حضرت امام علی عليهالسلام نے فرمایا:
خوفِ خدا میں آنسو بہانا، دل کو روشن کرتا ہے اور گناہوں کو دوبارہ سرزد ہونے سے بچاتا ہے۔
مستدرک الوسائل حدیث 12882
العامّ و الخاصّ: هما من المفاهيم الواضحة البديهيّة الّتي لا تحتاج إلى التعريف إلّا لشرح اللفظ و تقريب المعنى إلى الذهن؛ فلذلك لا محلّ لتعريفهما بالتعاريف الحقيقيّة.
و القصد من «العامّ»: اللفظ الشامل بمفهومه لجميع ما يصلح انطباق عنوانه عليه في ثبوت الحكم له. و قد يقال للحكم: إنّه عامّ أيضاً باعتبار شموله لجميع أفراد الموضوع أو المتعلَّق أو المكلَّف.
و القصد من «الخاصّ»: الحكم الّذي لا يشمل إلّا بعض أفراد موضوعه أو المتعلَّق أو المكلَّف، أو أنّه اللفظ الدالّ على ذلك.
و التخصيص: هو إخراج بعض الأفراد عن شمول الحكم العامّ بعد أن كان اللفظ في نفسه شاملًا له لو لا التخصيص.
و التخصّص: هو أن يكون اللفظ من أوّل الأمر- بلا تخصيص- غير شامل لذلك الفرد غير المشمول للحكم.
ينقسم العامّ إلى ثلاثة أقسام باعتبار تعلّق الحكم به:
1- العموم الاستغراقي، و هو أن يكون الحكم شاملًا لكلّ فردٍ فردٍ،
أصول الفقه ( مظفر، محمد رضا - طبع انتشارات اسلامى )، ج1، ص: 191
فيكون كلّ فردٍ وحده موضوعاً للحكم، و لكلِّ حكمٍ متعلّقٍ بفرد من الموضوع عصيان خاصّ، نحو أكرم كلّ عالم.
2- العموم المجموعي، و هو أن يكون الحكم ثابتاً للمجموع بما هو مجموع، فيكون المجموع موضوعاً واحداً، كوجوب الإيمان بالأئمّة، فلا يتحقّق الامتثال إلّا بالإيمان بالجميع.
3- العموم البدلي، و هو أن يكون الحكم لواحدٍ من الأفراد على البدل، فيكون فرد واحد فقط- على البدل- موضوعاً للحكم، فإذا امتثل في واحد سقط التكليف، نحو «أعتق أيّة رقبة شئت».
فإن قال قائل: إِنَّ عدَّ هذا القسم الثالث من أقسام العموم فيه مسامحة ظاهرة، لأنّ البدليّة تنافي العموم، إذ المفروض أنّ متعلّق الحكم أو موضوعه ليس إلّا فرداً واحداً فقط.
نقول في جوابه: العموم في هذا القسم معناه عموم البدليّة، أي صلاح كلّ فرد لأن يكون متعلّقاً أو موضوعاً للحكم. نعم، إذا كان استفادة العموم من هذا القسم بمقتضى الإطلاق فهو يدخل في المطلق، لا في العامّ.
و على كلّ حال، إنّ عموم متعلّق الحكم لأحواله و أفراده إذا كان متعلّقاً للأمر الوجوبي أو الاستحبابي فهو على الأكثر من نوع العموم البدلي.
إذا عرفت هذا التمهيد، فينبغي أن نشرع في تفصيل مباحث العامّ و الخاصّ في فصول:
- 1- ألفاظ العموم
لا شكّ أنّ للعموم ألفاظاً تخصّه دالّة عليه إمّا بالوضع أو بالإِطلاق بمقتضى مقدّمات الحكمة. و هي إمّا أن تكون ألفاظاً مفردة مثل «كلّ»
أصول الفقه ( مظفر، محمد رضا - طبع انتشارات اسلامى )، ج1، ص: 192
و ما في معناها مثل «جميع» و «تمام» و «أيّ» و «دائماً». و إمّا أن تكون هيئات لفظيّة كوقوع النكرة في سياق النفي أو النهي، و كون اللفظ جنساً محلّى باللام جمعاً كان أو مفرداً. فلنتكلّم عنها بالتفصيل:
1- لفظة «كلّ» و ما في معناها، فإنّه من المعلوم دلالتها بالوضع على عموم مدخولها سواء كان عموماً استغراقيّاً أو مجموعيّاً، و أنّ العموم معناه الشمول لجميع أفرادها مهما كان لها من الخصوصيّات اللاحقة لمدخولها.
2- «وقوع النكرة في سياق النفي. أو النهي» فإنّه لا شكّ في دلالتها على عموم السلب لجميع أفراد النكرة عقلًا، لا وضعاً، لأنّ عدم الطبيعة إنّما يكون بعدم جميع أفرادها. و هذا واضح لا يحتاج إلى مزيد بيان.
3- «الجمع المحلّى باللام. و المفرد المحلّى بها» لا شكّ في استفادة العموم منهما عند عدم العهد. و لكن الظاهر أنّه ليس ذلك بالوضع في المفرد المحلّى باللام، و إنّما يستفاد بالإطلاق بمقتضى مقدّمات الحكمة، و لا فرق بينهما من جهة العموم في استغراق جميع الأفراد فرداً فرداً.
و قد توهّم بعضهم «1»: أنّ معنى استغراق الجمع المحلّى و كلّ جمع مثل «أكرم جميع العلماء» هو استغراق بلحاظ مراتب الجمع، لا بلحاظ الأفراد فرداً فرداً، فيشمل كلّ جماعة جماعة، و يكون بمنزلة قول القائل: «أكرم جماعة جماعة» فيكون موضوع الحكم كلّ جماعة على حدة، لا كلّ مفرد، فإكرام شخص واحد لا يكون امتثالًا للأمر. و ذلك نظير عموم التثنية، فإنّ الاستغراق فيها بملاحظة مصاديق التثنية، فيشمل كل اثنين اثنين، فإذا قال: «أكرم كلّ عالمين» فموضوع الحكم كل اثنين من العلماء، لا كلّ فرد.
و منشأ هذا التوهّم أنّ معنى الجمع «الجماعة» كما أنّ معنى التثنية
______________________________
(1) زعمه المحقّق الشريف، على ما نسبه إليه المحقّق الأصفهاني في الفصول الغرويّة: ص 171.
أصول الفقه ( مظفر، محمد رضا - طبع انتشارات اسلامى )، ج1، ص: 193
«الاثنين» فإذا دخلت أداة العموم عليه دلّت على العموم بلحاظ كلّ جماعةٍ جماعة، كما إذا دخلت على المفرد دلّت على العموم بلحاظ كلّ فردٍ فرد، و على التثنية دلّت عليه بلحاظ كلّ اثنين اثنين، لأنّ أداة العموم تفيد عموم مدخولها.
