حضرت امام علی عليهالسلام نے فرمایا:
جسے توبہ مل گئی وہ قبولیت سے محروم نہیں رہتا اور جسے استغفار مل گئی وہ الٰہی معرفت سے محروم نہیں رہتا۔
نھج البلاغہ حکمت 135
و اختلف الاصوليّون من القديم في أنّه هل يجوز اجتماع الأمر و النهي في واحد أو لا يجوز؟
ذهب إلى الجواز أغلب الأشاعرة و جملة من أصحابنا أوّلهم الفضل ابن شاذان على ما هو المعروف عنه، وعليه جماعة من محقّقي المتأخّرين «1». و ذهب إلى الامتناع أكثر المعتزلة و أكثر أصحابنا «2».
______________________________
(1) قال المحقّق القمّي قدس سره: إنّ القول بجواز الاجتماع هو مذهب أكثر الأشاعرة و الفضل بن شاذان رحمه الله من قدمائنا، و هو الظاهر من كلام السيّد رحمه الله في الذريعة، و ذهب إليه جلّة من فحول متأخّرينا كمولانا المحقّق الأردبيلي و سلطان العلماء و المحقّق الخوانساري و ولده المحقّق و الفاضل المحقّق الشيرواني و الفاضل الكاشاني، و السيّد الفاضل صدر الدين، و أمثالهم- رحمهم اللَّه تعالى- بل و يظهر من الكليني- حيث نقل كلام الفضل بن شاذان في كتاب الطلاق و لم يطعن عليه- رضاؤه بذلك، بل و يظهر من كلام الفضل أنّ ذلك كان من مسلّمات الشيعة و إنّما المخالف فيه كان من العامّة، كما أشار إلى ذلك العلّامة المجلسي رحمه الله في كتاب بحار الأنوار أيضاً؛ و انتصر هذا المذهب أيضاً جماعة من أفاضل المعاصرين، قوانين الاصول: ج 1 ص 140.
(2) في تقريرات الشيخ الأعظم الأنصاري: فذهب أكثر أصحابنا و جمهور المعتزلة و بعض الأشاعرة- كالباقلّاني- إلى الامتناع، بل عن جماعة- منهم العلّامة و السيّد الجليل في إحقاق الحقّ و العميدي و صاحبي المعالم و المدارك و صاحب التجريد- الإجماع عليه، بل ادّعى بعضهم الضرورة، و ليس بذلك البعيد، مطارح الأنظار: ص 129.
أصول الفقه ( مظفر، محمد رضا - طبع انتشارات اسلامى )، ج2، ص: 377
و كأنّ المسألة- فيما يبدو من عنوانها من الأبحاث التافهة، إذ لا يمكن أن نتصوّر النزاع في إمكان اجتماع الأمر و النهي في واحدٍ حتّى لو قلنا بعدم امتناع التكليف بالمحال- كما تقوله الأشاعرة- لأنّ التكليف هنا نفسه محال، و هو الأمر و النهي بشيء واحد. و امتناع ذلك من أوضح الواضحات، و هو محلّ وفاقٍ بين الجميع.
إذاً، فكيف صحّ هذا النزاع من القوم؟ و ما معناه؟
و الجواب: أنّ التعبير باجتماع الأمر و النهي من خداع العناوين، فلا بدّ من توضيح مقصودهم من البحث بتوضيح الكلمات الواردة في هذا العنوان، و هي كلمة: «الاجتماع»، «الواحد»، «الجواز». ثمّ ينبغي أن نبحث أيضاً عن قيد آخر لتصحيح النزاع، و هو قيد «المندوحة» الّذي أضافه بعض المؤلّفين «1» و هو على حقّ. وعليه نقول:
1- الاجتماع: و المقصود منه هو الالتقاء الاتّفاقي بين المأمور به و المنهيّ عنه في شيءٍ واحد. و لا يُفرض ذلك إلّا حيث يُفرض تعلّق الأمر بعنوانٍ و تعلّق النهي بعنوانٍ آخر لا ربط له بالعنوان الأوّل. و لكن قد يتّفق نادراً أن يلتقي العنوانان في شيءٍ واحد و يجتمعا فيه، و حينئذٍ يجتمع- أي يلتقي- الأمر و النهي.
و لكن هذا الاجتماع و الالتقاء بين العنوانين على نحوين:
1- أن يكون اجتماعاً مورديّاً، يعني أنّه لا يكون هنا فعل واحد مطابقاً لكلّ من العنوانين، بل يكون هنا فعلان تقارنا و تجاورا في وقت واحد، أحدهما يكون مطابقاً لعنوان «الواجب» و ثانيهما مطابقاً لعنوان
أصول الفقه ( مظفر، محمد رضا - طبع انتشارات اسلامى )، ج2، ص: 378
«المحرّم» مثل النظر إلى الأجنبيّة في أثناء الصلاة، فلا النظر هو مطابق عنوان «الصلاة» و لا الصلاة مطابق عنوان «النظر إلى الأجنبيّة» ولاهما ينطبقان على فعلٍ واحد.
فإنّ مثل هذا الاجتماع الموردي لم يقل أحد بامتناعه، و ليس هو داخلًا في مسألة الاجتماع هذه. فلو جمع المكلّف بينهما بأن نظر إلى الاجنبيّة في أثناء الصلاة فقد عصى و أطاع في آنٍ واحد و لا تفسد صلاته.
2- أن يكون اجتماعاً حقيقيّاً و إن كان ذلك في النظر العرفي و في بادئ الرأي، يعني أنّه فعل واحد يكون مطابقاً لكلّ من العنوانين كالمثال المعروف: الصلاة في المكان المغصوب.
فإنّ مثل هذا المثال هو محلّ النزاع في مسألتنا، المفروض فيه أنّه لا ربط لعنوان «الصلاة» المأمور به بعنوان «الغصب» المنهيّ عنه، و لكن قد يتّفق للمكلّف صدفةً أن يجمع بينهما بأن يصلّي في مكانٍ مغصوب، فيلتقي العنوان المأمور به و هو «الصلاة» مع العنوان المنهي عنه و هو «الغصب» و ذلك في الصلاة المأتيّ بها في مكانٍ مغصوب، فيكون هذا الفعل الواحد مطابقاً لعنوان «الصلاة» و لعنوان «الغصب» معاً. و حينئذٍ إذا اتّفق ذلك للمكلّف فإنّه يكون هذا الفعل الواحد داخلًا فيما هو مأمور به من جهةٍ فيقتضي أن يكون المكلّف مطيعاً للأمر ممثلًا، و داخلًا فيما هو منهيّ عنه من جهة اخرى فيقتضي أن يكون المكلّف عاصياً به مخالفاً.
2- الواحد: و المقصود منه الفعل الواحد باعتبار أنّ له وجوداً واحداً يكون ملتقًى و مجمعاً للعنوانين، في مقابل المتعدّد بحسب الوجود، كالنظر إلى الأجنبيّة و الصلاة، فإنّ وجود أحدهما غير وجود الآخر، فإنّ الاجتماع في مثل هذا يُسمّى «الاجتماع الموردي» كما تقدّم.
و الفعل الواحد بما له من الوجود الواحد إذا كان ملتقى للعنوانين، فإنّ التقاء العناوين فيه لا يخلو من حالتين: إحداهما أن يكون الالتقاء بسبب
أصول الفقه ( مظفر، محمد رضا - طبع انتشارات اسلامى )، ج2، ص: 379
ماهيّته الشخصيّة. و ثانيتهما أن يكون الالتقاء بسبب ماهيّته الكلّية كأن يكون الكلّي نفسه مجمعاً للعنوانين كالكون الكلّي الّذي ينطبق عليه أنّه صلاةٌ و غصبٌ.
وعليه، فالمقصود من «الواحد» في المقام: الواحد في الوجود. فلا معنى لتخصيص النزاع بالواحد الشخصي.
و بما ذكرنا يظهر خروج الواحد بالجنس عن محلّ الكلام، و المراد به ما إذا كان المأمور به و المنهيّ عنه متغايرين وجوداً، و لكنّهما يدخلان تحت ماهيّة واحدة، كالسجود للَّه و السجود للصنم، فإنّهما واحد بالجنس باعتبار أنّ كلّاً منهما داخل تحت عنوان «السجود» و لا شكّ في خروج ذلك عن محلّ النزاع.
3- الجواز: و المقصود منه الجواز العقلي، أي الإِمكان المقابل للامتناع، و هو واضح. و يصحّ أن يراد منه الجواز العقلي المقابل للقبح العقلي و هو قد يرجع إلى الأوّل باعتبار أنّ القبيح ممتنع على اللَّه تعالى.
و الجواز له معانٍ اخر، كالجواز المقابل للوجوب و الحرمة الشرعيّين، و الجواز بمعنى الاحتمال. و كلّها غير مرادة قطعاً.
إذا عرفت تفسير هذه الكلمات الثلاث الواردة في عنوان المسألة يتّضح لك جيّداً تحرير النزاع فيها، فإنّ حاصل النزاع في المسألة يكون أنّه في مورد التقاء عنواني «المأمور به» و «المنهيّ عنه» في واحد وجوداً هل يجوز اجتماع الأمر و النهي؟
و معنى ذلك:
إِنّه هل يصحّ أن يبقى الأمر متعلّقاً بذلك العنوان المنطبق على ذلك الواحد و يبقى النهي كذلك متعلّقاً بالعنوان «1» المنطبق على ذلك الواحد،
______________________________
(1) في ط الاولى: بعنوانه.
أصول الفقه ( مظفر، محمد رضا - طبع انتشارات اسلامى )، ج2، ص: 380
فيكون المكلّف مطيعاً و عاصياً معاً في الفعل الواحد.
أو أنّه يمتنع ذلك و لا يجوز، فيكون ذلك المجتمع للعنوانين إمّا مأموراً به فقط أو منهيّاً عنه فقط، أي أنّه إمّا أن يبقى الأمر على فعليّته فقط فيكون المكلّف مطيعاً لا غير، أو يبقى النهي على فعليّته فقط فيكون المكلّف عاصياً لا غير.
و القائل بالجواز لا بدّ أن يستند في قوله إلى أحد رأيين:
1- أن يرى أنّ العنوان بنفسه هو متعلّق التكليف و لا يسري الحكم إلى المعنون، فانطباق عنوانين على فعل واحد لا يلزم منه أن يكون ذلك الواحد متعلّقاً للحكمين، فلا يمتنع الاجتماع- أي اجتماع عنوان المأمور به مع عنوان المنهيّ عنه في واحد- لأنّه لا يلزم منه اجتماع نفس الأمر و النهي في واحد.
2- أن يرى أنّ المعنون- على تقدير تسليم أنّه هو متعلّق الحكم حقيقة لا العنوان- يكون متعدّداً واقعاً إذا تعدّد العنوان، لأنّ تعدّد العنوان يوجب تعدّد المعنون بالنظر الدقيق الفلسفي، ففي الحقيقة- و إن كان فعلٌ واحدٌ في ظاهر الحال صار مطابقاً للعنوانين- هناك معنونان كلّ واحد منهما مطابق لأحد العنوانين، فيرجع اجتماع الوجوب و الحرمة بالدقّة العقليّة إلى الاجتماع الموردي الّذي قلنا: إنّه لا بأس فيه من الاجتماع.
و على هذا فليس هناك واحد بحسب الوجود يكون مجمعاً بين العنوانين في الحقيقة، بل ما هو مأمور به في وجوده غير ما هو منهيّ عنه في وجوده. و لا تلزم سراية الأمر إلى ما تعلّق به النهي و لا سراية النهي إلى ما تعلّق به الأمر، فيكون المكلّف في جمعه بين العنوانين مطيعاً و عاصياً في آنٍ واحد، كالناظر إلى الأجنبيّة في أثناء الصلاة.
و بهذا يتّضح معنى القول بجواز اجتماع الأمر و النهي، و في الحقيقة
أصول الفقه ( مظفر، محمد رضا - طبع انتشارات اسلامى )، ج2، ص: 381
ليس هو قولًا باجتماع الأمر و النهي في واحد، بل إمّا أنّه يرجع إلى القول باجتماع عنوان المأمور به و المنهيّ عنه في واحدٍ من دون أن يكون هناك اجتماع بين الأمر و النهي، و إمّا أن يرجع إلى القول بالاجتماع الموردي فقط، فلا يكون اجتماع بين الأمر و النهي و لا بين المأمور به و المنهيّ عنه.
و أمّا القائل بالامتناع، فلا بدّ أن يذهب إلى أنّ الحكم يسري من العنوان إلى المعنون و أنّ تعدّد العنوان لا يوجب تعدّد المعنون، فإنّه لا يمكن حينئذٍ بقاء الأمر و النهي معاً و توجّههما متعلّقين بذلك المعنون الواحد بحسب الوجود، لأنّه يلزم اجتماع نفس الأمر و النهي في واحد، و هو مستحيل، فإمّا أن يبقى الأمر و لا نهي، أو يبقى النهي و لا أمر.
و لقد أحسن صاحب المعالم في تحرير النزاع، إذ عبّر بكلمة «التوجّه» بدلًا عن كلمة «الاجتماع» فقال: الحقّ امتناع توجّه الأمر و النهي إلى شيء واحد ... «1»
المسألة من الملازمات العقليّة غير المستقلّة:
و من التقرير المتقدّم لبيان محلّ النزاع يظهر كيف أنّ المسألة هذه ينبغي أن تدخل في الملازمات العقليّة غير المستقلّة، فإنّ معنى القول بالامتناع هو: تنقيح صغرى الكبرى العقليّة القائلة بامتناع اجتماع الأمر و النهي في شيءٍ واحدٍ حقيقي.
توضيح ذلك: أنّه إذا قلنا بأنّ الحكم يسري من العنوان إلى المعنون و أنّ تعدّد العنوان لا يوجب تعدّد المعنون، فإنّه يتنقّح عندنا موضوع اجتماع الأمر و النهي في واحدٍ الثابتين شرعاً، فيقال على نهج القياس الاستثنائي هكذا:
أصول الفقه ( مظفر، محمد رضا - طبع انتشارات اسلامى )، ج2، ص: 382
إذا التقى عنوان المأمور به و المنهيّ عنه في واحدٍ بسوء الاختيار فإن بقي الأمر و النهي فعليّين معاً فقد اجتمع الأمر و النهي في واحد (و هذه هي الصغرى).
و مستند هذه الملازمة في الصغرى هو سراية الحكم من العنوان إلى المعنون و أنّ تعدّد العنوان لا يوجب تعدّد المعنون. و إنّما تُفرض هذه الملازمة حيث يُفرض ثبوت الأمر و النهي شرعاً بعنوانيهما.
ثمّ نقول: و لكنّه يستحيل اجتماع الأمر و النهي في واحد. (و هذه هي الكبرى).
و هذه الكبرى عقليّة تثبت في غير هذه المسألة.
و هذا القياس استثنائي قد استُثني فيه نقيض التالي، فيثبت به نقيض المقدّم، و هو عدم بقاء الأمر و النهي فعليّين معاً.
و أمّا بناءً على الجواز، فيخرج هذا المورد- مورد الالتقاء- عن أن يكون صغرى لتلك الكبرى العقليّة.
و لا يجب في كون المسألة اصوليّة من المستقلّات العقليّة و غيرها أن تقع صغرى للكبرى العقليّة على تقدير جميع الأقوال، بل يكفي أن تقع صغرى على أحد الأقوال فقط؛ فإنّ هذا شأن جميع المسائل الاصوليّة المتقدّمة- اللفظيّة و العقليّة- أ لا ترى أنّ المباحث اللفظيّة كلّها لتنقيح صغرى أصالة الظهور، مع أنّ المسألة لا تقع صغرى لأصالة الظهور على جميع الأقوال فيها، كمسألة دلالة صيغة «افعل» على الوجوب، فإنّه على القول بالاشتراك اللفظي أو المعنوي لا يبقى لها ظهور في الوجوب أو غيره.
و لا وجه لتوهّم كون هذه المسألة فقهيّة أو كلاميّة أو اصوليّة لفظيّة.
و هو واضح بعد ما قدّمناه من شرح تحرير النزاع، و بعد ما ذكرناه سابقاً في
أصول الفقه ( مظفر، محمد رضا - طبع انتشارات اسلامى )، ج2، ص: 383
أوّل هذا الجزء «1» من مناط كون المسألة الاصوليّة من باب غير المستقلّات العقليّة.
مناقشة الكفاية في تحرير النزاع:
و بعد ما حرّرناه من بيان النزاع في المسألة يتّضح ابتناء القول بالجواز فيها على أحد رأيين: إمّا القول بأنّ متعلّق الأحكام هي نفس العنوانات دون معنوناتها، و إمّا القول بأنّ تعدّد العنوان يستدعي تعدّد المعنون.
فتكون مسألة تعدّد المعنون بتعدّد العنوان و عدم تعدّده حيثيّة تعليليّة في مسألتنا و من المبادئ التصديقيّة لها على أحد احتمالين، لا أنّها هي نفس محلّ النزاع في الباب، فإنّ البحث هنا ليس إلّا عن نفس الجواز و عدمه، كما عبّر بذلك كلّ من بحث هذه المسألة من القديم.
و من هنا تتجلّى المناقشة فيما أفاده في «كفاية الاصول» في رجوع محلّ البحث هنا إلى البحث عن استدعاء تعدّد العنوان لتعدّد المعنون و عدمه «2».
فإنّه فرق عظيم بين ما هو محلّ النزاع و بين ما يبتني عليه النزاع في أحد احتمالين. فلا وجه للخلط بينهما و إرجاع أحدهما إلى الآخر، و إن كان في هذه المسألة لا بدّ للُاصولي من البحث عن أنّ تعدّد العنوان هل يوجب تعدّد المعنون، باعتبار أنّ هذا البحث ليس ممّا يُذكر في موضعٍ آخر.
قيد المندوحة:
ذكرنا فيما سبق «3» أنّ بعضهم قيّد النزاع هنا بأن تكون هناك مندوحة في مقام الامتثال. و معنى المندوحة: أن يكون المكلّف متمكّناً من امتثال الأمر في موردٍ آخر غير مورد الاجتماع.
______________________________
(1) راجع ص 266.
(2) كفاية الاصول: ص 193.
(3) راجع ص 377.
أصول الفقه ( مظفر، محمد رضا - طبع انتشارات اسلامى )، ج2، ص: 384
و نظر إلى ذلك كلّ من قيّد موضع النزاع بما إذا كان الجمع بين العنوانين بسوء اختيار المكلّف.
و إنّما قيّد بها موضع النزاع، للاتّفاق بين الطرفين على عدم جواز الاجتماع في صورة عدم وجود المندوحة، و ذلك فيما إذا انحصر امتثال الأمر في مورد الاجتماع لا بسوء اختيار المكلّف.
و السرّ واضح، فإنّه عند الانحصار تستحيل فعليّة التكليفين لاستحالة امتثالهما معاً، لأنّه إن فعل ما هو مأمور به فقد عصى النهي، و إن تركه فقد عصى الأمر، فيقع التزاحم حينئذٍ بين الأمر و النهي.
و ظاهر أنّ اعتبار قيد «المندوحة» لازم لما ذكرناه، إذ ليس النزاع جهتيّاً كما ذهب إليه صاحب الكفاية «1»- أي من جهة كفاية تعدّد العنوان في تعدّد المعنون و عدمه و إن لم يجز الاجتماع من جهة اخرى- حتّى لا نحتاج إلى هذا القيد.
بل النزاع- كما تقدّم- هو في جواز الاجتماع و عدمه من أيّة جهة فُرضت و ليس جهتيّاً. وعليه، فما دام النزاع غير واقع في الجواز في صورة عدم المندوحة، فهذه الصورة لا تدخل في محلّ النزاع في مسألتنا.
فوجب- إذاً- تقييد عنوان المسألة بقيد «المندوحة» كما صنع بعضهم.
الفرق بين بابي التعارض و التزاحم و مسألة الاجتماع:
من المسائل العويصة: مشكلة التفرقة بين باب التعارض و باب التزاحم، ثمّ بينهما و بين مسألة الاجتماع. و لا بدّ من بيان الفرق بينها لتنكشف جيّداً حقيقة النزاع في مسألتنا- مسألة الاجتماع-.
