حضرت محمد مصطفیٰ صلىاللهعليهوآلهوسلم نے فرمایا:
مومن، سمجھدار، باشعور اور ہوشیار ہوتا ہے۔
بحارالانوار کتاب الایمان والکفرباب14 حدیث40، کنزالعمال حدیث689
ّفوا المطلق بأنّه «ما دلّ على معنىً شائعٍ في جنسه» و يقابله المقيَّد.
و هذا التعريف قديم بحثوا عنه كثيراً و أحصوا عليه عدّة مؤاخذات يطول شرحها. و لا فائدة في ذكرها ما دام أنّ الغرض من مثل هذا التعريف هو تقريب المعنى الّذي وُضع له اللفظ، لأنّه من التعاريف اللفظية.
و الظاهر أنّه ليس للُاصوليّين اصطلاح خاصّ في لفظي «المطلق» و «المقيَّد» بل هما مستعملان بما لهما من المعنى في اللغة، فإنّ المطلق مأخوذ من الإطلاق و هو الإرسال و الشيوع، و يقابله التقييد تقابلَ الملكة و عدمها، و الملكة: التقييد، و الإطلاق: عدمها. و قد تقدّم (ص 117).
غاية الأمر: أنّ إرسال كلّ شيء بحسبه و ما يليق به. فإذا نُسب الإطلاق و التقييد إلى اللفظ- كما هو المقصود في المقام- فإنّما يراد ذلك بحسب ما له من دلالة على المعنى، فيكونان وصفين للّفظ باعتبار المعنى.
و من موارد استعمال لفظ «المطلق» نستطيع أن نأخذ صورة تقريبيّة لمعناه، فمثلًا عند ما نعرف أنّ العَلَم الشخصي و المعرَّف بلام العهد لا يسمّيان مطلقين باعتبار معناهما- لأنّه لا شيوع و لا إرسال في شخص معيَّن- لا ينبغي أن نظنّ أنّه لا يجوز أن يُسمّى العَلَمُ الشخصي مطلقاً، فإنّه
أصول الفقه ( مظفر، محمد رضا - طبع انتشارات اسلامى )، ج1، ص: 225
إذا قال الآمر: «أكرم محمّداً» و عرفنا أنّ لمحمّد أحوالًا مختلفة و لم يقيّد الحكم بحال من الأحوال نستطيع أن نعرف أنّ لفظ «محمّد» هنا أو هذا الكلام بمجموعه يصحّ أن نصفه بالإطلاق بلحاظ الأحوال و إن لم يكن له شيوع باعتبار معناه الموضوع له. إذاً للأعلام الشخصيّة و المعرّف بلام العهد إطلاق، فلا يختصّ المطلق ب «ما له معنىً شائعٌ في جنسه» كاسم الجنس و نحوه.
و كذلك عند ما نعرف أنّ العامّ لا يُسمّى مطلقاً، فلا ينبغي أن نظنّ أنّه لا يجوز أن يُسمّى مطلقاً أبداً، لأنّا نعرف أنّ ذلك إنّما هو بالنسبة إلى أفراده، أمّا بالنسبة إلى أحوال أفراده غير المفردة، فإنّه لا مضايقة في أن نُسمّيه مطلقاً. إذاً لا مانع من شمول تعريف المطلق- المتقدّم- و هو «ما دلّ على معنىً شائعٍ في جنسه» للعامّ باعتبار أحواله، لا باعتبار أفراده.
و على هذا، فمعنى المطلق: هو «شيوع اللفظ وسعته باعتبار ما له من المعنى و أحواله» و لكن لا على أن يكون ذلك الشيوع مستعملًا فيه اللفظ كالشيوع المستفاد من وقوع النكرة في سياق النفي و إلّا كان الكلام عامّاً لا مطلقاً.
المسألة الثانية الإطلاق و التقييد متلازمان
أشرنا إلى أنّ التقابل بين الإطلاق و التقييد من باب تقابل الملكة و عدمها، لأنّ الإطلاق هو عدم التقييد فيما من شأنه أن يقيّد. فيتبع الإطلاقُ التقييدَ في الإمكان، أي أنّه إذا أمكن التقييد في الكلام و في لسان الدليل أمكن الإطلاق و لو امتنع استحال الإطلاق. بمعنى أنّه لا يمكن فرض استكشاف الإطلاق و إرادته من كلام المتكلّم في موردٍ لا يصحّ التقييد. بل يكون مثل هذا الكلام لا مطلقاً و لا مقيّداً، و إن كان في الواقع
أصول الفقه ( مظفر، محمد رضا - طبع انتشارات اسلامى )، ج1، ص: 226
أنّ المتكلّم لا بدّ أن يريد أحدهما. و قد تقدّم مثاله في بحث التوصّلي و التعبّدي (ص 121) إذ قلنا: إنّ امتناع تقييد الأمر بقصد الامتثال يستلزم امتناع إطلاقه بالنسبة إلى هذا القيد. و ذكرنا هناك كيف يمكن استكشاف إرادة الإطلاق بإطلاق المقام لا بإطلاق الكلام الواحد.
المسألة الثالثة الإطلاق في الجمل
الإطلاق لا يختصّ بالمفردات- كما يظهر من كلمات الاصوليّين- إذ مثّلوا للمطلق باسم الجنس و علم
الجنس و النكرة، بل يكون في الجمل أيضاً كإطلاق صيغة «افعل» الّذي يقتضي استفادة الوجوب العيني و التعييني و النفسي، فإنّ الإطلاق فيها إنّما هو من نوع إطلاق الجملة.
و مثله إطلاق الجملة الشرطيّة في استفادة الانحصار في الشرط.
و لكن محلّ البحث في المسائل الآتية خصوص الألفاظ المفردة.
و لعلّ عدم شمول البحث عندهم للجمل باعتبار أن ليس هناك ضابط كلّي لمطلقاتها، و إن كان الأصحّ أنّ بحث مقدّمات الحكمة يشملها. و قد بُحث عن إطلاق بعض الجمل في مناسباتها، كإطلاق صيغة «افعل» و الجملة الشرطيّة و نحوها.
المسألة الرابعة هل الإطلاق بالوضع؟
لا شكّ في أنّ الإطلاق في الأعلام بالنسبة إلى الأحوال- كما تقدّمت الإشارة إليه «1»- ليس بالوضع، بل إنّما يستفاد من مقدّمات الحكمة.
______________________________
(1) تقدّمت في ص 225.
أصول الفقه ( مظفر، محمد رضا - طبع انتشارات اسلامى )، ج1، ص: 227
و كذلك إطلاق الجمل و ما شابهها- أيضاً- ليس بالوضع بل بمقدّمات الحكمة. و هذا لا خلاف فيه.
و إنّما الّذي وقع فيه البحث هو أنّ الإطلاق في أسماء الأجناس و ما شابهها هل هو بالوضع أو بمقدّمات الحكمة؟ أي أنّ أسماء الأجناس هل هي موضوعة لمعانيها بما هي شايعة و مرسلة على وجهٍ يكون الإرسال- أي الإطلاق- مأخوذاً في المعنى الموضوع له اللفظ- كما نُسب إلى المشهور من القدماء «1» قبل سلطان العلماء- أو أنّها موضوعة لنفس المعاني بما هي و الإطلاق يستفاد من دالّ آخر، و هو نفس تجرّد اللفظ من القيد إذا كانت مقدّمات الحكمة متوفّرة فيه؟ و هذا القول الثاني أوّل من صرّح به فيما نعلم سلطان العلماء في حاشيته على معالم الاصول «2» و تبعه جميع من تأخّر عنه إلى يومنا هذا.
و على القول الأوّل يكون استعمال اللفظ في المقيّد مجازاً، و على القول الثاني يكون حقيقة.
و الحقّ ما ذهب إليه سلطان العلماء، بل قيل: إنّ نسبة القول الأوّل إلى المشهور مشكوك فيها «3». و لتوضيح هذا القول و تحقيقه ينبغي بيان امور ثلاثة تنفع في هذا الباب و في غير هذا الباب «4» و بها تكشف للطالب ما وقع
______________________________
(1) لم نظفر بمن نسبه إليهم صريحاً، و النسبة مشكوك فيها، كما يأتي.
(2) لم نجد التصريح به في كلامه، راجع الحاشية: ص 48 ذيل قول صاحب المعالم: «فلأنّه جمع بين الدليلين ...».
(3) قاله المحقّق الخراساني بلفظ «إلّا أنّ الكلام في صدق النسبة» راجع كفاية الاصول: ص 286.
(4) (*) و قد اضطررنا إلى الخروج عن الطريقة الّتي رسمناها لأنفسنا في هذا الكتاب في الاختصار. و نعتقد أنّ الطالب المبتدئ الّذي ينتهي إلى هنا يكون على استعداد كافٍ لفهم هذه الأبحاث. و اضطرارنا لهذا البحث باعتبار ما له من حاجة ماسّة في فهم الطالب لكثير من الأبحاث الّتي قد ترد عليه فيما يأتي.
أصول الفقه ( مظفر، محمد رضا - طبع انتشارات اسلامى )، ج1، ص: 228
للعلماء الأعلام من اختلاف في التعبير بل في الرأي و النظر. و هذه الامور الّتي ينبغي بيانها هي كما يلي:
1- اعتبارات الماهيّة:
المشهور أنّ للماهيّة ثلاثة اعتبارات إذا قيست إلى ما هو خارج عن ذاتها، كما إذا قيست الرقبة إلى الإيمان عند الحكم عليها بحكمٍ ما كوجوب العتق، و هي:
1- أن تُعتبر الماهيّة مشروطة بذلك الأمر الخارج. و تُسمّى حينئذٍ «الماهيّة بشرط شيء» كما إذا كان يجب عتق الرقبة المؤمنة، أي بشرط كونها مؤمنة.
2- أن تُعتبر مشروطة بعدمه. و تُسمّى «الماهيّة بشرط لا» «1» كما إذا كان القصر واجباً في الصلاة على المسافر غير العاصي في سفره، أي بشرط عدم كونه عاصياً للَّه في سفره، فاخذ «عدم العصيان» قيداً في موضوع الحكم.
3- ألّا تُعتبر مشروطة بوجوده و لا بعدمه. و تُسمّى «الماهيّة لا بشرط» كوجوب الصلاة على الإنسان باعتبار كونه حرّاً مثلًا، فإنّ الحرّيّة غير معتبرة لا بوجودها و لا بعدمها في وجوب الصلاة، لأنّ الإنسان بالنظر إلى الحرّية في وجوب الصلاة عليه غير مشروط بالحرّية و لا بعدمها، فهو لا بشرط بالقياس إليها.
و يُسمّى هذا الاعتبار الثالث «اللابشرط القسمي» في قبال «اللابشرط المقسمي» الآتي ذكره. و إنّما سُمّي «قسميّاً» لأنّه قسم في مقابل القسمين الأوّليين، أي «البشرط شيء» و «البشرطلا». و هذا ظاهر لا بحث فيه.
______________________________
(1) (*) و قد تقال: «الماهيّة بشرط لا شيء» و يقصدون بذلك الماهيّة المجرّدة على وجهٍ يكون كلّ ما يقارنها يعتبر زائداً عليها.
أصول الفقه ( مظفر، محمد رضا - طبع انتشارات اسلامى )، ج1، ص: 229
ثمّ إنّ لهم اصطلاحين آخرين معروفين:
1- قولهم: «الماهيّة المهملة».
2- قولهم: «الماهيّة لا بشرط مقسمي».
أ فهذان اصطلاحان و تعبيران لمدلول واحد، أو هما اصطلاحان مختلفان في المعنى؟
و الّذي يلجئنا إلى هذا الاستفسار ما وقع من الارتباك في التعبير عند كثير من مشايخنا الأعلام، فقد يظهر من بعضهم أنّهما اصطلاحان لمعنىً واحد، كما هو ظاهر «كفاية الاصول» «1» تبعاً لبعض الفلاسفة الأجلّاء «2».
و لكن التحقيق لا يساعد على ذلك، بل هما اصطلاحان مختلفان.
و هذا جوابنا على الاستفسار.
و توضيح ذلك: أنّه من المتسالم عليه الّذي لا اختلاف فيه و لا اشتباه أمران:
الأوّل: أنّ المقصود من «الماهيّة المهملة»: الماهيّة من حيث هي، أي نفس الماهيّة بما هي مع قطع النظر عن جميع ما عداها، فيقتصر النظر على ذاتها و ذاتيّاتها.
الثاني: أنّ المقصود من الماهيّة «لا بشرط مقسمي»: الماهيّة المأخوذة لا بشرط الّتي تكون مقسماً للاعتبارات الثلاثة المتقدّمة، و هي- أي الاعتبارات الثلاثة- الماهيّة بشرط شيء، و بشرط لا، و لا بشرط قسمي.
و من هنا سُمّي «مقسماً».
و إذا ظهر ذلك، فلا يصحّ أن يدعى أنّ الماهيّة بما هي تكون بنفسها مقسماً للاعتبارات الثلاثة؛ و ذلك لأنّ الماهيّة لا تخلو من حالتين: و هما
(2) المراد به الفيلسوف المتألّه المحقّق السبزواري، راجع شرح منظومته: ص 21- 22.
أصول الفقه ( مظفر، محمد رضا - طبع انتشارات اسلامى )، ج1، ص: 230
أن يُنظر إليها بما هي هي غير مقيسة إلى ما هو خارج عن ذاتها، و أن يُنظر إليها مقيسة إلى ما هو خارج عن ذاتها، و لا ثالث لهما.
