حضرت امام جعفر صادق عليه‌السلام نے فرمایا: بندے کا ایمان جتنا زیادہ ہوگا اُس کے رزق میں تنگی بھی اُتنی ہی زیادہ ہوگی۔ اصول کافی باب فضل فقراء المسلمین حدیث4

اصول الفقہ حصہ دوم

المسألة الثالثة مسألة الضد

أصول الفقه ( مظفر، محمد رضا - طبع انتشارات اسلامى ) ؛ ج‏2 ؛ ص355

تحرير محلّ النزاع:

اختلفوا في أنّ الأمر بالشي‏ء هل يقتضي النهي عن ضدّه أو لا يقتضي؟ على أقوال.

و لأجل توضيح محلّ النزاع و تحريره نشرح مرادهم من الألفاظ الّتي وردت على لسانهم في تحرير النزاع هذا، و هي على ثلاثة:

1- الضدّ: فإنّ مرادهم من هذه الكلمة مطلق المعاند و المنافي، فيشمل نقيض الشي‏ء، أي أنّ الضدّ- عندهم- أعمّ من الأمر الوجودي و العدمي. و هذا اصطلاح خاصّ للاصُوليّين في خصوص هذا الباب، و إلّا فالضدّ مصطلح فلسفي يراد به- في باب التقابل- خصوص الأمر الوجودي الّذي له مع وجوديّ آخر تمام المعاندة و المنافرة و له معه غاية التباعد.

و لذا قسّم الاصوليّون الضدّ إلى «ضدٍّ عامّ» و هو الترك- أي النقيض- و «ضدٍّ خاصّ» و هو مطلق المعاند الوجودي.

و على هذا، فالحقّ أن تنحل هذه المسألة إلى مسألتين: موضوع‏

أصول الفقه ( مظفر، محمد رضا - طبع انتشارات اسلامى )، ج‏2، ص: 356

إحداهما «الضدّ العامّ» و موضوع الاخرى «الضدّ الخاصّ» لا سيّما مع اختلاف الأقوال في الموضوعين.

2- الاقتضاء: و يراد به «لابدّيّة ثبوت النهي عن الضدّ عند الأمر بالشي‏ء» إمّا لكون الأمر يدلّ عليه بإحدى الدلالات الثلاث: المطابقة و التضمّن و الالتزام، و إمّا لكونه يلزمه عقلًا النهي عن الضدّ من دون أن يكون لزومه بيّناً بالمعنى الأخصّ حتّى يدلّ عليه بالالتزام.

فالمراد من «الاقتضاء» عندهم أعمّ من كلّ ذلك.

3- النهي: و يراد به النهي المولوي من الشارع و إن كان تبعيّاً، كوجوب المقدّمة الغيري التبعي. و النهي معناه المطابقي (كما سبق في مبحث النواهي ج 1 ص 151) هو الزجر و الردع عمّا تعلّق به. و فسّره المتقدّمون بطلب الترك، و هو تفسير بلازم معناه. و لكنّهم فرضوه كأنّ ذلك هو معناه المطابقي، و لذا اعترض بعضهم على ذلك فقال: إنّ طلب الترك محال فلا بدّ أن يكون المطلوب الكفّ‏ «1».

و هكذا تنازعوا في أنّ المطلوب بالنهي الترك أو الكفّ. و لا معنى لنزاعهم هذا إلّا إذا كانوا قد فرضوا أنّ معنى النهي هو الطلب، فوقعوا في حيرة في أنّ المطلوب به أيّ شي‏ء هو، الترك أو الكفّ؟

و لو كان المراد من النهي هو طلب الترك- كما ظنّوا- لما كان معنى لنزاعهم في الضدّ العامّ، فإنّ النهي عنه معناه- على حسب ظنّهم- طلب ترك ترك المأمور به. و لمّا كان نفي النفي إثباتاً فيرجع معنى النهي عن الضدّ العامّ إلى معنى طلب فعل المأمور به، فيكون قولهم: «الأمر بالشي‏ء يقتضي النهي عن ضدّه العامّ» تبديلًا للفظٍ بلفظٍ آخر بمعناه، و يكون عبارة

______________________________ (1) نسبه صاحب المعالم إلى الأكثرِين و قال: و منهم العلّامة رحمه الله في تهذيبه، معالم الدين: ص 90- 91.

أصول الفقه ( مظفر، محمد رضا - طبع انتشارات اسلامى )، ج‏2، ص: 357

اخرى عن القول ب «أنّ الأمر بالشي‏ء يقتضي نفسه». و ما أشدّ سخف مثل هذا البحث!

و لعلّه لأجل هذا التوهّم- أي توهّم أنّ النهي معناه طلب الترك- ذهب بعضهم إلى عينيّة الأمر بالشي‏ء للنهي عن الضدّ العامّ. و بعد بيان هذه الامور الثلاثة في تحرير محلّ النزاع يتّضح موضع النزاع و كيفيّته.

إنّ النزاع معناه يكون: أنّه إذا تعلّق أمر بشي‏ءٍ هل إنّه لا بدّ أن يتعلّق نهي المولى بضدّه العامّ أو الخاصّ؟ فالنزاع يكون في ثبوت النهي المولوي عن الضدّ بعد فرض ثبوت الأمر بالشي‏ء. و بعد فرض ثبوت النهي فهناك نزاع آخر في كيفيّة إثبات ذلك.

و على كلّ حال فإنّ مسألتنا- كما قلنا- تنحلّ إلى مسألتين: إحداهما في «الضدّ العامّ» و الثانية في «الضدّ الخاصّ» فينبغي البحث عنهما في بابين:

- 1- الضدّ العامّ‏

لم يكن اختلافهم في «الضدّ العامّ» من جهة أصل الاقتضاء و عدمه، فإنّ الظاهر أنّهم متّفقون على الاقتضاء «1» و إنّما اختلافهم في كيفيّته:

______________________________ (1) كيف يكون اتّفاقيّاً و قد نسب السيّد عميد الدين القولَ بالمنع إلى جمهور المعتزلة و كثير من الأشاعرة! (راجع مُنية اللبيب: ص 125) قال المحقّق الرشتي: و عزاه الفاضل البهائي في حاشية الزبدة على ما حكي عنه إلى البعض و يلوح من كلام العلّامة في محكيّ النهاية أيضاً، و استظهره غير واحد من كلام علم الهدى في الذريعة- إلى أن قال- و كيف كان فما في المعالم و الوافية و شرحها للسيّد الصدر من إنكار هذا القول و اختصاص النزاع بكيفيّة الاقتضاء لا في أصل الاقتضاء غريب، بدائع الأفكار: ص 387.