و لكن هذا توهّم فاسد للفرق بين التثنية و الجمع، لأنّ التثنية تدلّ على الاثنين المحدودة من جانب القلّة و الكثرة. بخلاف الجمع، فإنّه يدلّ على ما هو محدود من جانب القلّة فقط، لأنّ أقلّ الجمع ثلاثة، و أمّا من جانب الكثرة فغير محدود أبداً؛ فكلّ ما تفرض لذلك اللفظ المجموع من أفراد- مهما كثرت- فهي مرتبة من الجمع واحدة و جماعة واحدة، حتى لو اريد جميع الأفراد بأسرها، فإنّها كلّها مرتبة واحدة من الجمع، لا مجموعة مراتب له. فيكون معنى استغراق الجمع عدم الوقوف على حدّ خاصّ من حدود الجمع و مرتبة دانية منه، بل المقصود أعلى مراتبة. فيذهب استغراقه إلى آخر الآحاد، لا إلى آخر المراتب، إذ ليس هناك بلحاظ جميع الأفراد إلّا مرتبة واحدة، لا مراتب متعدّدة، و ليس إلّا حدّ واحد هو الحدّ الأعلى، لا حدود متكثّرة، فهو من هذه الجهة كاستغراق المفرد، معنا: عدم الوقوف على حدّ خاصّ، فيذهب إلى آخر الآحاد.
نعم، الفرق بينهما إنّما هو في عدم الاستغراق، فإنّ عدم استغراق المفرد يوجب الاقتصار على واحد، و عدم استغراق الجمع يوجب الاقتصار على أقلّ الجمع، و هو ثلاثة.
- 2- المخصّص المتّصل و المنفصل
إنّ تخصيص العامّ على نحوين:
1- أن يقترن به مخصّصه في نفس الكلام الواحد الملقى من المتكلّم
أصول الفقه ( مظفر، محمد رضا - طبع انتشارات اسلامى )، ج1، ص: 194
كقولنا: «أشهد أن لا إله إلّا اللَّه». و يُسمّى «المخصّص المتّصل» فيكون قرينة على إرادة ما عدا الخاصّ من العموم. و تلحق به- بل هي منه- القرينة الحالية المكتنف بها الكلام الدالّة على إرادة الخصوص على وجهٍ يصحّ تعويل المتكلّم عليها في بيان مراده.
2- ألّا يقترن به مخصّصه في نفس الكلام، بل يرد في كلامٍ آخر مستقلّ قبلَه أو بعدَه. و يُسمّى «المخصّص المنفصل» فيكون أيضاً قرينة على إِرادة ما عدا الخاصّ من العموم، كالأوّل.
فإذاً لا فرق بين القسمين من ناحية القرينة على مراد المتكلّم، و إنّما الفرق بينهما من ناحية اخرى، و هي ناحية انعقاد الظهور في العموم، ففي المتّصل لا ينعقد للكلام ظهور إلّا في الخصوص، و في المنفصل ينعقد ظهور العامّ في عمومه، غير أنّ الخاصّ ظهوره أقوى، فيقدّم عليه من باب تقديم الأظهر على الظاهر أو النصّ على الظاهر.
و السرّ في ذلك: أنّ الكلام مطلقاً- العامّ و غيره- لا يستقرّ له الظهور و لا ينعقد إلّا بعد الانتهاء منه و الانقطاع عرفاً، على وجهٍ لا يبقى بحسب العرف مجال لإِلحاقه بضميمة تصلح لأن تكون قرينة تصرفه عن ظهوره الابتدائي الأوّلي، و إلّا فالكلام ما دام متّصلًا عرفاً فإنّ ظهوره مراعى، فإن انقطع من دون ورود قرينة على خلافه استقرّ ظهوره الأوّل و انعقد الكلام عليه، و إن لحقته القرينة الصارفة تُبدّل ظهوره الأوّل إلى ظهورٍ آخر حسب دلالة القرينة و انعقد حينئذٍ على الظهور الثاني؛ و لذا لو كانت القرينة مجملة أو إن وُجد في الكلام ما يحتمل أن يكون قرينة أوجب ذلك عدم انعقاد الظهور الأوّل و لا ظهور آخر، فيعود الكلام برُمّته مجملًا.
هذا من ناحية كلّيّة في كلّ كلام. و مقامنا من هذا الباب، لأنّ
أصول الفقه ( مظفر، محمد رضا - طبع انتشارات اسلامى )، ج1، ص: 195
المخصّص- كما قلنا- من قبيل القرينة الصارفة، فالعامّ له ظهور ابتدائي- أو بدوي- في العموم، فيكون مراعى بانقطاع الكلام و انتهائه، فإن لم يلحقه ما يخصّصه استقرّ ظهوره الابتدائي و انعقد على العموم، و إن لحقته قرينة التخصيص قبل الانقطاع تُبدّل ظهوره الأوّل و انعقد له ظهور آخر حسب دلالة المخصّص المتّصل.
إذاً فالعامّ المخصّص بالمتّصل لا يستقرّ و لا ينعقد له ظهور في العموم.
بخلاف المخصّص بالمنفصل، لأنّ الكلام بحسب الفرض قد انقطع بدون ورود ما يصلح للقرينة على التخصيص، فيستقرّ ظهوره الابتدائي في العموم، غير أنّه إذا ورد المخصّص المنفصل يزاحم ظهورَ العامّ، فيُقدَّم عليه من باب أنّه قرينة عليه كاشفة عن المراد الجدّي.
أصول الفقه ( مظفر، محمد رضا - طبع انتشارات اسلامى ) ؛ ج1 ؛ ص195
- 3- هل استعمال العامّ في المخصَّص مجاز؟
قلنا: إنّ المخصّص بقسميه قرينة على إرادة ما عدا الخاصّ من لفظ العموم، فيكون المراد من العامّ بعض ما يشمله ظاهره. فوقع الكلام في أنّ هذا الاستعمال هل هو على نحو المجاز أو الحقيقة؟ و اختلف العلماء فيه على أقوال كثيرة: منها أنّه مجاز مطلقاً «1». و منها أنّه حقيقة مطلقاً «2». و منها التفصيل بين المخصَّص بالمتّصل و بين المخصَّص بالمنفصل، فإن كان
______________________________
(1) قوّاه صاحب المعالم وفاقاً للشيخ و المحقّق و العلّامة في أحد قوليه و كثير من أهل الخلاف، معالم الدين: ص 113.
(2) نسبه العلّامة إلى الحنابلة و جماعة من الأشاعرة (نهاية الوصول: الورقة 60) و على هذا استقرّ رأي المحقّقين من المتأخّرين مثل المحقّق الخراساني في الكفاية: ص 255، و المحقّق النائيني كما في فرائد الاصول: ج 2 ص 516، و المحقّق الحائري في درر الفوائد: ج 1 ص 212.
أصول الفقه ( مظفر، محمد رضا - طبع انتشارات اسلامى )، ج1، ص: 196
التخصيص بالأوّل فهو حقيقة دون ما كان بالثاني «1» و قيل: بالعكس «2».
و الحقّ عندنا هو القول الثاني، أي أنّه حقيقة مطلقاً.