و في الحالة الاولى تُسمّى «الماهيّة المهملة» كما هو مسلَّم. و في الثانية لا يخلو حالها من أحد الاعتبارات الثلاثة. و على هذا فالملاحظة الاولى مباينة لجميع الاعتبارات الثلاثة و تكون قسيمة لها، فكيف يصحّ أن تكون مقسماً لها و لا يصحّ أن يكون الشيء مقسماً لاعتبارات نقيضه، لأنّ الماهيّة من حيث هي- كما اتّضح- معناها ملاحظتها غير مقيسة إلى الغير و الاعتبارات الثلاثة ملاحظتها مقيسةً إلى الغير.
على أنّ اعتبار الماهيّة غير مقيسة اعتبار ذهني له وجود مستقلّ في الذهن، فكيف يكون مقسماً لوجودات ذهنيّة اخرى مستقلّة، و المقسم يجب أن يكون موجوداً بوجود أحد أقسامه، و لا يُعقل أن يكون له وجود في مقابل وجودات الأقسام، و إلّا كان قسيماً لها لا مقسماً.
وعليه، فنحن نسلّم أنّ الماهيّة المهملة معناها اعتبارها «لا بشرط» و لكن ليس هو المصطلح عليه ب «اللابشرط المقسمي» فإنّ لهم في «لا بشرط»- على هذا- ثلاثة اصطلاحات:
1- لا بشرط أيّ شيءٍ خارجٍ عن الماهيّة و ذاتيّاتها، و هي الماهيّة بما هي هي الّتي يقصر فيها النظر على ذاتها و ذاتيّاتها، و هي الماهيّة المهملة.
2- لا بشرط مقسميّ، و هو الماهيّة الّتي تكون مقسماً للاعتبارات الثلاثة، أي الماهيّة المقيسة إلى ما هو خارج عن ذاتها. و المقصود بلا بشرط هنا لا بشرط شيء من الاعتبارات الثلاثة، أي لا بشرط اعتبار «البشرط شيء» و اعتبار «البشرطلا» و اعتبار «اللابشرط» لا أنّ المراد بلا بشرط هنا، لا بشرط مطلقاً من كلّ قيد و حيثيّة. و ليس هذا اعتباراً ذهنيّاً في قبال هذه الاعتبارات، بل ليس له وجود في عالم الذهن
أصول الفقه ( مظفر، محمد رضا - طبع انتشارات اسلامى )، ج1، ص: 231
إلّا بوجود واحد من هذه الاعتبارات و لا تعيّن له مستقلّ غير تعيّناتها، و إلّا لما كان مقسماً.
3- لا بشرط قسمي، و هو الاعتبار الثالث من اعتبارات الماهيّة المقيسة إلى ما هو خارج عن ذاتها.
فاتّضح أنّ «الماهيّة المهملة» شيء، و «اللابشرط المقسمي» شيء آخر. كما اتّضح أيضاً أنّ الثاني لا معنى لأن يجعل من اعتبارات الماهيّة على وجهٍ يثبت حكم للماهيّة باعتباره، أو يوضع له لفظ بحسبه.
2- اعتبار الماهيّة عند الحكم عليها:
و اعلم أنّ الماهيّة إذا حكم عليها، فإمّا أن يحكم عليها بذاتيّاتها، و إمّا أن يحكم عليها بأمرٍ خارجٍ عنها. و لا ثالث لهما.
و على الأوّل: فهو على صورتين:
1- أن يكون الحكم بالحمل الأوّلي، و ذلك في الحدود التامّة خاصّة.
2- أن يكون بالحمل الشائع، و ذلك عند الحكم عليها ببعض ذاتيّاتها، كالجنس وحده أو الفصل وحده. و على كلتا الصورتين فإنّ النظر إلى الماهيّة مقصور على ذاتيّاتها غير متجاوز فيه إلى ما هو خارج عنها. و هذا لا كلام فيه.
و على الثاني: فإنّه لا بدّ من ملاحظتها مقيسة إلى ما هو خارج عنها، فتخرج بذلك عن مقام ذاتها وحدها من حيث هي، أي عن تقرّرها الذاتي الّذي لا ينظر فيه إلّا إلى ذاتها و ذاتيّاتها. و هذا واضح، لأنّ قطع النظر عن كلّ ما عداها لا يجتمع مع الحكم عليها بأمرٍ خارجٍ عن ذاتها، لأنّهما متناقضان.
وعليه، لو حكم عليها بأمر خارج عنها و قد لوحظت مقيسة إلى هذا الغير، فلا بدّ أن تكون معتبرة بأحد الاعتبارات الثلاثة المتقدمة، إذ يستحيل
أصول الفقه ( مظفر، محمد رضا - طبع انتشارات اسلامى )، ج1، ص: 232
أن يخلو الواقع من أحدها- كما تقدّم-. و لا معنى لاعتبارها باللابشرط المقسمي، لما تقدّم أنّه ليس هو تعيّناً مستقلّاً في قبال تلك التعيّنات، بل هو مقسم لها.
ثمّ إنّ هذا الغير- أي الأمر الخارج عن ذاتها- الّذي لوحظت الماهيّة مقيسة إليه لا يخلو: إمّا أن يكون نفس المحمول أو شيئاً آخر، فإن كان هو المحمول فيتعيّن أن تؤخذ الماهيّة بالقياس إليه لا بشرط قسمي، لعدم صحّة الاعتبارين الآخرين:
أمّا أخذها بشرط شيء- أي بشرط المحمول- فلا يصحّ ذلك دائماً، لأنّه يلزم أن تكون القضيّة ضروريّة دائماً لاستحالة انفكاك المحمول عن الموضوع بشرط المحمول. على أنّ أخذ المحمول في الموضوع يلزم منه حمل الشيء على نفسه و تقدّمه على نفسه، و هو مستحيل، إلّا إذا كان هناك تغاير بحسب الاعتبار، كحمل «الحيوان الناطق» على «الإنسان» فإنّهما متغايران باعتبار الإجمال و التفصيل.
و أمّا أخذها بشرط لا- أي بشرط عدم المحمول- فلا يصحّ، لأنّه يلزم التناقض، فإنّ الإنسان بشرط عدم الكتابة يستحيل حمل الكتابة عليه.
و إن كان هذا الغير الخارج هو غير المحمول، فيجوز أن تكون الماهيّة حينئذ مأخوذة بالقياس إليه بشرط شيء كجواز تقليد المجتهد بشرط العدالة، أو بشرط لا كوجوب صلاة الظهر يوم الجمعة بشرط عدم وجود الإمام، أو لا بشرط كجواز السلام على المؤمن مطلقاً بالقياس إلى العدالة مثلًا، أي لا بشرط وجودها و لا بشرط عدمها. كما يجوز أن تكون مهملة غير مقيسة إلى شيء غير محمولها.
و لكن قد يستشكل في كلّ ذلك بأنّ هذه الاعتبارات الثلاثة اعتبارات
أصول الفقه ( مظفر، محمد رضا - طبع انتشارات اسلامى )، ج1، ص: 233
ذهنيّة، لا موطن لها إلّا الذهن، فلو تقيّدت الماهيّة بأحدها عند ما تؤخذ موضوعاً للحكم، للزم أن تكون جميع القضايا ذهنيّة عدا حمل الذاتيّات الّتي قد اعتبرت فيها الماهية من حيث هي، و لبطلت القضايا الخارجيّة و الحقيقيّة، مع أنّها عمدة القضايا، بل لاستحال في التكاليف الامتثال، لأنّ ما هو موطنه الذهن يمتنع إيجاده في الخارج.
و هذا الإشكال وجيه لو كان الحكم على الموضوع بما هو معتبر بأحد الاعتبارات الثلاثة على وجهٍ يكون الاعتبار قيداً في الموضوع أو نفسه هو الموضوع. و لكن ليس الأمر كذلك، فإنّ الموضوع في كلّ تلك القضايا هو ذات الماهيّة المعتبرة و لكن لا بقيد الاعتبار، بمعنى أنّ الموضوع في «بشرط شيءٍ» الماهيّةُ المقترنةُ بذلك الشيء، لا المقترنة بلحاظه و اعتباره، و في «بشرط لا» الماهيّة المقترنة بعدمه لا بلحاظ عدمه، و في «لا بشرط» الماهيّة غير الملاحظ معها الشيء و لا عدمه، لا الملاحظة بعدم لحاظ الشيء و عدمه، و إلّا لكانت الماهيّة معتبرة في الجميع بشرط شيء فقط، أي بشرط اللحاظ و الاعتبار.
نعم، هذه الاعتبارات هي المصحّحة لموضوعيّة الموضوع على الوجه اللازم الّذي يقتضيه واقع الحكم، لا أنّها مأخوذة قيداً فيه حتّى تكون جميع القضايا ذهنيّة. و لو كان الأمر كذلك لكان الحكم بالذاتيّات أيضاً قضيّة ذهنيّة، لأنّ اعتبار الماهيّة من حيث هي أيضاً اعتبار ذهنيّ.
و مما يقرّب ما قلناه: من كون الاعتبار مصحّحاً لموضوعيّة الموضوع لا مأخوذاً فيه مع أنّه لا بدّ منه عند الحكم بشيءٍ، أنّ كلّ موضوع و محمول لا بدّ من تصوّره في مقام الحمل و الا لاستحال الحمل، و لكن هذه اللابدّية لا تجعل التصوّر قيداً للموضوع أو المحمول، و إنّما التصوّر هو المصحّح للحمل و بدونه لا يمكن الحمل.
أصول الفقه ( مظفر، محمد رضا - طبع انتشارات اسلامى )، ج1، ص: 234
و كذلك عند استعمال اللفظ في معناه لا بدّ من تصوّر اللفظ و المعنى.
و لكن التصوّر ليس قيداً للّفظ، و لا للمعنى، فليس اللفظ دالّاً بما هو متصوّر في الذهن و إن كانت دلالته في ظرف التصوّر، و لا المعنى مدلولًا بما هو متصوّر و ان كانت مدلوليّته في ظرف تصوّره. و يستحيل أن يكون التصوّر قيداً للّفظ أو المعنى؛ و مع ذلك لا يصحّ الاستعمال بدونه، فالتصوّر مقوّم للاستعمال لا للمستعمل فيه و لا للّفظ. و كذلك هو مقوّم للحمل و مصحّح له، لا للمحمول، و لا للمحمول عليه.
و على هذا يتّضح ما نحن بصدد بيانه، و هو أنّه إذا أردنا أن نضع اللفظ للمعنى لا يعقل أن نقصر اللحاظ على ذات المعنى بما هو هو مع قطع النظر عن كلّ ما عداه، لأنّ الوضع من المحمولات الواردة عليه، فلا بدّ أن يلاحظ المعنى حينئذٍ مقيساً إلى ما هو خارج عن ذاته، فقد يؤخذ «بشرط شيء» و قد يؤخذ «بشرط لا» و قد يؤخذ «لا بشرط». و لا يلزم أن يكون الموضوع له هو المعنى بما له من الاعتبار الذهنيّ، بل الموضوع له نفس المعتبر و ذاته لا بما هو معتبر، و الاعتبار مصحّح للوضع.
3- الأقوال في المسألة:
قلنا فيما سبق: إنّ المعروف عن قدماء الأصحاب أنّهم يقولون بأنّ أسماء الأجناس موضوعة للمعاني المطلقة على وجهٍ يكون الإطلاق قيداً للموضوع له، فلذلك ذهبوا إلى أنّ استعماله في المقيد مجاز، و قد صُوّر هذا القول على نحوين:
الأوّل: أنّ الموضوع له المعنى بشرط الإطلاق على وجهٍ يكون اعتباره من باب اعتباره بشرط شيء.
الثاني: أنّ الموضوع له المعنى المطلق، أي المعتبر لا بشرط.
و قد اورد على هذا القول بتصويريه- كما تقدّم- بأنّه يلزم على
أصول الفقه ( مظفر، محمد رضا - طبع انتشارات اسلامى )، ج1، ص: 235
كلا التصويرين أن يكون الموضوع له موجوداً ذهنيّاً، فتكون جميع القضايا ذهنيّة، فلو جُعل اللفظ بما له من معناه موضوعاً في القضيّة الخارجيّة أو الحقيقيّة وجب تجريده عن هذا القيد الذهني، فيكون مجازاً دائماً في القضايا المتعارفة. و هذا يكذّبه الواقع.
و لكن نحن قلنا: إنّ هذا الإيراد إنّما يتوجّه إذا جُعل الاعتبار قيداً في الموضوع له. أمّا لو جُعل الاعتبار مصحّحاً للوضع فلا يلزم هذا الإيراد كما سبق.
هذا قول القدماء، و أمّا المتأخّرون ابتداءً من سلطان العلماء رحمه الله فإنّهم جميعاً اتّفقوا على أنّ الموضوع له ذات المعنى- لا المعنى المطلق- حتّى لا يكون استعمال اللفظ في المقيّد مجازاً. و هذا القول بهذا المقدار من البيان واضح.
و لكن العلماء من أساتذتنا اختلفوا في تأدية هذا المعنى بالعبارات الفنيّة ممّا أوجب الارتباك على الباحث و إغلاق طريق البحث في المسألة. لذلك التجأنا إلى تقديم المقدّمتين السابقتين لتوضيح هذه الاصطلاحات و التعبيرات الفنّية الّتي وقعت في عباراتهم. و اختلفوا فيها على أقوال:
1- منهم من قال: إنّ الموضوع له هو الماهيّة المهملة المبهمة، أي الماهيّة من حيث هي «1».