أصول الفقه ( مظفر، محمد رضا - طبع انتشارات اسلامى )، ج‏2، ص: 358

فقيل: إنّه على نحو العينيّة «1» أي أنّ الأمر بالشي‏ء عين النهي عن ضدّه العامّ، فيدلّ عليه حينئذٍ بالدلالة المطابقيّة. و قيل: إنّه على نحو الجزئيّة «2» فيدل عليه بالدلالة التضمّنيّة، باعتبار أنّ الوجوب ينحلّ إلى طلب الشي‏ء مع المنع من الترك، فيكون «المنع من الترك» جزءاً تحليليّاً في معنى الوجوب.

و قيل: إنّه على نحو اللزوم البيّن بالمعنى الأخصّ‏ «3» فيدلّ عليه بالدلالة الالتزاميّة.

و قيل: إنّه على نحو اللزوم البيّن بالمعنى الأعمّ، أو غير البيّن‏ «4» فيكون اقتضاؤه له عقليّاً صرفاً.

و الحقّ أنّه لا يقتضيه بأيّ نحوٍ من أنحاء الاقتضاء، أي أنّه ليس هناك نهي مولوي عن الترك يقتضيه نفس الأمر بالفعل على وجهٍ يكون هناك نهي مولوي وراء نفس الأمر بالفعل.

و الدليل عليه: أنّ الوجوب سواء كان مدلولًا لصيغة الأمر أو لازماً عقليّاً لها- كما هو الحقّ- ليس معنى مركّباً، بل هو معنى بسيط وحداني هو «لزوم الفعل».

و لازم كون الشي‏ء واجباً المنع من تركه، و لكن هذا المنع اللازم للوجوب ليس منعاً مولويّاً و نهياً شرعيّاً، بل هو منع عقلي تبعي من غير أن يكون هناك من الشارع منع و نهي وراءَ نفس الوجوب. و سرّ ذلك واضح، فإنّ نفس الأمر بالشي‏ء على وجه الوجوب كافٍ في الزجر عن‏

______________________________ (1) نسبه الفاضل الصالح المازندراني إلى جماعة من المحقّقين، و الفاضل الجواد على ما حكي عنه إلى القاضي و متابعيه، و هو مختار بعض المحقّقين و بعض من تبعه، راجع المصدر السابق.

(2) صرّح به صاحب المعالم، معالم الدين: ص 63.

(3) مال إليه المحقّق النائيني، راجع فوائد الاصول: ج 1 ص 303.

(4) لم نظفر بمصرّحٍ به، راجع بدائع الأفكار للمحقّق الرشتي: ص 387- 388.

أصول الفقه ( مظفر، محمد رضا - طبع انتشارات اسلامى )، ج‏2، ص: 359

تركه، فلا حاجة إلى جعل للنهي عن الترك من الشارع زيادةً على الأمر بذلك الشي‏ء.

فإن كان مراد القائلين بالاقتضاء في المقام: أنّ نفس الأمر بالفعل يكون زاجراً عن تركه فهو مسلّم، بل لا بدّ منه، لأنّ هذا هو مقتضى الوجوب. و لكن ليس هذا هو موضع النزاع في المسألة، بل موضع النزاع هو النهي المولوي زائداً على الأمر بالفعل. و إن كان مرادهم: أنّ هناك نهياً مولويّاً عن الترك يقتضيه الأمر بالفعل- كما هو موضع النزاع- فهو غير مسلّم و لا دليل عليه، بل هو ممتنع.

و بعبارةٍ أوضح و أوسع: أنّ الأمر و النهي متعاكسان، بمعنى أنّه إذا تعلّق الأمر بشي‏ءٍ فعلى طبع ذلك يكون نقيضه بالتبع ممنوعاً منه، و إلّا لخرج الواجب عن كونه واجباً. و إذا تعلّق النهي بشي‏ءٍ فعلى طبع ذلك يكون نقيضه بالتبع مدعوّاً إليه، و إلّا لخرج المحرَّم عن كونه محرَّماً. و لكن ليس معنى هذه التبعيّة في الأمر أن يتحقّق فعلًا نهي مولوي عن ترك المأمور به بالإضافة إلى الأمر المولوي بالفعل. كما أنّه ليس معنى هذه التبعيّة في النهي أن يتحقّق فعلًا أمر مولوي بترك المنهيّ عنه بالإضافة إلى النهي المولوي عن الفعل.

و السرّ ما قلناه: إنّ نفس الأمر بالشي‏ء كافٍ في الزجر عن تركه. كما أنّ نفس النهي عن الفعل كافٍ للدعوة إلى تركه، بلا حاجة إلى جعلٍ جديدٍ من المولى في المقامين، بل لا يُعقل الجعل الجديد كما قلنا في مقدّمة الواجب حذوَ القِذّة بالقِذّة، فراجع.

و لأجل هذه التبعيّة الواضحة اختلط الأمر على كثير من المحرّرين لهذه المسألة، فحسبوا أنّ هناك نهياً مولويّاً عن ترك المأمور به وراء الأمر بالشي‏ء اقتضاء الأمر على نحو العينيّة أو التضمّن أو الالتزام أو اللزوم العقلي.

أصول الفقه ( مظفر، محمد رضا - طبع انتشارات اسلامى )، ج‏2، ص: 360

كما حسبوا هناك- في مبحث النهي- أنّ معنى النهي هو الطلب إمّا للترك أو الكفّ. و قد تقدّمت الإشارة إلى ذلك في تحرير النزاع.

و هذان التوهّمان في النهي و الأمر من وادٍ واحد. وعليه فليس هناك طلب للترك وراءَ الردع عن الفعل في النهي، و لا نهي عن الترك وراءَ طلب الفعل في الأمر.

نعم، يجوز للآمر بدلًا من الأمر بالشي‏ء أن يعبّر عنه بالنهي عن الترك، كأن يقول- مثلًا- بدلًا عن قوله: «صلّ»: «لا تترك الصلاة». و يجوز له بدلًا من النهي عن الشي‏ء أن يعبّر عنه بالأمر بالترك، كأن يقول- مثلًا- بدلًا عن قوله: «لا تشرب الخمر»: «اترك شرب الخمر» فيؤدّي التعبير الثاني في المقامين مؤدّى التعبير الأوّل المبدل منه، أي أنّ التعبير الثاني يحقّق الغرض من التعبير الأوّل.