وجه الإشكال في التفرقة: أنّه لا شبهة في أنّ من موارد التعارض بين
أصول الفقه ( مظفر، محمد رضا - طبع انتشارات اسلامى )، ج2، ص: 385
الدليلين ما إذا كان بين دليلي الأمر و النهي عموم و خصوص من وجه، و ذلك من أجل العموم من وجه بين متعلّقي الأمر و النهي، أي العموم من وجه الّذي يقع بين عنوان «المأمور به» و عنوان «المنهيّ عنه» بينما أنّ التزاحم بين الوجوب و الحرمة من موارده أيضاً العموم من وجه بين الأمر و النهي من هذه الجهة. و كذلك مسألة الاجتماع موردها منحصر فيما إذا كان بين عنواني «المأمور به» و «المنهيّ عنه» عموم من وجه.
فيتّضح أنّه مورد واحد- و هو مورد العموم من وجه بين متعلّقي الأمر و النهي- يصحّ أن يكون مورداً للتعارض و باب التزاحم و مسألة الاجتماع، فما المائز و الفارق؟
فنقول: إنّ العموم من وجه إنّما يُفرض بين متعلّقي الأمر و النهي فيما إذا كان العنوانان يلتقيان في فعل واحد، سواء كان العنوان بالنسبة الى الفعل من قبيل العنوان و معنونه، أو من قبيل الكلّي و فرده «1». و هذا بديهي.
______________________________
(1) (*) إنّما يُفرض العموم من وجه بين العنوانين إذا لم يكن الاجتماع بينهما اجتماعاً مورديّاً، بل كان اجتماعاً حقيقيّاً، و نعني بالاجتماع الحقيقي أن يكون فعل واحد ينطبق عليه العنوانان على وجهٍ يصحّ في كلّ منهما أن يكون حاكياً عنه و مرآةً له و إن كان منشأ كلّ من العنوانين مبايناً في وجوده بالدّقة العقليّة لمنشإ العنوان الآخر.
و لكن انطباق العناوين على فردٍ واحد لا يجب فيه ان يكون من قبيل انطباق الكلّي على فرده، أي لا يجب أن يكون المعنون فرداً للعنوان و من حقيقته، لأنّ المعنون كما يجوز أن يكون من حقيقة العنوان يجوز ان يكون من حقيقة اخرى، و إنّما الذهن يجعل من العنوان حاكياً و مرآةً عن ذلك المعنون، كمفهوم الوجود الّذي هو عنوان لحقيقة الوجود، مع أنّه ليس من حقيقته، و مثله مفهوم الجزئي الّذي عنوان للجزئي الحقيقي و ليس هو بجزئي بل كلّي، و كذا مفهوم الحرف و النسبة ... و هكذا.
و لأجل هذا عمّمنا العنوان إلى قسمين. و هذا التعميم سينفعك فيما يأتي في بيان المختار في المسألة، فكن على ذكر منه. و لقد أحسن المولى صدر المحقّقين في تعبيره للتفرقة بين القسمين، إذ قال في الجزء الأوّل من الأسفار «و فرق بين كون الذات مصدوقاً عليه بصدق مفهوم، و كونها مصداقاً لصدقه». ف
و قد أراد المصداق النحو الثاني، و هو المعنون الصرف بالنسبة إلى معنونه و اراد بالمصداق فرد الكلّي، و يا ليت! أن يعمّم هذا الاصطلاح المخترع منه للتفرقة بين القسمين.
أصول الفقه ( مظفر، محمد رضا - طبع انتشارات اسلامى )، ج2، ص: 386
و لكن العنوان المأخوذ في متعلّق الخطاب من جهة عمومه على نحوين:
1- أن يكون ملحوظاً في الخطاب فانياً في مصاديقه على وجهٍ يسع جميع الأفراد بما لها من الكثرات و المميّزات، فيكون شاملًا في سعته لموضع الالتقاء مع العنوان المحكوم بالحكم الآخر، فيُعدّ في حكم المتعرّض لحكم خصوص موضع الالتقاء، و لو من جهة كون موضع الالتقاء متوقّع الحدوث على وجهٍ يكون من شأنه أن ينبّه عليه المتكلّم في خطابه، فيكون أخذ العنوان على وجهٍ يسع جميع الأفراد بما لها من الكثرات و المميّزات لهذا الغرض من التنبيه و نحوه. و لا نضايقك أن تسمّي مثل هذا العموم «العموم الاستغراقي» كما صنع بعضهم.
و المقصود: أنّ العنوان إذا اخذ في الخطاب على وجهٍ يسع جميع الأفراد بما لها من الكثرات و المميّزات يكون في حكم المتعرّض لحكم كلّ فرد من أفراده، فيكون نافياً بالدلالة الالتزاميّة لكلّ حكم منافٍ لحكمه.
2- أن يكون العنوان ملحوظاً في الخطاب فانياً في مطلق الوجود المضاف إلى طبيعة العنوان من دون ملاحظة كونه على وجهٍ يسع جميع الأفراد، أي لم تُلحظ فيه الكثرات و المميّزات في مقام الأمر بوجود الطبيعة و لا في مقام النهي عن وجود الطبيعة الاخرى، فيكون المطلوب في الأمر و المنهيّ عنه في النهي صِرف وجود الطبيعة. و لتُسمّ مثل هذا العموم «العموم البدلي» كما صنع بعضهم.
فإن كان العنوان مأخوذاً في الخطاب على النحو الأوّل، فإنّ موضع
أصول الفقه ( مظفر، محمد رضا - طبع انتشارات اسلامى )، ج2، ص: 387
الالتقاء يكون العامّ حجّة فيه كسائر الأفراد الاخرى، بمعنى أن يكون متعرّضاً بالدلالة الالتزاميّة لنفي أيّ حكمٍ آخر منافٍ لحكم العامّ بالنسبة إلى الأفراد و خصوصيّات المصاديق.
و في هذه الصورة لا بدّ أن يقع التعارض بين دليلي الأمر و النهي في مقام الجعل و التشريع، لأنّهما يتكاذبان بالنسبة إلى موضع الالتقاء من جهة الدلالة الالتزاميّة في كلّ منهما على نفي الحكم الآخر بالنسبة إلى موضع الالتقاء.
و التحقيق أنّ التعارض بين العامّين من وجه إنّما يقع بسبب دلالة كلّ منهما بالدلالة الالتزاميّة على انتفاء حكم الآخر، و من أجلها يتكاذبان.
و إلّا فالدلالتان المطابقيّتان بأنفسهما في العامّين من وجه لا يتكاذبان، فلا يتعارضان ما لم يلزم من ثبوت مدلول إحداهما نفي مدلول الاخرى، فليس التنافي بين المدلولين المطابقيّين إلّا تنافياً بالعرض لا بالذات.
و من هنا يُعلم أنّ هذا الفرض- و هو فرض كون العنوان مأخوذاً في الخطاب على النحو الأوّل- ينحصر في كونه مورداً للتعارض بين الدليلين، و لا تصل النوبة إلى فرض التزاحم بين الحكمين فيه، و لا إلى النزاع في جواز اجتماع الأمر و النهي و عدمه، لأنّ مقتضى القاعدة في باب التعارض هو تساقط الدليلين عن حجّيتهما بالنسبة إلى مورد الالتقاء، فلا يُحرز «1» فيه الوجوب و لا الحرمة. و لا يُفرض التزاحم أو مسألة النزاع في جواز الاجتماع إلّا حيث يُفرض شمول الدليلين لمورد الالتقاء و بقاء حجّيتهما بالنسبة إليه. أي أنّه لم يكن تعارض بين الدليلين في مقام الجعل و التشريع.
و إن كان العنوان مأخوذاً على النحو الثاني، فهو مورد التزاحم
______________________________
(1) في ط 2: فلا يجوز.
أصول الفقه ( مظفر، محمد رضا - طبع انتشارات اسلامى )، ج2، ص: 388
أو مسألة الاجتماع، و لا يقع بين الدليلين تعارض حينئذٍ، و ذلك مثل قوله:
«صلِّ» و قوله: «لا تغصب» باعتبار أنّه لم يُلحظ في كلّ من خطاب الأمر و النهي الكثرات و المميّزات على وجهٍ يسع العنوان جميع الأفراد و إن كان نفس العنوان في حدّ ذاته و إطلاقه شاملًا لجميع الأفراد، فإنّه في مثله يكون الأمر متعلّقاً بصرف وجود الطبيعة للصلاة، و امتثاله يكون بفعل أيّ فردٍ من الأفراد، فلم يكن ظاهراً في وجوب الصلاة حتّى في مورد الغصب على وجهٍ يكون دالّاً بالدلالة الالتزاميّة على انتفاء حكمٍ آخر في هذا المورد ليكون نافياً لحرمة الغصب في المورد. و كذلك النهي يكون متعلّقاً بصِرف طبيعة الغصب، فلم يكن ظاهراً في حرمة الغصب حتّى في مورد الصلاة على وجهٍ يكون دالّاً بالدلالة الالتزاميّة على انتفاء حكمٍ آخر في هذا المورد ليكون نافياً لوجوب الصلاة.
و في مثل هذين الدليلين إذا كانا على هذا النحو يكون كلّ منهما أجنبيّاً في عموم عنوان متعلّق الحكم فيه عن عنوان متعلّق الحكم الآخر، أي أنّه غير متعرّض بدلالته الالتزاميّة لنفي الحكم الآخر، فلا يتكاذبان في مقام الجعل و التشريع. فلا يقع التعارض بينهما، إذ لا دلالة التزاميّة لكلّ منهما على نفي الحكم الآخر في مورد الالتقاء، و لا تعارض بين الدلالتين المطابقيّتين بما هما، لأنّ المفروض أنّ المدلول المطابقي من كلّ منهما هو الحكم المتعلّق بعنوانٍ أجنبيّ في نفسه عن العنوان المتعلّق للحكم الآخر.
و حينئذٍ إذا صادف أن ابتُلي المكلّف بجمعهما على نحو الاتّفاق فحاله لا يخلو عن أحد أمرين: إمّا أن تكون له مندوحة من الجمع بينهما، و لكنّه هو الّذي جمع بينهما بسوء اختياره و تصرّفه. و إمّا أن لا تكون له مندوحة من الجمع بينهما.
فإن كان الأوّل: فإنّ المكلّف حينئذٍ يكون قادراً على امتثال كلّ من
أصول الفقه ( مظفر، محمد رضا - طبع انتشارات اسلامى )، ج2، ص: 389
التكليفين فيصلّي و يترك الغصب، و قد يصلّي و يغصب في فعلٍ آخر. فإذا جمع بينهما بسوء اختياره بأن صلّى في مكانٍ مغصوب، فهنا يقع النزاع في جواز الاجتماع بين الأمر و النهي. فإن قلنا بالجواز كان مطيعاً و عاصياً في آنٍ واحد. و إن قلنا بعدم الجواز، فإنّه إمّا أن يكون مطيعاً لا غير إذا رجّحنا جانب الأمر، أو عاصياً لا غير إذا رجّحنا جانب النهي، لأنّه حينئذٍ يقع التزاحم بين التكليفين، فيرجع فيه إلى أقوى الملاكين.
و إن كان الثاني: فإنّه لا محالة يقع التزاحم بين التكليفين الفعليّين، لأنّه- حسب الفرض- لا معارضة بين الدليلين في مقام الجعل و الإنشاء، بل المنافاة وقعت من عدم قدرة المكلّف على التفريق بين الامتثالين، فيدور الأمر حينئذٍ بين امتثال الأمر و بين امتثال النهي، إذ لا يمكنه من امتثالهما معاً من جهة عدم المندوحة.
هذا هو الحقّ الّذي ينبغي أن يعوَّل عليه في سرّ التفريق بين بابي التعارض و التزاحم، و بينهما و بين مسألة الاجتماع في مورد العموم من وجه بين متعلّقي الخطابين (خطاب الوجوب و الحرمة). و لعلّه يمكن استفادته من مطاوي كلماتهم و إن كانت عباراتهم تضيق عن التصريح بذلك، بل اختلفت كلمات أعلام أساتذتنا- رضوان اللَّه عليهم- في وجه التفريق.
فقد ذهب صاحب الكفاية إلى: أنّه لا يكون المورد من باب الاجتماع إلّا إذا احرز في كلّ واحدٍ من متعلّقي الإيجاب و التحريم مناط حكمه مطلقاً حتّى في مورد التصادق و الاجتماع. و أمّا إذا لم يُحرز مناط كلّ من الحكمين في مورد التصادق مع العلم بمناط أحد الحكمين بلا تعيين، فالمورد يكون من باب التعارض «1» للعلم الإجمالي حينئذٍ بكذب أحد
أصول الفقه ( مظفر، محمد رضا - طبع انتشارات اسلامى )، ج2، ص: 390
الدليلين الموجب للتنافي بينهما عرضاً.
هذا خلاصة رأيه رحمه الله. فجعل إحراز مناط الحكمين في مورد الاجتماع و عدمه هو المناط في التفرقة بين مسألة الاجتماع و باب التعارض. بينما أنّ المناط عندنا في التفرقة بينهما هو دلالة الدليلين بالدلالة الالتزاميّة على نفي الحكم الآخر و عدمها، فمع هذه الدلالة يحصل التكاذب بين الدليلين فيتعارضان، و بدونها لا تعارض فيدخل المورد في مسألة الاجتماع.
و يمكن دعوى التلازم بين المسلكين في الجملة، لأنّه مع تكاذب الدليلين من ناحية دلالتهما الالتزاميّة لا يُحرز وجود مناط الحكمين في مورد الاجتماع، كما أنّه مع عدم تكاذبهما يمكن إحراز وجود المناط لكلّ من الحكمين في مورد الاجتماع، بل لا بدّ من إحراز مناط الحكمين بمقتضى إطلاق الدليلين في مدلولهما المطابقي.
و أمّا شيخنا النائيني- أعلى اللَّه في الخلد مقامه- فقد ذهب إلى: أنّ مناط دخول المورد في باب التعارض: أن تكون الحيثيّتان في العامّين من وجه حيثيّتين تعليليّتين، لأنّه حينئذٍ يتعلّق الحكم في كلّ منهما بنفس ما يتعلّق به فيتكاذبان. و أمّا إذا كانتا تقييديّتين فلا يقع التعارض بينهما، و يدخلان حينئذٍ في مسألة الاجتماع مع المندوحة، و في باب التزاحم مع عدم المندوحة «1».
و نحن نقول: في الحيثيّتين التقييديّتين إذا كان بين الدلالتين تكاذب من أجل دلالتهما الالتزاميّة على نفي الحكم الآخر- على نحو ما فصّلناه- فإنّ التعارض بينهما لا محالة واقع، و لا تصل النوبة في هذا المورد للدخول في مسألة الاجتماع.
______________________________
(1) راجع أجود التقريرات: ج 1 ص 331.
أصول الفقه ( مظفر، محمد رضا - طبع انتشارات اسلامى )، ج2، ص: 391
و لنا مناقشة معه في صورة الحيثيّة التعليليّة يطول شرحها و لا يهمّ التعرّض لها الآن. و فيما ذكرناه الكفاية و فوقَ الكفاية للطالب المبتدئ.
أصول الفقه ( مظفر، محمد رضا - طبع انتشارات اسلامى ) ؛ ج2 ؛ ص391
الحقّ في المسألة:
بعد ما قدّمنا من توضيح تحرير النزاع و بيان موضع النزاع نقول: إنّ الحقّ في المسألة هو الجواز.
و قد ذهب إلى ذلك جمع من المحقّقين المتأخّرين «1».
و سندنا يبتني على توضيح و اختيار ثلاثة امور مترتّبة:
أوّلًا: أنّ متعلّق التكليف سواء كان أمراً أو نهياً ليس هو المعنون،- أي الفرد الخارجي للعنوان بما له من الوجود الخارجي- فإنّه يستحيل ذلك، بل متعلّق التكليف دائماً و أبداً هو العنوان، على ما سيأتي توضيحه.
و اعتبر ذلك بالشوق، فإنّ الشوق يستحيل أن يتعلّق بالمعنون، لأنّه إمّا أن يتعلّق به حال عدمه أو حال وجوده، و كلّ منهما لا يكون. أمّا الأوّل فيلزم تقوّم الموجود بالمعدوم و تحقّق المعدوم بما هو معدوم- لأنّ المشتاق إليه له نوع من التحقّق بالشوق إليه- و هو محال واضح. و أمّا الثاني فلأنّه يكون الاشتياق إليه تحصيلًا للحاصل، و هو محال.
فإذن لا يتعلّق الشوق بالمعنون لا حال وجوده و لا حال عدمه.
مضافاً إلى أنّ الشوق من الامور النفسيّة، و لا يُعقل أن يتشخّص ما في النفس بدون متعلّق ما، كجميع الامور النفسيّة- كالعلم و الخيال والوهم و الإرادة و نحوها- و لا يُعقل أن يتشخّص بما هو خارج عن افق النفس من الامور العينيّة، فلا بدّ أن يتشخّص بالشيء المشتاق إليه بما له من
______________________________
(1) كمولانا المحقّق الأردبيلي و سلطان العلماء و المحقّق الخوانساري و ولده المحقّق و الفاضل المدقّق الشيرواني. و الفاضل الكاشاني و السيّد الفاضل صدر الدين، قوانين الاصول: ج 1 ص 140.
أصول الفقه ( مظفر، محمد رضا - طبع انتشارات اسلامى )، ج2، ص: 392
الوجود العنواني الفرضي، و هو المشتاق إليه أوّلًا و بالذات، و هو الموجود بوجود الشوق لا بوجودٍ آخر وراء الشوق. و لكن لمّا كان يؤخذ العنوان بما هو حاكٍ و مرآة عمّا في الخارج- أي عن المعنون- فإنّ المعنون يكون مشتاقاً إليه ثانياً و بالعرض؛ نظير العلم، فإنّه لا يُعقل أن يتشخّص بالأمر الخارجي، و المعلوم بالذات دائماً و أبداً هو العنوان الموجود بوجود العلم و لكن بما هو حاكٍ و مرآة عن المعنون، و أمّا المعنون لذلك العنوان فهو معلوم بالعرض باعتبار فناء العنوان فيه.
و في الحقيقة إنّما يتعلّق الشوق بشيءٍ إذا كان له جهة وجدان وجهة فقدان، فلا يتعلّق بالمعدوم من جميع الجهات و لا بالموجود من جميع الجهات. وجهة الوجدان في المشتاق إليه هو العنوان الموجود بوجود الشوق في افق النفس باعتبار ما له من وجود عنواني فرضي، وجهة الفقدان في المشتاق إليه هو عدمه الحقيقي في الخارج، و معنى الشوق إليه هو الرغبة في إخراجه من حدّ الفرض و التقدير إلى حدّ الفعلية و التحقيق.
و إذا كان الشوق على هذا النحو، فكذلك حال الطلب و البعث بلا فرق، فيكون حقيقة طلب الشيء هو تعلّقه بالعنوان لإخراجه من حدّ الفرض و التقدير إلى حدّ الفعليّة و التحقيق.
ثانياً: أنّا لمّا قلنا بأنّ متعلّق التكليف هو العنوان لا المعنون لا نعني:
أنّ العنوان بما له من الوجود الذهني يكون متعلّقاً للطلب، فإنّ ذلك باطل بالضرورة، لأنّ مثار الآثار و متعلّق الغرض و الّذي تترتّب عليه المصلحة و المفسدة هو المعنون لا العنوان.
بل نعني: أنّ المتعلّق هو العنوان حال وجوده الذهني، لا أنّه بما له من الوجود الذهني أو بما هو مفهوم. و معنى تعلّقه بالعنوان حالَ وجوده الذهني: أنّه يتعلّق به نفسه باعتبار أنّه مرآة عن المعنون و فانٍ فيه، فتكون
أصول الفقه ( مظفر، محمد رضا - طبع انتشارات اسلامى )، ج2، ص: 393
التخلية فيه عن الوجود الذهني عين التحلية به.
ثالثاً: أنّا إذ نقول: إنّ المتعلّق للتكليف هو العنوان بما هو مرآة عن المعنون و فانٍ فيه، لا نعني: أنّ المتعلّق الحقيقي للتكليف هو المعنون و أنّ التكليف يسري من العنوان إلى المعنون باعتبار فنائه فيه- كما قيل «1»- فإنّ ذلك باطل بالضرورة أيضاً، لما تقدّم أنّ المعنون يستحيل أن يكون متعلّقاً للتكليف بأيّ حالٍ من الأحوال، و هو محال حتّى لو كان بتوسّط العنوان، فإنّ توسّط العنوان لا يخرجه عن استحالة تعلّق التكليف به.