الدليل: إنّ منشأ توهّم القول بالمجاز أنّ أداة العموم لمّا كانت موضوعة للدلالة على سعة مدخولها و عمومه لجميع أفراده، فلو اريد منه بعضه فقد استعملت في غير ما وُضعت، فيكون الاستعمال مجازاً. و هذا التوهّم يدفع بأدنى تأمّل، لأنّه في التخصيص بالمتّصل كقولك- مثلًا-:
«أكرم كلّ عالم إلّا الفاسقين» لم تستعمل أداة العموم إلّا في معناها، و هي الشمول لجميع أفراد مدخولها، غاية الأمر أنّ مدخولها تارةً يدلّ عليه لفظ واحد مثل «أكرم كلّ عادل» و اخرى يدلّ عليه أكثر من لفظ واحد في صورة التخصيص، فيكون التخصيص معناه: أنّ مدخول «كلّ» ليس ما يصدق عليه لفظ «عالم» مثلًا بل هو خصوص «العالم العادل» في المثال.
و أمّا «كلّ» فهي باقية على ما لها من الدلالة على العموم و الشمول، لأنّها تدلّ حينئذٍ على الشمول لكلّ عادل من العلماء، و لذا لا يصحّ أن يوضع مكانها كلمة «بعض» فلا يستقيم المعنى لو قلت: «أكرم بعض العلماء إلّا الفاسقين» و إلّا لما صحّ الاستثناء. كما لا يستقيم لو قلت: «أكرم بعض العلماء العدول» فإنّه لا يدلّ على تحديد الموضوع كما لو كانت «كلّ» و الاستثناء موجودين.
و الحاصل: أنّ لفظة «كلّ» و سائر أدوات العموم في مورد التخصيص لم تستعمل إلّا في معناها، و هو الشمول.
______________________________
(1) أصل هذا التفصيل لأبي الحسين البصري (راجع المعتمد: ج 1 ص 262) و اختاره العلّامة قدس سره في التهذيب (مخطوط) الورقة 17، و مبادئ الوصول: ص 131.
(2) لم نظفر بقائله، انظر نهاية الوصول: الورقة 60، البحث الخامس، و المعتمد لأبي الحسين البصري: ج 1 ص 262.
أصول الفقه ( مظفر، محمد رضا - طبع انتشارات اسلامى )، ج1، ص: 197
و لا معنى للقول بأنّ المجاز في نفس مدخولها، لأنّ مدخولها مثل كلمة «عالم» موضوع لنفس الطبيعة من حيث هي، لا الطبيعة بجميع أفرادها أو بعضها. و إرادة الجميع أو البعض إنّما يكون من دلالة لفظة اخرى ك «كلّ» أو «بعض» فإذا قيّد مدخولها و اريد منه المقيّد بالعدالة في المثال المتقدّم لم يكن مستعملًا إلّا في معناه، و هو «من له العلم» و تكون إرادة ما عدا الفاسق من العلماء من دلالة مجموع القيد و المقيّد من باب تعدّد الدالّ و المدلول. و سيجيء إن شاء اللَّه- تعالى- أنّ تقييد المطلق لا يوجب مجازاً.
هذا الكلام كلّه عن المخصَّص بالمتّصل. و كذلك الكلام عن المخصَّص بالمنفصل، لأنّا قلنا: إنّ التخصيص بالمنفصل معناه جعل الخاصّ قرينة منفصلة على تقييد مدخول «كلّ» بما عدا الخاصّ، فلا تصرّف في أداة العموم، و لا في مدخولها، و يكون أيضاً من باب تعدّد الدال و المدلول. و لو فُرض أنّ المخصّص المنفصل ليس مقيّداً لمدخول أداة العموم بل هو تخصيص للعموم نفسه، فإنّ هذا لا يلزم منه أن يكون المستعمل فيه في العامّ هو البعض حتّى يكون مجازاً، بل إنّما يكشف الخاصّ عن المراد الجدّي من العامّ.
- 4- حجّية العامّ المخصّص في الباقي
إذا شككنا في شمول العامّ المخصَّص لبعض أفراد الباقي من العامّ بعد التخصيص، فهل العام حجّة في هذا البعض، فيتمسّك بظاهر العموم لإدخاله في حكم العامّ؟ على أقوال.
مثلًا، إذا قال المولى: «كلّ ماء طاهر» ثمّ استثنى من العموم- بدليل متّصل أو منفصل- الماءَ المتغيّر بالنجاسة، و نحن احتملنا استثناءَ الماء
أصول الفقه ( مظفر، محمد رضا - طبع انتشارات اسلامى )، ج1، ص: 198
القليل الملاقي للنجاسة بدون تغيير، فإذا قلنا بأنّ العامّ المخصَّص حجّة في الباقي نطرد هذا الاحتمال بظاهر عموم العامّ في جميع الباقي، فنحكم بطهارة الماء الملاقي غير المتغيّر. و إذا لم نقل بحجّيته في الباقي يبقى هذا الاحتمال معلَّقاً لا دليل عليه من العامّ، فنلتمس له دليلًا آخر يقول بطهارته أو نجاسته.
و الأقوال في المسألة كثيرة: «1» منها التفصيل بين المخصَّص بالمتّصل فيكون حجّة في الباقي، و بين المخصَّص بالمنفصل فلا يكون حجّة «2» و قيل بالعكس «3».
و الحقّ في المسألة هو الحجّية مطلقاً، لأنّ أساس النزاع ناشئٌ من النزاع في المسألة السابقة، و هي أنّ العامّ المخصَّص مجاز في الباقي أم لا؟
و من قال بالمجاز يستشكل في ظهور العامّ و حجّيته في جميع الباقي، من جهة أنّ المفروض أنّ استعمال العامّ في تمام الباقي مجاز و استعماله في بعض الباقي مجاز آخر أيضاً. فيقع النزاع في أنّ المجاز الأوّل أقرب إلى الحقيقة فيكون العامّ ظاهراً فيه، أو أنّ المجازين متساويان فلا ظهور في أحدهما. فإذا كان المجاز الأوّل هو الظاهر كان العامّ حجّة في تمام الباقي، و إلّا فلا يكون حجّة.
أمّا نحن الّذين نقول بأنّ العامّ المخصَّص حقيقة- كما تقدّم- ففي راحة من هذا النزاع، لأنّا قلنا: إنّ أداة العموم باقية على ما لها من معنى الشمول لجميع أفراد مدخولها، فإذا خرج من مدخولها بعض الأفراد
______________________________
(1) منها: أنّه حجّة في الباقي مطلقاً إن لم يكن المخصّص مجملًا، اختار هذا القول المحقّق في المعارج: ص 97، و العلّامة في النهاية: الورقة: 61، صاحب المعالم في معالم الدين: ص 116. و منها: أنّه لا يجوز الاستدلال به مطلقاً ذهب إليه عيسى بن أبان و أبو ثور، راجع المعتمد لأبي الحسين البصري: ج 1 ص 265.
(2) انظر نهاية الوصول: الورقة 61، و المعتمد: ج 1 ص 265.
(3) انظر نهاية الوصول: الورقة 61، و المعتمد: ج 1 ص 265.