فإذا كان مقصود القائل بأنّ الأمر بالشي‏ء عين النهي عن ضدّه العامّ هذا المعنى- أي أنّ أحدهما يصحّ أن يوضع موضع الآخر و يحلّ محلّه في أداء غرض الآمر- فلا بأس به و هو صحيح. و لكن هذا غير العينيّة المقصودة في المسألة على الظاهر.

- 2- الضدّ الخاصّ‏

إنّ القول باقتضاء الأمر بالشي‏ء للنهي عن ضدّه الخاصّ يبتني و يتفرّع على القول باقتضائه للنهي عن ضدّه العامّ.

و لمّا ثبت- حسبما تقدّم- أنّه لا نهي مولوي عن الضدّ العامّ، فبالطريق الاولى نقول: إنّه لا نهي مولوي عن الضدّ الخاصّ، لما قلنا من ابتنائه و تفرّعه عليه.

أصول الفقه ( مظفر، محمد رضا - طبع انتشارات اسلامى )، ج‏2، ص: 361

و على هذا، فالحقّ أنّ الأمر بالشي‏ء لا يقتضي النهي عن ضدّه مطلقاً سواء كان عامّاً أو خاصّاً.

أمّا كيف يبتني القول بالنهي عن الضدّ الخاصّ على القول بالنهي عن الضدّ العامّ و يتفرّع عليه؟ فهذا ما يحتاج إلى شي‏ء من البيان، فنقول:

إنّ القائلين بالنهي عن الضدّ الخاصّ لهم مسلكان لا ثالث لهما، و كلاهما يبتنيان و يتفرّعان على ذلك:

الأوّل: مسلك التلازم‏

و خلاصته: أنّ حرمة أحد المتلازمين تستدعي و تستلزم حرمة ملازمه الآخر. و المفروض أنّ فعل الضدّ الخاصّ يلازم ترك المأمور به، أي الضدّ العامّ، كالأكل مثلًا الملازم فعله لترك الصلاة المأمور بها. و عندهم أنّ الضدّ العامّ محرَّم منهيّ عنه (و هو ترك الصلاة في المثال) فيلزم على هذا أن يحرم الضدّ الخاصّ (و هو الأكل في المثال) فابتنى النهي عن الضدّ الخاصّ بمقتضى هذا المسلك على ثبوت النهي عن الضدّ العامّ.

أمّا نحن فلمّا ذهبنا إلى أنّه لا نهي مولوي عن الضدّ العامّ، فلا موجب لدينا من جهة الملازمة المدّعاة للقول بكون الضدّ الخاصّ منهيّاً عنه بنهي مولوي، لأنّ ملزومه ليس منهيّاً عنه حسب التحقيق الّذي مرّ.

على أنّا نقول- ثانياً- بعد التنازل عن ذلك و التسليم بأنّ الضدّ العامّ منهي عنه: إنّ هذا المسلك ليس صحيحاً في نفسه، يعني أنّ كبراه غير مسلّمة، و هي «إنّ حرمة أحد المتلازمين تستلزم ملازمه الآخر» فإنّه لا يجب اتّفاق المتلازمين في الحكم- لا في الوجوب و لا الحرمة و لا غيرهما من الأحكام- ما دام أنّ مناط الحكم غير موجود في الملازم الآخر. نعم، القدر المسلّم في المتلازمين أنّه لا يمكن أن يختلفا في الوجوب و الحرمة على وجهٍ يكون أحدهما واجباً و الآخر محرّماً،

أصول الفقه ( مظفر، محمد رضا - طبع انتشارات اسلامى )، ج‏2، ص: 362

لاستحالة امتثالهما حينئذٍ من المكلّف، فيستحيل التكليف من المولى بهما، فإمّا أن يحرم أحدهما أو يجب الآخر. و يرجع ذلك إلى باب التزاحم الّذي سيأتي التعرّض له.

و بهذا تبطل شبهة «الكعبي» المعروفة الّتي أخذت قسطاً وافراً من أبحاث الاصوليّين إذا كان مبناها هذه الملازمة المدّعاة، فإنّه نُسب إليه القول بنفي المباح‏ «1» بدعوى أنّ كلّ ما يُظنّ من الأفعال أنّه مباح فهو واجب في الحقيقة، لأن فعل كلّ مباح ملازم قهراً لواجبٍ و هو ترك محرّم واحد من المحرّمات على الأقلّ.

الثاني: مسلك المقدّميّة:

و خلاصته: دعوى أنّ ترك الضدّ الخاصّ مقدّمة لفعل المأمور به، ففي المثال المتقدّم يكون ترك الأكل مقدّمة لفعل الصلاة، و مقدّمة الواجب واجبة، فيجب ترك الضدّ الخاصّ.

و إذا وجب ترك الأكل حرم تركه، أي ترك ترك الأكل، لأنّ الأمر بالشي‏ء يقتضي النهي عن الضدّ العامّ، و إذا حرم ترك ترك الأكل، فإنّ معناه حرمة فعله، لأن نفي النفي إثبات، فيكون الضدّ الخاصّ منهيّاً عنه.

هذا خلاصة مسلك المقدّميّة. و قد رأيت كيف ابتني النهي عن الضدّ الخاصّ على ثبوت النهي عن الضدّ العامّ.

و نحن إذ قلنا بأنّه لا نهي مولوي عن الضدّ العامّ، فلا يحرم ترك ترك الضدّ الخاصّ حرمةً مولويّة، أي لا يحرم فعل الضدّ الخاصّ، فثبت المطلوب.

على أنّ مسلك المقدّمية غير صحيح من وجهين آخرين:

______________________________ (1) معالم الدين: ص 68.

أصول الفقه ( مظفر، محمد رضا - طبع انتشارات اسلامى )، ج‏2، ص: 363

أحدهما: أنّه بعد التنزّل عمّا تقدّم و تسليم حرمة الضدّ العامّ، فإنّ هذا المسلك- كما هو واضح- يبتني على وجوب مقدّمة الواجب، و قد سبق أن أثبتنا أنّها ليست واجبة بوجوب مولوي، وعليه لا يكون ترك الضدّ الخاصّ واجباً بالوجوب الغيري المولوي حتّى يحرم فعله.