بل نعني و نقول: إن الصحيح أنّ متعلّق التكليف هو العنوان بما هو مرآة و فانٍ في المعنون على أن يكون فناؤه في المعنون هو المصحّح لتعلّق التكليف به فقط، إذ أنّ الغرض إنّما يقوم بالمعنون المفنى فيه، لا أنّ الفناء يجعل التكليف سارياً إلى المعنون و متعلّقاً به.
و فرق كبير بين ما هو مصحّح لتعلّق التكليف بشيء و بين ما هو بنفسه متعلّق التكليف. و عدم التفرقة بينهما هو الّذي أوهم القائلين بأنّ التكليف يسري إلى المعنون باعتبار فناء العنوان فيه. و لا يزال هذا الخلط بين ما هو بالذات و ما هو بالعرض مثار كثير من الاشتباهات الّتي تقع في علمي الاصول و الفلسفة. و الفناء و الآليّة في الملاحظة هو الّذي يوقع الاشتباه و الخلط، فيعطي ما للعنوان للمعنون و بالعكس.
و إذا عسر عليك تفهّم ما نرمي إليه فاعتبر ذلك في مثال «الحرف» حينما نحكم عليه بأنّه لا يُخبر عنه، فإنّ عنوان «الحرف» و مفهومه اسم يُخبر عنه، كيف! و قد اخبر عنه بأنّه لا يُخبر عنه، و لكن إنّما صحّ الإخبار عنه بذلك فباعتبار فنائه في المعنون، لأنه هو الّذي له هذه الخاصيّة و يقوم به الغرض من الحكم؛ و مع ذلك لا يجعل ذلك كون المعنون- و هو الحرف
______________________________
(1) لم نتحقّق القائل، انظر نهاية الأفكار (تقرير أبحاث المحقّق العراقي) ج 2 ص 420.
أصول الفقه ( مظفر، محمد رضا - طبع انتشارات اسلامى )، ج2، ص: 394
الحقيقي- موضوعاً للحكم حقيقة أوّلًا و بالذات، فإنّ الحرف الحقيقي يستحيل أن يكون موضوعاً للحكم و طرفاً للنسبة بأيّ حالٍ من الأحوال و لو بتوسّط شيء، كيف! و حقيقته: النسبة و الربط، و خاصّته: أنّه لا يُخبر عنه. وعليه، فالمخبر عنه أوّلًا و بالذات هو عنوان «الحرف» لكن لا بما هو مفهوم موجود في الذهن، فإنّه بهذا الاعتبار يُخبر عنه، بل بما هو فانٍ في المعنون و حاكٍ عنه، فالمصحِّح للإخبار عنه بأن لا يُخبر عنه هو فناؤه في معنونه، فيكون الحرف الحقيقي المعنون مخبراً عنه ثانياً و بالعرض، و إن كان الغرض من الحكم إنّما يقوم بالمفنيّ فيه، و هو الحرف الحقيقي.
و على هذا، يتّضح جليّاً كيف أنّ دعوى سراية الحكم أوّلًا و بالذات من العنوان إلى المعنون منشؤها الغفلة بين ما هو المصحّح للحكم على موضوع باعتبار قيام الغرض بذلك المصحّح فيجعل الموضوع عنواناً حاكياً عنه، و بين ما هو الموضوع للحكم القائم به الغرض؛ فالمصحّح للحكم شيء و المحكوم عليه و المجعول موضوعاً شيء آخر. و من العجيب! أن تصدر مثل هذه الغفلة من بعض أهل الفنّ في المعقول.
نعم، إذا كان القائل بالسراية يقصد أنّ العنوان يؤخذ فانياً في المعنون و حاكياً عنه و أنّ الغرض إنّما يقوم بالمعنون، فذلك حقّ و نحن نقول به.
و لكن ذلك لا ينفعه في الغرض الّذي يهدف إليه، لأنّا نقول بذلك من دون أن نجعل متعلّق التكليف نفس المعنون، و إنّما يكون متعلّقاً له ثانياً و بالعرض، كالمعلوم بالعرض- كما أشرنا إليه فيما سبق- فإنّ العلم إنّما يتعلّق بالمعلوم بالذات و يتقوّم به، و ليس هو إلّا العنوان الموجود بوجودٍ علمي و لكن باعتبار فنائه في معنونه؛ يقال للمعنون: إنّه معلوم و لكنّه في الحقيقة هو معلوم بالعرض لا بالذات، و هذا الفناء هو الّذي يخيّل للناظر أنّ المتعلّق الحقيقي للعلم هو المعنون. و لقد أحسنوا في تعريف العلم بأنّه
أصول الفقه ( مظفر، محمد رضا - طبع انتشارات اسلامى )، ج2، ص: 395
«حصول صورة الشيء لدى العقل» لا حصول نفس الشيء؛ فالمعلوم بالذات هو الصورة، و المعلوم بالعرض نفس الشيء الّذي حصلت صورته لدى العقل.
و إذا ثبت ما تقدّم و اتّضح ما رمينا إليه: من أنّ متعلّق التكليف أوّلًا و بالذات هو العنوان و أنّ المعنون متعلّق له بالعرض، يتّضح لك الحقّ جليّاً في مسألتنا (مسألة اجتماع الأمر و النهي) و هو: أنّ الحقّ جواز الاجتماع.
و معنى جواز الاجتماع: أنّه لا مانع من أن يتعلّق الإيجاب بعنوانٍ و يتعلّق التحريم بعنوانٍ آخر، و إذا جمع المكلّف بينهما صدفةً بسوء اختياره، فإنّ ذلك لا يجعل الفعل الواحد المعنون لكلّ من العنوانين متعلّقاً للإيجاب و التحريم إلّا بالعرض. و ليس ذلك بمحال، فإنّ المحال إنّما هو أن يكون الشيء الواحد بذاته متعلّقاً للإيجاب و التحريم.
وعليه، فيصحّ أن يقع الفعل الواحد امتثالًا للأمر من جهةٍ باعتبار انطباق العنوان المأمور به عليه، و عصياناً للنهي من جهة اخرى باعتبار انطباق عنوان المنهيّ عنه. و لا محذور في ذلك ما دام أنّ ذلك الفعل الواحد ليس بنفسه و بذاته يكون متعلقاً للأمر و للنهي ليكون ذلك محالًا، بل العنوانان الفانيان هما المتعلّقان للأمر و النهي. غاية الأمر أنّ تطبيق العنوان المأمور به على هذا الفعل يكون هو الداعي إلى إتيان الفعل، و لا فرق بين فردٍ و فردٍ في انطباق العنوان عليه، فالفرد الّذي ينطبق عليه العنوان المنهيّ عنه كالفرد الخالي من ذلك في كون كلّ منهما ينطبق عليه العنوان المأمور به بلا جهة خللٍ في الانطباق.
و لا فرق في ذلك بين أن يكون تعدّد العنوان موجباً لتعدّد المعنون أو لم يكن، ما دام أنّ المعنون ليس هو متعلّق التكليف بالذات.
نعم، لو كان العنوان مأخوذاً في المأمور به و المنهيّ عنه على وجهٍ
أصول الفقه ( مظفر، محمد رضا - طبع انتشارات اسلامى )، ج2، ص: 396
يسع جميع الأفراد حتّى موضع الاجتماع- و هو الفرد الّذي ينطبق عليه العنوانان و لو كان ذلك من جهة إطلاق الدليل- فإنّه حينئذٍ تكون لكلٍّ من الدليلين الدلالة الالتزاميّة على نفي حكم الآخر في موضع الالتقاء فيتكاذبان، وعليه يقع التعارض بينهما و يخرج المورد عن مسألة الاجتماع، كما سبق بيان ذلك مفصّلًا.
كما أنّه لو كانت القدرة على الفعل مأخوذة في متعلّق الأمر على وجهٍ يكون الواجب هو العنوان المقدور بما هو مقدور، فإنّ عنوان المأمور به حينئذٍ لا يسع و لا يعمّ الفرد غير المقدور، فلا ينطبق عنوان المأمور به بما هو مأمور به على موضع الاجتماع، و لا يكون هذا الفرد غير المقدور شرعاً من أفراد الطبيعة بما هي مأمور بها.
بخلاف ما إذا كانت القدرة مصحّحة فقط لتعلّق التكليف بالعنوان، فإنّ عنوان المأمور به يكون مقدوراً عليه و لو بالقدرة على فردٍ واحد من أفراده. و لهذا قلنا: إنّه لو انحصر تطبيق المأمور به في خصوص موضع الاجتماع- كما في مورد عدم المندوحة- يقع التزاحم بين الحكمين في موضع الاجتماع، لأنّه لا يصحّ تطبيق المأمور به على هذا الفرد و هو موضع الاجتماع إلّا إذا لم يكن النهي فعليّاً، كما لا يصحّ تطبيق عنوان المنهيّ عنه عليه إلّا إذا لم يكن الأمر فعليّاً، فلا بدّ من رفع اليد عن فعليّة أحد الحكمين و تقديم الأهمّ منهما.
و لقد ذهب بعض أعلام أساتذتنا إلى أنّ القدرة مأخوذة في متعلّق التكليف باعتبار أنّ الخطاب بالتكليف نفسه يقتضي ذلك، لأنّ الأمر إنّما هو لتحريك المكلّف نحو الفعل على أن يصدر منه بالاختيار، و هذا نفسه يقتضي كون متعلّقه مقدوراً لامتناع جعل الداعي نحو الممتنع و إن كان الامتناع من ناحية شرعيّة «1».
______________________________
(1) راجع فوائد الاصول: ج 1 ص 314.
أصول الفقه ( مظفر، محمد رضا - طبع انتشارات اسلامى )، ج2، ص: 397
و لكنّنا لم تتحقّق صحّة هذه الدعوى، لأنّ صحّة التكليف بطبيعة الفعل لا تتوقّف على أكثر من القدرة على صِرف وجود الطبيعة و لو بالقدرة على فرد من أفرادها، فالعقل هو الّذي يحكم بلزوم القدرة في متعلّق التكليف، و ذلك لا يقتضي القدرة على كلّ فردٍ من أفراد الطبيعة إلّا إذا قلنا بأنّ التكليف يتعلّق بالأفراد أوّلًا و بالذات. و قد تقدّم توضيح فساد هذا الوهم.
تعدّد العنوان لا يوجب تعدّد المعنون:
بعد ما تقدّم من البيان من أنّ التكليف إنّما يتعلّق بالعنوان بما هو مرآة عن أفراده لا بنفس الأفراد، فإنّ القول بالجواز لا يتوقّف على القول بأنّ تعدّد العنوان يوجب تعدّد المعنون- كما أشرنا إليه فيما سبق- لأنّه سواء كان المعنون متعدّداً بتعدّد العنوان أو غير متعدّد، فإنّ ذلك لا يرتبط بمسألتنا نفياً و إثباتاً ما دام أنّ المعنون ليس متعلّقاً للتكليف أبداً. و على كلّ حال، فالحقّ هو الجواز تعدّد المعنون أو لم يتعدّد.
و لو سلّمنا جدلًا بأنّ التكليف يتعلّق بالمعنون باعتبار سراية التكليف من العنوان إلى المعنون- كما هو المعروف- فإنّ الحقّ أنّه لا يجب تعدّد المعنون بتعدّد العنوان، فقد يتعدّد و قد لا يتعدّد.
فليس هناك قاعدة عامّة تقضي بأن نحكم بأنّ تعدّد العنوان يوجب تعدّد المعنون، كما تكلّف بتنقيحها بعض أعاظم مشايخنا «1»- قدّس اللَّه نفسه الزكيّة- و كأنّ نظره الشريف يرمي إلى أنّ العامّين من وجه يمتنع صدقهما على شيءٍ واحد من جهة واحدة و إلّا لما كانا عامّين من وجه، فلا بدّ أن يُفرض هناك جهتان موجودتان في المجمع: إحداهما هو
______________________________
(1) الظاهر، المراد به المحقّق النائيني قدس سره انظر فوائد الاصول: ج 1- 2 ص 411.
أصول الفقه ( مظفر، محمد رضا - طبع انتشارات اسلامى )، ج2، ص: 398
الواجب، و ثانيتهما هو المحرّم، فيكون التركيب بين الحيثيّتين تركيباً انضماميّاً لا اتّحاديّاً، إلّا إذا كانت الحيثيّتان المفروضتان تعليليّتين لا تقييديّتين، فإنّ الواجب و المحرّم على هذا الفرض يكونان شيئاً واحداً و هو ذات المحيَّث بهاتين الحيثيّتين؛ و حينئذٍ يقع التعارض بين دليلي العامّين و يخرج المورد عن مسألتنا.
و في هذا التقرير ما لا يخفى على الفطن
أمّا أوّلًا: فإنّ العنوان بالنسبة إلى معنونه تارةً يكون منتزعاً منه باعتبار ضمّ حيثيّةٍ زائدةٍ على الذات مباينةٍ لها ماهيّةً و وجوداً، كالأبيض بالقياس إلى الجسم، فإنّ صدق الأبيض عليه باعتبار عروض صفة البياض عليه الخارجة عن مقام ذاته. و اخرى يكون منتزعاً منه باعتبار نفس ذاته بلا ضمّ حيثيّة زائدة على الذات، كالأبيض بالقياس إلى نفس البياض، فإنّ نفس البياض ذاته بذاته منشأ لانتزاع الأبيض منه بلا حاجة إلى ضمّ بياضٍ آخر إليه، لأنّه بنفس ذاته أبيضُ لا ببياضٍ آخر. و مثل ذلك صفات الكمال لذات واجب الوجود، فإنّها منتزعة من مقام نفس الذات لا بضمّ حيثيّةٍ اخرى زائدة على الذات.
وعليه، فلا يجب في كلّ عنوانٍ منتزعٍ أن يكون انتزاعه من الذات باعتبار ضمّ حيثيّةٍ زائدةٍ على الذات.
و أمّا ثانياً: فإنّ العنوان لا يجب فيه أن يكون كاشفاً عن حقيقةٍ متأصّلة على وجهٍ يكون انطباق العنوان أو مبدؤه عليه من باب انطباق الكلّي على فرده، بل من العناوين ما هو مجعول و معتبر لدى العقل لصِرف الحكاية و الكشف عن المعنون من دون أن يكون بإزائه في الخارج حقيقة متأصّلة، مثل عنوان «العدم» و «الممتنع» بل مثل عنوان «الحرف» و «النسبة» فإنّه لا يجب في مثله فرض حيثيّة متأصّلة ينتزع منها العنوان.
و مثل هذا العنوان المعتبر قد يكون عامّاً يصحّ انطباقه على حقائق متعدّدة
أصول الفقه ( مظفر، محمد رضا - طبع انتشارات اسلامى )، ج2، ص: 399
من دون أن يكون بإزائه حيثيّة واقعيّة غير تلك الحقائق المتأصّلة؛ و لعلّ عنوان «الغصب» من هذا الباب في انطباقه على «الصلاة»- الّتي تتألّف من حقائق متباينة- و على غيرها من سائر التصرّفات، فكلّ تصرّفٍ في مال الغير بدون رضاه غصبٌ، مهما كانت حقيقة ذلك التصرّف و من أيّة مقولةٍ كانت.
ثمرة المسألة:
من الواضح ظهور ثمرة النزاع فيما إذا كان المأمور به عبادة، فإنّه بناءً على القول بالامتناع و ترجيح جانب النهي- كما هو المعروف- تقع العبادة فاسدة مع العلم بالحرمة و العمد بالجمع بين المأمور به و المنهيّ عنه- كما هو المفروض في المسألة- لأنّه لا أمر مع ترجيح جانب النهي، و ليس هناك في ذات المأتيّ به ما يصلح للتقرّب به مع فرض النهي الفعلي، لامتناع التقرّب بالمبعِّد و إن كان ذات المأتيّ به مشتملًا على المصلحة الذاتيّة و قلنا بكفاية قصد المصلحة الذاتيّة في صحّة العبادة.
نعم، إذا وقع الجمع بين المأمور به و المنهيّ عنه عن جهل بالحرمة- قصوراً لا تقصيراً- أو عن نسيان و كان قد أتى بالفعل على وجه القربة، فالمشهور أنّ العبادة تقع صحيحة. و لعلّ الوجه فيه هو القول بكفاية رجحانها الذاتي و اشتمالها على المصلحة الذاتيّة في التقرّب بها مع قصد ذلك و إن لم يكن الأمر فعليّاً.
و قيل: إنّه لا يبقى مصحّح في هذه الصورة للعبادة فتقع فاسدة «1» نظراً إلى أنّ دليلي الوجوب و الحرمة على القول بالامتناع يصبحان متعارضين و إن لم يكونا في حدّ أنفسهما متعارضين، فإذا قُدّم جانب النهي، فكما لا يبقى أمر كذلك لا يُحرز وجود المقتضي له و هو المصلحة الذاتيّة في
______________________________
(1) راجع فوائد الاصول: ج 1- 2 ص 434.
أصول الفقه ( مظفر، محمد رضا - طبع انتشارات اسلامى )، ج2، ص: 400
المجمع، إذ تخصيص دليل الأمر بما عدا المجمع يجوز أن يكون لوجود المانع في المجمع عن شمول الأمر له، و يجوز أن يكون لانتفاء المقتضي للأمر، فلا يُحرز وجود المقتضي.
هذا بناءً على الامتناع و تقديم جانب النهي.
و أمّا بناءً على الامتناع و تقديم جانب الأمر، فلا شبهة في وقوع العبادة صحيحة، إذ لا نهي حتّى يمنع من صحّتها، لا سيّما إذا قلنا بتعارض الدليلين بناءً على الامتناع، فإنّه لا يُحرز معه المفسدة الذاتيّة في المجمع.
و كذلك الحقّ هو صحّة العبادة إذا قلنا بالجواز، فإنّه كما جاز توجيه الأمر و النهي إلى عنوانين مختلفين مع التقائهما في المجمع فقلنا بجواز الاجتماع في مقام التشريع، فكذلك نقول: لا مانع من الاجتماع في مقام الامتثال أيضاً- كما أشرنا إليه في تحرير محلّ النزاع- حتّى لو كان المعنون للعنوانين واحداً وجوداً و لم يوجب تعدّد العنوان تعدّده، لما عرفت سابقاً: من أنّ المعنون لا يقع بنفسه متعلّقاً للتكليف لا قبل وجوده و لا بعد وجوده و إنّما يكون الداعي إلى إتيان الفعل هو تطبيق العنوان المأمور به عليه الّذي ليس بمنهيّ عنه، لا أنّ الداعي إلى إتيانه تعلّق الأمر به ذاته، فيكون المكلّف في فعلٍ واحد بالجمع بين عنواني الأمر و النهي مطيعاً للأمر من جهة انطباق العنوان المأمور به، و عاصياً من جهة انطباق العنوان المنهيّ عنه؛ نظير الاجتماع الموردي، كما تقدّم توضيحه في تحرير محلّ النزاع.
و قيل: إنّ الثمرة في مسألتنا هو إجراء أحكام المتعارضين على دليلي الأمر و النهي بناءً على الامتناع، و إجراء أحكام التزاحم بينهما بناءً على الجواز «1».
أصول الفقه ( مظفر، محمد رضا - طبع انتشارات اسلامى )، ج2، ص: 401
و لكن إجراء أحكام التزاحم بينهما بناءً على الجواز إنّما يلزم إِذا كان القائل بالجواز إنّما يقول بالجواز في مقام الجعل و الإنشاء دون مقام الامتثال، بل يمتنع الاجتماع في مقام الامتثال، و حينئذٍ لا محالة يقع التزاحم بين الأمر و النهي. أمّا إذا قلنا بالجواز في مقام الامتثال أيضاً- كما أوضحناه- فلا موجب للتزاحم بين الحكمين مع وجود المندوحة، بل يكون مطيعاً عاصياً في فعلٍ واحد، كالاجتماع الموردي بلا فرق، إذ لا دوران حينئذٍ بين امتثال الأمر و امتثال النهي.
اجتماع الأمر و النهي مع عدم المندوحة
[أي مع الاضطرار] «1»
تقدّم الكلام كلّه في اجتماع الأمر و النهي فيما إذا كانت هناك مندوحة من الجمع بين المأمور به و المنهيّ عنه، و قد جمع المكلّف بينهما في فعلٍ واحد بسوء اختياره. و يلحق به ما كان الجمع بينهما عن غفلة أو جهل.
و قد ذهبنا إلى جواز الاجتماع في مقامي الجعل و الامتثال.
