا بإيقاعه واجباً، و إن كان مندوباً تعبّدنا بإيقاعه مندوباً، و إن كان مباحاً تعبّدنا باعتقاد إباحته «2».
و غرضه قدس سره من التعبّد باعتقاد إباحته فيما إذا كان مباحا ليس مجرّد الاعتقاد حتّى يرد عليه- كما في الفصول- بأنّ ذلك اسوة في الاعتقاد لا الفعل «3» بل يريد- كما هو الظاهر من صدر كلامه- أنّ معنى الاسوة في المباح هو أن نتخيّر في الفعل و الترك، أي لا نلتزم بالفعل و لا بالترك،
______________________________ (1) قال المحقّق الحلّي قدس سره في مسألة أفعال النبيّ صلى الله عليه و آله: «قال ابن سريج: تدلّ على الوجوب في حقّنا، و قال الشافعي: تدلّ على الندب، و قال مالك: على الإباحة، و الأولى التوقّف» معارج الاصول: ص 118. و إن شئت التفصيل راجع مفاتيح الاصول: باب الأفعال و التأسّي ص 279. (2) راجع نهاية الوصول: الورقة 94.
(3) الفصول الغرويّة: 313.
أصول الفقه ( مظفر، محمد رضا - طبع انتشارات اسلامى )، ج3، ص: 68
إذ الاسوة في كلّ شيء بحسب ما له من الحكم، فلا تتحقّق الاسوة في المباح بالنسبة إلى الإتيان بفعل الغير إلّا بالاعتقاد بالإباحة.
ثمّ نزيد على ما ذكره العلّامة فنقول: إنّ الآية الكريمة لا دلالة لها على أكثر من رجحان الاسوة و حسنها، فلا نسلّم دلالتها على وجوب التأسّي. مضافاً إلى أنّ الآية نزلت في واقعة الأحزاب فهي واردة موردَ الحثّ على التأسّي به في الصبر على القتال و تحمّل مصائب الجهاد في سبيل الله، فلا عموم لها بلزوم التأسّي أو حسنه في كلّ فعل حتّى الأفعال العادية. و ليس معنى هذا أنّنا نقول: بأنّ المورد يقيّد المطلق أو يخصّص العامّ، بل إنّما نقول: إنّه يكون عقبة في إتمام مقدّمات الحكمة للتمسّك بالإطلاق.
فهو يضرّ بالإطلاق من دون أن يكون له ظهور في التقييد، كما نبّهنا على ذلك في أكثر من مناسبةٍ. و الخلاصة: أنّ دعوى دلالة هذه الآية الكريمة على وجوب فعل ما يفعله النبيّ مطلقاً أو استحبابه مطلقاً بالنسبة إلينا بعيدة كلّ البعد عن التحقيق.
و كذلك دعوى دلالة الآيات الآمرة بإطاعة الرسول أو باتّباعه على وجوب كلّ ما يفعله في حقّنا، فإنّها أوهن من أن نذكرها لردّها.
2- في حجّية فعل المعصوم بالنسبة إلينا. فإنّه قد وقع كلام للُاصوليّين في أنّ فعله إذا ظهر وجهه أنّه على نحو الإباحة أو الوجوب أو الاستحباب مثلًا هل هو حجّة بالنسبة إلينا؟ أي أنّه هل يدلّ على اشتراكنا معه و تعدّيه إلينا فيكون مباحاً لنا كما كان مباحاً له أو واجباً علينا كما كان واجباً عليه ... و هكذا؟
و منشأ الخلاف: أنّ النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم اختصّ بأحكام لا تتعدّى إلى غيره أصول الفقه ( مظفر، محمد رضا - طبع انتشارات اسلامى )، ج3، ص: 69
و لا يشترك معه باقي المسلمين، مثل وجوب التهجّد في الليل، و جواز العقد على اكثر من أربع زوجات. و كذلك له من الأحكام ما يختصّ بمنصب الولاية العامّة، فلا تكون لغير النبيّ أو الإمام باعتبار أنّه أولى بالمؤمنين من أنفسهم.
فإن عُلم أنّ الفعل الّذي وقع من المعصوم أنّه من مختصّات فلا شكّ في أنّه لا مجال لتوهّم تعدّيه إلى غيره. و إن عُلم عدم اختصاصه به بأيّ نحو من أنحاء الاختصاص فلا شكّ في أنّه يعمّ جميع المسلمين، فيكون فعله حجّةً علينا. هذا كلّه ليس موضع الكلام.
و إنّما موضع الشبهة في الفعل الّذي لم يظهر حاله في كونه من مختصّاته أو ليس من مختصّاته و لا قرينة تُعيّن أحدهما، فهل هذا بمجرّده كافٍ للحكم بأنّه من مختصّاته، أو للحكم بعمومه للجميع، أو أنّه غير كافٍ فلا ظهور له أصلًا في كلّ من النحوين؟ وجوه، بل أقوال.
و الأقرب هو الوجه الثاني.
و الوجه في ذلك: أنّ النبيّ بشر مثلنا، له ما لنا وعليه ما علينا، و هو مكلّف من اللَّه تعالى بما كُلّف به الناس إلّا ما قام الدليل الخاصّ على اختصاصه ببعض الأحكام إمّا من جهة شخصه بذاته و إمّا من جهة منصب الولاية، فما لم يخرجه الدليل فهو كسائر الناس في التكليف.
هذا مقتضى عموم أدلّة اشتراكه معنا في التكليف. فإذا صدر منه فعل و لم يُعلم اختصاصه به، فالظاهر في فعله أنّ حكمه فيه حكم سائر الناس، فيكون فعله حجّة علينا و حجّة لنا، لا سيّما مع ما دلّ على عموم حسن التأسّي به.
و لا نقول ذلك من جهة قاعدة الحمل على الأعمّ الأغلب، فإنّا لا نرى
أصول الفقه ( مظفر، محمد رضا - طبع انتشارات اسلامى )، ج3، ص: 70
حجّية مثل هذه القاعدة في كلّ مجالاتها، و إنّما ذلك من باب التمسّك بالعامّ في الدوران في التخصيص بين الأقل و الأكثر.
2- دلالة تقرير المعصوم
المقصود من «تقرير المعصوم» أن يفعل شخص بمشهد المعصوم و حضوره فعلًا، فيسكت المعصوم عنه مع توجّهه إليه و علمه بفعله، و كان المعصوم بحالةٍ يسعه تنبيه الفاعل لو كان مخطئاً. و السعة تكون من جهة عدم ضيق الوقت عن البيان، و من جهة عدم المانع، منه، كالخوف و التقيّة و اليأس من تأثير الإرشاد و التنبيه و نحو ذلك.
فإنّ سكوت المعصوم عن ردع الفاعل أو عن بيان شيءٍ حولَ الموضوع لتصحيحه يُسمّى تقريراً للفعل، أو إقراراً عليه، أو إمضاءً له؛ ما شئت فعبّر.
و هذا التقرير- إذا تحقّق بشروطه المتقدّمة- فلا شكّ في أنّه يكون ظاهراً في كون الفعل جائزاً فيما إذا كان محتمل الحرمة. كما أنّه يكون ظاهراً في كون الفعل مشروعاً صحيحاً فيما إذا كان عبادة أو معاملة، لأنّه لو كان في الواقع محرّماً أو كان فيه خلل لكان على المعصوم نهيه عنه و ردعه إذا كان الفاعل عالماً عارفاً بما يفعل، و ذلك من باب الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر. و لكان عليه بيان الحكم و وجه الفعل إذا كان الفاعل جاهلًا بالحكم، و ذلك من باب وجوب تعليم الجاهل.
و يلحق بتقرير الفعل التقرير لبيان الحكم، كما لو بيّن شخص بمحضر المعصوم حكماً أو كيفيّة عبادة أو معاملة، و كان بوسع المعصوم البيان، فإنّ
أصول الفقه ( مظفر، محمد رضا - طبع انتشارات اسلامى )، ج3، ص: 71
سكوت الإمام يكون ظاهراً في كونه إقراراً على قوله و تصحيحاً و إمضاءً له.
و هذا كلّه واضح، ليس فيه موضع للخلاف.
3- الخبر المتواتر
إنّ الخبر على قسمين رئيسين «1»: خبر متواتر، و خبر واحد.
و «المتواتر»: ما أفاد سكون النفس سكوناً يزول معه الشكّ و يحصل الجزم القاطع من أجل إخبار جماعة يمتنع تواطؤهم على الكذب. و يقابله «خبر الواحد» في اصطلاح الاصوليّين، و إن كان المخبر أكثر من واحد و لكن لم يبلغ المخبرون حدّ التواتر.
و قد شرحنا حقيقة التواتر في كتاب المنطق (الجزء الثالث ص 10) «2» فراجع.
و الّذي ينبغي ذكره هنا: أنّ الخبر قد يكون له وسائط كثيرة في النقل، كالأخبار الّتي تصلنا عن الحوادث القديمة، فإنّه يجب- ليكون الخبر متواتراً موجباً للعلم- أن تتحقّق شروط التواتر في كلّ طبقةٍ طبقةٍ من وسائط الخبر، و إلّا فلا يكون الخبر متواتراً في الوسائط المتأخّرة، لأنّ النتيجة تتبع أخسّ المقدّمات.
و السرّ في ذلك واضح، لأنّ الخبر ذو الوسائط يتضمّن في الحقيقة عدّة أخبار متتابعة، إذ أنّ كلّ طبقة تخبر عن خبر الطبقة السابقة عليها، فحينما يقول جماعة: «حدّثنا جماعة عن كذا» بواسطة واحدة مثلًا، فإنّ خبر الطبقة الاولى الناقلة لنا يكون في الحقيقة خبرها ليس عن نفس الحادثة،
______________________________ (1) في ط الاولى: رئيسيين.
(2) الصفحة 333 من طبعتنا الحديثة.