2- و منه من قال: إنّ الموضوع له الماهيّة المعتبرة باللابشرط المقسمي «2».
______________________________
(1) لم نظفر به في كلام من تقدّم على المؤلّف قدس سره، لكن قال به السيّد الخوئي قدس سره على ما في المحاضرات: ج 5 ص 345.
(2) قاله سلطان العلماء على ما نسب إليه صريحاً في فوائد الاصول: ج 2 ص 572، لكنّا لم نجد التصريح به في حاشيته، راجع ص 48 ذيل قول صاحب المعالم: «فلأنّه جمع بين الدليلين ...».
أصول الفقه ( مظفر، محمد رضا - طبع انتشارات اسلامى )، ج1، ص: 236
3- و منه من جعل التعبير الأوّل نفس التعبير الثاني «1».
4- و منهم من قال: إنّ الموضوع له ذات المعنى لا الماهيّة المهملة و لا الماهيّة المعتبرة باللابشرط المقسمي، و لكنّه ملاحظ حين الوضع باعتبار اللابشرط القسمي، على أن يكون هذا الاعتبار مصحّحاً للموضوع لا قيداً للموضوع له «2». وعليه يكون هذا القول نفس قول القدماء على التصوير الثاني، إلّا أنّه لا يلزم منه أن يكون استعمال اللفظ في المقيّد مجازاً. و لكن المنسوب إلى القدماء أنّهم يقولون: بأنّه مجاز في المقيّد، فينحصر قولهم في التصوير الأوّل على تقدير صحّة النسبة إليهم.
و يتّضح حال هذه التعبيرات أو الأقوال من المقدّمتين السابقتين، فإنّه يعرف منهما:
أوّلًا: أنّ «الماهيّة بما هي هي» غير الماهيّة باعتبار اللابشرط المقسمي، لأنّ النظر فيها على الأوّل مقصور على ذاتها و ذاتيّاتها. بخلافه على الثاني، إذ تلاحظ مقيسة إلى الغير. و بهذا يظهر بطلان القول الثالث.
ثانياً: أنّ الوضع حكم من الأحكام، و هو محمول على الماهيّة خارج عن ذاتها و ذاتيّاتها، فلا يعقل أن يلاحظ الموضوع له بنحو الماهيّة بما هي هي، لأنّه لا تجتمع ملاحظتها مقيسة إلى الغير، و ملاحظتها مقصورة على ذاتها و ذاتيّاتها. و بهذا يظهر بطلان القول الأوّل.
ثالثاً: أنّ «اللابشرط المقسمي» ليس اعتباراً مستقلّاً في قبال الاعتبارات الثلاثة، لأنّ المفروض أنّه مقسم لها، و لا تحقّق للمقسم إلّا بتحقّق أحد أنواعه كما تقدّم، فكيف يتصوّر أن يحكم باعتبار اللابشرط المقسمي؟ بل لا معنى لهذا على ما تقدّم توضيحه. و بهذا يظهر بطلان القول الثاني.
______________________________
(1) صرّح به في فوائد الاصول: ج 2 ص 572.
(2) لم نعثر على قائله بالقيد المذكور.
أصول الفقه ( مظفر، محمد رضا - طبع انتشارات اسلامى )، ج1، ص: 237
فتعيّن القول الرابع، و هو أنّ الموضوع له ذات المعنى، و لكنّه حين الوضع يلاحظ المعنى بنحو اللابشرط القسمي. و هو يطابق القول المنسوب إلى القدماء على التصوير الثاني كما أشرنا إليه، فلا اختلاف.
و يقع التصالح بين القدماء و المتأخّرين إذا لم يثبت عن القدماء أنّهم يقولون أنّه مجاز في المقيَّد، و هو مشكوك فيه.
بيان هذا القول الرابع: أنّ ذات المعنى لمّا أراد الواضع أن يحكم عليه بوضع لفظٍ له، فمعناه: أنّه قد لاحظة مقيساً إلى الغير، فهو في هذا الحال لا يخرج عن كونه معتبراً بأحد الاعتبارات الثلاثة للماهيّة. و إذ يراد تسرية الوضع لذات المعنى بجميع أطواره و حالاته و قيوده لا بدّ أن يعتبر على نحو اللابشرط القسمي. و لا منافاة بين كون الموضوع له ذات المعنى و بين كون ذات المعنى ملحوظاً في مرحلة الوضع بنحو اللابشرط القسمي، لأنّ هذا اللحاظ و الاعتبار الذهني- كما تقدّم- صِرف طريق إلى الحكم على ذات المعنى، و هو المصحّح للموضوع له. و حين الاستعمال في ذات المعنى لا يجب أن يكون المعنى ملحوظاً بنحو اللابشرط القسمي، بل يجوز أن يعتبر بأيّ اعتبارٍ كان ما دام الموضوع له ذات المعنى، فيجوز في مرحلة الاستعمال أن يقصر النظر على نفسه و يلحظه بما هو هو، و يجوز أن يلحظه مقيساً إلى الغير فيعتبر بأحد الاعتبارات الثلاثة. و ملاحظة ذات المعنى بنحو اللابشرط القسمي حين الوضع تصحيحاً له لا توجب أن تكون قيداً للموضوع له.
وعليه، فلا يكون الموضوع له موجوداً ذهنيّاً إذا كان له اعتبار اللابشرط القسمي حين الوضع، لأنّه ليس الموضوع له هو المعتبر بما هو معتبر، بل ذات المعتبر. كما أنّ استعماله في المقيّد لا يكون مجازاً لما تقدّم أنّه يجوز أن يلحظ ذات المعنى حين الاستعمال مقيسا إلى الغير، فيعتبر بأحد الاعتبارات الثلاثة الّتي منها اعتباره بشرط شيء، و هو المقيَّد.
أصول الفقه ( مظفر، محمد رضا - طبع انتشارات اسلامى )، ج1، ص: 238
المسألة الخامسة مقدّمات الحكمة
لمّا ثبت أنّ الألفاظ موضوعة لذات المعاني، لا للمعاني بما هي مطلقة، فلا بدّ في إثبات أنّ المقصود من اللفظ هو المطلق لتسرية الحكم إلى تمام الأفراد و المصاديق من قرينة خاصّة، أو قرينة عامّة تجعل الكلام في نفسه ظاهراً في إرادة الاطلاق.
و هذه القرينة العامّة إنّما تحصل إذا توفّرت جملة مقدّمات تُسمّى «مقدّمات الحكمة» و المعروف أنّها ثلاث:
الاولى: إمكان الإطلاق و التقييد، بأن يكون متعلّق الحكم أو موضوعه قبل فرض تعلّق الحكم به قابلًا للانقسام، فلو لم يكن قابلًا للقسمة إلّا بعد فرض تعلّق الحكم به، كما في باب قصد القربة، فإنّه يستحيل فيه التقييد فيستحيل فيه الإطلاق، كما تقدّم في بحث التعبّدي و التوصّلي «1». و هذا واضح.
الثانية: عدم نصب قرينة على التقييد لا متّصلة و لا منفصلة، لأنّه مع القرينة المتّصلة لا ينعقد ظهور للكلام إلّا في المقيّد، و مع المنفصلة ينعقد للكلام ظهور في الإطلاق، و لكنّه يسقط عن الحجّية، لقيام القرينة المقدّمة عليه و الحاكمة، فيكون ظهوره ظهوراً بدويّاً، كما قلنا في تخصيص العموم بالخاصّ المنفصل، و لا تكون للمطلق الدلالة التصديقيّة الكاشفة عن مراد المتكلّم، بل الدلالة التصديقيّة إنّما هي على إرادة التقييد واقعاً.
الثالثة: أن يكون المتكلّم في مقام البيان، فإنّه لو لم يكن في هذا المقام بأن كان في مقام التشريع فقط أو كان في مقام الإهمال إمّا رأساً أو لأنّه في صدد بيان حكم آخر، فيكون في مقام الإهمال من جهة مورد
______________________________
(1) راجع ص 117.
أصول الفقه ( مظفر، محمد رضا - طبع انتشارات اسلامى )، ج1، ص: 239
الإطلاق- و سيأتي مثاله- فإنّه في كلّ ذلك لا ينعقد للكلام ظهور في الإطلاق.
أمّا في مقام التشريع- بأن كان في مقام بيان الحكم لا للعمل به فعلًا بل لمجرّد تشريعه- فيجوز ألّا يبيّن تمام مراده، مع أنّ الحكم في الواقع مقيّد بقيد لم يذكره في بيانه انتظاراً لمجيء وقت العمل، فلا يحرز أنّ المتكلّم في صدد بيان جميع مراده.
و كذلك إذا كان المتكلّم في مقام الإهمال رأساً، فإنّه لا ينعقد معه ظهور في الإطلاق، كما لا ينعقد للكلام ظهور في أيّ مرام.
و مثله ما إذا كان في صدد حكم آخر، مثل قوله تعالى: «فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ» «1» الوارد في مقام بيان حلّ صيد الكلاب المعلَّمة من جهة كونه ميتة، و ليس هو في مقام بيان مواضع الإمساك أنّها تتنجّس فيجب تطهيرها أم لا، فلم يكن هو في مقام بيان هذه الجهة، فلا ينعقد للكلام ظهور في الإطلاق من هذه الجهة.
و لو شُكّ في أنّ المتكلّم في مقام البيان أو الإهمال، فإنّ الأصل العقلائي يقتضي بأن يكون في مقام البيان، فإنّ العقلاء كما يحملون المتكلّم على أنّه ملتفت غير غافل و جادّ غير هازل عند الشك في ذلك، كذلك يحملونه على أنّه في مقام البيان و التفهيم، لا في مقام الإهمال و الإيهام.
و إذا تمّت هذه المقدّمات الثلاث، فإنّ الكلام المجرّد عن القيد يكون ظاهراً في الإطلاق و كاشفاً عن أنّ المتكلّم لا يريد المقيّد، و إلّا لو كان قد أراده واقعاً لكان عليه البيان، و المفروض: أنّه حكيم ملتفت جادّ غير هازل و هو في مقام البيان، و لا مانع من التقييد حسب الفرض، و إذا لم يبيّن
______________________________
(1) المائدة: 4.
أصول الفقه ( مظفر، محمد رضا - طبع انتشارات اسلامى )، ج1، ص: 240
و لم يقيّد كلامه فيُعلم أنّه أراد الإطلاق و إلّا لكان مخلًّا بغرضه.
فاتّضح من ذلك أنّ كلّ كلامٍ صالحٍ للتقييد و لم يقيّده المتكلّم مع كونه حكيماً ملتفتاً جادّاً و في مقام البيان و التفهيم، فإنّه يكون ظاهراً في الإطلاق و يكون حجّة على المتكلّم و السامع.
تنبيهان:
القدر المتيقّن في مقام التخاطب:
الأوّل: إنّ الشيخ المحقّق صاحب الكفاية قدس سره أضاف إلى مقدّمات الحكمة مقدّمة اخرى غير ما تقدّم، و هي ألّا يكون هناك قدر متيقّن في مقام التخاطب و المحاورة، و إن كان لا يضرّ وجود القدر المتيقّن خارجاً في التمسّك بالإطلاق «1». و مرجع ذلك إلى أنّ وجود القدر المتيقّن في مقام المحاورة يكون بمنزلة القرينة اللفظيّة على التقييد، فلا ينعقد للّفظ ظهور في الإطلاق مع فرض وجوده.
و لتوضيح البحث نقول: إنّ كون المتكلّم في مقام البيان يتصوّر على نحوين:
1- أن يكون المتكلّم في صدد بيان تمام موضوع حكمه، بأن يكون غرض المتكلّم يتوقّف على أن يبيّن للمخاطب و يُفهمه ما هو تمام الموضوع و أنّ ما ذكره هو تمام موضوعه لا غيره.
2- أن يكون المتكلّم في صدد بيان تمام موضوع الحكم واقعاً. و لو لم يفهم المخاطب أنّه تمام الموضوع، فليس له غرض إلّا بيان ذات موضوع الحكم بتمامه حتّى يحصل من المكلّف الامتثال و إن لم يفهم المكلّف تفصيل الموضوع بحدوده.
أصول الفقه ( مظفر، محمد رضا - طبع انتشارات اسلامى )، ج1، ص: 241
فإن كان المتكلّم في مقام البيان على النحو الأوّل، فلا شكّ في أنّ وجود القدر المتيقّن في مقام المحاورة لا يضرّ في ظهور المطلق في إطلاقه، فيجوز التمسّك بالإطلاق، لأنّه لو كان القدر المتيقّن المفروض هو تمام الموضوع لوجب بيانه، و تركُ البيان اتّكالًا على وجود القدر المتيقّن إخلال بالغرض، لأنّه لا يكون مجرّد ذلك بياناً لكونه تمام الموضوع.
و إن كان المتكلّم في مقام البيان على النحو الثاني، فإنّه يجوز أن يكتفي بوجود القدر المتيقّن في مقام التخاطب لبيان تمام موضوعه واقعاً ما دام أنّه ليس له غرض إلّا أن يفهم المخاطب ذات الموضوع بتمامه لا بوصف التمام، أي أن يفهم ما هو تمام الموضوع بالحمل الشائع. و بذلك يحصل التبليغ للمكلّف و يمتثل في الموضوع الواقعي، لأنّه هو المفهوم عنده في مقام المحاورة. و لا يجب في مقام الامتثال أن يفهم أنّ الّذي فعله هو تمام الموضوع أو الموضوع أعمّ منه و من غيره.