ثانيهما: أنّا لا نسلّم أنّ ترك الضدّ الخاصّ مقدّمة لفعل المأمور به، و هذه المقدّميّة- أعني مقدّميّة الضدّ الخاصّ- لا تزال مثاراً للبحث عند المتأخّرين حتّى أصبحت من المسائل الدقيقة المطوّلة. و نحن في غنىً عن البحث عنها بعد ما تقدّم.

و لكن لحسم مادة الشبهة لا بأس بذكر خلاصة ما يرفع المغالطة في دعوى مقدّميّة ترك الضدّ، فنقول:

إنّ المدّعي لمقدّميّة ترك الضدّ لضدّه تبتني دعواه على أنّ عدم الضدّ من باب عدم المانع بالنسبة إلى الضدّ الآخر، للتمانع بين الضدّين، أي لا يمكن اجتماعهما معاً، و لا شكّ في أنّ عدم المانع من المقدّمات، لأنّه من متمّمات العلّة، فإنّ العلّة التامّة- كما هو معروف- تتألّف من المقتضي و عدم المانع.

فيتألّف دليله من مقدّمتين:

1- الصغرى: انّ عدم الضدّ من باب «عدم المانع» لضدّه، لأنّ الضدّين متمانعان.

2- الكبرى: انّ «عدم المانع» من المقدّمات.

فينتج من الشكل الأوّل: أنّ عدم الضدّ من المقدّمات لضدّه.

و هذه الشبهة إنّما نشأت من أخذ كلمة «المانع» مطلقة، فتخيّلوا أنّ لها معنى واحداً في الصغرى و الكبرى، فانتظم عندهم القياس الّذي ظنّوه منتجاً. بينما أنّ الحقّ أنّ التمانع له معنيان، و معناه في الصغرى غير معناه‏ أصول الفقه ( مظفر، محمد رضا - طبع انتشارات اسلامى )، ج‏2، ص: 364

في الكبرى، فلم يتكرّر الحدّ الأوسط، فلم يتألّف قياس صحيح.

بيان ذلك: أنّ التمانع تارةً يراد منه التمانع في الوجود، و هو امتناع الاجتماع و عدم الملاءمة بين الشيئين. و هو المقصود من التمانع بين الضدّين، إذ هما لا يجتمعان في الوجود و لا يتلاءمان. و اخرى يراد منه التمانع في التأثير و إن لم يكن بينهما تمانع و تنافٍ في الوجود، و هو الّذي يكون بين المقتضيين لأثرين متمانعين في الوجود، إذ يكون المحلّ غير قابل إلّا لتأثير أحد المقتضيين، فإنّ المقتضيين حينئذٍ يتمانعان في تأثيرهما فلا يؤثّر أحدهما إلّا بشرط عدم المقتضي الآخر. و هذا هو المقصود من المانع في الكبرى، فإنّ المانع الّذي يكون عدمه شرطاً لتأثير المقتضي هو المقتضي الآخر الّذي يقتضي ضدّ أثر الأوّل. و عدم المانع إمّا لعدم وجوده أصلًا أو لعدم بلوغه مرتبة الغلبة على الآخر في التأثير.

وعليه، فنحن نسلّم أنّ عدم الضدّ من باب عدم المانع، و لكنّه عدم المانع في الوجود، و ما هو من المقدّمات عدم المانع في التأثير، فلم يتكرّر الحدّ الأوسط، فلا نستنتج من القياس أنّ عدم الضدّ من المقدّمات.

و أعتقد أنّ هذا البيان لرفع المغالطة فيه الكفاية للمتنبّه. و إصلاح هذا البيان بذكر بعض الشبهات فيه و دفعها يحتاج إلى سعة من القول لا تتحمّلها الرسالة. و لسنا بحاجةٍ إلى نفي المقدّمة لإثبات المختار بعد ما قدّمناه.

ثمرة المسألة

إنّ ما ذكروه من الثمرات لهذه المسألة مختصّ بالضدّ الخاصّ فقط، و أهمّها و العمدة فيها هي: صحّة الضدّ إذا كان عبادة على القول بعدم الاقتضاء، و فساده على القول بالاقتضاء.

أصول الفقه ( مظفر، محمد رضا - طبع انتشارات اسلامى )، ج‏2، ص: 365

بيان ذلك: أنّه قد يكون هناك واجب- أيّ واجب كان عبادة أو غير عبادة- و ضدّه عبادة، و كان الواجب أرجح في نظر الشارع من ضدّه العبادي، فإنّه لمكان التزاحم بين الأمرين للتضادّ بين متعلّقيهما و الأوّل أرجح في نظر الشارع، لا محالة يكون الأمر الفعلي المنجّز هو الأوّل دون الثاني.

و حينئذٍ، فإن قلنا بأنّ الأمر بالشي‏ء يقتضي النهي عن ضدّه الخاصّ، فإنّ الضدّ العبادي يكون منهيّاً عنه في الفرض، و النهي في العبادة يقتضي الفساد، فإذا أتى به وقع فاسداً. و إن قلنا بأنّ الأمر بالشي‏ء لا يقتضي النهي عن ضدّه الخاصّ، فإنّ الضدّ العبادي لا يكون منهيّاً عنه، فلا مقتضي لفساده.

و أرجحيّة الواجب على ضدّه الخاصّ العبادي يتصوّر في أربعة موارد:

1- أن يكون الضدّ العبادي مندوباً، و لا شكّ في أنّ الواجب مقدّم على المندوب، كاجتماع الفريضة مع النافلة، فإنّه بناءً على اقتضاء الأمر بالشي‏ء للنهي عن ضدّه لا يصحّ الاشتغال بالنافلة مع حلول وقت الفريضة، و لا بدّ أن تقع النافلة فاسدة. نعم، لا بدّ أن تُستثنى من ذلك نوافل الوقت، لورود الأمر بها في خصوص وقت الفريضة «1» كنافلتي الظهر و العصر.

و على هذا فمن كان عليه قضاء الفوائت لا تصحّ منه النوافل مطلقاً بناءً على النهي عن الضدّ. بخلاف ما إذا لم نقل بالنهي عن الضدّ، فإنّ عدم جواز فعل النافلة حينئذٍ يحتاج إلى دليلٍ خاصّ.