أصول الفقه ( مظفر، محمد رضا - طبع انتشارات اسلامى )، ج3، ص: 72
بل عن خبر الطبقة الثانية عن الحادثة. و كذلك إذا تعدّدت الوسائط إلى أكثر من واحدة. فهذه الوسائط هي خبر عن خبر حتّى تنتهي إلى الواسطة الأخيرة الّتي تنقل عن نفس الحادثة، فلا بدّ أن تكون الجماعة الاولى خبرها متواتراً عن خبرٍ متواتر عن متواتر ... و هكذا، إذ كلّ خبر من هذه الأخبار له حكمه في نفسه. و متى اختلّ شرط التواتر في طبقةٍ واحدة خرج الخبر جملةً عن كونه متواتراً و صار من أخبار الآحاد.
و هكذا الحال في أخبار الآحاد، فإنّ الخبر الصحيح ذا الوسائط إنّما يكون صحيحاً إذا توفّرت شروط الصحّة في كلّ واسطة من وسائطه، و إلّا فالنتيجة تتبع أخسّ المقدّمات.
أصول الفقه ( مظفر، محمد رضا - طبع انتشارات اسلامى ) ؛ ج3 ؛ ص72
4- خبر الواحد
إنّ خبر الواحد- و هو ما لا يبلغ حدّ التواتر من الأخبار- قد يفيد علماً و إن كان المخبر شخصاً واحداً، و ذلك فيما إذا احتفّ خبره بقرائن توجب العلم بصدقه، و لا شكّ في أنّ مثل هذا الخبر حجّة. و هذا لا بحث لنا فيه، لأنّه مع حصول العلم تحصل الغاية القصوى، إذ ليس وراء العلم غاية في الحجّية و إليه تنتهي حجّية كلّ حجّة كما تقدّم.
و أمّا إذا لم يحتفّ بالقرائن الموجبة للعلم بصدقه- و إن احتفّ بالقرائن الموجبة للاطمئنان إليه دون مرتبة العلم- فقد وقع الخلاف العظيم في حجّيته و شروط حجّيته. و الخلاف في الحقيقة- عند الإماميّة بالخصوص- يرجع إلى الخلاف في قيام الدليل القطعي على حجّية خبر الواحد و عدم قيامه، و إلّا فمن المتّفق عليه عندهم أنّ خبر الواحد بما هو
أصول الفقه ( مظفر، محمد رضا - طبع انتشارات اسلامى )، ج3، ص: 73
خبر مفيد «1» للظنّ الشخصي أو النوعي لا عبرة به، لأنّ الظنّ في نفسه ليس حجّة عندهم قطعاً،
فالشأن كلّ الشأن عندهم في حصول هذا الدليل القطعي و مدى دلالته.
فمن ينكر حجّية خبر الواحد- كالسيّد الشريف المرتضى «2» و من اتّبعه- إنّما ينكر وجود هذا الدليل القطعي. و من يقول بحجّيته- كالشيخ الطوسي «3» و باقي العلماء- يرى وجود الدليل القاطع. و لأجل أن يتّضح ما نقول ننقل نصّ أقوال الطرفين في ذلك:
قال الشيخ الطوسي في العدّة (ج 1 ص 44): من عمل بخبر الواحد فإنّما يعمل به إذا دلّ دليل على وجوب العمل به إمّا من الكتاب أو السنّة أو الإجماع، فلا يكون قد عمل بغير علم «4».
و صرّح بذلك السيّد المرتضى في الموصليّات- حسبما نقله عنه الشيخ ابن إدريس في مقدّمة كتابه السرائر- فقال: لا بدّ في الأحكام الشرعيّة من طريق يوصل إلى العلم- إلى أن قال- و لذلك أبطلنا في الشريعة العمل بأخبار الآحاد، لأنّها لا توجب علماً و لا عملًا، و أوجبنا أن يكون العمل تابعاً للعلم، لأنّ خبر الواحد إذا كان عدلًا فغاية ما يقتضيه الظنّ بصدقه، و من ظننت صدقَه يجوز أن يكون كاذباً «5».
و أصرح منه قوله بعد ذلك: و العقل لا يمنع من العبادة بالقياس و العمل بخبر الواحد، و لو تعبّد اللَّه تعالى بذلك لساغ و لدخل في باب الصحّة،
______________________________ (1) في ط الاولى: مفيداً.
(2) الذريعة إلى اصول الشريعة: ج 2 ص 530- 531.
(3) العُدّة: ج 1 ص 100.
(4) العدّة: ج 1 ص 106 (ط الحديثة).
(5) السرائر: ج 1 ص 46، انظر رسائل الشريف المرتضى، المجموعة الاولى: ص 202- 203.
أصول الفقه ( مظفر، محمد رضا - طبع انتشارات اسلامى )، ج3، ص: 74
لأنّ عبادته بذلك توجب العلم الّذي لا بدّ أن يكون العمل تابعاً له «1».
و على هذا فيتّضح أنّ المسلّم فيه عند الجميع أنّ خبر الواحد لو خُلّي و نفسَه لا يجوز الاعتماد عليه، لأنّه لا يفيد إلا الظنّ الّذي لا يغني من الحقّ شيئا. و إنّما موضع النزاع هو قيام الدليل القطعي على حجّيته.
و على هذا فقد وقع الخلاف في ذلك على أقوال كثيرة:
فمنهم من أنكر حجّيته مطلقاً، و قد حكي هذا القول عن السيّد المرتضى و القاضي و ابن زهرة و الطبرسي و ابن إدريس «2» و ادّعوا في ذلك الإجماع. و لكن هذا القول منقطع الآخر، فإنّه لم يُعرف موافق لهم بعد عصر ابن إدريس إلى يومنا هذا.
و منهم من قال: «إنّ الأخبار المدوّنة في الكتب المعروفة- لا سيّما الكتب الأربعة- مقطوعة الصدق». و هذا ما يُنسب إلى شرذمة «3» من متأخّري الأخباريّين. قال الشيخ الأنصاري تعقيباً على ذلك: و هذا قول لا فائدة في بيانه و الجواب عنه إلّا التحرّز عن حصول هذا الوهم لغيرهم كما حصل لهم، و إلّا فمدّعي القطع لا يلزم بذكر ضعف مبنى قطعه ... «4».
و أمّا القائلون بحجّية خبر الواحد فقد اختلفوا أيضاً: فبعضهم يرى أنّ المعتبر من الأخبار هو كلّ ما في الكتب الأربعة بعد استثناء ما كان فيها مخالفاً للمشهور. و بعضهم يرى أنّ المعتبر بعضها و المناط في الاعتبار عمل الأصحاب، كما يظهر ذلك من المنقول عن المحقّق في المعارج «5».
______________________________ (1) السرائر: ج 1 ص 47.
(2) الذريعة: ج 2 ص 528، المهذّب: ج 2 ص 598، الغنية: ج 2 ص 356، مجمع البيان: ذيل الآية 6 من سورة الحجرات، السرائر: ج 1 ص 47.
(3) في ط 2: جماعة.
(4) فرائد الاصول: ج 1 ص 109.
(5) معارج الاصول: ص 147.
أصول الفقه ( مظفر، محمد رضا - طبع انتشارات اسلامى )، ج3، ص: 75
و قيل: المناط فيه عدالة الراوي أو مطلق وثاقته، أو مجرّد الظنّ بالصدور من غير اعتبار صفةٍ في الراوي ... إلى غير ذلك من التفصيلات «1».
و المقصود لنا الآن بيان إثبات حجّيته بالخصوص في الجملة في مقابل السلب الكلّي، ثمّ ننظر في مدى دلالة الأدلّة على ذلك. فالعمدة أن ننظر أوّلًا في الأدلّة الّتي ذكروها من الكتاب و السنّة و الإجماع و بناء العقلاء، ثمّ في مدى دلالتها:
- أ- أدلّة حجّية خبر الواحد من الكتاب العزيز
تمهيد:
لا يخفى أنّ من يستدلّ على حجّية خبر الواحد بالآيات الكريمة لا يدّعى بأنّها نصّ قطعي الدلالة على المطلوب، و إنّما أقصى ما يدّعيه أنّها ظاهرة فيه.
و إذا كان الأمر كذلك فقد يشكل الخصم بأنّ الدليل على حجّية الحجّة يجب أن يكون قطعيّاً- كما تقدّم- فلا يصحّ الاستدلال بالآيات الّتي هي ظنّية الدلالة، لأنّ ذلك استدلال بالظنّ على حجّية الظنّ. و لا ينفع كونها قطعيّة الصدور.
و لكنّ الجواب عن هذا الوهم واضح، لأنّه قد ثبت بالدليل القطعي حجّية ظواهر الكتاب العزيز- كما سيأتي- فالاستدلال بها ينتهي بالأخير إلى العلم، فلا يكون استدلالًا بالظنّ على حجّية الظنّ.
و نحن على هذا المبنى نذكر الآيات الّتي ذكروها على حجّية خبر الواحد، فنكتفي بإثبات ظهورها في المطلوب:
______________________________ (1) إن شئت التفصيل راجع مفاتيح الاصول للسيّد المجاهد قدس سره: ص 328.
أصول الفقه ( مظفر، محمد رضا - طبع انتشارات اسلامى )، ج3، ص: 76
الآية الاولى- آية النبأ:
و هي قوله تعالى في سورة الحجرات 6: «إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلى ما فَعَلْتُمْ نادِمِينَ».