مثلًا، لو قال المولى: «اشتر اللحم» و كان القدر المتيقّن في مقام المحاورة هو لحم الغنم و كان هو تمام موضوعه واقعاً، فإنّ وجود هذا القدر المتيقّن كافٍ لانبعاث المكلّف و شرائه للحم الغنم، فيحصل موضوع حكم المولى. فلو أنّ المولى ليس له غرض أكثر من تحقيق موضوع حكمه، فيجوز له الاعتماد على القدر المتيقّن لتحقيق غرضه و لبيانه، و لا يحتاج إلى أن يبيّن أنّه تمام الموضوع.
أمّا لو كان غرضه أكثر من ذلك بأن كان غرضه أن يفهم المكلّف تحديد الموضوع بتمامه، فلا يجوز له الاعتماد على القدر المتيقّن، و إلّا لكان مخلًّا بغرضه، فإذا لم يبيّن و أطلق الكلام، استكشف أنّ تمام موضوعه هو المطلق الشامل للقدر المتيقّن و غيره.
إذا عُرف هذا التقرير، فينبغي أن نبحث عمّا ينبغي للآمر أن يكون بصدد بيانه، هل أنّه على النحو الأوّل أو الثاني؟
أصول الفقه ( مظفر، محمد رضا - طبع انتشارات اسلامى )، ج1، ص: 242
و الّذي يظهر من الشيخ صاحب الكفاية: أنّه لا ينبغي من الآمر أكثر من النحو الثاني، نظراً إلى أنّه إذا كان بصدد بيان موضوع حكمه حقيقة كفاه ذلك لتحصيل مطلوبه و هو الامتثال، و لا يجب عليه مع ذلك بيان أنّه تمام الموضوع.
نعم، إذا كان هناك قدر متيقّن في مقام المحاورة و كان تمام الموضوع هو المطلق، فقد يظنّ المكلّف أنّ القدر المتيقّن هو تمام الموضوع و أنّ المولى أطلق كلامه اعتماداً على وجوده، فإنّ المولى دفعاً لهذا الوهم يجب عليه أن يبيّن أنّ المطلق هو تمام موضوعه، و إلّا كان مخلًّا بغرضه.
و من هذا ينتج: أنّه إذا كان هناك قدر متيقّن في مقام المحاورة و أطلق المولى و لم يبيّن أنّه تمام الموضوع، فإنّه يُعرف منه أنّ موضوعه هو القدر المتيقّن.
هذا خلاصة ما ذهب إليه في الكفاية مع تحقيقه و توضيحه. و لكن شيخنا النائيني رحمه الله- على ما يظهر من التقريرات- لم يرتضه «1».
و الأقرب إلى الصحّة ما في الكفاية. و لا نطيل بذكر هذه المناقشة و الجواب عنها.
الانصراف:
التنبيه الثاني: اشتهر أنّ انصراف الذهن من اللفظ إلى بعض مصاديق معناه أو بعض أصنافه يمنع من التمسّك بالإطلاق، و إن تمّت مقدّمات الحكمة، مثل انصراف المسح في آيتي التيمّم و الوضوء إلى المسح باليد و بباطنها خاصّة.
و الحقّ أن يقال: إنّ انصراف الذهن إن كان ناشئاً من ظهور اللفظ في المقيّد بمعنى أنّ نفس اللفظ ينصرف منه المقيّد لكثرة استعماله فيه و شيوع
______________________________
(1) فوائد الاصول: ج 2 ص 575.
أصول الفقه ( مظفر، محمد رضا - طبع انتشارات اسلامى )، ج1، ص: 243
إرادته منه، فلا شكّ في أنّه حينئذٍ لا مجال للتمسّك بالإطلاق، لأنّ هذا الظهور يجعل اللفظ بمنزلة المقيّد بالتقييد اللفظي، و معه لا ينعقد للكلام ظهور في الإطلاق حتّى يتمسّك بأصالة الإطلاق الّتي هي مرجعها في الحقيقة إلى أصالة الظهور.
و أمّا إذا كان الانصراف غير ناشئ من اللفظ بل كان من سبب خارجي، كغلبة وجود الفرد المنصرف إليه أو تعارف الممارسة الخارجيّة له، فيكون مألوفاً قريباً إلى الذهن من دون أن يكون للّفظ تأثير في هذا الانصراف،- كانصراف الذهن من لفظ «الماء» في العراق مثلًا إلى ماء دجلة أو الفرات- فالحقّ أنّه لا أثر لهذا الانصراف في ظهور اللفظ في إطلاقه، فلا يمنع من التمسّك بأصالة الإطلاق، لأنّ هذا الانصراف قد يجتمع مع القطع بعدم إرادة المقيّد بخصوصه من اللفظ؛ و لذا يُسمّى هذا الانصراف باسم «الانصراف البدوي» لزواله عند التأمّل و مراجعة الذهن.
و هذا كلّه واضح لا ريب فيه. و إنّما الشأن في تشخيص الانصراف أنّه من أيّ النحوين، فقد يصعب التمييز أحياناً بينهما للاختلاط على الإنسان في منشأ هذا الانصراف. و ما أسهل دعوى الانصراف على لسان غير المتثبّت! و قد لا يسهل إقامة الدليل على أنّه من أيّ نوعٍ.
فعلى الفقيه أن يتثبّت في مواضع دعوى الانصراف، و هو يحتاج إلى ذوقٍ عالٍ و سليقةٍ مستقيمة. و قلّما تخلو آية كريمة أو حديث شريف في مسألة فقهيّة عن انصرافات تُدّعى. و هنا تظهر قيمة التضلّع باللغة و فقهها و آدابها. و هو باب يكثر الابتلاء به، و له الأثر الكبير في استنباط الأحكام من أدلّتها.
أ لا ترى أنّ المسح في الآيتين ينصرف إلى المسح باليد، و كون هذا الانصراف مستنداً إلى اللفظ لا شكّ فيه، و ينصرف أيضاً إلى المسح
أصول الفقه ( مظفر، محمد رضا - طبع انتشارات اسلامى )، ج1، ص: 244
بخصوص باطن اليد. و لكن قد يُشكّ في كون هذا الانصراف مستنداً إلى اللفظ، فإنّه غير بعيد أنّه ناشئٌ من تعارف المسح بباطن اليد لسهولته، و لأنّه مقتضى طبع الإنسان في مسحه، و ليس له علاقة باللفظ؛ و لذا أنّ جملة من الفقهاء أفتوا بجواز المسح بظهر اليد عند تعذّر المسح بباطنها تمسّكاً بإطلاق الآية، و لا معنى للتمسّك بالإطلاق لو كان للّفظ ظهور في المقيّد. و أمّا عدم تجويزهم للمسح بظاهر اليد عند الاختيار فلعلّه للاحتياط، إذ أنّ المسح بالباطن هو القدر المتيقّن، و المفروض حصول الشكّ في كون هذا الانصراف بدويّاً فلا يطمئنّ كلّ الاطمئنان بالتمسّك بالإطلاق عند الاختيار. و طريق النجاة هو الاحتياط بالمسح بالباطن.
المسألة السادسة المطلق و المقيّد المتنافيان
معنى التنافي بين المطلق و المقيّد: أنّ التكليف في المطلق لا يجتمع و التكليف في المقيّد مع فرض المحافظة على ظهورهما معاً، أي أنّهما يتكاذبان في ظهورهما، مثل قول الطبيب مثلًا: «اشرب لبناً» ثمّ يقول:
«اشرب لبناً حُلواً» و ظاهر الثاني تعيين شرب الحُلو منه. و ظاهر الأوّل جواز شرب غير الحُلو حسب إطلاقه.
و إنّما يتحقّق التنافي بين المطلق و المقيّد إذا كان التكليف فيهما واحداً- كالمثال المتقدّم- فلا يتنافيان لو كان التكليف في أحدهما معلّقاً على شيءٍ و في الآخر معلّقاً على شيءٍ آخر، كما إذا قال الطبيب في المثال:
«إذا أكلت فاشرب لبناً، و عند الاستيقاظ من النوم اشرب لبناً حلواً».
و كذلك لا يتنافيان لو كان التكليف في المطلق إلزاميّاً و في المقيّد على نحو الاستحباب، ففي المثال لو وجب أصل شرب اللبن فإنّه لا ينافيه رجحان الحُلو منه باعتباره أحد أفراد الواجب. و كذا لا يتنافيان لو فُهم
أصول الفقه ( مظفر، محمد رضا - طبع انتشارات اسلامى )، ج1، ص: 245
من التكليف في المقيّد أنّه تكليف في وجودٍ ثانٍ غير المطلوب من التكليف الأوّل، كما إذا فُهم في المقيّد في المثال طلب شرب اللبن الحُلو ثانياً بعد شرب لبنٍ ما.
إذا فهمت ما سقناه لك من معنى التنافي، فنقول: لو ورد في لسان الشارع مطلق و مقيّد متنافيان سواء تقدّم أو تأخّر، و سواء كان مجيء المتأخّر بعد وقت العمل بالمتقدّم أو قبله، فإنّه لا بدّ من الجمع بينهما إمّا بالتصرّف في ظهور المطلق فيحمل على المقيّد، أو بالتصّرف في المقيّد على وجه لا ينافي الإطلاق، فيبقى ظهور المطلق على حاله.
و ينبغي البحث هنا في أنّه أيّ التصرّفين أولى بالأخذ؟ فنقول: هذا يختلف باختلاف الصور فيهما، فإنّ المطلق و المقيّد إمّا أن يكونا مختلفين في الإثبات أو النفي، و إمّا أن يكونا متّفقين.
الأوّل: أن يكونا مختلفين، فلا شكّ حينئذٍ في حمل المطلق على المقيّد، لأنّ المقيّد يكون قرينة على المطلق، فإذا قال: «اشرب اللبن» ثمّ قال: «لا تشرب اللبن الحامض» فإنّه يفهم منه أنّ المطلوب هو شرب اللبن الحُلو. و هذا لا يفرق فيه بين أن يكون إطلاق المطلق بدليّاً، نحو قوله: «أعتق رقبة» و بين أن يكون شموليّاً مثل قوله: «في الغنم زكاة» المقيّد بقوله: «ليس في الغنم المعلوفة زكاة».
الثاني: أن يكونا متّفقين، و له مقامان: المقام الأوّل أن يكون الإطلاق بدليّاً، و المقام الثاني أن يكون شموليّاً.
فإن كان الإطلاق بدليّاً، فإنّ الأمر فيه يدور بين التصرّف في ظاهر المطلق بحمله على المقيّد، و بين التصرّف في ظاهر المقيّد. و المعروف أنّ التصرّف الأوّل هو الأولى، لأنّه لو كانا مثبتين مثل قوله: «أعتق رقبة مؤمنة» فإنّ المقيّد ظاهر في أنّ الأمر فيه للوجوب التعييني، فالتصرّف فيه
أصول الفقه ( مظفر، محمد رضا - طبع انتشارات اسلامى )، ج1، ص: 246
إمّا بحمله على الاستحباب- أي أنّ الأمر بعتق الرقبة المؤمنة بخصوصها باعتبار أنّها أفضل الأفراد- أو بحمله على الوجوب التخييري، أي أنّ الأمر بعتق الرقبة المؤمنة باعتبار أنّها أحد أفراد الواجب، لا لخصوصيّة فيها حتّى خصوصيّة الأفضليّة.
و هذان التصرّفان و إن كانا ممكنين، لكن ظهور المقيّد في الوجوب التعييني مقدّم على ظهور المطلق في إطلاقه، لأنّ المقيد صالح لأن يكون قرينة للمطلق، و لعلّ المتكلّم اعتمد عليه في بيان مرامه و لو في وقت آخر، لا سيّما مع احتمال أنّ المطلق الوارد كان محفوفاً بقرينة متّصلة غابت عنّا، فيكون المقيّد كاشفاً عنها.
و إن كان الإطلاق شموليّاً، مثل قوله: «في الغنم زكاة» و قوله: «في الغنم السائمة زكاة» فلا تتحقّق المنافاة بينهما حتّى يجب التصرّف في أحدهما، لأنّ وجوب الزكاة في الغنم السائمة بمقتضى الجملة الثانية لا ينافي وجوب الزكاة في غير السائمة إلّا على القول بدلالة التوصيف على المفهوم، و قد عرفت أنّه لا مفهوم للوصف «1». وعليه، فلا منافاة بين الجملتين لنرفع اليد بها عن إطلاق المطلق.
***______________________________
(1) راجع ص 171.
أصول الفقه ( مظفر، محمد رضا - طبع انتشارات اسلامى )، ج1، ص: 248
حوزوی کتب
اصول الفقہ حصہ اول
تعريف علم الاصول:
المقدّمة
- 2 من الواضع؟
- 3 الوضع تعيينىٌّ و تعيّنيٌ
- 4 أقسام الوضع
- 6 وقوع الوضع العامّ و الموضوع له الخاصّ و تحقيق المعنى الحرفي
- 7- الاستعمال حقيقيٌّ و مجازيٌ
- 8 الدلالة تابعة للإرادة
- 9 الوضع شخصيٌّ و نوعيٌ
- 10 وضع المركَّبات
- 11- الحقيقة و المجاز
- 12 الاصول اللفظيّة تمهيد:
- 13- الترادف و الاشتراك
استعمال اللفظ في أكثر من معنى:
- 14 الحقيقة الشرعيّة
الصحيح و الأعمّ
المقصد الأوّل: مباحث الألفاظ
الباب الأوّل: المشتقّ
- 2- جريان النزاع في اسم الزمان
- 3 اختلاف المشتقّات من جهة المبادئ
- 4 استعمال المشتقّ بلحاظ حال التلبّس حقيقة
الباب الثاني: الأوامر
المبحث الثاني: صيغة الأمر
الخاتمة: في تقسيمات الواجب
الباب الثالث: النواهي
الباب الرابع: المفاهيم
الأوّل مفهوم الشرط
الثاني مفهوم الوصف
الثالث مفهوم الغاية
الرابع مفهوم الحصر
الخامس مفهوم العدد
السادس مفهوم اللقب
خاتمة في دلالة الاقتضاء و التنبيه و الإشارة
الباب الخامس: العامّ و الخاصّ
المسألة الاولى معنى المطلق و المقيّد
الباب السابع: المجملُ و المبيّن
اصول الفقہ حصہ اول
المسألة الاولى معنى المطلق و المقيّد
و هذا التعريف قديم بحثوا عنه كثيراً و أحصوا عليه عدّة مؤاخذات يطول شرحها. و لا فائدة في ذكرها ما دام أنّ الغرض من مثل هذا التعريف هو تقريب المعنى الّذي وُضع له اللفظ، لأنّه من التعاريف اللفظية.