2- أن يكون الضدّ العبادي واجباً، و لكنّه أقلّ أهمّيةً عند الشارع من الأوّل، كما في مورد اجتماع إنقاذ نفس محترمة من الهلكة مع الصلاة

______________________________ (1) راجع الوسائل: ج 3 ص 96، الباب 5 من أبواب المواقيت.

أصول الفقه ( مظفر، محمد رضا - طبع انتشارات اسلامى )، ج‏2، ص: 366

الواجبة.

3- أن يكون الضدّ العبادي واجباً أيضاً، و لكنّه موسّع الوقت و الأوّل مضيّق، و لا شكّ في أنّ المضيّق مقدّم على الموسّع و إن كان الموسّع أكثر أهمّية منه. مثاله: اجتماع قضاء الدين الفوري مع الصلاة في سعة وقتها.

و إزالة النجاسة عن المسجد مع الصلاة في سعة الوقت.

4- أن يكون الضدّ العبادي واجباً أيضاً، و لكنّه مخيّر و الأوّل واجب معيّن، و لا شكّ في أنّ المعيّن مقدّم على المخيّر و إن كان المخيّر أكثر أهمّية منه، لأنّ المخيّر له بدل دون المعيّن. مثاله: اجتماع سفر منذور في يوم معيّن مع خصال الكفّارة، فلو ترك المكلّف السفر و اختار الصوم من خصال الكفّارة فإن كان الأمر بالشي‏ء يقتضي النهي عن ضدّه كان الصوم منهيّاً عنه فاسداً. هذه خلاصة بيان ثمرة المسألة مع بيان موارد ظهورها. و لكن هذا المقدار من البيان لا يكفي في تحقيقها، فإنّ ترتّبها و ظهورها يتوقّف على أمرين:

الأوّل: القول بأنّ النهي في العبادة يقتضي فسادها حتّى النهي الغيري التبعي، لأنّه إذا قلنا بأنّ النهي مطلقاً لا يقتضي فساد العبادة أو خصوص النهي التبعي لا يقتضي الفساد فلا تظهر الثمرة أبداً. و هو واضح، لأنّ الضدّ العبادي حينئذٍ يكون صحيحاً سواء قلنا بالنهي عن الضدّ أم لم نقل.

و الحقّ أنّ النهي في العبادة يقتضي فسادها حتّى النهي الغيري على الظاهر. و سيأتي تحقيق ذلك في موضعه- إن شاء اللَّه تعالى-.

و استعجالًا في بيان هذا الأمر نشير إليه إجمالًا فنقول: إنّ أقصى ما يقال في عدم اقتضاء النهي التبعي للفساد هو أنّ النهي التبعي لا يكشف عن وجود مفسدة في المنهيّ عنه، و إذا كان الأمر كذلك فالمنهيّ عنه باقٍ على ما هو عليه من مصلحة بلا مزاحم لمصلحته، فيمكن التقرّب فيه‏

أصول الفقه ( مظفر، محمد رضا - طبع انتشارات اسلامى )، ج‏2، ص: 367

إذا كان عبادة بقصد تلك المصلحة المفروضة فيه.

و هذا ليس بشي‏ء- و إن صدر من بعض أعاظم مشايخنا «1»- لأنّ المدار في القرب و البعد في العبادة ليس على وجود المصلحة و المفسدة فقط، فإنّه من الواضح أنّ المقصود من القرب و البعد من المولى القرب و البعد المعنويّان تشبيهاً بالقرب و البعد المكانيّين، و ما لم يكن الشي‏ء مرغوباً فيه للمولى فعلًا لا يصلح للتقرّب به إليه، و مجرّد وجود مصلحةٍ فيه لا يوجب مرغوبيّته له مع فرض نهيه و تبعيده.

و بعبارة اخرى: لاوجه للتقرّب إلى المولى بما أبعدنا عنه، و المفروض أنّ النهي التبعي نهي مولوي، و كونه تبعيّاً لا يخرجه عن كونه زجراً و تنفيراً و تبعيداً عن الفعل و إن كان التبعيد لمفسدة في غيره أو لفوات مصلحة الغير.

نعم، لو قلنا بأنّ النهي عن الضدّ ليس نهياً مولويّاً بل هو نهي يقتضيه العقل الّذي لا يُستكشف منه حكم الشرع- كما اخترناه في المسألة- فإنّ هذا النهي العقلي لا يقتضي تبعيداً عن المولى إلّا إذا كشف عن مفسدة مبغوضة للمولى. و هذا شي‏ء آخر لا يقتضيه حكم العقل في نفسه.

الثاني: أنّ صحّة العبادة و التقرّب لا يتوقّف على وجود الأمر الفعلي بها، بل يكفي في التقرّب بها إحراز محبوبيّتها الذاتيّة للمولى و إن لم يكن هناك أمر فعلي بها لمانعٍ.

أمّا إذا قلنا بأنّ عباديّة العبادة لا تتحقّق إلّا إذا كانت مأموراً بها بأمر فعلي، فلا تظهر هذه الثمرة أبداً، لأنّه قد تقدّم أنّ الضدّ العبادي- سواء كان مندوباً، أو واجباً أقلّ أهمّية، أو موسّعاً، أو مخيّراً- لا يكون مأموراً به فعلًا لمكان المزاحمة بين الأمرين، و مع عدم الأمر به لا يقع عبادة

______________________________ (1) راجع فوائد الاصول 1: 316، أجود التقريرات 1: 265.

أصول الفقه ( مظفر، محمد رضا - طبع انتشارات اسلامى )، ج‏2، ص: 368

صحيحة و إن قلنا بعدم النهي عن الضدّ.

و الحقّ هو الأوّل، أي أنّ عباديّة العبادة لا تتوقّف على تعلّق الأمر بها فعلًا، بل إذا احرز أنّها محبوبة في نفسها للمولى مرغوبة لديه فإنّه يصحّ التقرّب بها إليه و إن لم يأمر بها فعلًا لمانعٍ، لأنّه- كما أشرنا إلى ذلك في مقدّمة الواجب ص 348- يكفي في عباديّة الفعل ارتباطه بالمولى و الإتيان به متقرّباً به إليه مع عدم ما يمنع من التعبّد به من كون فعله تشريعاً أو كونه منهيّاً عنه. و لا تتوقّف عباديّته على قصد امتثال الأمر كما مال إليه صاحب الجواهر قدس سره‏ «1».