و قد استدلّ بهذه الآية الكريمة من جهة مفهوم الوصف و من جهة مفهوم الشرط. و الّذي يبدو أنّ الاستدلال بها من جهة مفهوم الشرط كافٍ في المطلوب.
و تقريب الاستدلال يتوقّف على شرح ألفاظ الآية أوّلًا، فنقول:
1- «التبيّن» إنّ لهذه المادّة معنيين:
الأوّل: بمعنى الظهور، فيكون فعلها لازماً، فنقول: «تبيّن الشيء» إذا ظهر و بان. و منه قوله تعالى:
«حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ» «1» «حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ» «2».
و الثاني: بمعنى الظهور عليه- يعني العلم به و استكشافه، أو التصدّي للعلم به و طلبه- فيكون فعلها متعدّياً، فتقول: «تبيّنت الشيء» إذا علمته، أو إذا تصدّيت للعلم به و طلبته.
و على المعنى الثاني- و هو التصدّي للعلم به- يتضمّن معنى التثبّت فيه و التأنّي فيه لكشفه و إظهاره و العلم به. و منه قوله تعالى في سورة النساء 94: «إِذا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُوا» و من أجل هذا قُرئ بدل «فتبيّنوا»: «فتثبّتوا» «3» و منه كذلك هذه الآية الّتي نحن بصددها
______________________________ (1) البقرة: 187.
(2) فصّلت: 53.
(3) قراءة حمزة و الكسائي راجع كتاب السبعة في القراءات لابن مجاهد: ص 236، و الكشف عن وجوه القراءات للقيسي: ج 1 ص 394، و تفسير القرطبي: ج 5 ص 337، و في التبيان: ج 3 ص 297: و هي قراءة أهل الكوفة إلا عاصم، كنز الدقائق: ج 9 ص 589.
أصول الفقه ( مظفر، محمد رضا - طبع انتشارات اسلامى )، ج3، ص: 77
«إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا» و كذلك قُرئ فيها «فتثبّتوا» «1» فإنّ هذه القراءة ممّا تدلّ على أنّ المعنيين- و هما التبيّن و التثبّت- متقاربان.
2- «أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهالَةٍ» يظهر من كثير من التفاسير أنّ هذا المقطع من الآية كلام مستأنف جاء لتعليل وجوب التبيّن «2». و تبعهم على ذلك بعض الاصوليّين «3» الّذين بحثوا هذه الآية هنا.
و لأجل ذلك قدّروا لكلمة «فتبيّنوا» مفعولًا، فقالوا مثلًا: معناه:
«فتبيّنوا صدقَه من كذبه». كما قدّروا لتحقيق نظم الآية و ربطها- لتصلح هذه الفقرة أن تكون تعليلًا- كلمةً تدلّ على التعليل بأن قالوا: معناها:
«خشية أن تصيبوا قوماً بجهالة» أو «حذارَ أن تصيبوا» أو «لئلّا تصيبوا قوماً» ... و نحو ذلك.
و هذه التقديرات كلّها تكلّف و تمحّل لا تساعد عليها قرينة و لا قاعدة عربيّة. و من العجيب! أن يؤخذ ذلك بنظر الاعتبار و يرسل إرسالَ المسلَّمات.
و الّذي ارجّحه: أنّ مقتضى سياق الكلام و الاتّساق مع اصول القواعد العربيّة أن يكون قوله: «أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً ...» مفعولًا ل «تبيّنوا» فيكون معناه: «فتثبّتوا و احذروا إصابةَ قومٍ بجهالة».
و الظاهر أنّ قوله تعالى: «فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهالَةٍ» يكون كنايةً عن لازم معناه، و هو عدم حجّية خبر الفاسق، لأنّه لو كان حجّة لما دعا إلى الحذر من إصابة قوم بجهالة عند العمل به ثمّ من الندم على العمل به.
______________________________ (1) كتاب السبعة في القراءات لابن مجاهد: ص 236، و تفسير القرطبي: ج 16 ص 312.
(2) راجع التبيان و مجمع البيان ذيل الآية 6 من سورة الحجرات، و الميزان: ج 18 ص 312.
(3) انظر فرائد الاصول: ج 1 ص 117.
أصول الفقه ( مظفر، محمد رضا - طبع انتشارات اسلامى )، ج3، ص: 78
3- «الجهالة»: اسم مأخوذ من الجهل أو مصدر ثانٍ له، قال عنها أهل اللغة: «الجهالة: أن تفعل فعلًا بغير العلم» ثمّ هم [الّذين] «1» فسّروا الجهل بأنّه المقابل للعلم عبّروا عنه تارةً بتقابل التضادّ، و اخرى بتقابل النقيض.
و إن كان الأصحّ في التعبير العلمي أنّه من تقابل العدم و الملكة.
و الّذي يبدو لي من تتبّع استعمال كلمة «الجهل» و مشتقّاتها في اصول اللغة العربيّة: أنّ إعطاء لفظ «الجهل» معنى يقابل «العلم» بهذا التحديد الضيّق لمعناه جاء مصطلحاً جديداً عند المسلمين في عهدهم لنقل الفلسفة اليونانيّة إلى العربيّة الّذي استدعى تحديد معاني كثير من الألفاظ و كسبها إطاراً يناسب الأفكار الفلسفيّة، و إلّا فالجهل في أصل اللغة كان يعطي معنى يقابل الحكمة و التعقّل و الرويّة، فهو يؤدّي تقريباً معنى السفه أو الفعل السفهي عند ما يكون عن غضب مثلًا و حماقة و عدم بصيرة و علم.
و على كلّ حال، هو بمعناه الواسع اللغوي يلتقي مع معنى الجهل المقابل، للعلم الّذي صار مصطلحاً علميّاً بعد ذلك. و لكنّه ليس هو إيّاه.
وعليه، فيكون معنى «الجهالة» أن تفعل فعلًا بغير حكمة و تعقّل و رويّة الّذي لازمه عادةً إصابة عدم الواقع و الحقّ.
إذا عرفت هذه الشروح لمفردات الآية الكريمة يتّضح لك معناها و ما تؤدّي إليه من دلالةٍ على المقصود في المقام:
إنّها تعطي أنّ النبأ من شأنه أن يصدّق به عند الناس و يؤخذ به من جهة أنّ ذلك من سيرتهم، و إلّا فلما ذا نهي عن الأخذ بخبر الفاسق من جهة أنّه فاسق؟ فأراد تعالى أن يلفت أنظار المؤمنين إلى أنّه لا ينبغي أن يعتمدوا كلّ خبرٍ من أيّ مصدرٍ كان، بل إذا جاء به فاسق ينبغي ألّا يؤخذ
______________________________ (1) أثبتناه لاقتضاء السياق.
أصول الفقه ( مظفر، محمد رضا - طبع انتشارات اسلامى )، ج3، ص: 79
به بلا تروٍّ و إنما يجب فيه أن يتثبّتوا أن يصيبوا قوماً بجهالة، أي بفعل ما فيه سَفَهٌ و عدم حكمة قد يضرّ بالقوم. و السرّ في ذلك: أنّ المتوقّع من الفاسق ألّا يصدق في خبره، فلا ينبغي أن يصدَّق و يُعمل بخبره.
فتدلّ الآية بحسب المفهوم على أنّ خبر العادل يتوقّع منه الصدق، فلا يجب فيه الحذر و التثبّت من إصابة قوم بجهالة. و لازم ذلك أنّه حجّة.
و الّذي نقوله و نستفيده و له دخل في استفادة المطلوب من الآية: أنّ «النبأ» في مفروض الآية ممّا يُعتمد عليه عند الناس و تعارفوا الأخذ به بلا تثبّتٍ. و إلّا لما كانت حاجة للأمر فيه بالتبيّن في خبر الفاسق إذا كان «النبأ» من جهة ما هو نبأ لا يعمل به الناس.
و لمّا علّقت الآية وجوبَ التبيّن و التثبّت على مجيء الفاسق يظهر منه- بمقتضى مفهوم الشرط- أنّ خبر العادل ليس له هذا الشأن، بل الناس لهم أن يبقوا فيه على سجيّتهم من الأخذ به و تصديقه من دون تثبّتٍ و تبيّنٍ لمعرفة صدقه من كذبه من جهة خوف إصابة قوم بجهالة. و طبعاً لا يكون ذلك إلّا من جهة اعتبار خبر العادل و حجّيته، لأنّ المترقّب منه الصدق.
فيكشف ذلك عن حجّية قول العادل عند الشارع و إلغاء احتمال الخلاف فيه.
و الظاهر أنّ بهذا البيان للآية يرتفع كثير من الشكوك الّتي قيلت على الاستدلال بها على المطلوب «1». فلا نطيل في ذكرها و ردّها.
الآية الثانية- آية النفر:
و هي قوله تعالى في سورة التوبة 123: «وَ ما كانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا
______________________________ (1) قال الشيخ الأعظم الأنصاري: فقد اورد على الآية إيرادات كثيرة ربما تبلغ إلى نيِّفٍ و عشرين، فرائد الاصول: ج 1 ص 117.
أصول الفقه ( مظفر، محمد رضا - طبع انتشارات اسلامى )، ج3، ص: 80
كَافَّةً، فَلَوْ لا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَ لِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ».