و الظاهر أنّه ليس للُاصوليّين اصطلاح خاصّ في لفظي «المطلق» و «المقيَّد» بل هما مستعملان بما لهما من المعنى في اللغة، فإنّ المطلق مأخوذ من الإطلاق و هو الإرسال و الشيوع، و يقابله التقييد تقابلَ الملكة و عدمها، و الملكة: التقييد، و الإطلاق: عدمها. و قد تقدّم (ص 117).
غاية الأمر: أنّ إرسال كلّ شيء بحسبه و ما يليق به. فإذا نُسب الإطلاق و التقييد إلى اللفظ- كما هو المقصود في المقام- فإنّما يراد ذلك بحسب ما له من دلالة على المعنى، فيكونان وصفين للّفظ باعتبار المعنى.
و من موارد استعمال لفظ «المطلق» نستطيع أن نأخذ صورة تقريبيّة لمعناه، فمثلًا عند ما نعرف أنّ العَلَم الشخصي و المعرَّف بلام العهد لا يسمّيان مطلقين باعتبار معناهما- لأنّه لا شيوع و لا إرسال في شخص معيَّن- لا ينبغي أن نظنّ أنّه لا يجوز أن يُسمّى العَلَمُ الشخصي مطلقاً، فإنّه
أصول الفقه ( مظفر، محمد رضا - طبع انتشارات اسلامى )، ج1، ص: 225 إذا قال الآمر: «أكرم محمّداً» و عرفنا أنّ لمحمّد أحوالًا مختلفة و لم يقيّد الحكم بحال من الأحوال نستطيع أن نعرف أنّ لفظ «محمّد» هنا أو هذا الكلام بمجموعه يصحّ أن نصفه بالإطلاق بلحاظ الأحوال و إن لم يكن له شيوع باعتبار معناه الموضوع له. إذاً للأعلام الشخصيّة و المعرّف بلام العهد إطلاق، فلا يختصّ المطلق ب «ما له معنىً شائعٌ في جنسه» كاسم الجنس و نحوه.
و كذلك عند ما نعرف أنّ العامّ لا يُسمّى مطلقاً، فلا ينبغي أن نظنّ أنّه لا يجوز أن يُسمّى مطلقاً أبداً، لأنّا نعرف أنّ ذلك إنّما هو بالنسبة إلى أفراده، أمّا بالنسبة إلى أحوال أفراده غير المفردة، فإنّه لا مضايقة في أن نُسمّيه مطلقاً. إذاً لا مانع من شمول تعريف المطلق- المتقدّم- و هو «ما دلّ على معنىً شائعٍ في جنسه» للعامّ باعتبار أحواله، لا باعتبار أفراده.
و على هذا، فمعنى المطلق: هو «شيوع اللفظ وسعته باعتبار ما له من المعنى و أحواله» و لكن لا على أن يكون ذلك الشيوع مستعملًا فيه اللفظ كالشيوع المستفاد من وقوع النكرة في سياق النفي و إلّا كان الكلام عامّاً لا مطلقاً.
المسألة الثانية الإطلاق و التقييد متلازمان
أشرنا إلى أنّ التقابل بين الإطلاق و التقييد من باب تقابل الملكة و عدمها، لأنّ الإطلاق هو عدم التقييد فيما من شأنه أن يقيّد. فيتبع الإطلاقُ التقييدَ في الإمكان، أي أنّه إذا أمكن التقييد في الكلام و في لسان الدليل أمكن الإطلاق و لو امتنع استحال الإطلاق. بمعنى أنّه لا يمكن فرض استكشاف الإطلاق و إرادته من كلام المتكلّم في موردٍ لا يصحّ التقييد. بل يكون مثل هذا الكلام لا مطلقاً و لا مقيّداً، و إن كان في الواقع أصول الفقه ( مظفر، محمد رضا - طبع انتشارات اسلامى )، ج1، ص: 226
أنّ المتكلّم لا بدّ أن يريد أحدهما. و قد تقدّم مثاله في بحث التوصّلي و التعبّدي (ص 121) إذ قلنا: إنّ امتناع تقييد الأمر بقصد الامتثال يستلزم امتناع إطلاقه بالنسبة إلى هذا القيد. و ذكرنا هناك كيف يمكن استكشاف إرادة الإطلاق بإطلاق المقام لا بإطلاق الكلام الواحد.
المسألة الثالثة الإطلاق في الجمل الإطلاق لا يختصّ بالمفردات- كما يظهر من كلمات الاصوليّين- إذ مثّلوا للمطلق باسم الجنس و علم
الجنس و النكرة، بل يكون في الجمل أيضاً كإطلاق صيغة «افعل» الّذي يقتضي استفادة الوجوب العيني و التعييني و النفسي، فإنّ الإطلاق فيها إنّما هو من نوع إطلاق الجملة.
و مثله إطلاق الجملة الشرطيّة في استفادة الانحصار في الشرط.
و لكن محلّ البحث في المسائل الآتية خصوص الألفاظ المفردة.
و لعلّ عدم شمول البحث عندهم للجمل باعتبار أن ليس هناك ضابط كلّي لمطلقاتها، و إن كان الأصحّ أنّ بحث مقدّمات الحكمة يشملها. و قد بُحث عن إطلاق بعض الجمل في مناسباتها، كإطلاق صيغة «افعل» و الجملة الشرطيّة و نحوها.
المسألة الرابعة هل الإطلاق بالوضع؟
لا شكّ في أنّ الإطلاق في الأعلام بالنسبة إلى الأحوال- كما تقدّمت الإشارة إليه «1»- ليس بالوضع، بل إنّما يستفاد من مقدّمات الحكمة.
______________________________ (1) تقدّمت في ص 225.
أصول الفقه ( مظفر، محمد رضا - طبع انتشارات اسلامى )، ج1، ص: 227
و كذلك إطلاق الجمل و ما شابهها- أيضاً- ليس بالوضع بل بمقدّمات الحكمة. و هذا لا خلاف فيه. و إنّما الّذي وقع فيه البحث هو أنّ الإطلاق في أسماء الأجناس و ما شابهها هل هو بالوضع أو بمقدّمات الحكمة؟ أي أنّ أسماء الأجناس هل هي موضوعة لمعانيها بما هي شايعة و مرسلة على وجهٍ يكون الإرسال- أي الإطلاق- مأخوذاً في المعنى الموضوع له اللفظ- كما نُسب إلى المشهور من القدماء «1» قبل سلطان العلماء- أو أنّها موضوعة لنفس المعاني بما هي و الإطلاق يستفاد من دالّ آخر، و هو نفس تجرّد اللفظ من القيد إذا كانت مقدّمات الحكمة متوفّرة فيه؟ و هذا القول الثاني أوّل من صرّح به فيما نعلم سلطان العلماء في حاشيته على معالم الاصول «2» و تبعه جميع من تأخّر عنه إلى يومنا هذا.
و على القول الأوّل يكون استعمال اللفظ في المقيّد مجازاً، و على القول الثاني يكون حقيقة.
و الحقّ ما ذهب إليه سلطان العلماء، بل قيل: إنّ نسبة القول الأوّل إلى المشهور مشكوك فيها «3». و لتوضيح هذا القول و تحقيقه ينبغي بيان امور ثلاثة تنفع في هذا الباب و في غير هذا الباب «4» و بها تكشف للطالب ما وقع
______________________________ (1) لم نظفر بمن نسبه إليهم صريحاً، و النسبة مشكوك فيها، كما يأتي.
(2) لم نجد التصريح به في كلامه، راجع الحاشية: ص 48 ذيل قول صاحب المعالم: «فلأنّه جمع بين الدليلين ...».
(3) قاله المحقّق الخراساني بلفظ «إلّا أنّ الكلام في صدق النسبة» راجع كفاية الاصول: ص 286. (4) (*) و قد اضطررنا إلى الخروج عن الطريقة الّتي رسمناها لأنفسنا في هذا الكتاب في الاختصار. و نعتقد أنّ الطالب المبتدئ الّذي ينتهي إلى هنا يكون على استعداد كافٍ لفهم هذه الأبحاث. و اضطرارنا لهذا البحث باعتبار ما له من حاجة ماسّة في فهم الطالب لكثير من الأبحاث الّتي قد ترد عليه فيما يأتي. أصول الفقه ( مظفر، محمد رضا - طبع انتشارات اسلامى )، ج1، ص: 228
للعلماء الأعلام من اختلاف في التعبير بل في الرأي و النظر. و هذه الامور الّتي ينبغي بيانها هي كما يلي: 1- اعتبارات الماهيّة:
المشهور أنّ للماهيّة ثلاثة اعتبارات إذا قيست إلى ما هو خارج عن ذاتها، كما إذا قيست الرقبة إلى الإيمان عند الحكم عليها بحكمٍ ما كوجوب العتق، و هي:
1- أن تُعتبر الماهيّة مشروطة بذلك الأمر الخارج. و تُسمّى حينئذٍ «الماهيّة بشرط شيء» كما إذا كان يجب عتق الرقبة المؤمنة، أي بشرط كونها مؤمنة.
2- أن تُعتبر مشروطة بعدمه. و تُسمّى «الماهيّة بشرط لا» «1» كما إذا كان القصر واجباً في الصلاة على المسافر غير العاصي في سفره، أي بشرط عدم كونه عاصياً للَّه في سفره، فاخذ «عدم العصيان» قيداً في موضوع الحكم.
3- ألّا تُعتبر مشروطة بوجوده و لا بعدمه. و تُسمّى «الماهيّة لا بشرط» كوجوب الصلاة على الإنسان باعتبار كونه حرّاً مثلًا، فإنّ الحرّيّة غير معتبرة لا بوجودها و لا بعدمها في وجوب الصلاة، لأنّ الإنسان بالنظر إلى الحرّية في وجوب الصلاة عليه غير مشروط بالحرّية و لا بعدمها، فهو لا بشرط بالقياس إليها.
و يُسمّى هذا الاعتبار الثالث «اللابشرط القسمي» في قبال «اللابشرط المقسمي» الآتي ذكره. و إنّما سُمّي «قسميّاً» لأنّه قسم في مقابل القسمين الأوّليين، أي «البشرط شيء» و «البشرطلا». و هذا ظاهر لا بحث فيه.
______________________________ (1) (*) و قد تقال: «الماهيّة بشرط لا شيء» و يقصدون بذلك الماهيّة المجرّدة على وجهٍ يكون كلّ ما يقارنها يعتبر زائداً عليها.
أصول الفقه ( مظفر، محمد رضا - طبع انتشارات اسلامى )، ج1، ص: 229
ثمّ إنّ لهم اصطلاحين آخرين معروفين:
1- قولهم: «الماهيّة المهملة».
2- قولهم: «الماهيّة لا بشرط مقسمي».
أ فهذان اصطلاحان و تعبيران لمدلول واحد، أو هما اصطلاحان مختلفان في المعنى؟ و الّذي يلجئنا إلى هذا الاستفسار ما وقع من الارتباك في التعبير عند كثير من مشايخنا الأعلام، فقد يظهر من بعضهم أنّهما اصطلاحان لمعنىً واحد، كما هو ظاهر «كفاية الاصول» «1» تبعاً لبعض الفلاسفة الأجلّاء «2».
و لكن التحقيق لا يساعد على ذلك، بل هما اصطلاحان مختلفان.
و هذا جوابنا على الاستفسار.
و توضيح ذلك: أنّه من المتسالم عليه الّذي لا اختلاف فيه و لا اشتباه أمران:
الأوّل: أنّ المقصود من «الماهيّة المهملة»: الماهيّة من حيث هي، أي نفس الماهيّة بما هي مع قطع النظر عن جميع ما عداها، فيقتصر النظر على ذاتها و ذاتيّاتها.
الثاني: أنّ المقصود من الماهيّة «لا بشرط مقسمي»: الماهيّة المأخوذة لا بشرط الّتي تكون مقسماً للاعتبارات الثلاثة المتقدّمة، و هي- أي الاعتبارات الثلاثة- الماهيّة بشرط شيء، و بشرط لا، و لا بشرط قسمي.
و من هنا سُمّي «مقسماً».
و إذا ظهر ذلك، فلا يصحّ أن يدعى أنّ الماهيّة بما هي تكون بنفسها مقسماً للاعتبارات الثلاثة؛ و ذلك لأنّ الماهيّة لا تخلو من حالتين: و هما
______________________________ (1) راجع كفاية الاصول: ص 282- 283.
(2) المراد به الفيلسوف المتألّه المحقّق السبزواري، راجع شرح منظومته: ص 21- 22.