و بقي الكلام في اجتماعهما مع عدم المندوحة، و ذلك بأن يكون المكلّف مضطرّاً إلى هذا الجمع بينهما. و الاضطرار على نحوين:
الأوّل: أن يكون بدون سبق اختيار للمكلّف في الجمع، كمن اضطرّ لإنقاذ غريقٍ إلى التصرّف في أرضٍ مغصوبةً، فيكون تصرّفه في الأرض واجباً من جهة إنقاذ الغريق و حراماً من جهة التصرّف في المغصوب.
فإنّه في هذا الفرض لا بدّ أن يقع التزاحم بين الواجب و الحرام في مقام الامتثال، إذ لا مندوحة للمكلّف حسب الفرض، فلا بدّ في مقام إطاعة الأمر بإنقاذ الغريق من الجمع، لانحصار امتثال الواجب في هذا الفرد
______________________________
(1) لم يرد في ط 2.
أصول الفقه ( مظفر، محمد رضا - طبع انتشارات اسلامى )، ج2، ص: 402
المحرّم، فيدور الأمر بين أن يعصي الأمر أو يعصي النهي.
و في مثله يرجع إلى أقوى الملاكين، فإن كان ملاك الأمر أقوى- كما في المثال المذكور- قدّم جانب الأمر و يسقط النهي عن الفعليّة، و إن كان ملاك النهي أقوى قدّم جانب النهي، كمن انحصر عنده إنقاذ حيوان محترم من الهلكة بهلاك إنسان.
تنبيه: ممّا يلحق بهذا الباب و يتفرّع عليه ما لو اضطرّ إلى ارتكاب فعلٍ محرّم لا بسوء اختياره، ثمّ اضطرّ إلى الإتيان بالعبادة على وجهٍ يكون ذلك فعل المحرّم مصداقاً لتلك العبادة، بمعنى أنّه اضطرّ إلى الإتيان بالعبادة مجتمعة مع فعل الحرام الّذي قد اضطرّ إليه.
و مثاله: المحبوس في مكانٍ مغصوب فيضيق عليه وقت الصلاة و لا يسعه الإتيان بها خارجَ المكان المغصوب. فهل في هذا الفرض يجب عليه الإتيان بالعبادة و تقع صحيحة، أو لا؟
نقول: لا ينبغي الشكّ في أنّ عبادته على هذا التقدير تقع صحيحة، لأنّه مع الاضطرار إلى فعل الحرام لا تبقى فعليّة للنهي، لاشتراط القدرة في التكليف، فالأمر لا مزاحم لفعليّته، فيجب عليه أداء الصلاة، و لا بدّ أن تقع حينئذٍ صحيحة.
نعم، يستثنى من ذلك ما لو كان دليل الأمر و دليل النهي متعارضين بأنفسهما من أوّل الأمر و قد رجّحنا جانب النهي بأحد مرجّحات باب التعارض، فإنّه في هذه الصورة لاوجه لوقوع العبادة صحيحة، لأنّ العبادة لا تقع صحيحة إلّا إذا قُصد بها امتثال الأمر الفعلي بها- إن كان- أو قُصد بها الرجحان الذاتي قربةً إلى اللَّه تعالى، و المفروض أنّه هنا لا أمر فعلي، لعدم شمول دليله بما هو حجّة لمورد الاجتماع، لأنّ المفروض تقديم جانب النهي.
أصول الفقه ( مظفر، محمد رضا - طبع انتشارات اسلامى )، ج2، ص: 403
و قيل: إنّ النهي إذا زالت فعليّته من جهة الاضطرار لم يبقَ مانع من التمسّك بعموم الأمر «1».
و هذه غفلة ظاهرة، فإنّ دليل الأمر بما هو حجّة لا يكون شاملًا لمورد الاجتماع، لمكان التعارض بين الدليلين و تقديم دليل النهي، فإذا اضطرّ المكلّف إلى فعل المنهيّ عنه لا يلزم منه أن يعود دليل الأمر حجّة في مورد الاجتماع مرّة ثانية. و إنّما يتصوّر أن يعود الأمر فعليّاً إذا كان تقديم النهي من باب التزاحم، فإذا زال التزاحم عاد الأمر فعليّاً.
و أمّا الرجحان الذاتي، فإنّه بعد فرض التعارض بين الدليلين و تقديم جانب النهي لا يكون الرجحان محرزاً في مورد الاجتماع، لأنّ عدم شمول دليل الأمر بما هو حجّة لمورد الاجتماع يحتمل فيه وجهان:
وجود المانع مع بقاء الملاك، و انتفاء المقتضي و هو الملاك، فلا يُحرز وجود الملاك حتّى يصحّ قصده متقرّباً به إلى اللَّه تعالى.
الثاني: أن يكون الاضطرار بسوء الاختيار، كمن دخل منزلًا مغصوباً متعمّداً، فبادر إلى الخروج تخلّصاً من استمرار الغصب، فإنّ هذا التصرّف بالمنزل في الخروج لا شكّ في أنّه تصرّف غصبي أيضاً، و هو مضطرّ إلى ارتكابه للتخلّص من استمرار فعل الحرام، و كان اضطراره إليه بمحض اختياره إذ دخل المنزل غاصباً باختياره.
و تُعرّف هذه المسألة في لسان المتأخّرين بمسألة «التوسّط في المغصوب» و الكلام يقع فيها من ناحيتين:
1- في حرمة هذا التصرّف الخروجي أو وجوبه.
2- في صحّة الصلاة المأتيّ بها حالَ الخروج.
______________________________
(1) لم نظفر على شخص القائل، ذكره في تقرير أبحاث السيّد الخوئي بلفظ: قد استدلّ للمشهور، راجع المحاضرات: ج 4 ص 340.
أصول الفقه ( مظفر، محمد رضا - طبع انتشارات اسلامى )، ج2، ص: 404
حرمة الخروج من المغصوب أو وجوبه:
أمّا الناحية الاولى: فقد تعدّدت الأقوال فيها، فقيل: بحرمة التصرّف الخروجي فقط «1». و قيل: بوجوبه فقط و لكن يعاقب فاعله «2». و قيل:
بوجوبه فقط و لا يعاقب فاعله «3». و قيل: بحرمته و وجوبه معاً «4». و قيل: لا هذا و لا ذاك و مع ذلك يعاقب عليه «5».
فينبغي أن نبحث عن وجه القول بالحرمة، و عن وجه القول بالوجوب ليتّضح الحقّ في المسألة (و هو القول الأوّل).
أمّا وجه الحرمة: فمبنيّ على أنّ التصرّف بالغصب بأيّ نحوٍ من أنحاء التصرّف- دخولًا و بقاءً و خروجاً- محرم من أول الأمر قبل الابتلاء بالدخول، فهو قبل أن يدخل منهيّ عن كلّ تصرّف في المغصوب حتّى هذا التصرّف الخروجي، لأنّه كان متمكّناً من تركه بترك الدخول.
و من يقول بعدم حرمته، فإنّه يقول به لأنّه يجد أنّ هذا المقدار من التصرّف مضطرّ إليه سواء خرج الغاصب أو بقي، فيمتنع عليه تركه، و مع فرض امتناع تركه كيف يبقى على صفة الحرمة؟
و لكنّا نقول له: إنّ هذا الامتناع هو الّذي أوقع نفسه فيه بسوء اختياره و كان متمكّناً من تركه بترك الدخول، و الامتناع بالاختيار لا ينافي الاختيار، فهو مخاطب من أوّل الأمر بترك التصرّف حتّى يخرج، فالخروج في نفسه بما هو تصرّف داخل من أوّل الأمر في أفراد العنوان
______________________________
(1) نسبه في التقريرات إلى ظاهر بعض الأفاضل في الإشارات، مطارح الأنظار: ص 155.
(2) اختاره صاحب الفصول ثم قال: و كأنّ ما عزي إلى الفخر الرازي من القول بأنّه مأمور بالخروج و حكم المعصية جارٍ عليه راجع إلى ما ذكرناه، الفصول الغرويّة: ص 138.
(3) قال به الشيخ الأنصاري على ما في مطارح الأنظار: 153.
(4) هذا القول منسوب إلى أبي هاشم، و استقربه المحقّق القمّي، قوانين الاصول: ص 153.
(5) اختاره المحقّق الخراساني في كفاية الاصول: ص 204.
أصول الفقه ( مظفر، محمد رضا - طبع انتشارات اسلامى )، ج2، ص: 405
المنهيّ عنه، أي أنّ العنوان المنهيّ عنه- و هو التصرّف بمال الغير بدون رضاه- يسع في عمومه كلّ تصرّف متمكّن من تركه حتّى الخروج، و امتناع ترك هذا التصرّف بسوء اختياره لا يخرجه عن عموم العنوان.
و نحن لا نقول- كما سبق- إنّ المعنون بنفسه هو متعلّق الخطاب حتّى يقال لنا: إنّه يمتنع تعلّق الخطاب بالممتنع تركه و إن كان الامتناع بسوء الاختيار.
و أمّا وجه الوجوب: فقد قيل: إنّ الخروج واجب نفسي باعتبار أنّ الخروج معنون بعنوان التخلّص عن الحرام، و التخلّص عن الحرام في نفسه عنوان حسن عقلًا و واجب شرعاً. و قد نُسب هذا الوجه إلى الشيخ الأعظم الأنصاري- أعلى اللَّه تعالى مقامه- على ما يظهر من تقريرات درسه «1».
و قيل: إنّ الخروج واجب غيري- كما يظهر من بعض التعبيرات في تقريرات الشيخ أيضاً «2»- باعتبار أنّه مقدّمة للتخلّص من الحرام، و هو الغصب الزائد الّذي كان يتحقّق لو لم يخرج.
و الحقّ: أنّه ليس بواجبٍ نفسي و لا غيري.
أمّا أنّه ليس بواجبٍ نفسي، فلأنّه:
أوّلًا: أنّ التخلّص عن الشيء- بأيّ معنى فُرض- عنوانٌ مقابل لعنوان الابتلاء به بديلٌ له لا يجتمعان، و هما من قبيل الملكة و عدمها. و هذا واضح.
و حينئذٍ نقول له: ما مرادك من التخلّص الّذي حكمت عليه بأنّه عنوان حسن؟
إن كان المراد به «التخلّص من أصل الغصب» فهو بالخروج- أي الحركات الخروجيّة- مبتلٍ بالغصب، لا أنّه متخلّص منه، لأنّه تصرّف
______________________________
(1 و 2) راجع مطارح الأنظار: ص 153- 156.
أصول الفقه ( مظفر، محمد رضا - طبع انتشارات اسلامى )، ج2، ص: 406
بالمغصوب.
و إن كان المراد به «التخلّص من الغصب الزائد الّذي يقع لو لم يخرج» فهو لا ينطبق على الحركات الخروجيّة، و ذلك لأنّ التخلّص لمّا كان مقابلًا للابتلاء بديلًا له- كما قدّمنا- فالزمان الّذي يصلح أن يكون زماناً للابتلاء لا بدّ أن يكون هو الّذي يصدق عليه عنوان «التخلّص» مع أنّ زمان الحركات الخروجيّة سابق على زمان الغصب الزائد عليها لو لم يخرج، فهو في حال الحركات الخروجيّة لا مبتلٍ بالغصب الزائد و لا متخلّصٌ منه، بل الغاصب مبتلٍ بالغصب من حين دخوله إلى حين خروجه، و بعد خروجه يصدق عليه أنّه متخلّص من الغصب.
و ثانياً: أنّ التخلّص لو كان عنواناً يصدق على الخروج، فلا ينبغي أن يراد من الخروج نفس الحركات الخروجيّة، بل على تقديره ينبغي أن يراد منه ما تكون الحركات الخروجيّة مقدّمة له أو بمنزلة المقدّمة. فلا ينطبق إذاً عنوان «التخلّص» على التصرّف بالمغصوب المحرّم كما يريد أن يحقّقه هذا القائل.
و السرّ واضح، فإنّ الخروج يقابل الدخول، و لمّا كان الدخول عنواناً للكون داخل الدار المسبوق بالعدم، فلا بدّ أن يكون الخروج- بمقتضى المقابلة- عنواناً للكون خارج الدار المسبوق بالعدم. أمّا نفس التصرّف بالمغصوب بالحركات الخروجيّة الّتي منها يكون الخروج فهو مقدّمة أو شبه المقدّمة للخروج لا نفسه.
و ثالثاً: لو سلّمنا أنّ التخلّص عنوان ينطبق على الحركات الخروجيّة فلا نُسلّم بوجوبه النفسي، لأنّ التخلّص عن الحرام ليس هو إلّا عبارة اخرى عن ترك الحرام، و ترك الحرام ليس واجباً نفسيّاً على وجهٍ يكون ذا مصلحة نفسيّة في مقابل المفسدة النفسيّة في الفعل. نعم، هو مطلوب
أصول الفقه ( مظفر، محمد رضا - طبع انتشارات اسلامى )، ج2، ص: 407
بتبع النهي عن الفعل، و قد تقدّم ذلك في مبحث النواهي في الجزء الأوّل «1» و في مسألة الضدّ في الجزء الثاني «2». فكما أنّ الأمر بالشيء لا يقتضي النهي عن ضدّه العامّ- أي نقيضه و هو الترك- كذلك أنّ النهي عن الشيء لا يقتضي الأمر بضدّه العامّ- أي نقيضه و هو الترك-؛ و لذا قلنا في مبحث النواهي: إنّ تفسير النهي بطلب الترك- كما وقع للقوم- ليس في محلّه و إنّما هو تفسير للشيء بلازم المعنى العقلي، فإنّ مقتضى الزجر عن الفعل طلب تركه عقلًا، لا على أن يكون الترك ذا مصلحة نفسيّة في مقابل مفسدة الفعل. و كذلك في الأمر، فإنّ مقتضى الدعوة إلى الفعل الزجر عن تركه عقلًا لا على أن يكون الترك ذا مفسدة نفسيّة في مقابل مصلحة الفعل، بل ليس في النهي إلّا مفسدة الفعل، و ليس في الأمر إلّا مصلحة الفعل.
و أمّا أنّ الخروج ليس بواجبٍ غيري، فلأنه:
أوّلًا: قد تقدّم أنّ مقدّمة الواجب ليست بواجبة على تقدير القول بأنّ التخلّص واجب نفسي.
و ثانياً: أنّ الخروج الّذي هو عبارة عن الحركات الخروجيّة في مقصود هذا القائل ليس مقدّمة لنفس التخلّص عن الحرام، بل على التحقيق إنّما هو مقدّمة للكون في خارج الدار، و الكون في خارج الدار ملازم لعنوان التخلّص عن الحرام لا نفسه، و لا يلزم من فرض وجوب التخلص فرض وجوب لازمه، فإنّ المتلازمين لا يجب أن يشتركا في الحكم، كما تقدّم في مسألة الضدّ «3» و إذا لم يجب الكون خارج الدار كيف تجب مقدّمته؟
______________________________
(1) راجع ص 149.
(2) راجع ص 356.
(3) راجع ص 361.
أصول الفقه ( مظفر، محمد رضا - طبع انتشارات اسلامى )، ج2، ص: 408
و ثالثاً: لو سلّمنا أنّ التخلّص واجب نفسي و أنّه نفس الكون خارج الدار فتكون الحركات الخروجيّة مقدّمة له و أنّ مقدّمة الواجب واجبة؛ لو سلّمنا كلّ ذلك، فإنّ مقدّمة الواجب إنّما تكون واجبة حيث لا مانع من ذلك، كما لو كانت محرّمة في نفسها- كركوب المركب الحرام في طريق الحجّ- فإنّه لا يقع على صفة الوجوب و إن تُوصّل به إلى الواجب. و هنا الحركات الخروجيّة تقع على صفة الحرمة- كما قدّمنا- باعتبار أنّها من أفراد الحرام و هو التصرّف بالمغصوب، فلا تقع على صفة الوجوب من باب المقدّمة.
فإن قلت: إنّ المقدّمة المحرّمة إنّما لا تقع على صفة الوجوب حيث لا تكون منحصرة، و أمّا مع انحصار التوصّل بها إلى الواجب، فإنّه يقع التزاحم بين حرمتها و وجوب ذيها، لأنّ الأمر يدور حينئذٍ بين امتثال الوجوب و بين امتثال الحرمة، فلو كان الوجوب أهمّ قُدّم على حرمة المقدّمة فتسقط حرمتها. و هنا الأمر كذلك، فإنّ المقدّمة منحصرة، و الواجب- و هو ترك الغصب الزائد- أهمّ.
قلت: هذا صحيح لو كان الدوران لم يقع بسوء اختيار المكلّف، فإنّه حينئذٍ يكون الدوران في مقام التشريع. و أمّا لو كان الدوران واقعاً بسوء اختيار المكلّف- كما هو مفروض في المقام- فإنّ المولى في مقام التشريع قد استوفى غرضه من أوّل الأمر بالنهي عن الغصب مطلقاً و لا دوران فيه حتّى يقال: يقبح من المولى تفويت غرضه الأهمّ. و إنّما الدوران وقع في مقام استيفاء الغرض استيفاءً خارجيّاً بسبب سوء اختيار المكلّف بعد فرض أنّ المولى من أوّل الأمر- قبلَ أن يدخل المكلّف في المحلّ المغصوب- قد استوفى كلّ غرضه في مقام التشريع إذ نهى عن كلّ تصرّفٍ بالمغصوب.
أصول الفقه ( مظفر، محمد رضا - طبع انتشارات اسلامى )، ج2، ص: 409
فليس هناك تزاحم في مقام التشريع، فالمكلّف يجب عليه أن يترك الغصب الزائد بالخروج عن المغصوب، و نفس الحركات الخروجيّة تكون أيضاً محرّمة يستحقّ عليها العقاب، لأنّها من أفراد ما هو منهيّ عنه، و قد وقع في هذا المحذور و الدوران بسوء اختياره.
صحّة الصلاة حال الخروج
و أمّا الناحية الثانية:- و هي صحّة الصلاة حال الخروج- فإنّها تبتني على اختيار أحد الأقوال في الناحية الاولى.
فإن قلنا بأنّ الخروج يقع على صفة الوجوب فقط، فإنّه لا مانع من الإتيان بالصلاة حالته، سواء ضاق وقتها أم لم يضق، و لكن بشرط ألّا يستلزم أداء الصلاة تصرّفاً زائداً على الحركات الخروجيّة، فإنّ هذا التصرّف الزائد حينئذٍ يقع محرّماً منهيّاً عنه. فإذا استلزم أداء الصلاة تصرّفاً زائداً، فإن كان الوقت ضيقاً، فلا بدّ أن يؤدّي الصلاة حال الخروج و لا بدّ أن يقتصر منها على أقلّ الواجب فيصلّي ايماءً بدل الركوع و السجود. و إن كان الوقت متّسعاً لأدائها بعد الخروج وجب أن ينتظر بها إلى ما بعد الخروج.
و إن قلنا بوقوع الخروج على صفة الحرمة، فإنّه مع سعة الوقت لا بدّ أن يؤدّيها بعد الخروج سواء استلزمت تصرّفاً زائداً أم لم تستلزم. و مع ضيق الوقت يقع التزاحم بين الحرام الغصبي و الصلاة الواجبة، و الصلاة لا تترك بحال، فيجب أداؤها مع ترك ما يستلزم منها تصرّفاً زائداً، فيصلّي إيماءً للركوع و السجود، و يقرأ ماشياً، فيترك الاطمئنان الواجب ... و هكذا.
و إن قلنا بعدم وقوع الخروج على صفة الحرمة و لا صفة الوجوب فلا مانع من أداء الصلاة حال الخروج إذا لم تستلزم تصرّفاً زائداً حتّى مع سعة الوقت على النحو الّذي تقدّم.
أصول الفقه ( مظفر، محمد رضا - طبع انتشارات اسلامى )، ج2، ص: 410
حوزوی کتب
اصول الفقہ حصہ دوم
المقصد الثاني: الملازمات العقليّة
المبحث الأوّل التحسين و التقبيح العقليّان
المبحث الثاني إدراك العقل للحسن و القبح
المبحث الثالث ثبوت الملازمة العقليّة بين حكم العقل و حكم الشرع
الباب الثاني: غير المستقلّات العقليّة
المسألة الاولى الإجزاء
المسألة الثانية مقدمة الواجب
المسألة الثالثة مسألة الضد
المسألة الرابعة اجتماع الأمر و النهي
المسألة الخامسة دلالة النهي على الفساد
اصول الفقہ حصہ دوم
المسألة الرابعة اجتماع الأمر و النهي
تحرير محل النزاع:
و اختلف الاصوليّون من القديم في أنّه هل يجوز اجتماع الأمر و النهي في واحد أو لا يجوز؟
ذهب إلى الجواز أغلب الأشاعرة و جملة من أصحابنا أوّلهم الفضل ابن شاذان على ما هو المعروف عنه، وعليه جماعة من محقّقي المتأخّرين «1». و ذهب إلى الامتناع أكثر المعتزلة و أكثر أصحابنا «2».