إنّ الاستدلال بهذه الآية الكريمة على المطلوب يتمّ بمرحلتين من البيان:
1- الكلام في صدر الآية: «وَ ما كانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً» تمهيداً للاستدلال، فإنّ الظاهر من هذه الفقرة نفي وجوب النفر على المؤمنين كافّة «1» و المراد من النفر- بقرينة باقي الآية- النفر إلى الرسول للتفقّه في الدين، لا النفر إلى الجهاد و إن كانت الآيات الّتي قبلها واردة في الجهاد، فإنّ ذلك وحدَه غير كافٍ ليكون قرينة مع ظهور باقي الآية في النفر إلى التعلّم و التفقّه. إنّ الكلام الواحد يفسّر بعضه بعضاً.
و هذه الفقرة إمّا جملة خبرية يراد بها إنشاء نفي الوجوب، فتكون في الحقيقة جملة إنشائيّة. و إمّا جملة خبريّة يراد بها الإخبار جدّاً عن عدم وقوعه من الجميع إمّا لاستحالته عادةً أو لتعذّره اللازم له عدم وجوب النفر عليهم جميعاً، فتكون دالّة بالدلالة الالتزاميّة على عدم جعل مثل هذا الوجوب من الشارع. و على كلا الحالين فهي تدلّ على عدم تشريع وجوب النفر على كلّ واحدٍ واحدٍ إِمّا إنشاءً أو إخباراً. و لكن ليس من شأن الشارع بما هو شارع أن ينفي وجوب شيء إنشاءً أو إخباراً إلّا إذا كان في مقام رفع توهّم الوجوب لذلك الشيء أو اعتقاده. و اعتقاد وجوب النفر أمر متوقّع لدى العقلاء، لأنّ التعلّم واجب عقلي على كلّ أحد و تحصيل اليقين فيه المنحصر عادة في مشافهة
______________________________ (1) (*) يستفيد بعضهم من الآية النهي عن نفر الكافّة. و هي استفادة بعيدة جدّاً، و ليست كلمة «ما» من أدوات النهي. إذاً ليس لهذه الآية أكثر من الدلالة على نفي الوجوب.
أصول الفقه ( مظفر، محمد رضا - طبع انتشارات اسلامى )، ج3، ص: 81
الرسول أيضاً واجب عقلي. فحقّ أن يعتقد المؤمنون بوجوب النفر إلى الرسول شرعاً لتحصيل المعرفة بالأحكام.
و من جهة اخرى، فإنّه ممّا لا شبهة فيه أنّ نفر جميع المؤمنين في جميع أقطار الإسلام إلى الرسول لأخذ الأحكام منه بلا واسطة كلّما عنت حاجة و عرضت لهم مسألة أمر ليس عمليّاً من جهات كثيرة، فضلًا عمّا فيه من مشقّة عظيمة لا توصف، بل هو مستحيل عادةً.
إذا عرفت ذلك فنقول: إنّ اللَّه تعالى أراد بهذه الفقرة- و اللَّه العالم- أن يرفع عنهم هذه الكلفة و المشقّة برفع وجوب النفر رحمةً بالمؤمنين. و لكن هذا التخفيف ليس معناه أن يستلزم رفع أصل وجوب التفقّه، بل الضرورات تُقدّر بقدرها. و لا شكّ أن التخفيف يحصل برفع الوجوب على كلّ واحدٍ واحدٍ، فلا بدّ من علاجٍ لهذا الأمر اللازم تحقيقه على كلّ حال- و هو التعلّم- بتشريع طريقة اخرى للتعلّم غير طريقة التعلّم اليقيني من نفس لسان الرسول. و قد بيّنت بقيّة الآية هذا العلاج و هذه الطريقة و هو قوله تعالى: «فَلَوْ لا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ ...» و التفريع بالفاء شاهد على أنّ هذا علاج متفرّع على نفي وجوب النفر على الجميع.
و من هذا البيان يظهر أنّ هذه الفقرة (صدر الآية) لها الدخل الكبير في فهم الباقي من الآية الّذي هو موضع الاستدلال على حجّية خبر الواحد.
و قد أغفل هذه الناحية المستدلّون بهذه الآية على المطلوب، فلم يوجّهوا الارتباط بين صدر الآية و بقيّتها للاستدلال بها، على نحو ما يأتي.
2- الكلام عن نفس موقع الاستدلال من الآية على حجّية خبر الواحد المتفرّع هذا الموقع على صدرها، لمكان فاء التفريع.
إنّه تعالى بعد أن بيَّن عدم وجوب النفر على كلّ واحدٍ واحدٍ تخفيفاً أصول الفقه ( مظفر، محمد رضا - طبع انتشارات اسلامى )، ج3، ص: 82 عليهم حرّضهم على اتّباع طريقة اخرى بدلالة «لو لا» الّتي هي للتحضيض، و الطريقة هي أن ينفر قسم من كلّ قوم ليرجعوا إلى قومهم فيبلّغونهم الأحكام بعد أن يتفقّهوا في الدين و يتعلّموا الأحكام. و هو في الواقع خير علاجٍ لتحصيل التعليم بل الأمر منحصر فيه.
فالآية الكريمة بمجموعها تقرّر أمراً عقليّاً و هو وجوب المعرفة و التعلّم، و إذ تعذّرت المعرفة اليقينيّة بنفر كلّ واحد إلى النبيّ ليتفقّه في الدين فلم يجب، رخّص اللَّه تعالى لهم لتحصيل تلك الغاية- أعني التعلّم- بأن ينفر طائفة من كلّ فرقة. و الطائفة المتفقّهة هي الّتي تتولّى حينئذٍ تعليم الباقين من قومهم، بل ليس «1» قد رخّصهم فقط بذلك و إنّما أوجب عليهم أن ينفر طائفة من كلّ قوم. و يستفاد الوجوب من «لو لا» التحضيضيّة و من الغاية من النفر، و هو التفقّه لإنذار القوم الباقين لأجل أن يحذروا من العقاب؛ مضافاً إلى أنّ أصل التعلّم واجب عقلي كما قرّرنا.
كلّ ذلك شواهد ظاهرة على وجوب تفقّه جماعة من كلّ قوم لأجل تعليم قومهم الحلال و الحرام. و يكون ذلك- طبعاً- وجوباً كفائيّاً.
و إذا استفدنا وجوب تفقّه كلّ طائفة من كلّ قوم أو تشريع ذلك بالترخيص فيه على الأقلّ لغرض إنذار قومهم إذا رجعوا إليهم، فلا بدّ أن نستفيد من ذلك أنّ نقلهم للأحكام قد جعله اللَّه تعالى حجّة على الآخرين و إلّا لكان تشريع هذا النفر على نحو الوجوب أو الترخيص لغواً بلا فائدة بعد أن نفى وجوب النفر على الجميع. بل لو لم يكن نقل الأحكام حجّة لما بقيت طريقة لتعلّم الأحكام تكون معذّرة للمكلّف و حجّة له أو عليه.
______________________________ (1) في ط 2 بدل «ليس»: إنّه لم يكن.
أصول الفقه ( مظفر، محمد رضا - طبع انتشارات اسلامى )، ج3، ص: 83
و الحاصل: أنّ رفع وجوب النفر على الجميع و الاكتفاء بنفر قسمٍ منهم ليتفقّهوا في الدين و يعلّموا الآخرين «1» بمجموعه دليل واضح على حجية نقل الأحكام في الجملة و إن لم يستلزم العلم اليقيني، لأنّ الآية من ناحية اشتراط الإنذار بما يوجب العلم مطلقة، فكذلك تكون مطلقة من ناحية قبول الإنذار و التعليم، و إلّا كان هذا التدبير الّذي شرّعه اللَّه لغواً و بلا فائدة و غير محصّل للغرض الّذي من أجله كان النفر و تشريعه.
هكذا ينبغي أن تُفهم الآية الكريمة في الاستدلال على المطلوب [و اللَّه أعلم بأسرار آياته] «2» و بهذا البيان يندفع كثير ممّا اورد على الاستدلال بها للمطلوب.
و ينبغي ألّا يخفى «3»: أنّه لا يتوقّف الاستدلال بها على أن يكون نفر الطائفة من كلّ قوم واجباً، بل يكفي ثبوت أنّ هذه الطريقة مشرعة من قبل اللَّه و إن كان بنحو الترخيص بها، لأنّ نفس تشريعها يستلزم تشريع حجّية نقل الأحكام من المتفقّه؛ فلذلك لا تبقى حاجة إلى التطويل في استفادة الوجوب.
كما أن الاستدلال بها لا يتوقف على كون الحذر عند إنذار النافرين المتفقّهين واجباً و استفادة ذلك من «لعلّ» أو من أصل حسن الحذر، بل الأمر بالعكس، فإنّ نفس جعل حجّية قول النافرين المتفقّهين المستفاد من الآية يكون دليلًا على وجوب الحذر.
نعم يبقى شيء، و هو أنّ الواجب أن ينفر من كلّ فرقة طائفة، و الطائفة ثلاثة فأكثر، أو اكثر من ثلاثة، و حينئذٍ لا تشمل الآية خبر الشخص
______________________________ (1) في ط زيادة: هو.
(2) لم يرد في ط 2.
(3) في ط 2 زيادة: عليكم.
أصول الفقه ( مظفر، محمد رضا - طبع انتشارات اسلامى )، ج3، ص: 84
الواحد أو الاثنين. و لكن يمكن دفع ذلك بأنّه لا دلالة في الآية على أنّه يجب في الطائفة أن ينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم مجتمعين بشرط الاجتماع، فالآية من هذه الناحية مطلقة، و بمقتضى إطلاقها يكون خبر الواحد لو انفرد بالإخبار حجّة أيضاً، يعني أنّ العموم فيها أفرادي لا مجموعي.