أصول الفقه ( مظفر، محمد رضا - طبع انتشارات اسلامى )، ج1، ص: 230
أن يُنظر إليها بما هي هي غير مقيسة إلى ما هو خارج عن ذاتها، و أن يُنظر إليها مقيسة إلى ما هو خارج عن ذاتها، و لا ثالث لهما.
و في الحالة الاولى تُسمّى «الماهيّة المهملة» كما هو مسلَّم. و في الثانية لا يخلو حالها من أحد الاعتبارات الثلاثة. و على هذا فالملاحظة الاولى مباينة لجميع الاعتبارات الثلاثة و تكون قسيمة لها، فكيف يصحّ أن تكون مقسماً لها و لا يصحّ أن يكون الشيء مقسماً لاعتبارات نقيضه، لأنّ الماهيّة من حيث هي- كما اتّضح- معناها ملاحظتها غير مقيسة إلى الغير و الاعتبارات الثلاثة ملاحظتها مقيسةً إلى الغير. على أنّ اعتبار الماهيّة غير مقيسة اعتبار ذهني له وجود مستقلّ في الذهن، فكيف يكون مقسماً لوجودات ذهنيّة اخرى مستقلّة، و المقسم يجب أن يكون موجوداً بوجود أحد أقسامه، و لا يُعقل أن يكون له وجود في مقابل وجودات الأقسام، و إلّا كان قسيماً لها لا مقسماً.
وعليه، فنحن نسلّم أنّ الماهيّة المهملة معناها اعتبارها «لا بشرط» و لكن ليس هو المصطلح عليه ب «اللابشرط المقسمي» فإنّ لهم في «لا بشرط»- على هذا- ثلاثة اصطلاحات:
1- لا بشرط أيّ شيءٍ خارجٍ عن الماهيّة و ذاتيّاتها، و هي الماهيّة بما هي هي الّتي يقصر فيها النظر على ذاتها و ذاتيّاتها، و هي الماهيّة المهملة.
2- لا بشرط مقسميّ، و هو الماهيّة الّتي تكون مقسماً للاعتبارات الثلاثة، أي الماهيّة المقيسة إلى ما هو خارج عن ذاتها. و المقصود بلا بشرط هنا لا بشرط شيء من الاعتبارات الثلاثة، أي لا بشرط اعتبار «البشرط شيء» و اعتبار «البشرطلا» و اعتبار «اللابشرط» لا أنّ المراد بلا بشرط هنا، لا بشرط مطلقاً من كلّ قيد و حيثيّة. و ليس هذا اعتباراً ذهنيّاً في قبال هذه الاعتبارات، بل ليس له وجود في عالم الذهن أصول الفقه ( مظفر، محمد رضا - طبع انتشارات اسلامى )، ج1، ص: 231
إلّا بوجود واحد من هذه الاعتبارات و لا تعيّن له مستقلّ غير تعيّناتها، و إلّا لما كان مقسماً.
3- لا بشرط قسمي، و هو الاعتبار الثالث من اعتبارات الماهيّة المقيسة إلى ما هو خارج عن ذاتها. فاتّضح أنّ «الماهيّة المهملة» شيء، و «اللابشرط المقسمي» شيء آخر. كما اتّضح أيضاً أنّ الثاني لا معنى لأن يجعل من اعتبارات الماهيّة على وجهٍ يثبت حكم للماهيّة باعتباره، أو يوضع له لفظ بحسبه. 2- اعتبار الماهيّة عند الحكم عليها:
و اعلم أنّ الماهيّة إذا حكم عليها، فإمّا أن يحكم عليها بذاتيّاتها، و إمّا أن يحكم عليها بأمرٍ خارجٍ عنها. و لا ثالث لهما.
و على الأوّل: فهو على صورتين:
1- أن يكون الحكم بالحمل الأوّلي، و ذلك في الحدود التامّة خاصّة.
2- أن يكون بالحمل الشائع، و ذلك عند الحكم عليها ببعض ذاتيّاتها، كالجنس وحده أو الفصل وحده. و على كلتا الصورتين فإنّ النظر إلى الماهيّة مقصور على ذاتيّاتها غير متجاوز فيه إلى ما هو خارج عنها. و هذا لا كلام فيه.
و على الثاني: فإنّه لا بدّ من ملاحظتها مقيسة إلى ما هو خارج عنها، فتخرج بذلك عن مقام ذاتها وحدها من حيث هي، أي عن تقرّرها الذاتي الّذي لا ينظر فيه إلّا إلى ذاتها و ذاتيّاتها. و هذا واضح، لأنّ قطع النظر عن كلّ ما عداها لا يجتمع مع الحكم عليها بأمرٍ خارجٍ عن ذاتها، لأنّهما متناقضان.
وعليه، لو حكم عليها بأمر خارج عنها و قد لوحظت مقيسة إلى هذا الغير، فلا بدّ أن تكون معتبرة بأحد الاعتبارات الثلاثة المتقدمة، إذ يستحيل
أصول الفقه ( مظفر، محمد رضا - طبع انتشارات اسلامى )، ج1، ص: 232
أن يخلو الواقع من أحدها- كما تقدّم-. و لا معنى لاعتبارها باللابشرط المقسمي، لما تقدّم أنّه ليس هو تعيّناً مستقلّاً في قبال تلك التعيّنات، بل هو مقسم لها.
ثمّ إنّ هذا الغير- أي الأمر الخارج عن ذاتها- الّذي لوحظت الماهيّة مقيسة إليه لا يخلو: إمّا أن يكون نفس المحمول أو شيئاً آخر، فإن كان هو المحمول فيتعيّن أن تؤخذ الماهيّة بالقياس إليه لا بشرط قسمي، لعدم صحّة الاعتبارين الآخرين:
أمّا أخذها بشرط شيء- أي بشرط المحمول- فلا يصحّ ذلك دائماً، لأنّه يلزم أن تكون القضيّة ضروريّة دائماً لاستحالة انفكاك المحمول عن الموضوع بشرط المحمول. على أنّ أخذ المحمول في الموضوع يلزم منه حمل الشيء على نفسه و تقدّمه على نفسه، و هو مستحيل، إلّا إذا كان هناك تغاير بحسب الاعتبار، كحمل «الحيوان الناطق» على «الإنسان» فإنّهما متغايران باعتبار الإجمال و التفصيل.
و أمّا أخذها بشرط لا- أي بشرط عدم المحمول- فلا يصحّ، لأنّه يلزم التناقض، فإنّ الإنسان بشرط عدم الكتابة يستحيل حمل الكتابة عليه.
و إن كان هذا الغير الخارج هو غير المحمول، فيجوز أن تكون الماهيّة حينئذ مأخوذة بالقياس إليه بشرط شيء كجواز تقليد المجتهد بشرط العدالة، أو بشرط لا كوجوب صلاة الظهر يوم الجمعة بشرط عدم وجود الإمام، أو لا بشرط كجواز السلام على المؤمن مطلقاً بالقياس إلى العدالة مثلًا، أي لا بشرط وجودها و لا بشرط عدمها. كما يجوز أن تكون مهملة غير مقيسة إلى شيء غير محمولها.
و لكن قد يستشكل في كلّ ذلك بأنّ هذه الاعتبارات الثلاثة اعتبارات
أصول الفقه ( مظفر، محمد رضا - طبع انتشارات اسلامى )، ج1، ص: 233
ذهنيّة، لا موطن لها إلّا الذهن، فلو تقيّدت الماهيّة بأحدها عند ما تؤخذ موضوعاً للحكم، للزم أن تكون جميع القضايا ذهنيّة عدا حمل الذاتيّات الّتي قد اعتبرت فيها الماهية من حيث هي، و لبطلت القضايا الخارجيّة و الحقيقيّة، مع أنّها عمدة القضايا، بل لاستحال في التكاليف الامتثال، لأنّ ما هو موطنه الذهن يمتنع إيجاده في الخارج.
و هذا الإشكال وجيه لو كان الحكم على الموضوع بما هو معتبر بأحد الاعتبارات الثلاثة على وجهٍ يكون الاعتبار قيداً في الموضوع أو نفسه هو الموضوع. و لكن ليس الأمر كذلك، فإنّ الموضوع في كلّ تلك القضايا هو ذات الماهيّة المعتبرة و لكن لا بقيد الاعتبار، بمعنى أنّ الموضوع في «بشرط شيءٍ» الماهيّةُ المقترنةُ بذلك الشيء، لا المقترنة بلحاظه و اعتباره، و في «بشرط لا» الماهيّة المقترنة بعدمه لا بلحاظ عدمه، و في «لا بشرط» الماهيّة غير الملاحظ معها الشيء و لا عدمه، لا الملاحظة بعدم لحاظ الشيء و عدمه، و إلّا لكانت الماهيّة معتبرة في الجميع بشرط شيء فقط، أي بشرط اللحاظ و الاعتبار.
نعم، هذه الاعتبارات هي المصحّحة لموضوعيّة الموضوع على الوجه اللازم الّذي يقتضيه واقع الحكم، لا أنّها مأخوذة قيداً فيه حتّى تكون جميع القضايا ذهنيّة. و لو كان الأمر كذلك لكان الحكم بالذاتيّات أيضاً قضيّة ذهنيّة، لأنّ اعتبار الماهيّة من حيث هي أيضاً اعتبار ذهنيّ.
و مما يقرّب ما قلناه: من كون الاعتبار مصحّحاً لموضوعيّة الموضوع لا مأخوذاً فيه مع أنّه لا بدّ منه عند الحكم بشيءٍ، أنّ كلّ موضوع و محمول لا بدّ من تصوّره في مقام الحمل و الا لاستحال الحمل، و لكن هذه اللابدّية لا تجعل التصوّر قيداً للموضوع أو المحمول، و إنّما التصوّر هو المصحّح للحمل و بدونه لا يمكن الحمل. أصول الفقه ( مظفر، محمد رضا - طبع انتشارات اسلامى )، ج1، ص: 234
و كذلك عند استعمال اللفظ في معناه لا بدّ من تصوّر اللفظ و المعنى.
و لكن التصوّر ليس قيداً للّفظ، و لا للمعنى، فليس اللفظ دالّاً بما هو متصوّر في الذهن و إن كانت دلالته في ظرف التصوّر، و لا المعنى مدلولًا بما هو متصوّر و ان كانت مدلوليّته في ظرف تصوّره. و يستحيل أن يكون التصوّر قيداً للّفظ أو المعنى؛ و مع ذلك لا يصحّ الاستعمال بدونه، فالتصوّر مقوّم للاستعمال لا للمستعمل فيه و لا للّفظ. و كذلك هو مقوّم للحمل و مصحّح له، لا للمحمول، و لا للمحمول عليه.
و على هذا يتّضح ما نحن بصدد بيانه، و هو أنّه إذا أردنا أن نضع اللفظ للمعنى لا يعقل أن نقصر اللحاظ على ذات المعنى بما هو هو مع قطع النظر عن كلّ ما عداه، لأنّ الوضع من المحمولات الواردة عليه، فلا بدّ أن يلاحظ المعنى حينئذٍ مقيساً إلى ما هو خارج عن ذاته، فقد يؤخذ «بشرط شيء» و قد يؤخذ «بشرط لا» و قد يؤخذ «لا بشرط». و لا يلزم أن يكون الموضوع له هو المعنى بما له من الاعتبار الذهنيّ، بل الموضوع له نفس المعتبر و ذاته لا بما هو معتبر، و الاعتبار مصحّح للوضع.
3- الأقوال في المسألة:
قلنا فيما سبق: إنّ المعروف عن قدماء الأصحاب أنّهم يقولون بأنّ أسماء الأجناس موضوعة للمعاني المطلقة على وجهٍ يكون الإطلاق قيداً للموضوع له، فلذلك ذهبوا إلى أنّ استعماله في المقيد مجاز، و قد صُوّر هذا القول على نحوين:
الأوّل: أنّ الموضوع له المعنى بشرط الإطلاق على وجهٍ يكون اعتباره من باب اعتباره بشرط شيء.
الثاني: أنّ الموضوع له المعنى المطلق، أي المعتبر لا بشرط.
و قد اورد على هذا القول بتصويريه- كما تقدّم- بأنّه يلزم على
أصول الفقه ( مظفر، محمد رضا - طبع انتشارات اسلامى )، ج1، ص: 235
كلا التصويرين أن يكون الموضوع له موجوداً ذهنيّاً، فتكون جميع القضايا ذهنيّة، فلو جُعل اللفظ بما له من معناه موضوعاً في القضيّة الخارجيّة أو الحقيقيّة وجب تجريده عن هذا القيد الذهني، فيكون مجازاً دائماً في القضايا المتعارفة. و هذا يكذّبه الواقع.
و لكن نحن قلنا: إنّ هذا الإيراد إنّما يتوجّه إذا جُعل الاعتبار قيداً في الموضوع له. أمّا لو جُعل الاعتبار مصحّحاً للوضع فلا يلزم هذا الإيراد كما سبق.
هذا قول القدماء، و أمّا المتأخّرون ابتداءً من سلطان العلماء رحمه الله فإنّهم جميعاً اتّفقوا على أنّ الموضوع له ذات المعنى- لا المعنى المطلق- حتّى لا يكون استعمال اللفظ في المقيّد مجازاً. و هذا القول بهذا المقدار من البيان واضح.