أصول الفقه ( مظفر، محمد رضا - طبع انتشارات اسلامى )، ج1، ص: 199
بالتخصيص بالمتّصل أو المنفصل فلا تزال دلالتها على العموم باقية على حالها، و إنّما مدخولها تتضيّق دائرته بالتخصيص.
فحكم العامّ المخصّص حكم العامّ غير المخصّص في ظهوره في الشمول لكلّ ما يمكن أن يدخل فيه.
و على أيّ حال بعد القول بأنّ العامّ المخصَّص حقيقة في الباقي- على ما بيّنّاه- لا يبقى شكّ في حجّيته في الباقي. و إنّما يقع الشكّ على تقدير القول بالمجازيّة، فقد نقول: إنّه حجّة في الباقي على هذا التقدير و قد لا نقول، لا أنّه كلّ من يقول بالمجازيّة يقول بعدم الحجّية، كما توهّم ذلك بعضهم.
- 5- هل يسري إجمال المخصّص إلى العامّ؟
كان البحث السابق- و هو حجّية العام في الباقي- في فرض أنّ الخاصّ مبيَّن لا إجمال فيه، و إنّما الشكّ في تخصيص غيره ممّا علم خروجه عن الخاصّ.
و علينا الآن أن نبحث عن حجّية العامّ في فرض إجمال الخاصّ.
و الإجمال على نحوين:
1- الشبهة المفهوميّة، و هي في فرض الشكّ في نفس مفهوم الخاصّ بأن كان مجملًا، نحو قوله عليه السلام: «كلّ ماءٍ طاهر إلّا ما تغيّر طعمه أو لونه أو ريحه» «1» الّذي يشك فيه: أنّ المراد من «التغيّر» خصوص التغيّر الحسّي أو ما يشمل التغيّر التقديري. و نحو قولنا: «أحسن الظنّ إلّا بخالد» الّذي يشك فيه: أنّ المراد من «خالد» هو خالد بن بكر، أو خالد بن سعد، مثلًا.
______________________________
(1) مستدرك الوسائل: ج 1 ص 186، الباب 1 من أبواب الماء المطلق، ح 5.
أصول الفقه ( مظفر، محمد رضا - طبع انتشارات اسلامى )، ج1، ص: 200
2- الشبهة المصداقيّة، و هي في فرض الشكّ في دخول فردٍ من أفراد العامّ في الخاصّ مع وضوح مفهوم الخاصّ، بأن كان مبيَّناً لا إجمال فيه، كما إذا شكّ في مثال الماء السابق: أنّ ماءً معيّناً أتغيّر بالنجاسة فدخل في حكم الخاصّ أم لم يتغيّر فهو لا يزال باقياً على طهارته؟
و الكلام في الشبهتين يختلف اختلافاً بيّناً. فلنفرد لكلّ منهما بحثاً مستقلًاّ:
أ- الشبهة المفهوميّة:
الدوران في الشبهة المفهومية تارةً يكون بين الأقلّ و الأكثر كالمثال الأوّل، فإنّ الأمر دائر فيه بين تخصيص خصوص التغيّر الحسّي أو يعمّ التقديري، فالأقلّ هو التغيّر الحسّي- و هو المتيقّن- و الأكثر هو الأعمّ منه و من التقديري.
و اخرى يكون بين المتباينين كالمثال الثاني، فإنّ الأمر دائر فيه بين تخصيص «خالد بن بكر» و بين «خالد بن سعد» و لا قدر متيقّن في البين.
ثمّ على كلّ من التقديرين، إمّا أن يكون المخصِّص متّصلًا أو منفصلًا.
و الحكم في المقام يختلف باختلاف هذه الأقسام الأربعة في الجملة، فلنذكرها بالتفصيل:
1، 2- فيما إذا كان المخصّص متّصلًا سواء كان الدوران فيه بين الأقلّ و الأكثر أو بين المتباينين، فإنّ الحقّ فيه أنّ إجمال المخصّص يسري إلى العامّ، أي أنّه لا يمكن التمسّك بأصالة العموم لإدخال المشكوك في حكم العامّ.
و هو واضح على ما ذكرناه سابقاً من أنّ المخصّص المتّصل من نوع قرينة الكلام المتّصلة، فلا ينعقد للعامّ ظهور إلّا فيما عدا الخاصّ، فإذا كان
أصول الفقه ( مظفر، محمد رضا - طبع انتشارات اسلامى )، ج1، ص: 201
الخاصّ مجملًا سرى إجماله إلى العامّ، لأنّ ما عدا الخاصّ غير معلوم، فلا ينعقد للعامّ ظهور فيما لم يُعلم خروجه عن عنوان الخاصّ.
3- في الدوران بين الأقلّ و الأكثر إذا كان المخصَّص منفصلًا، فإنّ الحقّ فيه أنّ إجمال الخاصّ لا يسري إلى العامّ، أي أنّه يصحّ التمسّك بأصالة العموم لإدخال ما عدا الأقلّ في حكم العامّ. و الحجّة فيه واضحة بناءً على ما تقدّم في الفصل الثاني من أنّ العامّ المخصَّص بالمنفصل ينعقد له ظهور في العموم، و إذا كان يقدَّم عليه الخاصّ فمن باب تقديم أقوى الحجّتين فإذا كان الخاصّ مجملًا في الزائد على القدر المتيقّن منه، فلا يكون حجّة في الزائد، لأنّه- حسب الفرض- مجمل لا ظهور له فيه، و إنّما تنحصر حجّيّته في القدر المتيقّن- و هو الأقلّ- فكيف يزاحم العامّ المنعقد ظهوره في الشمول لجميع أفراده الّتي منها القدر المتيقّن من الخاصّ، و منها القدر الزائد عليه المشكوك دخوله في الخاصّ، فإذا خرج القدر المتيقّن بحجّة أقوى من العامّ يبقى القدر الزائد لا مزاحم لحجّية العامّ و ظهوره فيه.
4- في الدوران بين المتباينين إذا كان المخصّص منفصلًا، فإنّ الحقّ فيه أنّ إجمال الخاصّ يسري الى العامّ كالمخصّص المتّصل، لأنّ المفروض حصول العلم الإجمالي بالتخصيص واقعاً و إن تردّد بين شيئين، فيسقط العموم عن الحجّية في كلّ واحد منهما.
و الفرق بينه و بين المخصّص المتّصل المجمل أنّه في المتّصل يرتفع ظهور الكلام في العموم رأساً، و في المنفصل المردّد بين المتباينين ترتفع حجّية الظهور و إن كان الظهور البدويّ باقياً.
فلا يمكن التمسّك بأصالة العموم في أحد المردّدين، بل لو فرض أنّها تجري بالقياس إلى أحدهما فهي تجري أيضاً بالقياس إلى الآخر، و لا
أصول الفقه ( مظفر، محمد رضا - طبع انتشارات اسلامى )، ج1، ص: 202
يمكن جريانهما معاً، لخروج أحدهما عن العموم قطعاً، فيتعارضان و يتساقطان، و إن كان الحقّ أنّ نفس وجود العلم الإجمالي يمنع من جريان أصالة العموم في كلّ منهما رأساً، لا أنّها تجري فيهما فيحصل التعارض ثمّ التساقط.