______________________________ (1) قال المحقّق القمّي قدس سره: إنّ القول بجواز الاجتماع هو مذهب أكثر الأشاعرة و الفضل بن شاذان رحمه الله من قدمائنا، و هو الظاهر من كلام السيّد رحمه الله في الذريعة، و ذهب إليه جلّة من فحول متأخّرينا كمولانا المحقّق الأردبيلي و سلطان العلماء و المحقّق الخوانساري و ولده المحقّق و الفاضل المحقّق الشيرواني و الفاضل الكاشاني، و السيّد الفاضل صدر الدين، و أمثالهم- رحمهم اللَّه تعالى- بل و يظهر من الكليني- حيث نقل كلام الفضل بن شاذان في كتاب الطلاق و لم يطعن عليه- رضاؤه بذلك، بل و يظهر من كلام الفضل أنّ ذلك كان من مسلّمات الشيعة و إنّما المخالف فيه كان من العامّة، كما أشار إلى ذلك العلّامة المجلسي رحمه الله في كتاب بحار الأنوار أيضاً؛ و انتصر هذا المذهب أيضاً جماعة من أفاضل المعاصرين، قوانين الاصول: ج 1 ص 140.
(2) في تقريرات الشيخ الأعظم الأنصاري: فذهب أكثر أصحابنا و جمهور المعتزلة و بعض الأشاعرة- كالباقلّاني- إلى الامتناع، بل عن جماعة- منهم العلّامة و السيّد الجليل في إحقاق الحقّ و العميدي و صاحبي المعالم و المدارك و صاحب التجريد- الإجماع عليه، بل ادّعى بعضهم الضرورة، و ليس بذلك البعيد، مطارح الأنظار: ص 129.
أصول الفقه ( مظفر، محمد رضا - طبع انتشارات اسلامى )، ج2، ص: 377
و كأنّ المسألة- فيما يبدو من عنوانها من الأبحاث التافهة، إذ لا يمكن أن نتصوّر النزاع في إمكان اجتماع الأمر و النهي في واحدٍ حتّى لو قلنا بعدم امتناع التكليف بالمحال- كما تقوله الأشاعرة- لأنّ التكليف هنا نفسه محال، و هو الأمر و النهي بشيء واحد. و امتناع ذلك من أوضح الواضحات، و هو محلّ وفاقٍ بين الجميع.
إذاً، فكيف صحّ هذا النزاع من القوم؟ و ما معناه؟
و الجواب: أنّ التعبير باجتماع الأمر و النهي من خداع العناوين، فلا بدّ من توضيح مقصودهم من البحث بتوضيح الكلمات الواردة في هذا العنوان، و هي كلمة: «الاجتماع»، «الواحد»، «الجواز». ثمّ ينبغي أن نبحث أيضاً عن قيد آخر لتصحيح النزاع، و هو قيد «المندوحة» الّذي أضافه بعض المؤلّفين «1» و هو على حقّ. وعليه نقول:
1- الاجتماع: و المقصود منه هو الالتقاء الاتّفاقي بين المأمور به و المنهيّ عنه في شيءٍ واحد. و لا يُفرض ذلك إلّا حيث يُفرض تعلّق الأمر بعنوانٍ و تعلّق النهي بعنوانٍ آخر لا ربط له بالعنوان الأوّل. و لكن قد يتّفق نادراً أن يلتقي العنوانان في شيءٍ واحد و يجتمعا فيه، و حينئذٍ يجتمع- أي يلتقي- الأمر و النهي.
و لكن هذا الاجتماع و الالتقاء بين العنوانين على نحوين:
1- أن يكون اجتماعاً مورديّاً، يعني أنّه لا يكون هنا فعل واحد مطابقاً لكلّ من العنوانين، بل يكون هنا فعلان تقارنا و تجاورا في وقت واحد، أحدهما يكون مطابقاً لعنوان «الواجب» و ثانيهما مطابقاً لعنوان
______________________________ (1) الفصول الغرويّة: ص 124.
أصول الفقه ( مظفر، محمد رضا - طبع انتشارات اسلامى )، ج2، ص: 378
«المحرّم» مثل النظر إلى الأجنبيّة في أثناء الصلاة، فلا النظر هو مطابق عنوان «الصلاة» و لا الصلاة مطابق عنوان «النظر إلى الأجنبيّة» ولاهما ينطبقان على فعلٍ واحد.
فإنّ مثل هذا الاجتماع الموردي لم يقل أحد بامتناعه، و ليس هو داخلًا في مسألة الاجتماع هذه. فلو جمع المكلّف بينهما بأن نظر إلى الاجنبيّة في أثناء الصلاة فقد عصى و أطاع في آنٍ واحد و لا تفسد صلاته.
2- أن يكون اجتماعاً حقيقيّاً و إن كان ذلك في النظر العرفي و في بادئ الرأي، يعني أنّه فعل واحد يكون مطابقاً لكلّ من العنوانين كالمثال المعروف: الصلاة في المكان المغصوب.
فإنّ مثل هذا المثال هو محلّ النزاع في مسألتنا، المفروض فيه أنّه لا ربط لعنوان «الصلاة» المأمور به بعنوان «الغصب» المنهيّ عنه، و لكن قد يتّفق للمكلّف صدفةً أن يجمع بينهما بأن يصلّي في مكانٍ مغصوب، فيلتقي العنوان المأمور به و هو «الصلاة» مع العنوان المنهي عنه و هو «الغصب» و ذلك في الصلاة المأتيّ بها في مكانٍ مغصوب، فيكون هذا الفعل الواحد مطابقاً لعنوان «الصلاة» و لعنوان «الغصب» معاً. و حينئذٍ إذا اتّفق ذلك للمكلّف فإنّه يكون هذا الفعل الواحد داخلًا فيما هو مأمور به من جهةٍ فيقتضي أن يكون المكلّف مطيعاً للأمر ممثلًا، و داخلًا فيما هو منهيّ عنه من جهة اخرى فيقتضي أن يكون المكلّف عاصياً به مخالفاً.
2- الواحد: و المقصود منه الفعل الواحد باعتبار أنّ له وجوداً واحداً يكون ملتقًى و مجمعاً للعنوانين، في مقابل المتعدّد بحسب الوجود، كالنظر إلى الأجنبيّة و الصلاة، فإنّ وجود أحدهما غير وجود الآخر، فإنّ الاجتماع في مثل هذا يُسمّى «الاجتماع الموردي» كما تقدّم.
و الفعل الواحد بما له من الوجود الواحد إذا كان ملتقى للعنوانين، فإنّ التقاء العناوين فيه لا يخلو من حالتين: إحداهما أن يكون الالتقاء بسبب
أصول الفقه ( مظفر، محمد رضا - طبع انتشارات اسلامى )، ج2، ص: 379
ماهيّته الشخصيّة. و ثانيتهما أن يكون الالتقاء بسبب ماهيّته الكلّية كأن يكون الكلّي نفسه مجمعاً للعنوانين كالكون الكلّي الّذي ينطبق عليه أنّه صلاةٌ و غصبٌ.
وعليه، فالمقصود من «الواحد» في المقام: الواحد في الوجود. فلا معنى لتخصيص النزاع بالواحد الشخصي.
و بما ذكرنا يظهر خروج الواحد بالجنس عن محلّ الكلام، و المراد به ما إذا كان المأمور به و المنهيّ عنه متغايرين وجوداً، و لكنّهما يدخلان تحت ماهيّة واحدة، كالسجود للَّه و السجود للصنم، فإنّهما واحد بالجنس باعتبار أنّ كلّاً منهما داخل تحت عنوان «السجود» و لا شكّ في خروج ذلك عن محلّ النزاع.
3- الجواز: و المقصود منه الجواز العقلي، أي الإِمكان المقابل للامتناع، و هو واضح. و يصحّ أن يراد منه الجواز العقلي المقابل للقبح العقلي و هو قد يرجع إلى الأوّل باعتبار أنّ القبيح ممتنع على اللَّه تعالى.
و الجواز له معانٍ اخر، كالجواز المقابل للوجوب و الحرمة الشرعيّين، و الجواز بمعنى الاحتمال. و كلّها غير مرادة قطعاً.
إذا عرفت تفسير هذه الكلمات الثلاث الواردة في عنوان المسألة يتّضح لك جيّداً تحرير النزاع فيها، فإنّ حاصل النزاع في المسألة يكون أنّه في مورد التقاء عنواني «المأمور به» و «المنهيّ عنه» في واحد وجوداً هل يجوز اجتماع الأمر و النهي؟ و معنى ذلك:
إِنّه هل يصحّ أن يبقى الأمر متعلّقاً بذلك العنوان المنطبق على ذلك الواحد و يبقى النهي كذلك متعلّقاً بالعنوان «1» المنطبق على ذلك الواحد،
______________________________ (1) في ط الاولى: بعنوانه.
أصول الفقه ( مظفر، محمد رضا - طبع انتشارات اسلامى )، ج2، ص: 380
فيكون المكلّف مطيعاً و عاصياً معاً في الفعل الواحد.
أو أنّه يمتنع ذلك و لا يجوز، فيكون ذلك المجتمع للعنوانين إمّا مأموراً به فقط أو منهيّاً عنه فقط، أي أنّه إمّا أن يبقى الأمر على فعليّته فقط فيكون المكلّف مطيعاً لا غير، أو يبقى النهي على فعليّته فقط فيكون المكلّف عاصياً لا غير.
و القائل بالجواز لا بدّ أن يستند في قوله إلى أحد رأيين:
1- أن يرى أنّ العنوان بنفسه هو متعلّق التكليف و لا يسري الحكم إلى المعنون، فانطباق عنوانين على فعل واحد لا يلزم منه أن يكون ذلك الواحد متعلّقاً للحكمين، فلا يمتنع الاجتماع- أي اجتماع عنوان المأمور به مع عنوان المنهيّ عنه في واحد- لأنّه لا يلزم منه اجتماع نفس الأمر و النهي في واحد.
2- أن يرى أنّ المعنون- على تقدير تسليم أنّه هو متعلّق الحكم حقيقة لا العنوان- يكون متعدّداً واقعاً إذا تعدّد العنوان، لأنّ تعدّد العنوان يوجب تعدّد المعنون بالنظر الدقيق الفلسفي، ففي الحقيقة- و إن كان فعلٌ واحدٌ في ظاهر الحال صار مطابقاً للعنوانين- هناك معنونان كلّ واحد منهما مطابق لأحد العنوانين، فيرجع اجتماع الوجوب و الحرمة بالدقّة العقليّة إلى الاجتماع الموردي الّذي قلنا: إنّه لا بأس فيه من الاجتماع.
و على هذا فليس هناك واحد بحسب الوجود يكون مجمعاً بين العنوانين في الحقيقة، بل ما هو مأمور به في وجوده غير ما هو منهيّ عنه في وجوده. و لا تلزم سراية الأمر إلى ما تعلّق به النهي و لا سراية النهي إلى ما تعلّق به الأمر، فيكون المكلّف في جمعه بين العنوانين مطيعاً و عاصياً في آنٍ واحد، كالناظر إلى الأجنبيّة في أثناء الصلاة.
و بهذا يتّضح معنى القول بجواز اجتماع الأمر و النهي، و في الحقيقة أصول الفقه ( مظفر، محمد رضا - طبع انتشارات اسلامى )، ج2، ص: 381
ليس هو قولًا باجتماع الأمر و النهي في واحد، بل إمّا أنّه يرجع إلى القول باجتماع عنوان المأمور به و المنهيّ عنه في واحدٍ من دون أن يكون هناك اجتماع بين الأمر و النهي، و إمّا أن يرجع إلى القول بالاجتماع الموردي فقط، فلا يكون اجتماع بين الأمر و النهي و لا بين المأمور به و المنهيّ عنه.
و أمّا القائل بالامتناع، فلا بدّ أن يذهب إلى أنّ الحكم يسري من العنوان إلى المعنون و أنّ تعدّد العنوان لا يوجب تعدّد المعنون، فإنّه لا يمكن حينئذٍ بقاء الأمر و النهي معاً و توجّههما متعلّقين بذلك المعنون الواحد بحسب الوجود، لأنّه يلزم اجتماع نفس الأمر و النهي في واحد، و هو مستحيل، فإمّا أن يبقى الأمر و لا نهي، أو يبقى النهي و لا أمر.
و لقد أحسن صاحب المعالم في تحرير النزاع، إذ عبّر بكلمة «التوجّه» بدلًا عن كلمة «الاجتماع» فقال: الحقّ امتناع توجّه الأمر و النهي إلى شيء واحد ... «1»
المسألة من الملازمات العقليّة غير المستقلّة:
و من التقرير المتقدّم لبيان محلّ النزاع يظهر كيف أنّ المسألة هذه ينبغي أن تدخل في الملازمات العقليّة غير المستقلّة، فإنّ معنى القول بالامتناع هو: تنقيح صغرى الكبرى العقليّة القائلة بامتناع اجتماع الأمر و النهي في شيءٍ واحدٍ حقيقي. توضيح ذلك: أنّه إذا قلنا بأنّ الحكم يسري من العنوان إلى المعنون و أنّ تعدّد العنوان لا يوجب تعدّد المعنون، فإنّه يتنقّح عندنا موضوع اجتماع الأمر و النهي في واحدٍ الثابتين شرعاً، فيقال على نهج القياس الاستثنائي هكذا:
______________________________ (1) معالم الدين: ص 93.
أصول الفقه ( مظفر، محمد رضا - طبع انتشارات اسلامى )، ج2، ص: 382
إذا التقى عنوان المأمور به و المنهيّ عنه في واحدٍ بسوء الاختيار فإن بقي الأمر و النهي فعليّين معاً فقد اجتمع الأمر و النهي في واحد (و هذه هي الصغرى).
و مستند هذه الملازمة في الصغرى هو سراية الحكم من العنوان إلى المعنون و أنّ تعدّد العنوان لا يوجب تعدّد المعنون. و إنّما تُفرض هذه الملازمة حيث يُفرض ثبوت الأمر و النهي شرعاً بعنوانيهما.
ثمّ نقول: و لكنّه يستحيل اجتماع الأمر و النهي في واحد. (و هذه هي الكبرى).
و هذه الكبرى عقليّة تثبت في غير هذه المسألة.
و هذا القياس استثنائي قد استُثني فيه نقيض التالي، فيثبت به نقيض المقدّم، و هو عدم بقاء الأمر و النهي فعليّين معاً. و أمّا بناءً على الجواز، فيخرج هذا المورد- مورد الالتقاء- عن أن يكون صغرى لتلك الكبرى العقليّة.
و لا يجب في كون المسألة اصوليّة من المستقلّات العقليّة و غيرها أن تقع صغرى للكبرى العقليّة على تقدير جميع الأقوال، بل يكفي أن تقع صغرى على أحد الأقوال فقط؛ فإنّ هذا شأن جميع المسائل الاصوليّة المتقدّمة- اللفظيّة و العقليّة- أ لا ترى أنّ المباحث اللفظيّة كلّها لتنقيح صغرى أصالة الظهور، مع أنّ المسألة لا تقع صغرى لأصالة الظهور على جميع الأقوال فيها، كمسألة دلالة صيغة «افعل» على الوجوب، فإنّه على القول بالاشتراك اللفظي أو المعنوي لا يبقى لها ظهور في الوجوب أو غيره.
و لا وجه لتوهّم كون هذه المسألة فقهيّة أو كلاميّة أو اصوليّة لفظيّة.
و هو واضح بعد ما قدّمناه من شرح تحرير النزاع، و بعد ما ذكرناه سابقاً في
أصول الفقه ( مظفر، محمد رضا - طبع انتشارات اسلامى )، ج2، ص: 383
أوّل هذا الجزء «1» من مناط كون المسألة الاصوليّة من باب غير المستقلّات العقليّة.
مناقشة الكفاية في تحرير النزاع:
و بعد ما حرّرناه من بيان النزاع في المسألة يتّضح ابتناء القول بالجواز فيها على أحد رأيين: إمّا القول بأنّ متعلّق الأحكام هي نفس العنوانات دون معنوناتها، و إمّا القول بأنّ تعدّد العنوان يستدعي تعدّد المعنون.
فتكون مسألة تعدّد المعنون بتعدّد العنوان و عدم تعدّده حيثيّة تعليليّة في مسألتنا و من المبادئ التصديقيّة لها على أحد احتمالين، لا أنّها هي نفس محلّ النزاع في الباب، فإنّ البحث هنا ليس إلّا عن نفس الجواز و عدمه، كما عبّر بذلك كلّ من بحث هذه المسألة من القديم.
و من هنا تتجلّى المناقشة فيما أفاده في «كفاية الاصول» في رجوع محلّ البحث هنا إلى البحث عن استدعاء تعدّد العنوان لتعدّد المعنون و عدمه «2».
فإنّه فرق عظيم بين ما هو محلّ النزاع و بين ما يبتني عليه النزاع في أحد احتمالين. فلا وجه للخلط بينهما و إرجاع أحدهما إلى الآخر، و إن كان في هذه المسألة لا بدّ للُاصولي من البحث عن أنّ تعدّد العنوان هل يوجب تعدّد المعنون، باعتبار أنّ هذا البحث ليس ممّا يُذكر في موضعٍ آخر.
قيد المندوحة:
ذكرنا فيما سبق «3» أنّ بعضهم قيّد النزاع هنا بأن تكون هناك مندوحة في مقام الامتثال. و معنى المندوحة: أن يكون المكلّف متمكّناً من امتثال الأمر في موردٍ آخر غير مورد الاجتماع.
______________________________ (1) راجع ص 266.
(2) كفاية الاصول: ص 193.
(3) راجع ص 377.
أصول الفقه ( مظفر، محمد رضا - طبع انتشارات اسلامى )، ج2، ص: 384
و نظر إلى ذلك كلّ من قيّد موضع النزاع بما إذا كان الجمع بين العنوانين بسوء اختيار المكلّف.
و إنّما قيّد بها موضع النزاع، للاتّفاق بين الطرفين على عدم جواز الاجتماع في صورة عدم وجود المندوحة، و ذلك فيما إذا انحصر امتثال الأمر في مورد الاجتماع لا بسوء اختيار المكلّف.
و السرّ واضح، فإنّه عند الانحصار تستحيل فعليّة التكليفين لاستحالة امتثالهما معاً، لأنّه إن فعل ما هو مأمور به فقد عصى النهي، و إن تركه فقد عصى الأمر، فيقع التزاحم حينئذٍ بين الأمر و النهي.
و ظاهر أنّ اعتبار قيد «المندوحة» لازم لما ذكرناه، إذ ليس النزاع جهتيّاً كما ذهب إليه صاحب الكفاية «1»- أي من جهة كفاية تعدّد العنوان في تعدّد المعنون و عدمه و إن لم يجز الاجتماع من جهة اخرى- حتّى لا نحتاج إلى هذا القيد.
بل النزاع- كما تقدّم- هو في جواز الاجتماع و عدمه من أيّة جهة فُرضت و ليس جهتيّاً. وعليه، فما دام النزاع غير واقع في الجواز في صورة عدم المندوحة، فهذه الصورة لا تدخل في محلّ النزاع في مسألتنا.
فوجب- إذاً- تقييد عنوان المسألة بقيد «المندوحة» كما صنع بعضهم.
الفرق بين بابي التعارض و التزاحم و مسألة الاجتماع:
من المسائل العويصة: مشكلة التفرقة بين باب التعارض و باب التزاحم، ثمّ بينهما و بين مسألة الاجتماع. و لا بدّ من بيان الفرق بينها لتنكشف جيّداً حقيقة النزاع في مسألتنا- مسألة الاجتماع-.