و لكن العلماء من أساتذتنا اختلفوا في تأدية هذا المعنى بالعبارات الفنيّة ممّا أوجب الارتباك على الباحث و إغلاق طريق البحث في المسألة. لذلك التجأنا إلى تقديم المقدّمتين السابقتين لتوضيح هذه الاصطلاحات و التعبيرات الفنّية الّتي وقعت في عباراتهم. و اختلفوا فيها على أقوال:
1- منهم من قال: إنّ الموضوع له هو الماهيّة المهملة المبهمة، أي الماهيّة من حيث هي «1».
2- و منه من قال: إنّ الموضوع له الماهيّة المعتبرة باللابشرط المقسمي «2».
______________________________ (1) لم نظفر به في كلام من تقدّم على المؤلّف قدس سره، لكن قال به السيّد الخوئي قدس سره على ما في المحاضرات: ج 5 ص 345.
(2) قاله سلطان العلماء على ما نسب إليه صريحاً في فوائد الاصول: ج 2 ص 572، لكنّا لم نجد التصريح به في حاشيته، راجع ص 48 ذيل قول صاحب المعالم: «فلأنّه جمع بين الدليلين ...».
أصول الفقه ( مظفر، محمد رضا - طبع انتشارات اسلامى )، ج1، ص: 236
3- و منه من جعل التعبير الأوّل نفس التعبير الثاني «1».
4- و منهم من قال: إنّ الموضوع له ذات المعنى لا الماهيّة المهملة و لا الماهيّة المعتبرة باللابشرط المقسمي، و لكنّه ملاحظ حين الوضع باعتبار اللابشرط القسمي، على أن يكون هذا الاعتبار مصحّحاً للموضوع لا قيداً للموضوع له «2». وعليه يكون هذا القول نفس قول القدماء على التصوير الثاني، إلّا أنّه لا يلزم منه أن يكون استعمال اللفظ في المقيّد مجازاً. و لكن المنسوب إلى القدماء أنّهم يقولون: بأنّه مجاز في المقيّد، فينحصر قولهم في التصوير الأوّل على تقدير صحّة النسبة إليهم.
و يتّضح حال هذه التعبيرات أو الأقوال من المقدّمتين السابقتين، فإنّه يعرف منهما:
أوّلًا: أنّ «الماهيّة بما هي هي» غير الماهيّة باعتبار اللابشرط المقسمي، لأنّ النظر فيها على الأوّل مقصور على ذاتها و ذاتيّاتها. بخلافه على الثاني، إذ تلاحظ مقيسة إلى الغير. و بهذا يظهر بطلان القول الثالث.
ثانياً: أنّ الوضع حكم من الأحكام، و هو محمول على الماهيّة خارج عن ذاتها و ذاتيّاتها، فلا يعقل أن يلاحظ الموضوع له بنحو الماهيّة بما هي هي، لأنّه لا تجتمع ملاحظتها مقيسة إلى الغير، و ملاحظتها مقصورة على ذاتها و ذاتيّاتها. و بهذا يظهر بطلان القول الأوّل.
ثالثاً: أنّ «اللابشرط المقسمي» ليس اعتباراً مستقلّاً في قبال الاعتبارات الثلاثة، لأنّ المفروض أنّه مقسم لها، و لا تحقّق للمقسم إلّا بتحقّق أحد أنواعه كما تقدّم، فكيف يتصوّر أن يحكم باعتبار اللابشرط المقسمي؟ بل لا معنى لهذا على ما تقدّم توضيحه. و بهذا يظهر بطلان القول الثاني.
______________________________ (1) صرّح به في فوائد الاصول: ج 2 ص 572.
(2) لم نعثر على قائله بالقيد المذكور.
أصول الفقه ( مظفر، محمد رضا - طبع انتشارات اسلامى )، ج1، ص: 237
فتعيّن القول الرابع، و هو أنّ الموضوع له ذات المعنى، و لكنّه حين الوضع يلاحظ المعنى بنحو اللابشرط القسمي. و هو يطابق القول المنسوب إلى القدماء على التصوير الثاني كما أشرنا إليه، فلا اختلاف.
و يقع التصالح بين القدماء و المتأخّرين إذا لم يثبت عن القدماء أنّهم يقولون أنّه مجاز في المقيَّد، و هو مشكوك فيه.
بيان هذا القول الرابع: أنّ ذات المعنى لمّا أراد الواضع أن يحكم عليه بوضع لفظٍ له، فمعناه: أنّه قد لاحظة مقيساً إلى الغير، فهو في هذا الحال لا يخرج عن كونه معتبراً بأحد الاعتبارات الثلاثة للماهيّة. و إذ يراد تسرية الوضع لذات المعنى بجميع أطواره و حالاته و قيوده لا بدّ أن يعتبر على نحو اللابشرط القسمي. و لا منافاة بين كون الموضوع له ذات المعنى و بين كون ذات المعنى ملحوظاً في مرحلة الوضع بنحو اللابشرط القسمي، لأنّ هذا اللحاظ و الاعتبار الذهني- كما تقدّم- صِرف طريق إلى الحكم على ذات المعنى، و هو المصحّح للموضوع له. و حين الاستعمال في ذات المعنى لا يجب أن يكون المعنى ملحوظاً بنحو اللابشرط القسمي، بل يجوز أن يعتبر بأيّ اعتبارٍ كان ما دام الموضوع له ذات المعنى، فيجوز في مرحلة الاستعمال أن يقصر النظر على نفسه و يلحظه بما هو هو، و يجوز أن يلحظه مقيساً إلى الغير فيعتبر بأحد الاعتبارات الثلاثة. و ملاحظة ذات المعنى بنحو اللابشرط القسمي حين الوضع تصحيحاً له لا توجب أن تكون قيداً للموضوع له.
وعليه، فلا يكون الموضوع له موجوداً ذهنيّاً إذا كان له اعتبار اللابشرط القسمي حين الوضع، لأنّه ليس الموضوع له هو المعتبر بما هو معتبر، بل ذات المعتبر. كما أنّ استعماله في المقيّد لا يكون مجازاً لما تقدّم أنّه يجوز أن يلحظ ذات المعنى حين الاستعمال مقيسا إلى الغير، فيعتبر بأحد الاعتبارات الثلاثة الّتي منها اعتباره بشرط شيء، و هو المقيَّد.
أصول الفقه ( مظفر، محمد رضا - طبع انتشارات اسلامى )، ج1، ص: 238
المسألة الخامسة مقدّمات الحكمة
لمّا ثبت أنّ الألفاظ موضوعة لذات المعاني، لا للمعاني بما هي مطلقة، فلا بدّ في إثبات أنّ المقصود من اللفظ هو المطلق لتسرية الحكم إلى تمام الأفراد و المصاديق من قرينة خاصّة، أو قرينة عامّة تجعل الكلام في نفسه ظاهراً في إرادة الاطلاق.
و هذه القرينة العامّة إنّما تحصل إذا توفّرت جملة مقدّمات تُسمّى «مقدّمات الحكمة» و المعروف أنّها ثلاث: الاولى: إمكان الإطلاق و التقييد، بأن يكون متعلّق الحكم أو موضوعه قبل فرض تعلّق الحكم به قابلًا للانقسام، فلو لم يكن قابلًا للقسمة إلّا بعد فرض تعلّق الحكم به، كما في باب قصد القربة، فإنّه يستحيل فيه التقييد فيستحيل فيه الإطلاق، كما تقدّم في بحث التعبّدي و التوصّلي «1». و هذا واضح.
الثانية: عدم نصب قرينة على التقييد لا متّصلة و لا منفصلة، لأنّه مع القرينة المتّصلة لا ينعقد ظهور للكلام إلّا في المقيّد، و مع المنفصلة ينعقد للكلام ظهور في الإطلاق، و لكنّه يسقط عن الحجّية، لقيام القرينة المقدّمة عليه و الحاكمة، فيكون ظهوره ظهوراً بدويّاً، كما قلنا في تخصيص العموم بالخاصّ المنفصل، و لا تكون للمطلق الدلالة التصديقيّة الكاشفة عن مراد المتكلّم، بل الدلالة التصديقيّة إنّما هي على إرادة التقييد واقعاً.
الثالثة: أن يكون المتكلّم في مقام البيان، فإنّه لو لم يكن في هذا المقام بأن كان في مقام التشريع فقط أو كان في مقام الإهمال إمّا رأساً أو لأنّه في صدد بيان حكم آخر، فيكون في مقام الإهمال من جهة مورد
______________________________ (1) راجع ص 117.
أصول الفقه ( مظفر، محمد رضا - طبع انتشارات اسلامى )، ج1، ص: 239
الإطلاق- و سيأتي مثاله- فإنّه في كلّ ذلك لا ينعقد للكلام ظهور في الإطلاق.
أمّا في مقام التشريع- بأن كان في مقام بيان الحكم لا للعمل به فعلًا بل لمجرّد تشريعه- فيجوز ألّا يبيّن تمام مراده، مع أنّ الحكم في الواقع مقيّد بقيد لم يذكره في بيانه انتظاراً لمجيء وقت العمل، فلا يحرز أنّ المتكلّم في صدد بيان جميع مراده.
و كذلك إذا كان المتكلّم في مقام الإهمال رأساً، فإنّه لا ينعقد معه ظهور في الإطلاق، كما لا ينعقد للكلام ظهور في أيّ مرام.
و مثله ما إذا كان في صدد حكم آخر، مثل قوله تعالى: «فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ» «1» الوارد في مقام بيان حلّ صيد الكلاب المعلَّمة من جهة كونه ميتة، و ليس هو في مقام بيان مواضع الإمساك أنّها تتنجّس فيجب تطهيرها أم لا، فلم يكن هو في مقام بيان هذه الجهة، فلا ينعقد للكلام ظهور في الإطلاق من هذه الجهة.
و لو شُكّ في أنّ المتكلّم في مقام البيان أو الإهمال، فإنّ الأصل العقلائي يقتضي بأن يكون في مقام البيان، فإنّ العقلاء كما يحملون المتكلّم على أنّه ملتفت غير غافل و جادّ غير هازل عند الشك في ذلك، كذلك يحملونه على أنّه في مقام البيان و التفهيم، لا في مقام الإهمال و الإيهام.
و إذا تمّت هذه المقدّمات الثلاث، فإنّ الكلام المجرّد عن القيد يكون ظاهراً في الإطلاق و كاشفاً عن أنّ المتكلّم لا يريد المقيّد، و إلّا لو كان قد أراده واقعاً لكان عليه البيان، و المفروض: أنّه حكيم ملتفت جادّ غير هازل و هو في مقام البيان، و لا مانع من التقييد حسب الفرض، و إذا لم يبيّن
______________________________ (1) المائدة: 4.
أصول الفقه ( مظفر، محمد رضا - طبع انتشارات اسلامى )، ج1، ص: 240
و لم يقيّد كلامه فيُعلم أنّه أراد الإطلاق و إلّا لكان مخلًّا بغرضه.
فاتّضح من ذلك أنّ كلّ كلامٍ صالحٍ للتقييد و لم يقيّده المتكلّم مع كونه حكيماً ملتفتاً جادّاً و في مقام البيان و التفهيم، فإنّه يكون ظاهراً في الإطلاق و يكون حجّة على المتكلّم و السامع.
تنبيهان:
القدر المتيقّن في مقام التخاطب:
الأوّل: إنّ الشيخ المحقّق صاحب الكفاية قدس سره أضاف إلى مقدّمات الحكمة مقدّمة اخرى غير ما تقدّم، و هي ألّا يكون هناك قدر متيقّن في مقام التخاطب و المحاورة، و إن كان لا يضرّ وجود القدر المتيقّن خارجاً في التمسّك بالإطلاق «1». و مرجع ذلك إلى أنّ وجود القدر المتيقّن في مقام المحاورة يكون بمنزلة القرينة اللفظيّة على التقييد، فلا ينعقد للّفظ ظهور في الإطلاق مع فرض وجوده.
و لتوضيح البحث نقول: إنّ كون المتكلّم في مقام البيان يتصوّر على نحوين:
1- أن يكون المتكلّم في صدد بيان تمام موضوع حكمه، بأن يكون غرض المتكلّم يتوقّف على أن يبيّن للمخاطب و يُفهمه ما هو تمام الموضوع و أنّ ما ذكره هو تمام موضوعه لا غيره.
2- أن يكون المتكلّم في صدد بيان تمام موضوع الحكم واقعاً. و لو لم يفهم المخاطب أنّه تمام الموضوع، فليس له غرض إلّا بيان ذات موضوع الحكم بتمامه حتّى يحصل من المكلّف الامتثال و إن لم يفهم المكلّف تفصيل الموضوع بحدوده.
______________________________ (1) كفاية الاصول: 287.
أصول الفقه ( مظفر، محمد رضا - طبع انتشارات اسلامى )، ج1، ص: 241
فإن كان المتكلّم في مقام البيان على النحو الأوّل، فلا شكّ في أنّ وجود القدر المتيقّن في مقام المحاورة لا يضرّ في ظهور المطلق في إطلاقه، فيجوز التمسّك بالإطلاق، لأنّه لو كان القدر المتيقّن المفروض هو تمام الموضوع لوجب بيانه، و تركُ البيان اتّكالًا على وجود القدر المتيقّن إخلال بالغرض، لأنّه لا يكون مجرّد ذلك بياناً لكونه تمام الموضوع.
و إن كان المتكلّم في مقام البيان على النحو الثاني، فإنّه يجوز أن يكتفي بوجود القدر المتيقّن في مقام التخاطب لبيان تمام موضوعه واقعاً ما دام أنّه ليس له غرض إلّا أن يفهم المخاطب ذات الموضوع بتمامه لا بوصف التمام، أي أن يفهم ما هو تمام الموضوع بالحمل الشائع. و بذلك يحصل التبليغ للمكلّف و يمتثل في الموضوع الواقعي، لأنّه هو المفهوم عنده في مقام المحاورة. و لا يجب في مقام الامتثال أن يفهم أنّ الّذي فعله هو تمام الموضوع أو الموضوع أعمّ منه و من غيره.