تنبيه مهمّ «1»:
إنّ هذه الآية الكريمة تدلّ أيضاً على وجوب قبول فتوى المجتهد بالنسبة إلى العامّيّ، كما دلّت على وجوب قبول خبر الواحد. و ذلك ظاهر، لأنّ كلمة «التفقّه» عامّة للطرفين. و قد أفاد ذلك شيخنا النائيني قدس سره- كما في تقريرات بعض الأساطين من تلامذته- فإنه قال: إنّ التفقّه في العصور المتأخّرة و إن كان هو استنباط الحكم الشرعي بتنقيح جهات ثلاث:
الصدور وجهة الصدور و الدلالة، و من المعلوم: أنّ تنقيح الجهتين الأخيرتين ممّا يحتاج إلى إعمال النظر و الدقّة، إلّا أنّ التفقّه في الصدر الأوّل لم يكن محتاجاً إلّا إلى إثبات الصدور ليس إلّا، لكن اختلاف محقّق التفقّه باختلاف الأزمنة لا يوجب اختلافاً في مفهومه، فكما أنّ العارف بالأحكام الشرعيّة بإعمال النظر و الفكر يصدق عليه «الفقيه» كذلك العارف بها من دون إعمال النظر و الفكر يصدق عليه «الفقيه» حقيقة «2».
و بمقتضى عموم «التفقّه» فإنّ الآية الكريمة أيضاً تدلّ على وجوب الاجتهاد في العصور المتأخّرة عن عصور المعصومين وجوباً كفائيّاً،
______________________________ (1) لم يرد «مهمّ» في ط 2.
(2) أجود التقريرات: ج 2 ص 110.
أصول الفقه ( مظفر، محمد رضا - طبع انتشارات اسلامى )، ج3، ص: 85
بمعنى أنّه يجب على كلّ قومٍ أن ينفر منهم طائفة فيرحلوا لتحصيل التفقّه- و هو الاجتهاد- لينذروا قومهم إذا رجعوا اليهم. كما تدلّ أيضاً بالملازمة الّتي سبق ذكرها على حجّية قول المجتهد على الناس الآخرين و وجوب قبول فتواه عليهم.
الآية الثالثة- آية حرمة الكتمان:
و هي قوله تعالى في سورة البقرة 159: «إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ ما أَنْزَلْنا مِنَ الْبَيِّناتِ وَ الْهُدى مِنْ بَعْدِ ما بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتابِ أُولئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ ...».
وجه الاستدلال بها يشبه الاستدلال بآية النفر، فإنّه لمّا حرّم اللَّه تعالى كتمان البيّنات و الهدى وجب أن يقبل قول من يُظهر البيّنات و الهدى و يبيّنه للناس و إن كان ذلك المُظهر و المبيّن واحداً لا يوجب قوله العلم، و إلا لكان تحريم الكتمان لغواً و بلا فائدة لو لم يكن قوله حجّة مطلقا.
و الحاصل: أنّ هناك ملازمة عقليّة بين وجوب الإظهار و وجوب القبول، و إلّا لكان وجوب الإظهار لغواً و بلا فائدة. و لمّا كان وجوب الإظهار لم يشترط فيه أن يكون الإظهار موجباً للعلم فكذلك لازمه و هو وجوب القبول لا بدّ أن يكون مطلقاً من هذه الناحية غير مشترط فيه بما يوجب العلم. و على هذا الأساس من الملازمة قلنا بدلالة آية النفر على حجّية خبر الواحد و حجّية فتوى المجتهد.
و لكنّ الإنصاف: أن الاستدلال لا يتمّ بهذه الآية الكريمة، بل هي أجنبيّة جدّاً عمّا نحن فيه، لأنّ ما نحن فيه- و هو حجّية خبر الواحد- أن يظهر المخبر شيئاً لم يكن ظاهراً و يعلّم ما تعلّم من أحكام غير معلومة للآخرين كما في آية النفر، فإذا وجب التعليم و الإظهار وجب قبوله على
أصول الفقه ( مظفر، محمد رضا - طبع انتشارات اسلامى )، ج3، ص: 86
الآخرين، و إلّا كان وجوب التعليم و الإظهار لغواً، و أمّا هذه الآية فهي واردة في مورد كتمان ما هو ظاهر و بيِّن للناس جميعاً، بدليل قوله تعالى:
«مِنْ بَعْدِ ما بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتابِ» لا إظهار ما هو خفيّ على الآخرين.
و الغرض: أنّ هذه الآية واردة في مورد ما هو بيِّن واجب القبول سواء كتم أم أظهر، لا في موردٍ يكون قبوله من جهة الإظهار حتّى تكون ملازمة بين وجوب القبول و حرمة الكتمان، فيقال: «لو لم يُقبل لما حرم الكتمان». و بهذا يظهر الفرق بين هذه الآية و آية النفر.
و ينسق على هذه الآية باقي الآيات الاخر الّتي ذكرت للاستدلال بها على المطلوب، فلا نطيل بذكرها. - ب- دليل حجّية خبر الواحد من السنّة
من البديهي أنّه لا يصحّ الاستدلال على حجّية خبر الواحد بنفس خبر الواحد، فإنّه دور ظاهر، بل لا بدّ أن تكون الأخبار المستدلّ بها على حجّيته معلومة الصدور من المعصومين، إمّا بتواتر أو قرينة قطعيّة.
و لا شكّ في أنّه ليس في أيدينا من الأخبار ما هو متواتر بلفظه في هذا المضمون و إنّما كلّ ما قيل هو تواتر الأخبار معنىً في حجّية خبر الواحد إذا كان ثقة مؤتمناً في الرواية، كما رآه الشيخ الحرّ صاحب الوسائل «1». و هذه دعوى غير بعيدة، فإنّ المتتبّع يكاد يقطع جازماً بتواتر الأخبار في هذا المعنى، بل هي بالفعل متواترة لا ينبغي أن يعتري فيها
______________________________ (1) انظر الوسائل: ج 20 ص 98، الفائدة التاسعة.
أصول الفقه ( مظفر، محمد رضا - طبع انتشارات اسلامى )، ج3، ص: 87
الريب للمنصف «1».
و قد ذكر الشيخ الأنصاري- قدّس اللَّه نفسه الزكيّة- طوائف من الأخبار، يحصل بانضمام بعضها إلى بعضٍ العلم بحجّية خبر الواحد الثقة المأمون من الكذب في الشريعة، و أنّ هذا أمر مفروغ عنه عند آل البيت عليهم السلام.
و نحن نشير إلى هذه الطوائف على الإجمال و على الطالب أن يرجع إلى الوسائل (كتاب القضاء) «2» و إلى رسائل الشيخ في حجّية خبر الواحد «3» للاطّلاع على تفاصيلها.
الطائفة الاولى: ما ورد في الخبرين المتعارضين في الأخذ بالمرجّحات، كالأعدل و الأصدق و المشهور ثمّ التخيير عند التساوي «4».
و سيأتي ذكر بعضها في باب التعادل و التراجيح. و لو لا أنّ خبر الواحد الثقة حجّة لما كان معنى لفرض التعارض بين الخبرين، و لا معنى للترجيح بالمرجّحات المذكورة و التخيير عند عدم المرجّح، كما هو واضح.
الطائفة الثانية: ما ورد في إرجاع آحاد الرواة إلى آحاد أصحاب الأئمة عليهم السلام على وجهٍ يظهر فيه عدم الفرق في الإرجاع بين الفتوى و الرواية، مثل إرجاعه عليه السلام إلى زرارة بقوله: «إذا أردت حديثاً فعليك بهذا الجالس» «5»
______________________________ (1) (*) إنّ الشيخ صاحب الكفاية لم يتّضح له تواتر الأخبار معنىً، و إنّما أقصى ما اعترف به «أنّها متواترة إجمالًا» و غرضه من التواتر الإجمالي هو العلم بصدور بعضها عنهم عليهم السلام يقيناً. و تسمية ذلك بالتواتر مسامحة ظاهرة.
(2) راجع الوسائل: ج 18 ص 98، الباب 11 من أبواب صفات القاضي.
(3) راجع فرائد الاصول: ج 1 ص 137- 144.
(4) راجع الوسائل: ج 18 ص 75، الباب 9 من أبواب صفات القاضي.
(5) الكشّي: ص 136، ح 216.
أصول الفقه ( مظفر، محمد رضا - طبع انتشارات اسلامى )، ج3، ص: 88
يشير بذلك إلى زرارة. و مثل قوله عليه السلام لمّا قال له عبد العزيز بن المهتدي:
ربما أحتاج و لست ألقاك في كلّ وقت، أ فيونس بن عبد الرحمان ثقة آخذ عنه معالم ديني؟ قال: نعم «1».
قال الشيخ الأعظم: و ظاهر هذه الرواية أنّ قبول قول الثقة كان أمراً مفروغاً عنه عند الراوي، فسأل عن وثاقة يونس ليرتّب عليه أخذَ المعالم منه «2».
إلى غير ذلك من الروايات الّتي تنسق على هذا المضمون و نحوه.
الطائفة الثالثة: ما دلّ على وجوب الرجوع إلى الرواة و الثقات و العلماء، مثل قوله عليه السلام: «و أمّا الحوادث الواقعة فارجعوا فيها إلى رواة حديثنا، فإنّهم حجّتي عليكم و أنا حجّة اللَّه عليهم» «3» ... إلى ما شاء اللَّه من الروايات في أمثال هذا المعنى.