وجه الإشكال في التفرقة: أنّه لا شبهة في أنّ من موارد التعارض بين
______________________________ (1) راجع كفاية الاصول: ص 187.
أصول الفقه ( مظفر، محمد رضا - طبع انتشارات اسلامى )، ج2، ص: 385
الدليلين ما إذا كان بين دليلي الأمر و النهي عموم و خصوص من وجه، و ذلك من أجل العموم من وجه بين متعلّقي الأمر و النهي، أي العموم من وجه الّذي يقع بين عنوان «المأمور به» و عنوان «المنهيّ عنه» بينما أنّ التزاحم بين الوجوب و الحرمة من موارده أيضاً العموم من وجه بين الأمر و النهي من هذه الجهة. و كذلك مسألة الاجتماع موردها منحصر فيما إذا كان بين عنواني «المأمور به» و «المنهيّ عنه» عموم من وجه.
فيتّضح أنّه مورد واحد- و هو مورد العموم من وجه بين متعلّقي الأمر و النهي- يصحّ أن يكون مورداً للتعارض و باب التزاحم و مسألة الاجتماع، فما المائز و الفارق؟
فنقول: إنّ العموم من وجه إنّما يُفرض بين متعلّقي الأمر و النهي فيما إذا كان العنوانان يلتقيان في فعل واحد، سواء كان العنوان بالنسبة الى الفعل من قبيل العنوان و معنونه، أو من قبيل الكلّي و فرده «1». و هذا بديهي.
______________________________ (1) (*) إنّما يُفرض العموم من وجه بين العنوانين إذا لم يكن الاجتماع بينهما اجتماعاً مورديّاً، بل كان اجتماعاً حقيقيّاً، و نعني بالاجتماع الحقيقي أن يكون فعل واحد ينطبق عليه العنوانان على وجهٍ يصحّ في كلّ منهما أن يكون حاكياً عنه و مرآةً له و إن كان منشأ كلّ من العنوانين مبايناً في وجوده بالدّقة العقليّة لمنشإ العنوان الآخر.
و لكن انطباق العناوين على فردٍ واحد لا يجب فيه ان يكون من قبيل انطباق الكلّي على فرده، أي لا يجب أن يكون المعنون فرداً للعنوان و من حقيقته، لأنّ المعنون كما يجوز أن يكون من حقيقة العنوان يجوز ان يكون من حقيقة اخرى، و إنّما الذهن يجعل من العنوان حاكياً و مرآةً عن ذلك المعنون، كمفهوم الوجود الّذي هو عنوان لحقيقة الوجود، مع أنّه ليس من حقيقته، و مثله مفهوم الجزئي الّذي عنوان للجزئي الحقيقي و ليس هو بجزئي بل كلّي، و كذا مفهوم الحرف و النسبة ... و هكذا.
و لأجل هذا عمّمنا العنوان إلى قسمين. و هذا التعميم سينفعك فيما يأتي في بيان المختار في المسألة، فكن على ذكر منه. و لقد أحسن المولى صدر المحقّقين في تعبيره للتفرقة بين القسمين، إذ قال في الجزء الأوّل من الأسفار «و فرق بين كون الذات مصدوقاً عليه بصدق مفهوم، و كونها مصداقاً لصدقه». ف
و قد أراد المصداق النحو الثاني، و هو المعنون الصرف بالنسبة إلى معنونه و اراد بالمصداق فرد الكلّي، و يا ليت! أن يعمّم هذا الاصطلاح المخترع منه للتفرقة بين القسمين.
أصول الفقه ( مظفر، محمد رضا - طبع انتشارات اسلامى )، ج2، ص: 386
و لكن العنوان المأخوذ في متعلّق الخطاب من جهة عمومه على نحوين:
1- أن يكون ملحوظاً في الخطاب فانياً في مصاديقه على وجهٍ يسع جميع الأفراد بما لها من الكثرات و المميّزات، فيكون شاملًا في سعته لموضع الالتقاء مع العنوان المحكوم بالحكم الآخر، فيُعدّ في حكم المتعرّض لحكم خصوص موضع الالتقاء، و لو من جهة كون موضع الالتقاء متوقّع الحدوث على وجهٍ يكون من شأنه أن ينبّه عليه المتكلّم في خطابه، فيكون أخذ العنوان على وجهٍ يسع جميع الأفراد بما لها من الكثرات و المميّزات لهذا الغرض من التنبيه و نحوه. و لا نضايقك أن تسمّي مثل هذا العموم «العموم الاستغراقي» كما صنع بعضهم.
و المقصود: أنّ العنوان إذا اخذ في الخطاب على وجهٍ يسع جميع الأفراد بما لها من الكثرات و المميّزات يكون في حكم المتعرّض لحكم كلّ فرد من أفراده، فيكون نافياً بالدلالة الالتزاميّة لكلّ حكم منافٍ لحكمه.
2- أن يكون العنوان ملحوظاً في الخطاب فانياً في مطلق الوجود المضاف إلى طبيعة العنوان من دون ملاحظة كونه على وجهٍ يسع جميع الأفراد، أي لم تُلحظ فيه الكثرات و المميّزات في مقام الأمر بوجود الطبيعة و لا في مقام النهي عن وجود الطبيعة الاخرى، فيكون المطلوب في الأمر و المنهيّ عنه في النهي صِرف وجود الطبيعة. و لتُسمّ مثل هذا العموم «العموم البدلي» كما صنع بعضهم.
فإن كان العنوان مأخوذاً في الخطاب على النحو الأوّل، فإنّ موضع
أصول الفقه ( مظفر، محمد رضا - طبع انتشارات اسلامى )، ج2، ص: 387
الالتقاء يكون العامّ حجّة فيه كسائر الأفراد الاخرى، بمعنى أن يكون متعرّضاً بالدلالة الالتزاميّة لنفي أيّ حكمٍ آخر منافٍ لحكم العامّ بالنسبة إلى الأفراد و خصوصيّات المصاديق.
و في هذه الصورة لا بدّ أن يقع التعارض بين دليلي الأمر و النهي في مقام الجعل و التشريع، لأنّهما يتكاذبان بالنسبة إلى موضع الالتقاء من جهة الدلالة الالتزاميّة في كلّ منهما على نفي الحكم الآخر بالنسبة إلى موضع الالتقاء.
و التحقيق أنّ التعارض بين العامّين من وجه إنّما يقع بسبب دلالة كلّ منهما بالدلالة الالتزاميّة على انتفاء حكم الآخر، و من أجلها يتكاذبان.
و إلّا فالدلالتان المطابقيّتان بأنفسهما في العامّين من وجه لا يتكاذبان، فلا يتعارضان ما لم يلزم من ثبوت مدلول إحداهما نفي مدلول الاخرى، فليس التنافي بين المدلولين المطابقيّين إلّا تنافياً بالعرض لا بالذات.
و من هنا يُعلم أنّ هذا الفرض- و هو فرض كون العنوان مأخوذاً في الخطاب على النحو الأوّل- ينحصر في كونه مورداً للتعارض بين الدليلين، و لا تصل النوبة إلى فرض التزاحم بين الحكمين فيه، و لا إلى النزاع في جواز اجتماع الأمر و النهي و عدمه، لأنّ مقتضى القاعدة في باب التعارض هو تساقط الدليلين عن حجّيتهما بالنسبة إلى مورد الالتقاء، فلا يُحرز «1» فيه الوجوب و لا الحرمة. و لا يُفرض التزاحم أو مسألة النزاع في جواز الاجتماع إلّا حيث يُفرض شمول الدليلين لمورد الالتقاء و بقاء حجّيتهما بالنسبة إليه. أي أنّه لم يكن تعارض بين الدليلين في مقام الجعل و التشريع.
و إن كان العنوان مأخوذاً على النحو الثاني، فهو مورد التزاحم
______________________________ (1) في ط 2: فلا يجوز.
أصول الفقه ( مظفر، محمد رضا - طبع انتشارات اسلامى )، ج2، ص: 388
أو مسألة الاجتماع، و لا يقع بين الدليلين تعارض حينئذٍ، و ذلك مثل قوله:
«صلِّ» و قوله: «لا تغصب» باعتبار أنّه لم يُلحظ في كلّ من خطاب الأمر و النهي الكثرات و المميّزات على وجهٍ يسع العنوان جميع الأفراد و إن كان نفس العنوان في حدّ ذاته و إطلاقه شاملًا لجميع الأفراد، فإنّه في مثله يكون الأمر متعلّقاً بصرف وجود الطبيعة للصلاة، و امتثاله يكون بفعل أيّ فردٍ من الأفراد، فلم يكن ظاهراً في وجوب الصلاة حتّى في مورد الغصب على وجهٍ يكون دالّاً بالدلالة الالتزاميّة على انتفاء حكمٍ آخر في هذا المورد ليكون نافياً لحرمة الغصب في المورد. و كذلك النهي يكون متعلّقاً بصِرف طبيعة الغصب، فلم يكن ظاهراً في حرمة الغصب حتّى في مورد الصلاة على وجهٍ يكون دالّاً بالدلالة الالتزاميّة على انتفاء حكمٍ آخر في هذا المورد ليكون نافياً لوجوب الصلاة.
و في مثل هذين الدليلين إذا كانا على هذا النحو يكون كلّ منهما أجنبيّاً في عموم عنوان متعلّق الحكم فيه عن عنوان متعلّق الحكم الآخر، أي أنّه غير متعرّض بدلالته الالتزاميّة لنفي الحكم الآخر، فلا يتكاذبان في مقام الجعل و التشريع. فلا يقع التعارض بينهما، إذ لا دلالة التزاميّة لكلّ منهما على نفي الحكم الآخر في مورد الالتقاء، و لا تعارض بين الدلالتين المطابقيّتين بما هما، لأنّ المفروض أنّ المدلول المطابقي من كلّ منهما هو الحكم المتعلّق بعنوانٍ أجنبيّ في نفسه عن العنوان المتعلّق للحكم الآخر.
و حينئذٍ إذا صادف أن ابتُلي المكلّف بجمعهما على نحو الاتّفاق فحاله لا يخلو عن أحد أمرين: إمّا أن تكون له مندوحة من الجمع بينهما، و لكنّه هو الّذي جمع بينهما بسوء اختياره و تصرّفه. و إمّا أن لا تكون له مندوحة من الجمع بينهما.
فإن كان الأوّل: فإنّ المكلّف حينئذٍ يكون قادراً على امتثال كلّ من
أصول الفقه ( مظفر، محمد رضا - طبع انتشارات اسلامى )، ج2، ص: 389
التكليفين فيصلّي و يترك الغصب، و قد يصلّي و يغصب في فعلٍ آخر. فإذا جمع بينهما بسوء اختياره بأن صلّى في مكانٍ مغصوب، فهنا يقع النزاع في جواز الاجتماع بين الأمر و النهي. فإن قلنا بالجواز كان مطيعاً و عاصياً في آنٍ واحد. و إن قلنا بعدم الجواز، فإنّه إمّا أن يكون مطيعاً لا غير إذا رجّحنا جانب الأمر، أو عاصياً لا غير إذا رجّحنا جانب النهي، لأنّه حينئذٍ يقع التزاحم بين التكليفين، فيرجع فيه إلى أقوى الملاكين.
و إن كان الثاني: فإنّه لا محالة يقع التزاحم بين التكليفين الفعليّين، لأنّه- حسب الفرض- لا معارضة بين الدليلين في مقام الجعل و الإنشاء، بل المنافاة وقعت من عدم قدرة المكلّف على التفريق بين الامتثالين، فيدور الأمر حينئذٍ بين امتثال الأمر و بين امتثال النهي، إذ لا يمكنه من امتثالهما معاً من جهة عدم المندوحة.
هذا هو الحقّ الّذي ينبغي أن يعوَّل عليه في سرّ التفريق بين بابي التعارض و التزاحم، و بينهما و بين مسألة الاجتماع في مورد العموم من وجه بين متعلّقي الخطابين (خطاب الوجوب و الحرمة). و لعلّه يمكن استفادته من مطاوي كلماتهم و إن كانت عباراتهم تضيق عن التصريح بذلك، بل اختلفت كلمات أعلام أساتذتنا- رضوان اللَّه عليهم- في وجه التفريق.
فقد ذهب صاحب الكفاية إلى: أنّه لا يكون المورد من باب الاجتماع إلّا إذا احرز في كلّ واحدٍ من متعلّقي الإيجاب و التحريم مناط حكمه مطلقاً حتّى في مورد التصادق و الاجتماع. و أمّا إذا لم يُحرز مناط كلّ من الحكمين في مورد التصادق مع العلم بمناط أحد الحكمين بلا تعيين، فالمورد يكون من باب التعارض «1» للعلم الإجمالي حينئذٍ بكذب أحد
______________________________ (1) كفاية الاصول: ص 189.
أصول الفقه ( مظفر، محمد رضا - طبع انتشارات اسلامى )، ج2، ص: 390
الدليلين الموجب للتنافي بينهما عرضاً.
هذا خلاصة رأيه رحمه الله. فجعل إحراز مناط الحكمين في مورد الاجتماع و عدمه هو المناط في التفرقة بين مسألة الاجتماع و باب التعارض. بينما أنّ المناط عندنا في التفرقة بينهما هو دلالة الدليلين بالدلالة الالتزاميّة على نفي الحكم الآخر و عدمها، فمع هذه الدلالة يحصل التكاذب بين الدليلين فيتعارضان، و بدونها لا تعارض فيدخل المورد في مسألة الاجتماع.
و يمكن دعوى التلازم بين المسلكين في الجملة، لأنّه مع تكاذب الدليلين من ناحية دلالتهما الالتزاميّة لا يُحرز وجود مناط الحكمين في مورد الاجتماع، كما أنّه مع عدم تكاذبهما يمكن إحراز وجود المناط لكلّ من الحكمين في مورد الاجتماع، بل لا بدّ من إحراز مناط الحكمين بمقتضى إطلاق الدليلين في مدلولهما المطابقي.
و أمّا شيخنا النائيني- أعلى اللَّه في الخلد مقامه- فقد ذهب إلى: أنّ مناط دخول المورد في باب التعارض: أن تكون الحيثيّتان في العامّين من وجه حيثيّتين تعليليّتين، لأنّه حينئذٍ يتعلّق الحكم في كلّ منهما بنفس ما يتعلّق به فيتكاذبان. و أمّا إذا كانتا تقييديّتين فلا يقع التعارض بينهما، و يدخلان حينئذٍ في مسألة الاجتماع مع المندوحة، و في باب التزاحم مع عدم المندوحة «1».
و نحن نقول: في الحيثيّتين التقييديّتين إذا كان بين الدلالتين تكاذب من أجل دلالتهما الالتزاميّة على نفي الحكم الآخر- على نحو ما فصّلناه- فإنّ التعارض بينهما لا محالة واقع، و لا تصل النوبة في هذا المورد للدخول في مسألة الاجتماع.
______________________________ (1) راجع أجود التقريرات: ج 1 ص 331.
أصول الفقه ( مظفر، محمد رضا - طبع انتشارات اسلامى )، ج2، ص: 391
و لنا مناقشة معه في صورة الحيثيّة التعليليّة يطول شرحها و لا يهمّ التعرّض لها الآن. و فيما ذكرناه الكفاية و فوقَ الكفاية للطالب المبتدئ.
أصول الفقه ( مظفر، محمد رضا - طبع انتشارات اسلامى ) ؛ ج2 ؛ ص391
الحقّ في المسألة:
بعد ما قدّمنا من توضيح تحرير النزاع و بيان موضع النزاع نقول: إنّ الحقّ في المسألة هو الجواز.
و قد ذهب إلى ذلك جمع من المحقّقين المتأخّرين «1».
و سندنا يبتني على توضيح و اختيار ثلاثة امور مترتّبة:
أوّلًا: أنّ متعلّق التكليف سواء كان أمراً أو نهياً ليس هو المعنون،- أي الفرد الخارجي للعنوان بما له من الوجود الخارجي- فإنّه يستحيل ذلك، بل متعلّق التكليف دائماً و أبداً هو العنوان، على ما سيأتي توضيحه.
و اعتبر ذلك بالشوق، فإنّ الشوق يستحيل أن يتعلّق بالمعنون، لأنّه إمّا أن يتعلّق به حال عدمه أو حال وجوده، و كلّ منهما لا يكون. أمّا الأوّل فيلزم تقوّم الموجود بالمعدوم و تحقّق المعدوم بما هو معدوم- لأنّ المشتاق إليه له نوع من التحقّق بالشوق إليه- و هو محال واضح. و أمّا الثاني فلأنّه يكون الاشتياق إليه تحصيلًا للحاصل، و هو محال.
فإذن لا يتعلّق الشوق بالمعنون لا حال وجوده و لا حال عدمه.
مضافاً إلى أنّ الشوق من الامور النفسيّة، و لا يُعقل أن يتشخّص ما في النفس بدون متعلّق ما، كجميع الامور النفسيّة- كالعلم و الخيال والوهم و الإرادة و نحوها- و لا يُعقل أن يتشخّص بما هو خارج عن افق النفس من الامور العينيّة، فلا بدّ أن يتشخّص بالشيء المشتاق إليه بما له من
______________________________ (1) كمولانا المحقّق الأردبيلي و سلطان العلماء و المحقّق الخوانساري و ولده المحقّق و الفاضل المدقّق الشيرواني. و الفاضل الكاشاني و السيّد الفاضل صدر الدين، قوانين الاصول: ج 1 ص 140.
أصول الفقه ( مظفر، محمد رضا - طبع انتشارات اسلامى )، ج2، ص: 392
الوجود العنواني الفرضي، و هو المشتاق إليه أوّلًا و بالذات، و هو الموجود بوجود الشوق لا بوجودٍ آخر وراء الشوق. و لكن لمّا كان يؤخذ العنوان بما هو حاكٍ و مرآة عمّا في الخارج- أي عن المعنون- فإنّ المعنون يكون مشتاقاً إليه ثانياً و بالعرض؛ نظير العلم، فإنّه لا يُعقل أن يتشخّص بالأمر الخارجي، و المعلوم بالذات دائماً و أبداً هو العنوان الموجود بوجود العلم و لكن بما هو حاكٍ و مرآة عن المعنون، و أمّا المعنون لذلك العنوان فهو معلوم بالعرض باعتبار فناء العنوان فيه.
و في الحقيقة إنّما يتعلّق الشوق بشيءٍ إذا كان له جهة وجدان وجهة فقدان، فلا يتعلّق بالمعدوم من جميع الجهات و لا بالموجود من جميع الجهات. وجهة الوجدان في المشتاق إليه هو العنوان الموجود بوجود الشوق في افق النفس باعتبار ما له من وجود عنواني فرضي، وجهة الفقدان في المشتاق إليه هو عدمه الحقيقي في الخارج، و معنى الشوق إليه هو الرغبة في إخراجه من حدّ الفرض و التقدير إلى حدّ الفعلية و التحقيق.
و إذا كان الشوق على هذا النحو، فكذلك حال الطلب و البعث بلا فرق، فيكون حقيقة طلب الشيء هو تعلّقه بالعنوان لإخراجه من حدّ الفرض و التقدير إلى حدّ الفعليّة و التحقيق.
ثانياً: أنّا لمّا قلنا بأنّ متعلّق التكليف هو العنوان لا المعنون لا نعني:
أنّ العنوان بما له من الوجود الذهني يكون متعلّقاً للطلب، فإنّ ذلك باطل بالضرورة، لأنّ مثار الآثار و متعلّق الغرض و الّذي تترتّب عليه المصلحة و المفسدة هو المعنون لا العنوان.
بل نعني: أنّ المتعلّق هو العنوان حال وجوده الذهني، لا أنّه بما له من الوجود الذهني أو بما هو مفهوم. و معنى تعلّقه بالعنوان حالَ وجوده الذهني: أنّه يتعلّق به نفسه باعتبار أنّه مرآة عن المعنون و فانٍ فيه، فتكون
أصول الفقه ( مظفر، محمد رضا - طبع انتشارات اسلامى )، ج2، ص: 393
التخلية فيه عن الوجود الذهني عين التحلية به.
ثالثاً: أنّا إذ نقول: إنّ المتعلّق للتكليف هو العنوان بما هو مرآة عن المعنون و فانٍ فيه، لا نعني: أنّ المتعلّق الحقيقي للتكليف هو المعنون و أنّ التكليف يسري من العنوان إلى المعنون باعتبار فنائه فيه- كما قيل «1»- فإنّ ذلك باطل بالضرورة أيضاً، لما تقدّم أنّ المعنون يستحيل أن يكون متعلّقاً للتكليف بأيّ حالٍ من الأحوال، و هو محال حتّى لو كان بتوسّط العنوان، فإنّ توسّط العنوان لا يخرجه عن استحالة تعلّق التكليف به.