ب- الشبهة المصداقيّة:
قلنا: إنّ الشبهة المصداقيّة تكون في فرض الشكّ في دخول فرد من أفراد ما ينطبق عليه العامّ في المخصّص، مع كون المخصّص مبيَّناً لا إجمال فيه و إنّما الإجمال في المصداق، فلا يدرى أنّ هذا الفرد متّصف بعنوان الخاصّ فخرج عن حكم العامّ، أم لم يتّصف فهو مشمول لحكم العامّ، كالمثال المتقدّم، و هو الماء المشكوك تغيّره بالنجاسة، و كمثال الشكّ في اليد على مالٍ أنّها يدُ عادية أو يدُ أمانة، فيُشكّ في شمول العامّ لها، و هو قوله صلى الله عليه و آله و سلم: «على اليد ما أخذت حتّى تؤدّي» «1» لأنّها يد عادية، أو خروجها منه لأنّها يد أمانة، لما دلّ على عدم ضمان يد الأمانة المخصِّص لذلك العموم.
ربما ينسب إلى المشهور من العلماء الأقدمين القول بجواز التمسّك بالعامّ في الشبهة المصداقيّة «2» و لذا أفتوا في مثال اليد المشكوكة بالضمان «3». و قد يستدلّ لهذا القول: بأنّ انطباق عنوان العامّ على المصداق
______________________________
(1) مستدرك الوسائل: ج 17 ص 88، الباب 1 من أبواب الغصب، ح 4. سنن ابن ماجة: ج 2 ص 802 ح 2400 بلفظ «حتى تؤدّيه» في المصدرين.
(2) لم نظفر بقائله، قال في المحاضرات: إنّ هذه المسألة لم تكن معنونةً في كلماتهم لا في الاصول و لا في الفروع، و لكن مع ذلك نُسب إليهم فتاوى لا يمكن إتمامها بدليل إلّا على القول بجواز التمسّك بالعامّ في الشبهات المصداقيّة، فلأجل ذلك نُسب إليهم، محاضرات في اصول الفقه، (تقريرات أبحاث السيّد الخوئي قدس سره): ج 5 ص 190.
(3) لم نتوفّق للفحص عن ذلك و الإشارة إلى مواضع فتياهم.
أصول الفقه ( مظفر، محمد رضا - طبع انتشارات اسلامى )، ج1، ص: 203
المردّد معلوم فيكون العامّ حجّة فيه ما لم يعارض بحجّة أقوى، و أمّا انطباق عنوان الخاصّ عليه فغير معلوم، فلا يكون الخاصّ حجّة فيه، فلا يزاحم حجّية العامّ. و هو نظير ما قلناه في المخصّص المنفصل في الشبهة المفهوميّة عند الدوران بين الأقلّ و الأكثر.
و الحقّ عدم جواز التمسّك بالعامّ في الشبهة المصداقية في المتّصل و المنفصل معاً.
و دليلنا على ذلك: أنّ المخصّص لمّا كان حجّة أقوى من العامّ، فإنّه موجب لقصر حكم العام على باقي أفراده، و رافع لحجّية العامّ في بعض مدلوله. و الفرد المشكوك مردّد بين دخوله فيما كان العامّ حجّة فيه و بين خروجه عنه مع عدم دلالة العامّ على دخوله فيما هو حجّة فيه، فلا يكون العامّ حجّة فيه بلا مزاحم، كما قيل في دليلهم. و لئن كان انطباق عنوان العامّ عليه معلوماً، فليس هو معلوم الانطباق عليه بما هو حجّة.
و الحاصل: أنّ هناك عندنا حجّتين معلومتين حسب الفرض: إحداهما العامّ، هو حجّة فيما عدا الخاصّ. و ثانيتهما المخصّص، و هو حجّة في مدلوله، و المشتبه مردّد بين دخوله في تلك الحجّة أو هذه الحجّة.
و بهذا يظهر الفرق بين الشبهة المصداقيّة و بين الشبهة المفهوميّة في المنفصل عند الدوران بين الأقلّ و الأكثر، فإنّ الخاصّ في الشبهة المفهوميّة ليس حجّة إلّا في الأقلّ، و الزائد المشكوك ليس مشكوك الدخول فيما كان الخاصّ معلوم الحجّية فيه، بل الخاصّ مشكوك أنّه جعل حجّة فيه أم لا، و مشكوك الحجّيّة في شيء ليس بحجّة- قطعاً- في ذلك الشيء «1».
______________________________
(1) سيأتي في مباحث الحجّة: أنّ قوام حجّية الشيء بالعلم، لأنّه إنّما يكون الشيء صالحاً لأنّ يحتجّ به المولى على العبد إذا كان واصلًا إليه بالعلم، فالعلم مأخوذ في موضوع الحجّة، فعند الشكّ في حجّية شيء يرتفع موضوعها فيعلم بعدم حجّيته. و معنى الشكّ في حجّيته احتمال أنّه نصبه الشارع حجّة واقعاً على تقدير وصوله، و حيث لم يصل يقطع بعدم حجّيته فعلًا، فيزول ذلك الاحتمال البدوي عند الالتفات إلى ذلك، لا أنّه حين الشكّ في الحجّية يقطع بعدم الحجّية، و إلّا للزم اجتماع الشكّ و القطع بشيء واحد في آنٍ واحد، و هو محال.
أصول الفقه ( مظفر، محمد رضا - طبع انتشارات اسلامى )، ج1، ص: 204
و أمّا العامّ فهو حجّة إلّا فيما كان الخاصّ حجّة فيه. وعليه لا يكون الأكثر مردّداً بين دخوله في تلك الحجّة أو هذه الحجّة، كالمصداق المردّد، بل هو معلوم أنّ الخاصّ ليس حجّة فيه، لمكان الشكّ، فلا يزاحم حجّية العامّ فيه.
و أمّا فتوى المشهور بالضمان في اليد المشكوكة أنّها يد عادية أو يد أمانة فلا يُعلم أنّها لأجل القول بجواز التمسّك بالعامّ في الشبهة المصداقيّة، و لعلّ لها وجهاً آخر، ليس المقام محلّ ذكره.
تنبيه:
في جواز التمسّك بالعامّ في الشبهة المصداقيّة إذا كان المخصّص لُبّياً
المقصود من «المخصّص اللُبّي» ما يقابل اللفظي، كالإجماع و دليل العقل اللذين هما دليلان و ليسا من نوع الألفاظ. فقد نسب إلى الشيخ المحقّق الأنصاري قدس سره جواز التمسّك بالعامّ في الشبهة المصداقيّة مطلقاً إذا كان المخصّص لُبّياً «1» و تبعه جماعة من المتأخّرين عنه «2».