الطائفة الرابعة: ما دلّ على الترغيب في الرواية و الحثّ عليها و كتابتها و إبلاغها، مثل الحديث النبوي المستفيض بل المتواتر: «من حفظ على امّتي أربعين حديثاً بعثه اللَّه فقيهاً عالماً يوم القيامة» «4» الّذي لأجله صنّف كثير من العلماء الأربعينيّات. و مثل قوله عليه السلام للراوي: «اكتب و بثّ علمك في بني عمّك، فإنّه يأتي زمان هرج لا يأنسون إلّا بكتبهم» «5» إلى غير ذلك من الأحاديث.
______________________________ (1) الوسائل: ج 18 ص 107 باب 11 من أبواب صفات القاضي ح 33.
(2) فرائد الاصول: ج 1 ص 139.
(3) الوسائل: ج 18 ص 101، الباب 11 من أبواب صفات القاضي، ح 9.
(4) الوسائل: ج 18 ص 54، الباب 8 من أبواب صفات القاضي، ح 5، 6 و ...
(5) الوسائل: ج 18 ص 56، الباب 8 من أبواب صفات القاضي، ح 18، و فيه بدل «بني عمّك»: إخوانك.
أصول الفقه ( مظفر، محمد رضا - طبع انتشارات اسلامى )، ج3، ص: 89
الطائفة الخامسة: ما دلّ على ذمّ الكذب عليهم و التحذير من الكذّابين عليهم «1» فإنّه لو لم يكن الأخذ بأخبار الآحاد أمراً معروفاً بين المسلمين لما كان مجال للكذب عليهم، و لما كان مورد للخوف من الكذب عليهم و لا التحذير من الكذّابين، لأنّه لا أثر للكذب لو كان خبر الواحد على كلّ حالٍ غير مقبول عند المسلمين.
قال الشيخ الأعظم بعد نقله لهذه الطوائف من الأخبار- و هو على حقّ فيما قال [و لقد أجاد فيما أفاد] «2»-: إلى غير ذلك من الأخبار الّتي يستفاد من مجموعها رضى الأئمّة بالعمل بالخبر و إن لم يفد القطع، و قد ادّعى في الوسائل تواتر الأخبار بالعمل بخبر الثقة، إلّا أنّ القدر المتيقّن منها هو خبر الثقة الّذي يضعف فيه احتمال الكذب على وجهٍ لا يعتني به العقلاء و يقبّحون التوقّف فيه لأجل ذلك الاحتمال، كما دلّ عليه ألفاظ «الثقة» و «المأمون» و «الصادق» و غيرها الواردة في الأخبار المتقدّمة، و هي أيضاً منصرف إطلاق غيرها «3».
و أضاف «4»: و أمّا «العدالة» فأكثر الأخبار المتقدّمة خالية عنها، بل و في كثير منها التصريح بخلافه «5».
- ج دليل حجّية خبر الواحد من الإجماع
حكى جماعة كبيرة تصريحاً و تلويحاً الإجماع من قبل علماء الإماميّة على حجّية خبر الواحد إذا كان ثقةً مأموناً في نقله و إن لم يفد
______________________________ (1) الوسائل: ج 18 ص 95، الباب 10 من أبواب صفات القاضي، ح 20.
(2) لم يرد في ط 2.
(3) فرائد الاصول: ج 1 ص 144.
(4) في ط الاولى بدل «و أضاف»: ثمّ قال و نعم ما قال.
(5) فرائد الاصول: ج 1 ص 144.
أصول الفقه ( مظفر، محمد رضا - طبع انتشارات اسلامى )، ج3، ص: 90
خبره العلم. و على رأس الحاكين للإجماع شيخ الطائفة الطوسي- أعلى اللَّه مقامه- في كتابه العدّة (ج 1 ص 47) «1» لكنّه اشترط فيما اختاره من الرأي و حكى عليه الإجماع: أن يكون خبر الواحد وارداً من طريق أصحابنا القائلين بالإمامة، و كان ذلك مرويّاً عن النبيّ أو عن الواحد من الأئمّة، و كان ممّن لا يُطعن في روايته و يكون سديداً في نقله. و تبعه على ذلك في التصريح بالإجماع السيّد رضي الدين بن طاووس «2» و العلّامة الحلّي في النهاية «3» و المحدّث المجلسي في بعض رسائله «4» كما حكى ذلك عنهم الشيخ الأعظم في الرسائل «5».
و في مقابل ذلك حكى جماعة اخرى إجماع الإماميّة على عدم الحجّية. و على رأسهم السيّد الشريف المرتضى- أعلى اللَّه درجته- و جعله بمنزلة القياس في كون ترك العمل به معروفاً من مذهب الشيعة «6». و تبعه على ذلك الشيخ ابن إدريس في السرائر و نقل كلاماً للسيّد المرتضى في المقدّمة، و انتقد في أكثر من موضع في كتابه «7» الشيخ الطوسي في عمله بخبر الواحد، و كرّر تبعاً للسيّد قوله:
«إنّ خبر الواحد لا يوجب علماً و لا عملًا» «8» و كذلك نقل عن الطبرسي- صاحب مجمع البيان- تصريحَه في نقل الإجماع على عدم العمل بخبر الواحد «9».
______________________________ (1) الصفحة 126 من الطبعة الحديثة.
(2) لم نقف على مأخذه في غير فرائد الاصول.
(3) نهاية الوصول: الورقة 139.
(4) لم نظفر بالرسالة، قال في البحار (ج 2 ص 245): و عمل أصحاب الأئمّة عليهم السلام على أخبار الآحاد الّتي لا تفيد العلم في أعصارهم متواتر بالمعنى لا يمكن إنكاره.
(5) فرائد الاصول: ج 1 ص 156- 157.
(6) رسائل الشريف المرتضى (المجموعة الاولى): ص 211.
(7) في ط الاولى: و شنّع ... على الشيخ الطوسي.
(8) راجع السرائر: ج 1 ص 47، 50، 127، 267.
(9) مجمع البيان ذيل الآية 6 من سورة الحجرات.
أصول الفقه ( مظفر، محمد رضا - طبع انتشارات اسلامى )، ج3، ص: 91
و الغريب في الباب! وقوع مثل هذا التدافع بين نقل الشيخ و السيّد عن إجماع الإماميّة، مع أنّهما متعاصران بل الأوّل تَلْمَّذَ على الثاني، و هما الخبيران العالمان بمذهب الإماميّة، و ليس من شأنهما أن يحكيا مثل هذا الأمر بدون تثبّتٍ و خبرةٍ كاملة.
فلذلك وقع الباحثون في حيرة عظيمة من أجل التوفيق بين نقليهما.
و قد حكى الشيخ الأعظم في الرسائل وجوهاً للجمع: مثل أن يكون مراد السيّد المرتضى من «خبر الواحد»- الّذي حكى الإجماع على عدم العمل به- هو خبر الواحد الّذي يرويه مخالفونا «1» و الشيخ يتّفق معه على ذلك. و قيل: يجوز أن يكون مراده من «خبر الواحد» ما يقابل المأخوذ من الثقات المحفوظ في الاصول المعمول بها عند جميع خواصّ الطائفة «2» و حينئذٍ يتقارب مع الشيخ في الحكاية عن الإجماع. و قيل:
يجوز أن يكون مراد الشيخ من «خبر الواحد» خبر الواحد المحفوظ بالقرائن المفيدة للعلم بصدقه «3» فيتّفق حينئذٍ نقله مع نقل السيّد.
و هذه الوجوه من التوجيهات قد استحسن الشيخ الأعظم منها الأوّل ثمّ الثاني. و لكنّه يرى أنّ الأرجح من الجميع ما ذكره هو من الوجه «4» و أكّد عليه أكثر من مرّة، فقال:
و يمكن الجمع بينهما بوجه أحسن، و هو أنّ مراد السيّد من «العلم»
______________________________ (1) راجع فرائد الاصول: ج 1 ص 112 و 156.
(2) راجع فرائد الاصول: ج 1 ص 112 و 156.
(3) راجع فرائد الاصول: ج 1 ص 112 و 156.
(4) ذكر المحقّق الآشتياني في حاشيته على الرسائل في هذا الموقع: أنّ هذا الوجه من التوجيه سبق إليه بعض أفاضل المتأخّرين، و هو المحقّق النراقي- صاحب المناهج- و نقل نصّ عبارته. أصول الفقه ( مظفر، محمد رضا - طبع انتشارات اسلامى )، ج3، ص: 92
الّذي ادّعاه في صدق الأخبار هو مجرّد الاطمئنان، فإنّ المحكيّ عنه في تعريف العلم أنّه «ما اقتضى سكون النفس» و هو الّذي ادّعى بعض الأخباريّين أنّ مرادنا من العلم بصدور الأخبار هو هذا المعنى، لا اليقين الّذي لا يقبل الاحتمال رأساً. فمراد الشيخ من تجرّد هذه الأخبار عن القرائن تجرّدها عن القرائن الأربع الّتي ذكرها أوّلًا، و هي: موافقة الكتاب و السنّة و الإجماع و الدليل العقلي. و مراد السيّد من القرائن الّتي ادّعى في عبارته المتقدّمة «1» احتفاف أكثر الأخبار بها، هي الامور الموجبة للوثوق بالراوي أو بالرواية، بمعنى سكون النفس بهما و ركونها إليهما.
ثمّ قال: و لعلّ هذا الوجه أحسن وجوه الجمع بين كلامي الشيخ و السيّد، خصوصاً مع ملاحظة تصريح السيّد في كلامه بأنّ أكثر الأخبار متواترة أو محفوفة، و تصريح الشيخ في كلامه المتقدّم بإنكار ذلك «2».