بل نعني و نقول: إن الصحيح أنّ متعلّق التكليف هو العنوان بما هو مرآة و فانٍ في المعنون على أن يكون فناؤه في المعنون هو المصحّح لتعلّق التكليف به فقط، إذ أنّ الغرض إنّما يقوم بالمعنون المفنى فيه، لا أنّ الفناء يجعل التكليف سارياً إلى المعنون و متعلّقاً به.
و فرق كبير بين ما هو مصحّح لتعلّق التكليف بشيء و بين ما هو بنفسه متعلّق التكليف. و عدم التفرقة بينهما هو الّذي أوهم القائلين بأنّ التكليف يسري إلى المعنون باعتبار فناء العنوان فيه. و لا يزال هذا الخلط بين ما هو بالذات و ما هو بالعرض مثار كثير من الاشتباهات الّتي تقع في علمي الاصول و الفلسفة. و الفناء و الآليّة في الملاحظة هو الّذي يوقع الاشتباه و الخلط، فيعطي ما للعنوان للمعنون و بالعكس.
و إذا عسر عليك تفهّم ما نرمي إليه فاعتبر ذلك في مثال «الحرف» حينما نحكم عليه بأنّه لا يُخبر عنه، فإنّ عنوان «الحرف» و مفهومه اسم يُخبر عنه، كيف! و قد اخبر عنه بأنّه لا يُخبر عنه، و لكن إنّما صحّ الإخبار عنه بذلك فباعتبار فنائه في المعنون، لأنه هو الّذي له هذه الخاصيّة و يقوم به الغرض من الحكم؛ و مع ذلك لا يجعل ذلك كون المعنون- و هو الحرف
______________________________ (1) لم نتحقّق القائل، انظر نهاية الأفكار (تقرير أبحاث المحقّق العراقي) ج 2 ص 420.
أصول الفقه ( مظفر، محمد رضا - طبع انتشارات اسلامى )، ج2، ص: 394
الحقيقي- موضوعاً للحكم حقيقة أوّلًا و بالذات، فإنّ الحرف الحقيقي يستحيل أن يكون موضوعاً للحكم و طرفاً للنسبة بأيّ حالٍ من الأحوال و لو بتوسّط شيء، كيف! و حقيقته: النسبة و الربط، و خاصّته: أنّه لا يُخبر عنه. وعليه، فالمخبر عنه أوّلًا و بالذات هو عنوان «الحرف» لكن لا بما هو مفهوم موجود في الذهن، فإنّه بهذا الاعتبار يُخبر عنه، بل بما هو فانٍ في المعنون و حاكٍ عنه، فالمصحِّح للإخبار عنه بأن لا يُخبر عنه هو فناؤه في معنونه، فيكون الحرف الحقيقي المعنون مخبراً عنه ثانياً و بالعرض، و إن كان الغرض من الحكم إنّما يقوم بالمفنيّ فيه، و هو الحرف الحقيقي.
و على هذا، يتّضح جليّاً كيف أنّ دعوى سراية الحكم أوّلًا و بالذات من العنوان إلى المعنون منشؤها الغفلة بين ما هو المصحّح للحكم على موضوع باعتبار قيام الغرض بذلك المصحّح فيجعل الموضوع عنواناً حاكياً عنه، و بين ما هو الموضوع للحكم القائم به الغرض؛ فالمصحّح للحكم شيء و المحكوم عليه و المجعول موضوعاً شيء آخر. و من العجيب! أن تصدر مثل هذه الغفلة من بعض أهل الفنّ في المعقول.
نعم، إذا كان القائل بالسراية يقصد أنّ العنوان يؤخذ فانياً في المعنون و حاكياً عنه و أنّ الغرض إنّما يقوم بالمعنون، فذلك حقّ و نحن نقول به.
و لكن ذلك لا ينفعه في الغرض الّذي يهدف إليه، لأنّا نقول بذلك من دون أن نجعل متعلّق التكليف نفس المعنون، و إنّما يكون متعلّقاً له ثانياً و بالعرض، كالمعلوم بالعرض- كما أشرنا إليه فيما سبق- فإنّ العلم إنّما يتعلّق بالمعلوم بالذات و يتقوّم به، و ليس هو إلّا العنوان الموجود بوجودٍ علمي و لكن باعتبار فنائه في معنونه؛ يقال للمعنون: إنّه معلوم و لكنّه في الحقيقة هو معلوم بالعرض لا بالذات، و هذا الفناء هو الّذي يخيّل للناظر أنّ المتعلّق الحقيقي للعلم هو المعنون. و لقد أحسنوا في تعريف العلم بأنّه
أصول الفقه ( مظفر، محمد رضا - طبع انتشارات اسلامى )، ج2، ص: 395
«حصول صورة الشيء لدى العقل» لا حصول نفس الشيء؛ فالمعلوم بالذات هو الصورة، و المعلوم بالعرض نفس الشيء الّذي حصلت صورته لدى العقل.
و إذا ثبت ما تقدّم و اتّضح ما رمينا إليه: من أنّ متعلّق التكليف أوّلًا و بالذات هو العنوان و أنّ المعنون متعلّق له بالعرض، يتّضح لك الحقّ جليّاً في مسألتنا (مسألة اجتماع الأمر و النهي) و هو: أنّ الحقّ جواز الاجتماع.
و معنى جواز الاجتماع: أنّه لا مانع من أن يتعلّق الإيجاب بعنوانٍ و يتعلّق التحريم بعنوانٍ آخر، و إذا جمع المكلّف بينهما صدفةً بسوء اختياره، فإنّ ذلك لا يجعل الفعل الواحد المعنون لكلّ من العنوانين متعلّقاً للإيجاب و التحريم إلّا بالعرض. و ليس ذلك بمحال، فإنّ المحال إنّما هو أن يكون الشيء الواحد بذاته متعلّقاً للإيجاب و التحريم.
وعليه، فيصحّ أن يقع الفعل الواحد امتثالًا للأمر من جهةٍ باعتبار انطباق العنوان المأمور به عليه، و عصياناً للنهي من جهة اخرى باعتبار انطباق عنوان المنهيّ عنه. و لا محذور في ذلك ما دام أنّ ذلك الفعل الواحد ليس بنفسه و بذاته يكون متعلقاً للأمر و للنهي ليكون ذلك محالًا، بل العنوانان الفانيان هما المتعلّقان للأمر و النهي. غاية الأمر أنّ تطبيق العنوان المأمور به على هذا الفعل يكون هو الداعي إلى إتيان الفعل، و لا فرق بين فردٍ و فردٍ في انطباق العنوان عليه، فالفرد الّذي ينطبق عليه العنوان المنهيّ عنه كالفرد الخالي من ذلك في كون كلّ منهما ينطبق عليه العنوان المأمور به بلا جهة خللٍ في الانطباق.
و لا فرق في ذلك بين أن يكون تعدّد العنوان موجباً لتعدّد المعنون أو لم يكن، ما دام أنّ المعنون ليس هو متعلّق التكليف بالذات.
نعم، لو كان العنوان مأخوذاً في المأمور به و المنهيّ عنه على وجهٍ
أصول الفقه ( مظفر، محمد رضا - طبع انتشارات اسلامى )، ج2، ص: 396
يسع جميع الأفراد حتّى موضع الاجتماع- و هو الفرد الّذي ينطبق عليه العنوانان و لو كان ذلك من جهة إطلاق الدليل- فإنّه حينئذٍ تكون لكلٍّ من الدليلين الدلالة الالتزاميّة على نفي حكم الآخر في موضع الالتقاء فيتكاذبان، وعليه يقع التعارض بينهما و يخرج المورد عن مسألة الاجتماع، كما سبق بيان ذلك مفصّلًا.
كما أنّه لو كانت القدرة على الفعل مأخوذة في متعلّق الأمر على وجهٍ يكون الواجب هو العنوان المقدور بما هو مقدور، فإنّ عنوان المأمور به حينئذٍ لا يسع و لا يعمّ الفرد غير المقدور، فلا ينطبق عنوان المأمور به بما هو مأمور به على موضع الاجتماع، و لا يكون هذا الفرد غير المقدور شرعاً من أفراد الطبيعة بما هي مأمور بها.
بخلاف ما إذا كانت القدرة مصحّحة فقط لتعلّق التكليف بالعنوان، فإنّ عنوان المأمور به يكون مقدوراً عليه و لو بالقدرة على فردٍ واحد من أفراده. و لهذا قلنا: إنّه لو انحصر تطبيق المأمور به في خصوص موضع الاجتماع- كما في مورد عدم المندوحة- يقع التزاحم بين الحكمين في موضع الاجتماع، لأنّه لا يصحّ تطبيق المأمور به على هذا الفرد و هو موضع الاجتماع إلّا إذا لم يكن النهي فعليّاً، كما لا يصحّ تطبيق عنوان المنهيّ عنه عليه إلّا إذا لم يكن الأمر فعليّاً، فلا بدّ من رفع اليد عن فعليّة أحد الحكمين و تقديم الأهمّ منهما.
و لقد ذهب بعض أعلام أساتذتنا إلى أنّ القدرة مأخوذة في متعلّق التكليف باعتبار أنّ الخطاب بالتكليف نفسه يقتضي ذلك، لأنّ الأمر إنّما هو لتحريك المكلّف نحو الفعل على أن يصدر منه بالاختيار، و هذا نفسه يقتضي كون متعلّقه مقدوراً لامتناع جعل الداعي نحو الممتنع و إن كان الامتناع من ناحية شرعيّة «1».
______________________________ (1) راجع فوائد الاصول: ج 1 ص 314.
أصول الفقه ( مظفر، محمد رضا - طبع انتشارات اسلامى )، ج2، ص: 397
و لكنّنا لم تتحقّق صحّة هذه الدعوى، لأنّ صحّة التكليف بطبيعة الفعل لا تتوقّف على أكثر من القدرة على صِرف وجود الطبيعة و لو بالقدرة على فرد من أفرادها، فالعقل هو الّذي يحكم بلزوم القدرة في متعلّق التكليف، و ذلك لا يقتضي القدرة على كلّ فردٍ من أفراد الطبيعة إلّا إذا قلنا بأنّ التكليف يتعلّق بالأفراد أوّلًا و بالذات. و قد تقدّم توضيح فساد هذا الوهم. تعدّد العنوان لا يوجب تعدّد المعنون:
بعد ما تقدّم من البيان من أنّ التكليف إنّما يتعلّق بالعنوان بما هو مرآة عن أفراده لا بنفس الأفراد، فإنّ القول بالجواز لا يتوقّف على القول بأنّ تعدّد العنوان يوجب تعدّد المعنون- كما أشرنا إليه فيما سبق- لأنّه سواء كان المعنون متعدّداً بتعدّد العنوان أو غير متعدّد، فإنّ ذلك لا يرتبط بمسألتنا نفياً و إثباتاً ما دام أنّ المعنون ليس متعلّقاً للتكليف أبداً. و على كلّ حال، فالحقّ هو الجواز تعدّد المعنون أو لم يتعدّد.
و لو سلّمنا جدلًا بأنّ التكليف يتعلّق بالمعنون باعتبار سراية التكليف من العنوان إلى المعنون- كما هو المعروف- فإنّ الحقّ أنّه لا يجب تعدّد المعنون بتعدّد العنوان، فقد يتعدّد و قد لا يتعدّد.
فليس هناك قاعدة عامّة تقضي بأن نحكم بأنّ تعدّد العنوان يوجب تعدّد المعنون، كما تكلّف بتنقيحها بعض أعاظم مشايخنا «1»- قدّس اللَّه نفسه الزكيّة- و كأنّ نظره الشريف يرمي إلى أنّ العامّين من وجه يمتنع صدقهما على شيءٍ واحد من جهة واحدة و إلّا لما كانا عامّين من وجه، فلا بدّ أن يُفرض هناك جهتان موجودتان في المجمع: إحداهما هو
______________________________ (1) الظاهر، المراد به المحقّق النائيني قدس سره انظر فوائد الاصول: ج 1- 2 ص 411.
أصول الفقه ( مظفر، محمد رضا - طبع انتشارات اسلامى )، ج2، ص: 398
الواجب، و ثانيتهما هو المحرّم، فيكون التركيب بين الحيثيّتين تركيباً انضماميّاً لا اتّحاديّاً، إلّا إذا كانت الحيثيّتان المفروضتان تعليليّتين لا تقييديّتين، فإنّ الواجب و المحرّم على هذا الفرض يكونان شيئاً واحداً و هو ذات المحيَّث بهاتين الحيثيّتين؛ و حينئذٍ يقع التعارض بين دليلي العامّين و يخرج المورد عن مسألتنا.
و في هذا التقرير ما لا يخفى على الفطن
أمّا أوّلًا: فإنّ العنوان بالنسبة إلى معنونه تارةً يكون منتزعاً منه باعتبار ضمّ حيثيّةٍ زائدةٍ على الذات مباينةٍ لها ماهيّةً و وجوداً، كالأبيض بالقياس إلى الجسم، فإنّ صدق الأبيض عليه باعتبار عروض صفة البياض عليه الخارجة عن مقام ذاته. و اخرى يكون منتزعاً منه باعتبار نفس ذاته بلا ضمّ حيثيّة زائدة على الذات، كالأبيض بالقياس إلى نفس البياض، فإنّ نفس البياض ذاته بذاته منشأ لانتزاع الأبيض منه بلا حاجة إلى ضمّ بياضٍ آخر إليه، لأنّه بنفس ذاته أبيضُ لا ببياضٍ آخر. و مثل ذلك صفات الكمال لذات واجب الوجود، فإنّها منتزعة من مقام نفس الذات لا بضمّ حيثيّةٍ اخرى زائدة على الذات.
وعليه، فلا يجب في كلّ عنوانٍ منتزعٍ أن يكون انتزاعه من الذات باعتبار ضمّ حيثيّةٍ زائدةٍ على الذات.
و أمّا ثانياً: فإنّ العنوان لا يجب فيه أن يكون كاشفاً عن حقيقةٍ متأصّلة على وجهٍ يكون انطباق العنوان أو مبدؤه عليه من باب انطباق الكلّي على فرده، بل من العناوين ما هو مجعول و معتبر لدى العقل لصِرف الحكاية و الكشف عن المعنون من دون أن يكون بإزائه في الخارج حقيقة متأصّلة، مثل عنوان «العدم» و «الممتنع» بل مثل عنوان «الحرف» و «النسبة» فإنّه لا يجب في مثله فرض حيثيّة متأصّلة ينتزع منها العنوان.
و مثل هذا العنوان المعتبر قد يكون عامّاً يصحّ انطباقه على حقائق متعدّدة
أصول الفقه ( مظفر، محمد رضا - طبع انتشارات اسلامى )، ج2، ص: 399
من دون أن يكون بإزائه حيثيّة واقعيّة غير تلك الحقائق المتأصّلة؛ و لعلّ عنوان «الغصب» من هذا الباب في انطباقه على «الصلاة»- الّتي تتألّف من حقائق متباينة- و على غيرها من سائر التصرّفات، فكلّ تصرّفٍ في مال الغير بدون رضاه غصبٌ، مهما كانت حقيقة ذلك التصرّف و من أيّة مقولةٍ كانت.
ثمرة المسألة:
من الواضح ظهور ثمرة النزاع فيما إذا كان المأمور به عبادة، فإنّه بناءً على القول بالامتناع و ترجيح جانب النهي- كما هو المعروف- تقع العبادة فاسدة مع العلم بالحرمة و العمد بالجمع بين المأمور به و المنهيّ عنه- كما هو المفروض في المسألة- لأنّه لا أمر مع ترجيح جانب النهي، و ليس هناك في ذات المأتيّ به ما يصلح للتقرّب به مع فرض النهي الفعلي، لامتناع التقرّب بالمبعِّد و إن كان ذات المأتيّ به مشتملًا على المصلحة الذاتيّة و قلنا بكفاية قصد المصلحة الذاتيّة في صحّة العبادة.
نعم، إذا وقع الجمع بين المأمور به و المنهيّ عنه عن جهل بالحرمة- قصوراً لا تقصيراً- أو عن نسيان و كان قد أتى بالفعل على وجه القربة، فالمشهور أنّ العبادة تقع صحيحة. و لعلّ الوجه فيه هو القول بكفاية رجحانها الذاتي و اشتمالها على المصلحة الذاتيّة في التقرّب بها مع قصد ذلك و إن لم يكن الأمر فعليّاً.
و قيل: إنّه لا يبقى مصحّح في هذه الصورة للعبادة فتقع فاسدة «1» نظراً إلى أنّ دليلي الوجوب و الحرمة على القول بالامتناع يصبحان متعارضين و إن لم يكونا في حدّ أنفسهما متعارضين، فإذا قُدّم جانب النهي، فكما لا يبقى أمر كذلك لا يُحرز وجود المقتضي له و هو المصلحة الذاتيّة في
______________________________ (1) راجع فوائد الاصول: ج 1- 2 ص 434.
أصول الفقه ( مظفر، محمد رضا - طبع انتشارات اسلامى )، ج2، ص: 400
المجمع، إذ تخصيص دليل الأمر بما عدا المجمع يجوز أن يكون لوجود المانع في المجمع عن شمول الأمر له، و يجوز أن يكون لانتفاء المقتضي للأمر، فلا يُحرز وجود المقتضي.
هذا بناءً على الامتناع و تقديم جانب النهي.
و أمّا بناءً على الامتناع و تقديم جانب الأمر، فلا شبهة في وقوع العبادة صحيحة، إذ لا نهي حتّى يمنع من صحّتها، لا سيّما إذا قلنا بتعارض الدليلين بناءً على الامتناع، فإنّه لا يُحرز معه المفسدة الذاتيّة في المجمع.
و كذلك الحقّ هو صحّة العبادة إذا قلنا بالجواز، فإنّه كما جاز توجيه الأمر و النهي إلى عنوانين مختلفين مع التقائهما في المجمع فقلنا بجواز الاجتماع في مقام التشريع، فكذلك نقول: لا مانع من الاجتماع في مقام الامتثال أيضاً- كما أشرنا إليه في تحرير محلّ النزاع- حتّى لو كان المعنون للعنوانين واحداً وجوداً و لم يوجب تعدّد العنوان تعدّده، لما عرفت سابقاً: من أنّ المعنون لا يقع بنفسه متعلّقاً للتكليف لا قبل وجوده و لا بعد وجوده و إنّما يكون الداعي إلى إتيان الفعل هو تطبيق العنوان المأمور به عليه الّذي ليس بمنهيّ عنه، لا أنّ الداعي إلى إتيانه تعلّق الأمر به ذاته، فيكون المكلّف في فعلٍ واحد بالجمع بين عنواني الأمر و النهي مطيعاً للأمر من جهة انطباق العنوان المأمور به، و عاصياً من جهة انطباق العنوان المنهيّ عنه؛ نظير الاجتماع الموردي، كما تقدّم توضيحه في تحرير محلّ النزاع.
و قيل: إنّ الثمرة في مسألتنا هو إجراء أحكام المتعارضين على دليلي الأمر و النهي بناءً على الامتناع، و إجراء أحكام التزاحم بينهما بناءً على الجواز «1».
______________________________ (1) قاله المحقّق النائيني، راجع فوائد الاصول: ج 1- 2 ص 429.
أصول الفقه ( مظفر، محمد رضا - طبع انتشارات اسلامى )، ج2، ص: 401
و لكن إجراء أحكام التزاحم بينهما بناءً على الجواز إنّما يلزم إِذا كان القائل بالجواز إنّما يقول بالجواز في مقام الجعل و الإنشاء دون مقام الامتثال، بل يمتنع الاجتماع في مقام الامتثال، و حينئذٍ لا محالة يقع التزاحم بين الأمر و النهي. أمّا إذا قلنا بالجواز في مقام الامتثال أيضاً- كما أوضحناه- فلا موجب للتزاحم بين الحكمين مع وجود المندوحة، بل يكون مطيعاً عاصياً في فعلٍ واحد، كالاجتماع الموردي بلا فرق، إذ لا دوران حينئذٍ بين امتثال الأمر و امتثال النهي.
اجتماع الأمر و النهي مع عدم المندوحة
[أي مع الاضطرار] «1»
تقدّم الكلام كلّه في اجتماع الأمر و النهي فيما إذا كانت هناك مندوحة من الجمع بين المأمور به و المنهيّ عنه، و قد جمع المكلّف بينهما في فعلٍ واحد بسوء اختياره. و يلحق به ما كان الجمع بينهما عن غفلة أو جهل.
و قد ذهبنا إلى جواز الاجتماع في مقامي الجعل و الامتثال.