و ذهب المحقّق شيخ أساتذتنا صاحب الكفاية قدس سره إلى التفصيل بين ما إذا كان المخصّص اللبّي ممّا يصحّ أن يتّكل عليه المتكلّم في بيان مراده- بأن كان عقليّاً ضروريّاً- فإنّه يكون كالمتّصل فلا ينعقد للعامّ ظهور في العموم فلا مجال للتمسّك بالعامّ في الشبهة المصداقيّة، و بين ما إذا لم يكن كذلك- كما إذا لم يكن التخصيص ضروريّاً على وجهٍ يصحّ أن يتّكل عليه
______________________________
(1) راجع مطارح الأنظار: ص 194 الهداية الثالثة من مباحث العامّ و الخاصّ.
(2) لم نحقّق ذلك، و إن صرّح بهذه التبعيّة في فوائد الاصول أيضاً، راجع ج 2 ص 536.
أصول الفقه ( مظفر، محمد رضا - طبع انتشارات اسلامى )، ج1، ص: 205
المتكلّم- فإنّه لا مانع من التمسّك بالعامّ في الشبهة المصداقيّة، لبقاء العامّ على ظهوره، و هو حجّة بلا مزاحم.
و استشهد على ذلك بما ذكره من الطريقة المعروفة و السيرة المستمرّة المألوفة بين العقلاء، كما إذا أمر المولى منهم عبده بإكرام جيرانه، و حصل القطع للعبد بأنّ المولى لا يريد إكرام من كان عدوّاً له من الجيران، فإنّ العبد ليس له ألّا يكرم من يشكّ في عداوته، و للمولى أن يؤاخذه على عدم إكرامه. و لا يصحّ منه الاعتذار بمجرّد احتمال العداوة، لأنّ بناء العقلاء و سيرتهم هي ملاك حجّية أصالة الظهور، فيكون ظهور العامّ في هذا المقام حجّة بمقتضى بناء العقلاء.
و زاد على ذلك بأنّه يستكشف من عموم العامّ للفرد المشكوك أنّه ليس فرداً للخاصّ الّذي عُلم خروجه من حكم العامّ. و مثّل له بعموم قوله:
«لعن اللَّه بني فلان قاطبة» «1» المعلوم منه خروج من كان مؤمناً منهم، فإن شكّ في إيمان شخصٍ يحكم بجواز لعنه، للعموم. و كلّ من جاز لعنه ليس مؤمناً، فينتج من الشكل الأوّل: هذا الشخص ليس مؤمناً «2».
هذا خلاصة رأي صاحب الكفاية قدس سره
و لكن شيخنا المحقّق الكبير النائيني- أعلى اللَّه مقامه- لم يرتضِ هذا التفصيل، و لا إطلاق رأي الشيخ قدس سره، بل ذهب إلى تفصيلٍ آخر.
و خلاصته: أنّ المخصّص اللُبّي سواء كان عقليّاً ضروريّاً يصحّ أن يتّكل عليه المتكلّم في مقام التخاطب، أو لم يكن كذلك- بأن كان عقليّاً نظريّاً أو إجماعاً- فإنّه كالمخصّص اللفظي كاشفٌ عن تقييد المراد الواقعي في العامّ: من عدم كون موضوع الحكم الواقعي باقياً على إطلاقه الّذي يظهر فيه العامّ. فلا مجال للتمسّك بالعامّ في الفرد المشكوك بلا فرق
______________________________
(1) كامل الزيارات: ص 329.
(2) راجع كفاية الاصول: ص 259- 261.
أصول الفقه ( مظفر، محمد رضا - طبع انتشارات اسلامى )، ج1، ص: 206
بين اللُبّي و اللفظي، لأنّ المانع من التمسّك بالعامّ مشترك بينهما، و هو انكشاف تقييد موضوعٍ الحكم واقعاً. و لا يفرق في هذه الجهة بين أن يكون الكاشف لفظياً أو لُبّياً.
و استثنى من ذلك ما إذا كان المخصص اللُبّي لم يُستكشف منه تقييد موضوع الحكم واقعاً بأن كان العقل إنّما أدرك ما هو ملاك حكم الشارع واقعاً، أو قام الإجماع على كونه ملاكاً لحكم الشارع- كما إذا أدرك العقل أو قام الإجماع على أنّ ملاك لعن بني فلان هو كفرهم- فإنّ ذلك لا يوجب تقييد موضوع الحكم، لأنّ الملاك لا يصلح لتقييدٍ، بل من العموم يستكشف وجود الملاك في جميعهم. فإذا شُكّ في وجود الملاك في فردٍ يكون عموم الحكم كاشفاً عن وجوده فيه. نعم، لو علم بعدم وجود الملاك في فردٍ يكون الفرد نفسه خارجاً كما لو أخرجه المولى بالنصّ عليه، لا أنّه يكون كالمقيِّد لموضوع العامّ.
و أمّا سكوت المولى عن بيانه، فهو إمّا لمصلحة أو لغفلة إذا كان من الموالي العاديّين.
نعم، لو تردّد الأمر بين أن يكون المخصِّص كاشفاً عن الملاك أو مقيِّداً لعنوان العامّ، فإنّ التفصيل الّذي ذكره صاحب الكفاية يكون وجيهاً.
و الحاصل: أنّ المخصّص إن أحرزنا أنّه كاشف عن تقييد موضوع العامّ فلا يجوز التمسّك بالعموم في الشبهة المصداقيّة أبداً، و إن أحرزنا أنّه كاشف عن ملاك الحكم فقط من دون تقييدٍ فلا مانع من التمسّك بالعموم، بل يكون كاشفاً عن وجود الملاك في المشكوك. و إن تردّد أمره و لم يحرز كونه قيداً أو ملاكاً، فإن كان حكم العقل ضروريّاً يمكن الاتّكال عليه في التفهيم، فيلحق بالقسم الأوّل، و إن كان نظريّاً أو إجماعاً لا يصحّ الاتّكال عليه فيلحق بالقسم الثاني، فيتمسّك بالعموم، لجواز أن يكون الفرد
أصول الفقه ( مظفر، محمد رضا - طبع انتشارات اسلامى )، ج1، ص: 207
المشكوك قد أحرز المولى وجود الملاك فيه، مع احتمال أنّ ما أدركه العقل أو قام عليه الإجماع من قبيل الملاكات «1».
هذا كلّه حكاية أقوال علمائنا في المسألة. و إنّما أطلت في نقلها، لأنّ هذه المسألة حادثة، أثارها شيخنا الأنصاري قدس سره- مؤسّس الاصول الحديث- و اختلف فيها أساطين مشايخنا. و نكتفي بهذا المقدار دون بيان ما نعتمد عليه من الأقوال لئلّا نخرج عن الغرض الّذي وضعت له الرسالة.
و بالاختصار: أنّ ما ذهب إليه الشيخ هو الأولى بالاعتماد، و لكن مع تحريرٍ لقوله على غير ما هو المعروف عنه «2».
______________________________
(1) فوائد الاصول: ج 2 ص 536- 537.
(2) (*) و توضيح ذلك: أنّ كلّ عامٍّ ظاهرٍ في العموم لا بدّ أن يتضمّن ظهورين: 1- ظهوره في عدم منافاة أيّة صفة من الصفات أو أيّ عنوان من العناوين لحكمه.