هذا ما أفاده الشيخ الأنصاري في توجيه كلام هذين العلمين. و لكنّي لا أحسب أنّ السيّد المرتضى يرتضي بهذا الجمع، لأنّه صرّح في عبارته- المنقولة في مقدمة السرائر- بأنّ مراده من «العلم» القطع الجازم، قال:
اعلم أنّه لا بدّ في الأحكام الشرعيّة من طريقٍ يوصل إلى العلم بها، لأنّه متى لم نعلم الحكم و نقطع بالعلم على أنّه مصلحة جوّزنا كونه مفسدة.
و أصرح منه «3» قوله بعد ذلك: و لذلك أبطلنا في الشريعة العمل بأخبار الآحاد لأنّها لا توجب علماً و لا عملًا، و أوجبنا أن يكون العمل تابعاً للعلم لأنّ خبر الواحد إذا كان عدلًا فغاية ما يقتضيه الظنّ لصدقه «4» و من
______________________________ (1) (*) غرضه من «عبارته المتقدّمة» عبارته الّتي نقلها في السرائر عن السيّد، و قد نقلها الشيخ الأعظم في الرسائل.
(2) فرائد الاصول: ج 1 ص 156.
(3) (**) إنّما قلت: «أصرح منه» لأنّه يحتمل في العبارة المتقدّمة أنّه يريد من «العلم» ما يعمّ العلم بالحكم و العلم بمشروعيّة الطريق إليه و إن كان الطريق في نفسه ظنّياً. و هذا الاحتمال لا يتطرّق إلى عبارته الثانية.
(4) بصدقه، ظ.
أصول الفقه ( مظفر، محمد رضا - طبع انتشارات اسلامى )، ج3، ص: 93
ظننتَ صدقَه يجوز أن يكون كاذباً و إن ظننتَ به الصدق، فإن الظنّ لا يمنع من التجويز، فعاد الأمر في العمل بأخبار الآحاد إلى أنّه إقدام على ما لا نأمن من كونه فساداً أو غير صلاح «1».
هذا، و يحتمل احتمالًا بعيداً: أنّ السيّد لم يرد من «التجويز»- الّذي قال عنه: إنّه لا يمنع منه الظنّ- كلَّ تجويزٍ حتّى الضعيف الذي لا يعتني به العقلاء و يجتمع مع اطمئنان النفس، بل أراد منه التجويز الّذي لا يجتمع مع اطمئنان النفس و يرفع الأمان بصدق الخبر.
و إنّما قلنا: إنّ هذا الاحتمال بعيد، لأنّه يدفعه: أنّ السيّد حصر في بعض عباراته ما يُثبت الأحكام عند من نأى عن المعصومين أو وجد بعدهم، حصره في خصوص الخبر المتواتر المفضي إلى العلم و إجماع الفرقة المحقّة لا غيرهما.
و أمّا تفسيره للعلم بسكون النفس فهذا تفسير شايع في عبارات المتقدّمين و منهم الشيخ نفسه في العُدّة. و الظاهر أنّهم يريدون من سكون النفس «الجزم القاطع» لا مجرّد الاطمئنان و إن لم يبلغ القطع كما هو متعارف التعبير به في لسان المتأخّرين.
نعم، لقد عمل السيّد المرتضى على خلاف ما أصّله هنا- و كذلك ابن إدريس الّذي تابعه في هذا القول- لأنّه كان كثيراً ما يأخذ بأخبار الآحاد الموثوقة المرويّة في كتب أصحابنا. و من العسير عليه و على غيره أن يدّعى تواترها جميعاً أو احتفافها بقرائن توجب القطع بصدورها. و على
______________________________ (1) السرائر: ج 1 ص 46 و 47.
أصول الفقه ( مظفر، محمد رضا - طبع انتشارات اسلامى )، ج3، ص: 94
ذلك جرت استنباطاته الفقهيّة. و كذلك ابن ادريس في السرائر. و لعلّ عمله هذا يكون قرينة على مراده من ذلك الكلام و مفسّراً له على نحو ما احتمله الشيخ الأنصاري.
و على كلّ حالٍ، سواء استطعنا تأويل كلام السيّد بما يوافق كلام الشيخ أو لم نستطع، فإنّ دعوى الشيخ إجماع الطائفة على اعتبار «خبر الواحد الموثوق به المأمون من الكذب و إن لم يكن عادلًا بالمعنى الخاصّ و لم يوجب قوله العلم القاطع» دعوى مقبولة و مؤيَّدة، يؤيّدها عمل جميع العلماء من لدن الصدر الأوّل إلى اليوم حتّى نفس السيّد و ابن إدريس كما ذكرنا، بل السيّد نفسه اعترف في بعض كلامه بعمل الطائفة بأخبار الآحاد.
إلّا أنّه ادّعى أنّه لمّا كان من المعلوم عدم عملهم بالأخبار المجرّدة- كعدم عملهم بالقياس- فلا بدّ من حمل موارد عملهم على الأخبار المحفوفة بالقرائن، قائلًا:
ليس ينبغي أن يرجع عن الامور المعلومة المشهورة المقطوع عليها (و يقصد بالامور المعلومة عدم عملهم بالظنون) إلى ما هو مشتبه و ملتبس و مجمل «1» (و يقصد بالمشتبه المجمل وجه عملهم بأخبار الآحاد) و قد علم كلّ موافق و مخالف أنّ الشيعة الإماميّة تُبطل القياس في الشريعة حيث لا يؤدّي إلى العلم، و كذلك نقول في أخبار الآحاد «2».
و نحن نقول للسيّد- أعلى اللَّه درجته-: صحيح أنّ المعلوم من طريقة الشيعة الإماميّة عدم عملهم بالظنون بما هي ظنون. و لكن خبر الواحد الثقة المأمون و ما سواه من الظنون المعتبرة- كالظواهر- إذا كانوا قد عملوا بها فإنّهم لم يعملوا بها إلّا لأنّها ظنون قام الدليل القاطع على
______________________________ (1) في المصدر: بما هو مشتبه ملتبس محتمل.
(2) رسائل الشريف المرتضى (المجموعة الاولى): ص 211.
أصول الفقه ( مظفر، محمد رضا - طبع انتشارات اسلامى )، ج3، ص: 95
اعتبارها و حجّيتها، فلم يكن العمل بها عملًا بالظنّ، بل يكون- بالأخير- عملًا بالعلم.
وعليه، فنحن نقول معه: «إنّه لا بدّ في الأحكام الشرعيّة من طريق يوصل إلى العلم بها، لأنّه متى لم نعلم الحكم و نقطع بالعلم على أنّه مصلحة جوّزنا كونه مفسدة» و خبر الواحد الثقة المأمون لمّا ثبت اعتباره فهو طريق يوصل إلى العلم بالأحكام، و نقطع بالعلم- على حدّ تعبيره- على أنّه مصلحة لا نجوّز كونه مفسدة.
و يؤيّد أيضاً دعوى الشيخ للإجماع قرائن كثيرة، ذكر جملةً منها الشيخ الأعظم في الرسائل: «1» منها: ما ادّعاه الكشّي من إجماع العصابة على تصحيح ما يصحّ عن جماعة «2» فإنّه من المعلوم أنّ معنى التصحيح المجمع عليه هو عدّ خبره صحيحاً بمعنى عملهم به، لا القطع بصدوره، إذ الإجماع وقع على «التصحيح» لا على «الصحّة».
و منها: دعوى النجاشي أنّ مراسيل ابن أبي عمير مقبولة عند الأصحاب «3». و هذه العبارة من النجاشي تدلّ دلالة صريحة على عمل الأصحاب بمراسيل مثل ابن ابي عمير لا من أجل القطع بالصدور، بل لعلمهم أنّه لا يروي- أو لا يرسل- إلّا عن ثقة. إلى غير ذلك من القرائن الّتي ذكرها الشيخ الأعظم من هذا القبيل.
و عليك بمراجعة الرسائل في هذا الموضوع، فقد استوفت البحث أحسن استيفاء، و أجاد فيها الشيخ فيما أفاد، و ألمّت بالموضوع من جميع
______________________________ (1) فرائد الاصول: ج 1 ص 158.
(2) رجال الكشّي: ص 556، الرقم 1050.
(3) رجال النجاشي: 326، الرقم 887.
أصول الفقه ( مظفر، محمد رضا - طبع انتشارات اسلامى )، ج3، ص: 96
أطرافه، كعادته في جميع أبحاثه. و قد ختم البحث بقوله السديد:
و الإنصاف: أنّه لم يحصل في مسألة يُدّعى فيها الإجماع من الإجماعات المنقولة و الشهرة العظيمة و الأمارات الكثيرة الدالّة على العمل ما حصل في هذه المسألة، فالشاكّ في تحقّق الإجماع في هذه المسألة لا أراه يحصل له الإجماع في مسألة من المسائل الفقهيّة، اللّهمّ إلّا في ضروريّات المذهب.
و أضاف «1» لكن الإنصاف: أنّ المتيقّن من هذا كلّه الخبر المفيد للاطمئنان لا مطلق الظنّ «2».
و نحن له من المؤيّدين. جزاه اللَّه خير ما يجزي العلماء العاملين.
- د- دليل حجّية خبر الواحد من بناء العقلاء
إنّه من المعلوم قطعاً الّذي لا يعتريه الريب استقرار بناء العقلاء طرّاً و اتّفاق سيرتهم العمليّة- على اختلاف مشاربهم و أذواقهم- على الأخذ بخبر من يثقون بقوله و يطمئنّون إلى صدقه و يأمنون كذبه، و على اعتمادهم في تبليغ مقاصدهم على الثقات. و هذه السيرة العمليّة جارية حتّى في الأوامر الصادرة من ملوكهم و حكّامهم و ذوي الأمر منهم.