و بقي الكلام في اجتماعهما مع عدم المندوحة، و ذلك بأن يكون المكلّف مضطرّاً إلى هذا الجمع بينهما. و الاضطرار على نحوين:
الأوّل: أن يكون بدون سبق اختيار للمكلّف في الجمع، كمن اضطرّ لإنقاذ غريقٍ إلى التصرّف في أرضٍ مغصوبةً، فيكون تصرّفه في الأرض واجباً من جهة إنقاذ الغريق و حراماً من جهة التصرّف في المغصوب.
فإنّه في هذا الفرض لا بدّ أن يقع التزاحم بين الواجب و الحرام في مقام الامتثال، إذ لا مندوحة للمكلّف حسب الفرض، فلا بدّ في مقام إطاعة الأمر بإنقاذ الغريق من الجمع، لانحصار امتثال الواجب في هذا الفرد
______________________________ (1) لم يرد في ط 2.
أصول الفقه ( مظفر، محمد رضا - طبع انتشارات اسلامى )، ج2، ص: 402
المحرّم، فيدور الأمر بين أن يعصي الأمر أو يعصي النهي.
و في مثله يرجع إلى أقوى الملاكين، فإن كان ملاك الأمر أقوى- كما في المثال المذكور- قدّم جانب الأمر و يسقط النهي عن الفعليّة، و إن كان ملاك النهي أقوى قدّم جانب النهي، كمن انحصر عنده إنقاذ حيوان محترم من الهلكة بهلاك إنسان.
تنبيه: ممّا يلحق بهذا الباب و يتفرّع عليه ما لو اضطرّ إلى ارتكاب فعلٍ محرّم لا بسوء اختياره، ثمّ اضطرّ إلى الإتيان بالعبادة على وجهٍ يكون ذلك فعل المحرّم مصداقاً لتلك العبادة، بمعنى أنّه اضطرّ إلى الإتيان بالعبادة مجتمعة مع فعل الحرام الّذي قد اضطرّ إليه.
و مثاله: المحبوس في مكانٍ مغصوب فيضيق عليه وقت الصلاة و لا يسعه الإتيان بها خارجَ المكان المغصوب. فهل في هذا الفرض يجب عليه الإتيان بالعبادة و تقع صحيحة، أو لا؟
نقول: لا ينبغي الشكّ في أنّ عبادته على هذا التقدير تقع صحيحة، لأنّه مع الاضطرار إلى فعل الحرام لا تبقى فعليّة للنهي، لاشتراط القدرة في التكليف، فالأمر لا مزاحم لفعليّته، فيجب عليه أداء الصلاة، و لا بدّ أن تقع حينئذٍ صحيحة.
نعم، يستثنى من ذلك ما لو كان دليل الأمر و دليل النهي متعارضين بأنفسهما من أوّل الأمر و قد رجّحنا جانب النهي بأحد مرجّحات باب التعارض، فإنّه في هذه الصورة لاوجه لوقوع العبادة صحيحة، لأنّ العبادة لا تقع صحيحة إلّا إذا قُصد بها امتثال الأمر الفعلي بها- إن كان- أو قُصد بها الرجحان الذاتي قربةً إلى اللَّه تعالى، و المفروض أنّه هنا لا أمر فعلي، لعدم شمول دليله بما هو حجّة لمورد الاجتماع، لأنّ المفروض تقديم جانب النهي.
أصول الفقه ( مظفر، محمد رضا - طبع انتشارات اسلامى )، ج2، ص: 403
و قيل: إنّ النهي إذا زالت فعليّته من جهة الاضطرار لم يبقَ مانع من التمسّك بعموم الأمر «1».
و هذه غفلة ظاهرة، فإنّ دليل الأمر بما هو حجّة لا يكون شاملًا لمورد الاجتماع، لمكان التعارض بين الدليلين و تقديم دليل النهي، فإذا اضطرّ المكلّف إلى فعل المنهيّ عنه لا يلزم منه أن يعود دليل الأمر حجّة في مورد الاجتماع مرّة ثانية. و إنّما يتصوّر أن يعود الأمر فعليّاً إذا كان تقديم النهي من باب التزاحم، فإذا زال التزاحم عاد الأمر فعليّاً.
و أمّا الرجحان الذاتي، فإنّه بعد فرض التعارض بين الدليلين و تقديم جانب النهي لا يكون الرجحان محرزاً في مورد الاجتماع، لأنّ عدم شمول دليل الأمر بما هو حجّة لمورد الاجتماع يحتمل فيه وجهان:
وجود المانع مع بقاء الملاك، و انتفاء المقتضي و هو الملاك، فلا يُحرز وجود الملاك حتّى يصحّ قصده متقرّباً به إلى اللَّه تعالى. الثاني: أن يكون الاضطرار بسوء الاختيار، كمن دخل منزلًا مغصوباً متعمّداً، فبادر إلى الخروج تخلّصاً من استمرار الغصب، فإنّ هذا التصرّف بالمنزل في الخروج لا شكّ في أنّه تصرّف غصبي أيضاً، و هو مضطرّ إلى ارتكابه للتخلّص من استمرار فعل الحرام، و كان اضطراره إليه بمحض اختياره إذ دخل المنزل غاصباً باختياره.
و تُعرّف هذه المسألة في لسان المتأخّرين بمسألة «التوسّط في المغصوب» و الكلام يقع فيها من ناحيتين: 1- في حرمة هذا التصرّف الخروجي أو وجوبه.
2- في صحّة الصلاة المأتيّ بها حالَ الخروج.
______________________________ (1) لم نظفر على شخص القائل، ذكره في تقرير أبحاث السيّد الخوئي بلفظ: قد استدلّ للمشهور، راجع المحاضرات: ج 4 ص 340.
أصول الفقه ( مظفر، محمد رضا - طبع انتشارات اسلامى )، ج2، ص: 404
حرمة الخروج من المغصوب أو وجوبه:
أمّا الناحية الاولى: فقد تعدّدت الأقوال فيها، فقيل: بحرمة التصرّف الخروجي فقط «1». و قيل: بوجوبه فقط و لكن يعاقب فاعله «2». و قيل:
بوجوبه فقط و لا يعاقب فاعله «3». و قيل: بحرمته و وجوبه معاً «4». و قيل: لا هذا و لا ذاك و مع ذلك يعاقب عليه «5».
فينبغي أن نبحث عن وجه القول بالحرمة، و عن وجه القول بالوجوب ليتّضح الحقّ في المسألة (و هو القول الأوّل).
أمّا وجه الحرمة: فمبنيّ على أنّ التصرّف بالغصب بأيّ نحوٍ من أنحاء التصرّف- دخولًا و بقاءً و خروجاً- محرم من أول الأمر قبل الابتلاء بالدخول، فهو قبل أن يدخل منهيّ عن كلّ تصرّف في المغصوب حتّى هذا التصرّف الخروجي، لأنّه كان متمكّناً من تركه بترك الدخول.
و من يقول بعدم حرمته، فإنّه يقول به لأنّه يجد أنّ هذا المقدار من التصرّف مضطرّ إليه سواء خرج الغاصب أو بقي، فيمتنع عليه تركه، و مع فرض امتناع تركه كيف يبقى على صفة الحرمة؟
و لكنّا نقول له: إنّ هذا الامتناع هو الّذي أوقع نفسه فيه بسوء اختياره و كان متمكّناً من تركه بترك الدخول، و الامتناع بالاختيار لا ينافي الاختيار، فهو مخاطب من أوّل الأمر بترك التصرّف حتّى يخرج، فالخروج في نفسه بما هو تصرّف داخل من أوّل الأمر في أفراد العنوان
______________________________ (1) نسبه في التقريرات إلى ظاهر بعض الأفاضل في الإشارات، مطارح الأنظار: ص 155.
(2) اختاره صاحب الفصول ثم قال: و كأنّ ما عزي إلى الفخر الرازي من القول بأنّه مأمور بالخروج و حكم المعصية جارٍ عليه راجع إلى ما ذكرناه، الفصول الغرويّة: ص 138.
(3) قال به الشيخ الأنصاري على ما في مطارح الأنظار: 153.
(4) هذا القول منسوب إلى أبي هاشم، و استقربه المحقّق القمّي، قوانين الاصول: ص 153.
(5) اختاره المحقّق الخراساني في كفاية الاصول: ص 204.
أصول الفقه ( مظفر، محمد رضا - طبع انتشارات اسلامى )، ج2، ص: 405
المنهيّ عنه، أي أنّ العنوان المنهيّ عنه- و هو التصرّف بمال الغير بدون رضاه- يسع في عمومه كلّ تصرّف متمكّن من تركه حتّى الخروج، و امتناع ترك هذا التصرّف بسوء اختياره لا يخرجه عن عموم العنوان.
و نحن لا نقول- كما سبق- إنّ المعنون بنفسه هو متعلّق الخطاب حتّى يقال لنا: إنّه يمتنع تعلّق الخطاب بالممتنع تركه و إن كان الامتناع بسوء الاختيار.
و أمّا وجه الوجوب: فقد قيل: إنّ الخروج واجب نفسي باعتبار أنّ الخروج معنون بعنوان التخلّص عن الحرام، و التخلّص عن الحرام في نفسه عنوان حسن عقلًا و واجب شرعاً. و قد نُسب هذا الوجه إلى الشيخ الأعظم الأنصاري- أعلى اللَّه تعالى مقامه- على ما يظهر من تقريرات درسه «1».
و قيل: إنّ الخروج واجب غيري- كما يظهر من بعض التعبيرات في تقريرات الشيخ أيضاً «2»- باعتبار أنّه مقدّمة للتخلّص من الحرام، و هو الغصب الزائد الّذي كان يتحقّق لو لم يخرج.
و الحقّ: أنّه ليس بواجبٍ نفسي و لا غيري.
أمّا أنّه ليس بواجبٍ نفسي، فلأنّه:
أوّلًا: أنّ التخلّص عن الشيء- بأيّ معنى فُرض- عنوانٌ مقابل لعنوان الابتلاء به بديلٌ له لا يجتمعان، و هما من قبيل الملكة و عدمها. و هذا واضح.
و حينئذٍ نقول له: ما مرادك من التخلّص الّذي حكمت عليه بأنّه عنوان حسن؟
إن كان المراد به «التخلّص من أصل الغصب» فهو بالخروج- أي الحركات الخروجيّة- مبتلٍ بالغصب، لا أنّه متخلّص منه، لأنّه تصرّف
______________________________ (1 و 2) راجع مطارح الأنظار: ص 153- 156.
أصول الفقه ( مظفر، محمد رضا - طبع انتشارات اسلامى )، ج2، ص: 406
بالمغصوب.
و إن كان المراد به «التخلّص من الغصب الزائد الّذي يقع لو لم يخرج» فهو لا ينطبق على الحركات الخروجيّة، و ذلك لأنّ التخلّص لمّا كان مقابلًا للابتلاء بديلًا له- كما قدّمنا- فالزمان الّذي يصلح أن يكون زماناً للابتلاء لا بدّ أن يكون هو الّذي يصدق عليه عنوان «التخلّص» مع أنّ زمان الحركات الخروجيّة سابق على زمان الغصب الزائد عليها لو لم يخرج، فهو في حال الحركات الخروجيّة لا مبتلٍ بالغصب الزائد و لا متخلّصٌ منه، بل الغاصب مبتلٍ بالغصب من حين دخوله إلى حين خروجه، و بعد خروجه يصدق عليه أنّه متخلّص من الغصب.
و ثانياً: أنّ التخلّص لو كان عنواناً يصدق على الخروج، فلا ينبغي أن يراد من الخروج نفس الحركات الخروجيّة، بل على تقديره ينبغي أن يراد منه ما تكون الحركات الخروجيّة مقدّمة له أو بمنزلة المقدّمة. فلا ينطبق إذاً عنوان «التخلّص» على التصرّف بالمغصوب المحرّم كما يريد أن يحقّقه هذا القائل.
و السرّ واضح، فإنّ الخروج يقابل الدخول، و لمّا كان الدخول عنواناً للكون داخل الدار المسبوق بالعدم، فلا بدّ أن يكون الخروج- بمقتضى المقابلة- عنواناً للكون خارج الدار المسبوق بالعدم. أمّا نفس التصرّف بالمغصوب بالحركات الخروجيّة الّتي منها يكون الخروج فهو مقدّمة أو شبه المقدّمة للخروج لا نفسه.
و ثالثاً: لو سلّمنا أنّ التخلّص عنوان ينطبق على الحركات الخروجيّة فلا نُسلّم بوجوبه النفسي، لأنّ التخلّص عن الحرام ليس هو إلّا عبارة اخرى عن ترك الحرام، و ترك الحرام ليس واجباً نفسيّاً على وجهٍ يكون ذا مصلحة نفسيّة في مقابل المفسدة النفسيّة في الفعل. نعم، هو مطلوب
أصول الفقه ( مظفر، محمد رضا - طبع انتشارات اسلامى )، ج2، ص: 407
بتبع النهي عن الفعل، و قد تقدّم ذلك في مبحث النواهي في الجزء الأوّل «1» و في مسألة الضدّ في الجزء الثاني «2». فكما أنّ الأمر بالشيء لا يقتضي النهي عن ضدّه العامّ- أي نقيضه و هو الترك- كذلك أنّ النهي عن الشيء لا يقتضي الأمر بضدّه العامّ- أي نقيضه و هو الترك-؛ و لذا قلنا في مبحث النواهي: إنّ تفسير النهي بطلب الترك- كما وقع للقوم- ليس في محلّه و إنّما هو تفسير للشيء بلازم المعنى العقلي، فإنّ مقتضى الزجر عن الفعل طلب تركه عقلًا، لا على أن يكون الترك ذا مصلحة نفسيّة في مقابل مفسدة الفعل. و كذلك في الأمر، فإنّ مقتضى الدعوة إلى الفعل الزجر عن تركه عقلًا لا على أن يكون الترك ذا مفسدة نفسيّة في مقابل مصلحة الفعل، بل ليس في النهي إلّا مفسدة الفعل، و ليس في الأمر إلّا مصلحة الفعل.
و أمّا أنّ الخروج ليس بواجبٍ غيري، فلأنه:
أوّلًا: قد تقدّم أنّ مقدّمة الواجب ليست بواجبة على تقدير القول بأنّ التخلّص واجب نفسي.
و ثانياً: أنّ الخروج الّذي هو عبارة عن الحركات الخروجيّة في مقصود هذا القائل ليس مقدّمة لنفس التخلّص عن الحرام، بل على التحقيق إنّما هو مقدّمة للكون في خارج الدار، و الكون في خارج الدار ملازم لعنوان التخلّص عن الحرام لا نفسه، و لا يلزم من فرض وجوب التخلص فرض وجوب لازمه، فإنّ المتلازمين لا يجب أن يشتركا في الحكم، كما تقدّم في مسألة الضدّ «3» و إذا لم يجب الكون خارج الدار كيف تجب مقدّمته؟
______________________________ (1) راجع ص 149.
(2) راجع ص 356.
(3) راجع ص 361.
أصول الفقه ( مظفر، محمد رضا - طبع انتشارات اسلامى )، ج2، ص: 408
و ثالثاً: لو سلّمنا أنّ التخلّص واجب نفسي و أنّه نفس الكون خارج الدار فتكون الحركات الخروجيّة مقدّمة له و أنّ مقدّمة الواجب واجبة؛ لو سلّمنا كلّ ذلك، فإنّ مقدّمة الواجب إنّما تكون واجبة حيث لا مانع من ذلك، كما لو كانت محرّمة في نفسها- كركوب المركب الحرام في طريق الحجّ- فإنّه لا يقع على صفة الوجوب و إن تُوصّل به إلى الواجب. و هنا الحركات الخروجيّة تقع على صفة الحرمة- كما قدّمنا- باعتبار أنّها من أفراد الحرام و هو التصرّف بالمغصوب، فلا تقع على صفة الوجوب من باب المقدّمة.
فإن قلت: إنّ المقدّمة المحرّمة إنّما لا تقع على صفة الوجوب حيث لا تكون منحصرة، و أمّا مع انحصار التوصّل بها إلى الواجب، فإنّه يقع التزاحم بين حرمتها و وجوب ذيها، لأنّ الأمر يدور حينئذٍ بين امتثال الوجوب و بين امتثال الحرمة، فلو كان الوجوب أهمّ قُدّم على حرمة المقدّمة فتسقط حرمتها. و هنا الأمر كذلك، فإنّ المقدّمة منحصرة، و الواجب- و هو ترك الغصب الزائد- أهمّ.
قلت: هذا صحيح لو كان الدوران لم يقع بسوء اختيار المكلّف، فإنّه حينئذٍ يكون الدوران في مقام التشريع. و أمّا لو كان الدوران واقعاً بسوء اختيار المكلّف- كما هو مفروض في المقام- فإنّ المولى في مقام التشريع قد استوفى غرضه من أوّل الأمر بالنهي عن الغصب مطلقاً و لا دوران فيه حتّى يقال: يقبح من المولى تفويت غرضه الأهمّ. و إنّما الدوران وقع في مقام استيفاء الغرض استيفاءً خارجيّاً بسبب سوء اختيار المكلّف بعد فرض أنّ المولى من أوّل الأمر- قبلَ أن يدخل المكلّف في المحلّ المغصوب- قد استوفى كلّ غرضه في مقام التشريع إذ نهى عن كلّ تصرّفٍ بالمغصوب.
أصول الفقه ( مظفر، محمد رضا - طبع انتشارات اسلامى )، ج2، ص: 409
فليس هناك تزاحم في مقام التشريع، فالمكلّف يجب عليه أن يترك الغصب الزائد بالخروج عن المغصوب، و نفس الحركات الخروجيّة تكون أيضاً محرّمة يستحقّ عليها العقاب، لأنّها من أفراد ما هو منهيّ عنه، و قد وقع في هذا المحذور و الدوران بسوء اختياره.
صحّة الصلاة حال الخروج
و أمّا الناحية الثانية:- و هي صحّة الصلاة حال الخروج- فإنّها تبتني على اختيار أحد الأقوال في الناحية الاولى.
فإن قلنا بأنّ الخروج يقع على صفة الوجوب فقط، فإنّه لا مانع من الإتيان بالصلاة حالته، سواء ضاق وقتها أم لم يضق، و لكن بشرط ألّا يستلزم أداء الصلاة تصرّفاً زائداً على الحركات الخروجيّة، فإنّ هذا التصرّف الزائد حينئذٍ يقع محرّماً منهيّاً عنه. فإذا استلزم أداء الصلاة تصرّفاً زائداً، فإن كان الوقت ضيقاً، فلا بدّ أن يؤدّي الصلاة حال الخروج و لا بدّ أن يقتصر منها على أقلّ الواجب فيصلّي ايماءً بدل الركوع و السجود. و إن كان الوقت متّسعاً لأدائها بعد الخروج وجب أن ينتظر بها إلى ما بعد الخروج.
و إن قلنا بوقوع الخروج على صفة الحرمة، فإنّه مع سعة الوقت لا بدّ أن يؤدّيها بعد الخروج سواء استلزمت تصرّفاً زائداً أم لم تستلزم. و مع ضيق الوقت يقع التزاحم بين الحرام الغصبي و الصلاة الواجبة، و الصلاة لا تترك بحال، فيجب أداؤها مع ترك ما يستلزم منها تصرّفاً زائداً، فيصلّي إيماءً للركوع و السجود، و يقرأ ماشياً، فيترك الاطمئنان الواجب ... و هكذا.
و إن قلنا بعدم وقوع الخروج على صفة الحرمة و لا صفة الوجوب فلا مانع من أداء الصلاة حال الخروج إذا لم تستلزم تصرّفاً زائداً حتّى مع سعة الوقت على النحو الّذي تقدّم.
أصول الفقه ( مظفر، محمد رضا - طبع انتشارات اسلامى )، ج2، ص: 410
مقبول
طہارۃ، استعمال طہور مشروط بالنیت
المدخل۔۔۔
الزکاۃ،کتاب الزکاۃ وفصولہ اربعۃ۔۔۔
مقدمہ و تعریف :الامرلاول تعریف علم الاصول۔۔۔
الطہارۃ و مختصر حالات زندگانی
الفصل السابع :نسخ الوجوب۔۔
الفصل الثالث؛ تقسیم القطع الی طریقی ...
مقالات
دینی مدارس کی قابل تقلید خوبیاں
ایک اچھے مدرس کے اوصاف
اسلام میں استاد کا مقام و مرتبہ
طالب علم کے لئے کامیابی کے زریں اصول