2- ظهوره في عدم وجود المنافي أيضاً. أي: أنّه ظاهر في عدم المنافاة و عدم المنافي معه.
فإنّ معنى ظهور عموم «أكرم جيراني»- مثلًا-: أنّه ليس هناك صفة أو عنوان ينافي الحكم بوجوب إكرام الجيران، نحو صفة العداوة أو الفسق أو نحو ذلك، كما أنّ معناه أيضاً أنّه ليس يوجد في الجيران من فيه صفة أو عنوان ينافي الحكم بوجوب إكرامه. و هذا واضح لا غبار فيه.
فإذا جاء بعد انعقاد هذا الظهور في العموم مخصّص منفصل لفظي، كما لو قال في المثال المتقدّم: «لا تكرم الأعداء من جيراني» فإنّ هذا المخصّص لا شكّ في أنّه يكون ظاهراً في أمرين:
1- إنّ صفة العداوة منافية لوجوب الإكرام.
2- إنّ في الجيران من هو على صفة العداوة فعلًا أو يتوقّع منه أن يكون عدواً، و إلّا لو لم يوجد العدوّ و لا يتوقّع فيهم لكان هذا التخصيص لغواً و عبثاً لا يصدر من الحكيم.
و على ذلك فيكون المخصّص اللفظي مزاحماً للعامّ في الظهورين معاً، فيسقط عن الحجّية فيهما معاً. فإذا شككنا في فرد من الجيران أنّه عدوّ أم لا، فلا مجال فيه للتمسّك بالعامّ في إلحاقه بحكمه، لسقوط العامّ عن حجّيته في شموله له، إذ يكون هذا الفرد مردّداً بين دخوله فيما أصبح العامّ حجّة فيه و بين دخوله فيما كان الخاصّ حجّة فيه.
أمّا لو كان هناك مخصِّص لُبّي، كما لو حكم العقل- مثلًا- بأنّ العداوة تنافي وجوب الإكرام، فإنّ هذا الحكم من العقل لا يتوقّف على أن يكون هناك أعداء بالفعل أو متوقّعون، بل العقل يحكم بهذا الحكم سواء كان هناك أعداء أم لم يكونوا أبداً، إذ لا مجال للقول بأنّه لو لم يكن هناك أعداء لكان حكم العقل لغواً و عبثاً، كما هو واضح بادنى تأمّل و التفات. وعليه، فالحكم العقلي هذا لا يزاحم الظهور الثاني للعامّ، أعني ظهوره في عدم المنافي، فظهوره الثاني هذا يبقى بلا مزاحم.
فإذا شككنا في فرد من الجيران أنّه عدوٌّ أم لا فلا مانع من التمسّك بالعامّ في إدخاله في حكمه، لأنّه لا يكون هذا الفرد مردّداً بين دخوله في هذه الحجّة أو هذه الحجّة، إذ المخصّص اللُبّي حسب الفرض لا يقتضي وجود المنافي و ليس حجّة فيه، أمّا العام فهو حجّة فيه بلا مزاحم.
فظهر من هذا البيان: أنّ الفرق عظيم بين المخصِّص اللُبّي و المخصِّص اللفظي من هذه الناحية، لأنّه في المخصِّص اللُبّي يبقى العامّ حجّة في ظهوره الثاني من دون أن يكون المخصّص متعرّضاً له، و لا يسقط العامّ عن الحجّية في ظهوره إلّا بمقدار المزاحمة لا أكثر. و هذا بخلاف المخصِّص اللفظي، فإنّه ظاهر في الأمرين معاً، كما قدّمناه، فيكون مزاحماً للعامّ فيهما معاً.
و لا فرق في المخصّص اللُبّي بين أن يكون ضروريّاً أو يكون غير ضروري، و لا بين أن يكون كاشفاً عن تقييد موضوع العامّ أو كاشفاً عن ملاك الحكم، فإنّه في جميع هذه الصور لا يقتضي وجود المنافي.
و بهذا التحرير للمسألة يتجلّى مرام الشيخ الأعظم انّه الأولى بالاعتماد.
[هذه التعليقة لم ترد في ط الاولى]
أصول الفقه ( مظفر، محمد رضا - طبع انتشارات اسلامى )، ج1، ص: 208
- 6 لا يجوز العمل بالعامّ قبل الفحص عن المخصِّص
لا شكّ في أنّ بعض عمومات القرآن الكريم و السنّة الشريفة ورد لها مخصِّصات منفصلة شرحت المقصود من تلك العمومات. و هذا معلوم من طريقة صاحب الشريعة و الأئمّة الأطهار- عليهم الصلاة و السلام- حتى قيل: «ما من عامّ إلّا و قد خُصّ». و لذا ورد عن أئمّتنا ذمّ من استبدّوا برأيهم في الأحكام، لأنّ في الكتاب المجيد و السنّة عامّاً و خاصّاً و مطلقاً و مقيَّداً.
أصول الفقه ( مظفر، محمد رضا - طبع انتشارات اسلامى )، ج1، ص: 209
و هذه الامور لا تُعرف إلّا من طريق آل البيت عليهم السلام [و صاحب البيت أدرى بالّذي فيه] «1».
و هذا ما أوجب التوقّف في التسرّع بالأخذ بعموم العامّ قبل الفحص و اليأس من وجود المخصِّص، لجواز أن يكون هذا العامّ من العمومات الّتي لها مخصِّص موجود في السنّة أو في الكتاب لم يطّلع عليه من وصل إليه العامّ. و قد نقل عدم الخلاف بل الإجماع على عدم جواز الأخذ بالعامّ قبل الفحص و اليأس «2» و هو الحقّ.
و السرّ في ذلك واضح لما قدّمناه، لأنّه إذا كانت طريقة الشارع في بيان مقاصده تعتمد على القرائن المنفصلة لا يبقى اطمئنان بظهور العامّ في عمومه، فإنّه يكون ظهوراً بدويّاً. و للشارع الحجّة على المكلّف إذا قصّر في الفحص عن المخصّص.
أمّا إذا بذل وُسعَه و فحص عن المخصّص في مظانّه حتّى حصل له الاطمئنان بعدم وجوده، فله الأخذ بظهور العامّ. و ليس للشارع حجّة عليه فيما لو كان هناك مخصّص واقعاً لم يتمكّن المكلّف من الوصول إليه عادةً بالفحص، بل للمكلَّف أن يحتجّ فيقول: إنّي فحصت عن المخصّص فلم أظفر به، و لو كان مخصِّص هناك كان ينبغي بيانه على وجهٍ لو فحصنا عنه عادةً لوجدناه في مظانّه. و إلّا فلا حجّة فيه علينا.
و هذا الكلام جارٍ في كلّ ظهور، فإنّه لا يجوز الأخذ به إلّا بعد الفحص عن القرائن المنفصلة. فإذا فحص المكلّف و لم يظفر بها فله أن يأخذ بالظهور و يكون حجّة عليه.
______________________________
(1) لم يرد في ط 2.