هذا، و قد يقال في المقام نقلًا عن المحقّق الثاني- تغمّده اللَّه برحمته-: إنّ هذه الثمرة تظهر حتّى مع القول بتوقّف العبادة على تعلّق الأمر بها، و لكن ذلك في خصوص التزاحم بين الواجبين الموسّع و المضيّق و نحوهما، دون التزاحم بين الأهمّ و المهمّ المضيّقين‏ «2».

و السرّ في ذلك: أنّ الأمر في الموسّع إنّما يتعلّق بصِرف وجود الطبيعة على أن يأتي به المكلّف في أيّ وقت شاء من الوقت الوسيع المحدّد له، أمّا الأفراد بما لها من الخصوصيّات الوقتيّة فليست مأموراً بها بخصوصها، و الأمر بالمضيّق إذا لم يقتض النهي عن ضدّه فالفرد المزاحم له من أفراد ضدّه الواجب الموسّع لا يكون مأموراً به لا محالة من أجل المزاحمة، و لكنّه لا يخرج بذلك عن كونه فرداً من الطبيعة المأمور بها.

و هذا كافٍ في حصول امتثال الأمر بالطبيعة، لأنّ انطباقها على هذا الفرد المزاحم قهري فيتحقّق به الامتثال قهراً و يكون مجزياً عقلًا عن امتثال الطبيعة في فردٍ آخر، لأنّه لا فرق من جهة انطباق الطبيعة المأمور بها بين‏

______________________________ (1) جواهر الكلام: ج 9 ص 155- 157.

(2) نقله في فوائد الاصول (ج 1 ص 312) عن محكيّ المحقّق الكركي، و ما ظفرنا به في جامع المقاصد ممّا يرتبط بالمقام ليس بهذا البيان و التفصيل، فراجع ج 5 ص 12- 14.

أصول الفقه ( مظفر، محمد رضا - طبع انتشارات اسلامى )، ج‏2، ص: 369

فردٍ و فردٍ.

و بعبارة أوضح: أنّه لو كان الوجوب في الواجب الموسّع ينحلّ إلى وجوبات متعدّدة بتعدّد أفراده الطوليّة الممكنة في مدّة الوقت المحدّد على وجهٍ يكون التخيير بينها شرعيّاً، فلا محالة لا أمر بالفرد المزاحم للواجب المضيّق و لا أمر آخر يصحّحه، فلا تظهر الثمرة، و لكنّ الأمر ليس كذلك، فإنّه ليس في الواجب الموسّع إلّا وجوب واحد يتعلّق بصِرف وجود الطبيعة، غير أنّ الطبيعة لمّا كانت لها أفراد طوليّة متعدّدة يمكن انطباقها على كلّ واحدٍ منها فلا محالة يكون المكلّف مخيّراً عقلًا بين الأفراد، أي يكون مخيّراً بين أن يأتي بالفعل في أوّل الوقت أو ثانيه أو ثالثه ... و هكذا إلى آخر الوقت، و ما يختاره من الفعل في أيّ وقتٍ يكون هو الّذي ينطبق عليه المأمور به و إن امتنع أن يتعلّق الأمر به بخصوصه لمانعٍ، بشرط أن يكون المانع من غير جهة نفس شمول الأمر المتعلّق بالطبيعة له، بل من جهة شي‏ءٍ خارج عنه، و هو المزاحمة مع المضيّق في المقام. هذا خلاصة توجيه ما نسب إلى المحقّق الثاني في المقام.

و لكن شيخنا المحقّق النائيني لم يرتضه، لأنّه يرى أنّ المانع من تعلّق الأمر بالفرد المزاحم يرجع إلى نفس شمول الأمر المتعلّق بالطبيعة له‏ «1» يعني أنّه يرى أنّ الطبيعة المأمور بها بما هي مأمور بها لا تنطبق على الفرد المزاحم و لا تشمله، و انطباق الطبيعة بما هي لا بما هي مأمور بها على الفرد المزاحم لا ينفع و لا يكفي في امتثال الأمر بالطبيعة.

و السرّ في ذلك واضح، فإنّا إذ نسلّم أنّ التخيير بين أفراد الطبيعة تخيير عقلي نقول: إنّ التخيير إنّما هو بين أفراد الطبيعة المأمور بها بما هي مأمور بها، فالفرد المزاحم خارج عن نطاق هذه الأفراد الّتي بينها التخيير.

______________________________ (1) فوائد الاصول 1: 314.

أصول الفقه ( مظفر، محمد رضا - طبع انتشارات اسلامى )، ج‏2، ص: 370

أمّا انّ الفرد المزاحم خارج عن نطاق أفراد الطبيعة المأمور بها بما هي مأمور بها، فلأنّ الأمر إنّما يتعلّق بالطبيعة المقدورة للمكلّف بما هي مقدورة، لأنّ القدرة شرط في المأمور به مأخوذة في الخطاب، لا أنّها شرط عقلي محض و الخطاب في نفسه عامّ شامل في إطلاقه للأفراد المقدورة و غير المقدورة. بيان ذلك: أنّ الأمر إنّما هو لجعل الداعي في نفس المكلّف، و هذا المعنى بنفسه يقتضي كون متعلّقه مقدوراً، لاستحالة جعل الداعي إلى ما هو ممتنع، فيُعلم من هذا أنّ القدرة مأخوذة في متعلّق الأمر و يفهم ذلك من نفس الخطاب، بمعنى أنّ الخطاب لمّا كان يقتضي القدرة على متعلّقه، فتكون سعة دائرة المتعلّق على قدر سعة دائرة القدرة عليه لا تزيد و لا تنقص، أي تدور سعته و ضيقه مدار سعة القدرة و ضيقها.

و على هذا، فلا يكون الأمر شاملًا لما هو ممتنع من الأفراد، إذ يكون المطلوب به الطبيعة بما هي مقدورة، و الفرد غير المقدور خارج عن أفرادها بما هي مأمور بها.

نعم، لو كان اعتبار القدرة بملاك قبح تكليف العاجز فهي شرط عقلي لا يوجب تقييد متعلّق الخطاب، لأنّه ليس من اقتضاء نفس الخطاب، فيكون متعلّق الأمر هي الطبيعة بما هي لا بما هي مقدورة، و إن كان بمقتضى حكم العقل لا بدّ أن يقيَّد الوجوب بها. فالفرد المزاحم- على هذا- هو أحد أفراد الطبيعة بما هي الّتي تعلّق بها كذلك.

و تشييد ما أفاده استاذنا و مناقشته يحتاج إلى بحث أوسع لسنا بصدده الآن، راجع عنه تقريرات تلامذته.