و سرّ هذه السيرة: أنّ الاحتمالات الضعيفة المقابلة ملغيةٌ «3» بنظرهم لا يعتنون بها، فلا يلتفتون إلى احتمال تعمّد الكذب من الثقة، كما لا يلتفتون إلى احتمال خطأه و اشتباهه أو غفلته.
______________________________ (1) في ط الاولى بدل «و أضاف»: ثمّ قال و نعم ما قال.
(2) فرائد الاصول: ج 1 ص 161.
(3) كذا، و القياس: ملغاة.
أصول الفقه ( مظفر، محمد رضا - طبع انتشارات اسلامى )، ج3، ص: 97
و كذلك أخذهم بظواهر الكلام و ظواهر الأفعال، فإنّ بناءهم العملي على إلغاء الاحتمالات الضعيفة المقابلة. و ذلك من كلّ ملّة و نحلة.
و على هذه السيرة العمليّة قامت معايش الناس و انتظمت حياة البشر، و لولاها لاختلّ نظامهم الاجتماعي و لسادهم الهرج و المرج «1» لقلّة ما يوجب العلم القطعي من الأخبار المتعارفة سنداً و متناً.
و المسلمون بالخصوص كسائر الناس جرت سيرتهم العمليّة على مثل ذلك في استفادة الأحكام الشرعيّة من القديم إلى يوم الناس هذا، لأنّهم متّحدو المسلك و الطريقة مع سائر البشر، كما جرت سيرتهم بما هم عقلاء على ذلك في غير الأحكام الشرعيّة.
أ لا ترى هل كان يتوقّف المسلمون من أخذ أحكامهم الدينيّة من أصحاب النبي صلى الله عليه و آله و سلم أو من أصحاب الأئمة عليهم السلام الموثوقين عندهم؟
و هل ترى هل يتوقّف المقلّدون اليوم و قبلَ اليوم في العمل بما يخبرهم الثقات عن رأي المجتهد الّذي يرجعون إليه؟
و هل ترى تتوقّف الزوجة في العمل بما يحكيه لها زوجها الّذي تطمئنّ إلى خبره عن رأي المجتهد في المسائل الّتي تخصّها كالحيض مثلًا؟
و إذا ثبتت سيرة العقلاء من الناس بما فيهم المسلمون على الأخذ بخبر الواحد الثقة، فإنّ الشارع المقدّس متّحد المسلك معهم، لأنّه منهم، بل هو رئيسهم، فلا بدّ أن نعلم بأنّه متّخذ لهذه الطريقة العقلائية كسائر الناس ما دام أنّه لم يثبت لنا أنّ له في تبليغ الأحكام طريقاً خاصّاً مخترعاً منه غير طريق العقلاء. و لو كان له طريق خاصّ قد اخترعه غير مسلك العقلاء لأذاعه و بيّنه للناس و لظهر و اشتهر، و لما جرت سيرة المسلمين على طبق سيرة باقي البشر.
______________________________ (1) في ط 2: لسادهم الاضطراب.
أصول الفقه ( مظفر، محمد رضا - طبع انتشارات اسلامى )، ج3، ص: 98
و هذا الدليل قطعي لا يداخله الشكّ، لأنّه مركّب من مقدّمتين قطعيّتين:
1- ثبوت بناء العقلاء على الاعتماد على خبر الثقة و الأخذ به.
2- كشف هذا البناء منهم عن موافقة الشارع لهم و اشتراكه معهم، لأنّه متّحد المسلك معهم.
قال شيخنا النائيني قدس سره كما في تقريرات تلميذه الكاظمي قدس سره (ج 3 ص 69): و أمّا طريقة العقلاء فهي عمدة أدلّة الباب بحيث لو فُرض أنّه كان سبيل إلى المناقشة في بقيّة الأدلّة فلا سبيل إلى المناقشة في الطريقة العقلائيّة القائمة على الاعتماد على خبر الثقة و الاتّكال عليه في محاوراتهم «1».
و أقصى ما قيل في الشك في هذا الاستدلال هو: إنّ الشارع لئن كان متّحد المسلك مع العقلاء فإنّما يستكشف موافقته لهم و رضاه بطريقتهم إذا لم يثبت الردع منه عنها. و يكفي في الردع الآيات الناهية عن اتّباع الظنّ و ما وراء العلم الّتي ذكرناها سابقاً في البحث السادس من المقدّمة «2» لأنّها بعمومها تشمل خبر الواحد غير المفيد للعلم.
و قد عالجنا هذا الأمر فيما يتعلّق بشمول هذه الآيات الناهية للاستصحاب في الجزء الرابع (مبحث الاستصحاب) فقلنا: إنّ هذه الآيات غير صالحة للردع عن الاستصحاب الّذي جرت سيرة العقلاء على الأخذ به، لأنّ المقصود من النهي عن اتّباع غير العلم النهي عنه إذ يراد به إثبات الواقع، كقوله تعالى: «إِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً» «3»* بينما أنّه ليس المقصود من الاستصحاب إثبات الواقع و الحقّ، بل هو أصل و قاعدة عمليّة
______________________________ (1) فوائد الاصول: ج 3 ص 194 (ط- مؤسسة النشر الإسلامي).
(2) راجع ص 18- 22.
(3) النجم: 28.
أصول الفقه ( مظفر، محمد رضا - طبع انتشارات اسلامى )، ج3، ص: 99
يرجع إليها في مقام العمل عند الشكّ في الواقع و الحقّ، فيخرج الاستصحاب عن عموم هذه الآيات موضوعاً.
و هذا العلاج- طبعاً- لا يجري في مثل خبر الواحد، لأنّ المقصود به كسائر الأمارات الاخرى إثبات الواقع و تحصيل الحقّ.
و لكن مع ذلك نقول: إنّ خبر الواحد خارج عن عموم هذه الآيات تخصّصاً، كالظواهر التي أيضاً حجّيتها مستندة إلى بناء العقلاء على ما سيأتي.
و ذلك بأن يقال، حسبما أفاده استاذنا المحقّق الاصفهاني قدس سره في حاشيته على الكفاية (ج 3 ص 14) قال: إنّ لسان النهي عن اتّباع الظنّ و أنّه لا يغني من الحقّ شيئاً ليس لسان التعبّد بأمرٍ على خلاف الطريقة العقلائيّة، بل من باب إيكال الأمر إلى عقل المكلّف من جهة أنّ الظنّ بما هو ظنّ لا مسوّغ للاعتماد عليه و الركون إليه. فلا نظر في- الآيات الناهية- إلى ما استقرّت عليه سيرة العقلاء بما هم عقلاء على اتّباعه من أجل كونه خبر الثقة؛ و لذا كان الرواة يسألون عن وثاقة الراوي للفراغ عن لزوم اتّباع روايته بعد فرض وثاقته «1».
أو يقال- حسبما أفاده شيخنا النائيني قدس سره على ما في تقريرات الكاظمي قدس سره ج 3 ص 69- قال: إنّ الآيات الناهية عن العمل بالظنّ لا تشمل خبر الثقة، لأنّ العمل بخبر الثقة في طريقة العقلاء ليس من العمل بما وراء العلم، بل هو من أفراد العلم، لعدم التفات العقلاء إلى مخالفة الخبر للواقع، لما قد جرت على ذلك طباعهم و استقرّت عليه عادتهم. فهو خارج عن العمل بالظنّ موضوعاً، فلا تصلح أن تكون الآيات الناهية عن العمل
______________________________ (1) نهاية الدراية، ج 5 ص 34.
أصول الفقه ( مظفر، محمد رضا - طبع انتشارات اسلامى )، ج3، ص: 100
بما وراء العلم رادعة عن العمل بخبر الثقة، بل الردع يحتاج إلى قيام الدليل عليه بالخصوص «1». و على كلّ حال، لو كانت هذه الآيات صالحة للردع عن مثل خبر الواحد و الظواهر التي جرت سيرة العقلاء على العمل بها- و منهم المسلمون- لعُرف ذلك بين المسلمين و انكشف لهم و لما أطبقوا على العمل بها و جرت سيرتهم عليه.
فهذا دليل قطعي على عدم صلاحيّة هذه الآيات للردع عن العمل بخبر الواحد، فلا نطيل بذكر الدور الّذي أشكلوا به في المقام، و الجواب عنه. و إن شئت الاطّلاع، فراجع الرسائل «2» و كفاية الاصول «3».
***______________________________ (1) فوائد الاصول: ج 3 ص 195 (ط- مؤسسة النشر الإسلامي).
(2) لم نظفر بذكر الدور في الرسائل، راجع ج 1 ص 164.
(3) كفاية الاصول: 348.
أصول الفقه ( مظفر، محمد رضا - طبع انتشارات اسلامى )، ج3، ص: 102
مقبول
طہارۃ، استعمال طہور مشروط بالنیت
المدخل۔۔۔
الزکاۃ،کتاب الزکاۃ وفصولہ اربعۃ۔۔۔
مقدمہ و تعریف :الامرلاول تعریف علم الاصول۔۔۔
الطہارۃ و مختصر حالات زندگانی
الفصل السابع :نسخ الوجوب۔۔
الفصل الثالث؛ تقسیم القطع الی طریقی ...
مقالات
دینی مدارس کی قابل تقلید خوبیاں
ایک اچھے مدرس کے اوصاف
اسلام میں استاد کا مقام و مرتبہ
طالب علم کے لئے کامیابی کے زریں اصول