مثلًا، لو قال المولى: «اشتر اللحم» و كان القدر المتيقّن في مقام المحاورة هو لحم الغنم و كان هو تمام موضوعه واقعاً، فإنّ وجود هذا القدر المتيقّن كافٍ لانبعاث المكلّف و شرائه للحم الغنم، فيحصل موضوع حكم المولى. فلو أنّ المولى ليس له غرض أكثر من تحقيق موضوع حكمه، فيجوز له الاعتماد على القدر المتيقّن لتحقيق غرضه و لبيانه، و لا يحتاج إلى أن يبيّن أنّه تمام الموضوع.
أمّا لو كان غرضه أكثر من ذلك بأن كان غرضه أن يفهم المكلّف تحديد الموضوع بتمامه، فلا يجوز له الاعتماد على القدر المتيقّن، و إلّا لكان مخلًّا بغرضه، فإذا لم يبيّن و أطلق الكلام، استكشف أنّ تمام موضوعه هو المطلق الشامل للقدر المتيقّن و غيره.
إذا عُرف هذا التقرير، فينبغي أن نبحث عمّا ينبغي للآمر أن يكون بصدد بيانه، هل أنّه على النحو الأوّل أو الثاني؟
أصول الفقه ( مظفر، محمد رضا - طبع انتشارات اسلامى )، ج1، ص: 242
و الّذي يظهر من الشيخ صاحب الكفاية: أنّه لا ينبغي من الآمر أكثر من النحو الثاني، نظراً إلى أنّه إذا كان بصدد بيان موضوع حكمه حقيقة كفاه ذلك لتحصيل مطلوبه و هو الامتثال، و لا يجب عليه مع ذلك بيان أنّه تمام الموضوع.
نعم، إذا كان هناك قدر متيقّن في مقام المحاورة و كان تمام الموضوع هو المطلق، فقد يظنّ المكلّف أنّ القدر المتيقّن هو تمام الموضوع و أنّ المولى أطلق كلامه اعتماداً على وجوده، فإنّ المولى دفعاً لهذا الوهم يجب عليه أن يبيّن أنّ المطلق هو تمام موضوعه، و إلّا كان مخلًّا بغرضه.
و من هذا ينتج: أنّه إذا كان هناك قدر متيقّن في مقام المحاورة و أطلق المولى و لم يبيّن أنّه تمام الموضوع، فإنّه يُعرف منه أنّ موضوعه هو القدر المتيقّن.
هذا خلاصة ما ذهب إليه في الكفاية مع تحقيقه و توضيحه. و لكن شيخنا النائيني رحمه الله- على ما يظهر من التقريرات- لم يرتضه «1».
و الأقرب إلى الصحّة ما في الكفاية. و لا نطيل بذكر هذه المناقشة و الجواب عنها. الانصراف:
التنبيه الثاني: اشتهر أنّ انصراف الذهن من اللفظ إلى بعض مصاديق معناه أو بعض أصنافه يمنع من التمسّك بالإطلاق، و إن تمّت مقدّمات الحكمة، مثل انصراف المسح في آيتي التيمّم و الوضوء إلى المسح باليد و بباطنها خاصّة.
و الحقّ أن يقال: إنّ انصراف الذهن إن كان ناشئاً من ظهور اللفظ في المقيّد بمعنى أنّ نفس اللفظ ينصرف منه المقيّد لكثرة استعماله فيه و شيوع
______________________________ (1) فوائد الاصول: ج 2 ص 575.
أصول الفقه ( مظفر، محمد رضا - طبع انتشارات اسلامى )، ج1، ص: 243
إرادته منه، فلا شكّ في أنّه حينئذٍ لا مجال للتمسّك بالإطلاق، لأنّ هذا الظهور يجعل اللفظ بمنزلة المقيّد بالتقييد اللفظي، و معه لا ينعقد للكلام ظهور في الإطلاق حتّى يتمسّك بأصالة الإطلاق الّتي هي مرجعها في الحقيقة إلى أصالة الظهور.
و أمّا إذا كان الانصراف غير ناشئ من اللفظ بل كان من سبب خارجي، كغلبة وجود الفرد المنصرف إليه أو تعارف الممارسة الخارجيّة له، فيكون مألوفاً قريباً إلى الذهن من دون أن يكون للّفظ تأثير في هذا الانصراف،- كانصراف الذهن من لفظ «الماء» في العراق مثلًا إلى ماء دجلة أو الفرات- فالحقّ أنّه لا أثر لهذا الانصراف في ظهور اللفظ في إطلاقه، فلا يمنع من التمسّك بأصالة الإطلاق، لأنّ هذا الانصراف قد يجتمع مع القطع بعدم إرادة المقيّد بخصوصه من اللفظ؛ و لذا يُسمّى هذا الانصراف باسم «الانصراف البدوي» لزواله عند التأمّل و مراجعة الذهن.
و هذا كلّه واضح لا ريب فيه. و إنّما الشأن في تشخيص الانصراف أنّه من أيّ النحوين، فقد يصعب التمييز أحياناً بينهما للاختلاط على الإنسان في منشأ هذا الانصراف. و ما أسهل دعوى الانصراف على لسان غير المتثبّت! و قد لا يسهل إقامة الدليل على أنّه من أيّ نوعٍ.
فعلى الفقيه أن يتثبّت في مواضع دعوى الانصراف، و هو يحتاج إلى ذوقٍ عالٍ و سليقةٍ مستقيمة. و قلّما تخلو آية كريمة أو حديث شريف في مسألة فقهيّة عن انصرافات تُدّعى. و هنا تظهر قيمة التضلّع باللغة و فقهها و آدابها. و هو باب يكثر الابتلاء به، و له الأثر الكبير في استنباط الأحكام من أدلّتها.
أ لا ترى أنّ المسح في الآيتين ينصرف إلى المسح باليد، و كون هذا الانصراف مستنداً إلى اللفظ لا شكّ فيه، و ينصرف أيضاً إلى المسح
أصول الفقه ( مظفر، محمد رضا - طبع انتشارات اسلامى )، ج1، ص: 244
بخصوص باطن اليد. و لكن قد يُشكّ في كون هذا الانصراف مستنداً إلى اللفظ، فإنّه غير بعيد أنّه ناشئٌ من تعارف المسح بباطن اليد لسهولته، و لأنّه مقتضى طبع الإنسان في مسحه، و ليس له علاقة باللفظ؛ و لذا أنّ جملة من الفقهاء أفتوا بجواز المسح بظهر اليد عند تعذّر المسح بباطنها تمسّكاً بإطلاق الآية، و لا معنى للتمسّك بالإطلاق لو كان للّفظ ظهور في المقيّد. و أمّا عدم تجويزهم للمسح بظاهر اليد عند الاختيار فلعلّه للاحتياط، إذ أنّ المسح بالباطن هو القدر المتيقّن، و المفروض حصول الشكّ في كون هذا الانصراف بدويّاً فلا يطمئنّ كلّ الاطمئنان بالتمسّك بالإطلاق عند الاختيار. و طريق النجاة هو الاحتياط بالمسح بالباطن.
المسألة السادسة المطلق و المقيّد المتنافيان
معنى التنافي بين المطلق و المقيّد: أنّ التكليف في المطلق لا يجتمع و التكليف في المقيّد مع فرض المحافظة على ظهورهما معاً، أي أنّهما يتكاذبان في ظهورهما، مثل قول الطبيب مثلًا: «اشرب لبناً» ثمّ يقول:
«اشرب لبناً حُلواً» و ظاهر الثاني تعيين شرب الحُلو منه. و ظاهر الأوّل جواز شرب غير الحُلو حسب إطلاقه.
و إنّما يتحقّق التنافي بين المطلق و المقيّد إذا كان التكليف فيهما واحداً- كالمثال المتقدّم- فلا يتنافيان لو كان التكليف في أحدهما معلّقاً على شيءٍ و في الآخر معلّقاً على شيءٍ آخر، كما إذا قال الطبيب في المثال:
«إذا أكلت فاشرب لبناً، و عند الاستيقاظ من النوم اشرب لبناً حلواً».
و كذلك لا يتنافيان لو كان التكليف في المطلق إلزاميّاً و في المقيّد على نحو الاستحباب، ففي المثال لو وجب أصل شرب اللبن فإنّه لا ينافيه رجحان الحُلو منه باعتباره أحد أفراد الواجب. و كذا لا يتنافيان لو فُهم أصول الفقه ( مظفر، محمد رضا - طبع انتشارات اسلامى )، ج1، ص: 245
من التكليف في المقيّد أنّه تكليف في وجودٍ ثانٍ غير المطلوب من التكليف الأوّل، كما إذا فُهم في المقيّد في المثال طلب شرب اللبن الحُلو ثانياً بعد شرب لبنٍ ما.
إذا فهمت ما سقناه لك من معنى التنافي، فنقول: لو ورد في لسان الشارع مطلق و مقيّد متنافيان سواء تقدّم أو تأخّر، و سواء كان مجيء المتأخّر بعد وقت العمل بالمتقدّم أو قبله، فإنّه لا بدّ من الجمع بينهما إمّا بالتصرّف في ظهور المطلق فيحمل على المقيّد، أو بالتصّرف في المقيّد على وجه لا ينافي الإطلاق، فيبقى ظهور المطلق على حاله.
و ينبغي البحث هنا في أنّه أيّ التصرّفين أولى بالأخذ؟ فنقول: هذا يختلف باختلاف الصور فيهما، فإنّ المطلق و المقيّد إمّا أن يكونا مختلفين في الإثبات أو النفي، و إمّا أن يكونا متّفقين.
الأوّل: أن يكونا مختلفين، فلا شكّ حينئذٍ في حمل المطلق على المقيّد، لأنّ المقيّد يكون قرينة على المطلق، فإذا قال: «اشرب اللبن» ثمّ قال: «لا تشرب اللبن الحامض» فإنّه يفهم منه أنّ المطلوب هو شرب اللبن الحُلو. و هذا لا يفرق فيه بين أن يكون إطلاق المطلق بدليّاً، نحو قوله: «أعتق رقبة» و بين أن يكون شموليّاً مثل قوله: «في الغنم زكاة» المقيّد بقوله: «ليس في الغنم المعلوفة زكاة».
الثاني: أن يكونا متّفقين، و له مقامان: المقام الأوّل أن يكون الإطلاق بدليّاً، و المقام الثاني أن يكون شموليّاً.
فإن كان الإطلاق بدليّاً، فإنّ الأمر فيه يدور بين التصرّف في ظاهر المطلق بحمله على المقيّد، و بين التصرّف في ظاهر المقيّد. و المعروف أنّ التصرّف الأوّل هو الأولى، لأنّه لو كانا مثبتين مثل قوله: «أعتق رقبة مؤمنة» فإنّ المقيّد ظاهر في أنّ الأمر فيه للوجوب التعييني، فالتصرّف فيه
أصول الفقه ( مظفر، محمد رضا - طبع انتشارات اسلامى )، ج1، ص: 246
إمّا بحمله على الاستحباب- أي أنّ الأمر بعتق الرقبة المؤمنة بخصوصها باعتبار أنّها أفضل الأفراد- أو بحمله على الوجوب التخييري، أي أنّ الأمر بعتق الرقبة المؤمنة باعتبار أنّها أحد أفراد الواجب، لا لخصوصيّة فيها حتّى خصوصيّة الأفضليّة.
و هذان التصرّفان و إن كانا ممكنين، لكن ظهور المقيّد في الوجوب التعييني مقدّم على ظهور المطلق في إطلاقه، لأنّ المقيد صالح لأن يكون قرينة للمطلق، و لعلّ المتكلّم اعتمد عليه في بيان مرامه و لو في وقت آخر، لا سيّما مع احتمال أنّ المطلق الوارد كان محفوفاً بقرينة متّصلة غابت عنّا، فيكون المقيّد كاشفاً عنها. و إن كان الإطلاق شموليّاً، مثل قوله: «في الغنم زكاة» و قوله: «في الغنم السائمة زكاة» فلا تتحقّق المنافاة بينهما حتّى يجب التصرّف في أحدهما، لأنّ وجوب الزكاة في الغنم السائمة بمقتضى الجملة الثانية لا ينافي وجوب الزكاة في غير السائمة إلّا على القول بدلالة التوصيف على المفهوم، و قد عرفت أنّه لا مفهوم للوصف «1». وعليه، فلا منافاة بين الجملتين لنرفع اليد بها عن إطلاق المطلق.
***______________________________ (1) راجع ص 171.
أصول الفقه ( مظفر، محمد رضا - طبع انتشارات اسلامى )، ج1، ص: 248
مقبول
طہارۃ، استعمال طہور مشروط بالنیت
المدخل۔۔۔
الزکاۃ،کتاب الزکاۃ وفصولہ اربعۃ۔۔۔
مقدمہ و تعریف :الامرلاول تعریف علم الاصول۔۔۔
الطہارۃ و مختصر حالات زندگانی
الفصل السابع :نسخ الوجوب۔۔
الفصل الثالث؛ تقسیم القطع الی طریقی ...
مقالات
دینی مدارس کی قابل تقلید خوبیاں
ایک اچھے مدرس کے اوصاف
اسلام میں استاد کا مقام و مرتبہ
طالب علم کے لئے کامیابی کے زریں اصول