الترتّب‏ و إذا امتدّ «1» البحث إلى هنا، فهناك مشكلة فقهيّة تنشأ من الخلاف‏

______________________________ (1) في ط الاولى: انجرّ.

أصول الفقه ( مظفر، محمد رضا - طبع انتشارات اسلامى )، ج‏2، ص: 371

المتقدّم لا بدّ من التعرّض لها بما يليق بهذه الرسالة.

و هي: أنّ كثيراً من الناس نجدهم يحرصون- بسبب تهاونهم- «1» على فعل بعض العبادات المندوبة في ظرف وجوب شي‏ءٍ هو ضدّ للمندوب، فيتركون الواجب و يفعلون المندوب، كمن يذهب للزيارة أو يقيم مأتم الحسين عليه السلام وعليه دين واجب الأداء. كما نجدهم يفعلون‏ «2» بعض الواجبات العباديّة في حين أنّ هناك عليهم واجباً أهمّ منه فيتركونه، أو واجباً مضيّق الوقت مع أنّ الأوّل موسّع فيقدّمون الموسّع على المضيّق، أو واجباً معيّناً مع أنّ الأوّل مخيّر فيقدّمون المخيّر على المعيّن ... و هكذا.

و يجمع الكلّ تقديم فعل المهمّ العبادي على الأهمّ، فإنّ المضيّق أهمّ من الموسّع، و المعيّن أهمّ من المخيّر، كما أنّ الواجب أهمّ من المندوب (و من الآن سنعبّر بالأهم و المهمّ و نقصد ما هو أعمّ من ذلك كلّه).

فإذا قلنا بأنّ صحّة العبادة لا تتوقّف على وجود أمر فعلي متعلّق به، و قلنا بأنّه لا نهي عن الضدّ، أو النهي عنه لا يقتضي الفساد، فلا إشكال و لا مشكلة، لأنّ فعل المهمّ العبادي يقع صحيحاً حتّى مع فعليّة الأمر بالأهمّ، غاية الأمر يكون المكلّف عاصياً بترك الأهمّ من دون أن يؤثّر ذلك على صحّة ما فعله من العبادة.

و إنّما المشكلة فيما إذا قلنا بالنهي عن الضدّ و أنّ النهي يقتضي الفساد، أو قلنا بتوقّف صحّة العبادة على الأمر بها- كما هو المعروف عن الشيخ صاحب الجواهر قدس سره‏ «3» فإنّ أعمالهم هذه كلّها باطلة و لا يستحقّون عليها

______________________________ (1) العبارة في ط الاولى هكذا: و هي أنّ كثيراً ما يكون محلّ بلوى الناس ما يقع منهم بسبب سوء اختيارهم و تهاونهم على الغالب، و ذلك حينما يحرصون.

(2) في ط الاولى: و كم يفعلون.

(3) راجع جواهر الكلام: ج 9 ص 155- 157.

أصول الفقه ( مظفر، محمد رضا - طبع انتشارات اسلامى )، ج‏2، ص: 372

ثواباً، لأنّه إمّا منهيّ عنها و النهي يقتضي الفساد، و إمّا لا أمر بها و صحّتها تتوقّف على الأمر.

فهل هناك طريقة لتصحيح فعل المهمّ العبادي مع وجود الأمر بالأهمّ؟

ذهب جماعة إلى تصحيح العبادة في المهمّ بنحو الترتّب بين الأمرين- الأمر بالأهمّ و الأمر بالمهمّ- مع فرض القول بعدم النهي عن الضدّ و أنّ صحّة العبادة تتوقّف على وجود الأمر «1».

و الظاهر أنّ أوّل من أسّس هذه الفكرة و تنبّه لها المحقّق الثاني‏ «2» و شيّد أركانها السيّد الميرزا الشيرازي‏ «3» كما أحكمها و نقّحها شيخنا المحقّق النائيني‏ «4»- طيّب اللَّه مثواهم-.

و هذه الفكرة و تحقيقها من أروع ما انتهى إليه البحث الاصولي تصويراً و عمقاً.

و خلاصة «فكرة الترتّب»: أنّه لا مانع عقلًا من أن يكون الأمر بالمهمّ فعليّاً عند عصيان الأمر بالأهمّ، فإذا عصى المكلّف و ترك الأهمّ فلا محذور في أن يُفرض الأمر بالمهمّ حينئذٍ، إذ لا يلزم منه طلب الجمع بين الضدّين، كما سيأتي توضيحه. و إذاً لم يكن مانع عقلي من هذا الترتّب، فإنّ الدليل يساعد على وقوعه، و الدليل هو نفس الدليلين المتضمّنين للأمر بالمهمّ و الأمر بالأهمّ، و هما كافيان لإثبات وقوع الترتّب.

وعليه، ففكرة الترتّب و تصحيحها يتوقّف على شيئين رئيسين في‏

______________________________ (1) (*) أمّا نحن الّذين نقول بأنّ صحّة العبادة لا تتوقّف على وجود الأمر فعلًا و أنّ الأمر بالشي‏ء لا يقتضي النهي عن ضدّه، ففي غنىً عن القول بالترتّب لتصحيح العبادة في مقام المزاحمة بين الضدّين- الأهمّ و المهمّ- كما تقدّم.

(2) انظر جامع المقاصد 5: 13.

(3) في أجود التقريرات (ج 1 ص 300) ما يلي: إنّ إسناد صحّة الخطاب الترتّبي إلى السيّد المحقّق العلّامة الشيرازي قدس سره- بتقريب: أنّه و إن كان يستلزم طلب الجمع، إلّا أنّه لا محذور فيه لتمكّن المكلّف من التخلّص عنه بتركه العصيان- ليس مطابقاً للواقع، بل يستحيل صدور ذلك منه.

(4) راجع فوائد الاصول 1: 336.

أصول الفقه ( مظفر، محمد رضا - طبع انتشارات اسلامى )، ج‏2، ص: 373

الباب: أحدهما إمكان الترتّب في نفسه، و ثانيهما الدليل على وقوعه.

أمّا الأوّل‏- و هو إمكانه في نفسه- فبيانه: أنّ أقصى ما يقال في إبطال الترتّب و استحالته: هو دعوى لزوم المحال منه، و هو فعليّة الأمر بالضدّين في آنٍ واحد، لأنّ القائل بالترتّب يقول بإطلاق الأمر بالأهمّ و شموله لصورتي: فعل الأهمّ و تركه، ففي حال فعليّة الأمر بالمهمّ [و هو حال ترك الأهمّ‏] «1» يكون الأمر بالأهمّ فعليّاً على قوله، و الأمر بالضدّين في آنٍ واحد محال. و لكن هذه الدعوى- عند القائل بالترتّب- باطلة، لأنّ قوله: «الأمر بالضدّين في آنٍ واحد محال» فيه مغالطة ظاهرة، فإنّ قيد «في آنٍ واحد» يوهم أنّه راجع إلى «الضدّين» فيكون محالًا، إذ يستحيل الجمع بين الضدّين، بينما هو في الحقيقة راجع إلى «الأمر» و لا استحالة في أن يأمر المولى في آنٍ واحد بالضدّين إذا لم يكن المطلوب الجمع بينهما في آنٍ واحد، لأنّ المحال هو الجمع بين الضدّين لا الأمر بهما في آنٍ واحد و إن لم يستلزم الجمع بينهما.

أمّا أنّ قيد «في آنٍ واحد» راجع إلى «الأمر» لا إلى «الضدّين» فواضح، لأنّ المفروض أنّ الأمر بالمهم مشروط بترك الأهمّ، فالخطاب الترتّبي ليس فقط لا يقتضي الجمع بين الضدّين بل يقتضي عكس ذلك، لأنّه في حال انشغال المكلّف بامتثال الأمر بالأهمّ و إطاعته لا أمر في هذا الحال إلّا بالأهمّ، و نسبة المهمّ إليه حينئذٍ كنسبة المباحات إليه. و أمّا في حال ترك الأهم و الانشغال بالمهمّ، فإنّ الأمر بالأهمّ نسلّم أنّه يكون فعليّاً و كذلك الأمر بالمهمّ، و لكن خطاب المهمّ حسب الفرض مشروط بترك الأهمّ و خلوّ الزمان منه، ففي هذا الحال المفروض يكون الأمر بالمهمّ‏

______________________________ (1) لم يرد في ط الاولى.

أصول الفقه ( مظفر، محمد رضا - طبع انتشارات اسلامى )، ج‏2، ص: 374

داعياً للمكلّف إلى فعل المهمّ في حال ترك الأهمّ فكيف يكون داعياً إلى الجمع بين الأهمّ و المهمّ في آنٍ واحد.

و بعبارة أوضح: أنّ إيجاب الجمع لا يمكن أن يتصوّر إلّا إذا كان هناك مطلوبان في عرضٍ واحد على وجهٍ لو فُرض إمكان الجمع بينهما لكان كلّ منهما مطلوباً، و في الترتّب لو فُرض محالًا إمكان الجمع بين الضدّين، فإنّه لا يكون المطلوب إلّا الأهمّ و لا يقع المهمّ في هذا الحال على صفة المطلوبيّة أبداً، لأنّ طلبه حسب الفرض مشروط بترك الأهمّ، فمع فعله لا يكون مطلوباً.

و أمّا الثاني‏- و هو الدليل على وقوع الترتّب و أنّ الدليل هو نفس دليلي الأمرين- فبيانه: أنّ المفروض أنّ لكلّ من الأهمّ و المهمّ- حسب دليل كلّ منهما- حكماً مستقلّاً مع قطع النظر عن وقوع المزاحمة بينهما، كما أنّ المفروض أنّ دليل كلّ منهما مطلق بالقياس إلى صورتي فعل الآخر و عدمه، فإذا وقع التزاحم بينهما اتّفاقاً فبحسب إطلاقهما يقتضيان إيجاب الجمع بينهما، و لكن ذلك محال، فلا بدّ أن نرفع اليد عن إطلاق أحدهما، و لكنّ المفروض أنّ الأهم أولى و أرجح، و لا يُعقل تقديم المرجوح على الراجح و المهمّ على الأهمّ، فيتعيّن رفع اليد عن إطلاق دليل الأمر بالمهمّ فقط، و لا يقتضي ذلك رفع اليد عن أصل دليل المهمّ، لأنّه إنّما نرفع اليد عنه من جهة تقديم إطلاق الأهمّ لمكان المزاحمة بينهما و أرجحيّة الأهمّ، و الضرورات إنّما تُقدّر بقدرها.

و إذا رفعنا اليد عن إطلاق دليل المهمّ مع بقاء أصل الدليل، فإنّ معنى ذلك اشتراط خطاب المهمّ بترك الأهمّ. و هذا هو معنى الترتّب المقصود.

و الحاصل: أنّ معنى الترتّب المقصود هو اشتراط الأمر بالمهمّ بترك الأهمّ، و هذا الاشتراط حاصل فعلًا بمقتضى الدليلين مع ضمّ حكم العقل‏

أصول الفقه ( مظفر، محمد رضا - طبع انتشارات اسلامى )، ج‏2، ص: 375

بعدم إمكان الجمع بين امتثالهما معاً و بتقديم الراجح على المرجوح الّذي لا يرفع إلّا إطلاقَ دليل المهمّ، فيبقى أصل دليل الأمر بالمهمّ على حاله في صورة ترك الأهمّ، فيكون الأمر الّذي يتضمّنه الدليل مشروطاً بترك الأهمّ.

و بعبارة أوضح: أنّ دليل المهمّ في أصله مطلق يشمل صورتين: صورة فعل الأهمّ و صورة تركه، و لمّا رفعنا اليد عن شموله لصورة فعل الأهمّ- لمكان المزاحمة و تقديم الراجح- فيبقى شموله لصورة ترك الأهمّ بلا مزاحم، و هذا معنى اشتراطه بترك الأهمّ.

فيكون هذا الاشتراط مدلولًا لدليلي الأمرين معاً بضميمة حكم العقل، و لكن هذه الدلالة من نوع دلالة الإشارة (راجع عن معنى دلالة الإشارة الجزء الأوّل ص 187).

هذه خلاصة «فكرة الترتّب» على علاتها. و هناك فيها جوانب تحتاج إلى مناقشة و إيضاح تركناها إلى المطوّلات. و قد وضع لها شيخنا المحقّق النائيني خمس مقدّمات لسدّ ثغورها، راجع عنها تقريرات تلامذته‏ «1».

***______________________________ (1) راجع فوائد الاصول 1: 336- 352.

أصول الفقه ( مظفر، محمد رضا - طبع انتشارات اسلامى )، ج‏2، ص: 376