(2) قال في مطارح الأنظار (ص 201 السطر الأخير): و ربما نفي الخلاف فيه كما عن الغزالي و الآمدي، بل ادّعي عليه الاجماع كما عن النهاية.
أصول الفقه ( مظفر، محمد رضا - طبع انتشارات اسلامى )، ج1، ص: 210
و من هنا نستنتج قاعدةً عامّة تأتي في محلّها و نستوفي البحث عنها- إن شاء اللَّه تعالى- و المقام من صغرياتها، و هي:
إنّ أصالة الظهور لا تكون حجّة إلّا بعد الفحص و اليأس عن القرينة.
أمّا بيان مقدار الفحص الواجب أ هو الّذي يوجب اليأس على نحو القطع بعدم القرينة، أو على نحو الظنّ الغالب و الاطمئنان بعدمها؟ فذلك موكول إلى محلّه. و المختار كفاية الاطمئنان.
و الّذي يهوّن الخطب في هذه العصور المتأخّرة أنّ علماءنا- قدّس اللَّه تعالى أرواحهم- قد بذلوا جهودهم على تعاقب العصور في جمع الأخبار و تبويبها و البحث عنها و تنقيحها في كتب الأخبار و الفقه، حتّى أنّ الفقيه أصبح الآن يسهل عليه الفحص عن القرائن بالرجوع إلى مظانّها المهيَّأة، فإذا لم يجدها بعد الفحص يحصل له القطع غالباً بعدمها.
- 7 تعقيب العامّ بضمير يرجع إلى بعض أفراده
قد يرد عامّ ثمّ ترد بعده جملة فيها ضمير يرجع إلى بعض أفراد العامّ بقرينة خاصّة. مثل قوله تعالى (2: 228): «وَ الْمُطَلَّقاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ ...» إلى قوله: «وَ بُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذلِكَ» فإنّ المطلَّقات عامّة للرجعيّات و غيرها، و لكن الضمير في «بعولتهنّ» يراد به خصوص الرجعيّات. فمثل هذا الكلام يدور فيه الأمر بين مخالفتين للظاهر، إمّا:
1- مخالفة ظهور العامّ في العموم، بأن يجعل مخصوصاً بالبعض الّذي يرجع إليه الضمير. و إمّا:
2- مخالفة ظهور الضمير في رجوعه إلى ما تقدّم عليه من المعنى
أصول الفقه ( مظفر، محمد رضا - طبع انتشارات اسلامى )، ج1، ص: 211
الّذي دلّ عليه اللفظ، بأن يكون مستعملًا على سبيل الاستخدام، فيراد منه البعض، و العامّ يبقى على دلالته على العموم، فأيّ المخالفتين أولى؟ وقع الخلاف على أقوال ثلاثة:
الأوّل: أنّ أصالة العموم هي المقدّمة «1» فيلتزم بالمخالفة الثانية.
الثاني: أنّ أصالة عدم الاستخدام هي المقدّمة «2» فيلتزم بالمخالفة الاولى.
الثالث: عدم جريان الأصلين معاً «3» و الرجوع إلى الاصول العمليّة.
أمّا عدم جريان أصالة العموم، فلوجود ما يصلح أن يكون قرينة في الكلام و هو عود الضمير على البعض، فلا ينعقد ظهور العامّ في العموم.
و أمّا أنّ أصالة عدم الاستخدام لا تجري، فلانّ الاصول اللفظيّة يشترط في جريانها- كما سبق أوّلَ الكتاب- أن يكون الشكّ في مراد المتكلّم، فلو كان المراد معلوماً- كما في المقام- و كان الشكّ في كيفية الاستعمال، فلا تجري قطعاً.
و الحقّ أنّ أصالة العموم جارية و لا مانع منها، لأنّا ننكر أن يكون عود الضمير إلى بعض أفراد العامّ موجباً لصرف ظهور العموم، إذ لا يلزم من تعيّن البعض من جهة مرجعيّة الضمير بقرينةٍ أن يتعيّن إرادة البعض من جهة حكم العامّ الثابت له بنفسه، لأنّ الحكم في الجملة المشتملة على الضمير غير الحكم في الجملة المشتملة على العامّ، و لا علاقة بينهما، فلا يكون عود الضمير على بعض العامّ من القرائن الّتي تصرف ظهورَه
______________________________
(1) قاله القاضي عبد الجبّار و اختاره جماعة من المعتزلة و الأشاعرة، نهاية الوصول: الورقة: 75.
(2) اختاره العلّامة في نهاية الوصول.
(3) هو مذهب السيّد المرتضى و أبي الحسين البصري و الجويني و فخر الدين الرازي،- كما في المصدر المتقدّم- و اختاره المحقّق في معارج الاصول: ص 100.
أصول الفقه ( مظفر، محمد رضا - طبع انتشارات اسلامى )، ج1، ص: 212
عن عمومه. و اعتبر ذلك في المثال، فلو قال المولى: «العلماء يجب إكرامهم» ثمّ قال: «و هم يجوز تقليدهم» و اريد من ذلك «العدول» بقرينةٍ، فإنّه واضح في هذا المثال أنّ تقييد الحكم الثاني بالعدول لا يوجب تقييد الحكم الأوّل بذلك، بل ليس فيه إشعار به. و لا يفرق في ذلك بين أن يكون التقييد بمتّصل كما في مثالنا، أو بمنفصل كما في الآية.
- 8- تعقيب الاستثناء لجمل متعدّدة
قد ترد عمومات متعدّدة في كلامٍ واحد ثمّ يتعقّبها اس`
حوزوی کتب
اصول الفقہ حصہ اول
تعريف علم الاصول:
المقدّمة
- 2 من الواضع؟
- 3 الوضع تعيينىٌّ و تعيّنيٌ
- 4 أقسام الوضع
- 6 وقوع الوضع العامّ و الموضوع له الخاصّ و تحقيق المعنى الحرفي
- 7- الاستعمال حقيقيٌّ و مجازيٌ
- 8 الدلالة تابعة للإرادة
- 9 الوضع شخصيٌّ و نوعيٌ
- 10 وضع المركَّبات
- 11- الحقيقة و المجاز
- 12 الاصول اللفظيّة تمهيد:
- 13- الترادف و الاشتراك
استعمال اللفظ في أكثر من معنى:
- 14 الحقيقة الشرعيّة
الصحيح و الأعمّ
المقصد الأوّل: مباحث الألفاظ
الباب الأوّل: المشتقّ
- 2- جريان النزاع في اسم الزمان
- 3 اختلاف المشتقّات من جهة المبادئ
- 4 استعمال المشتقّ بلحاظ حال التلبّس حقيقة
الباب الثاني: الأوامر
المبحث الثاني: صيغة الأمر
الخاتمة: في تقسيمات الواجب
الباب الثالث: النواهي
الباب الرابع: المفاهيم
الأوّل مفهوم الشرط
الثاني مفهوم الوصف
الثالث مفهوم الغاية
الرابع مفهوم الحصر
الخامس مفهوم العدد
السادس مفهوم اللقب
خاتمة في دلالة الاقتضاء و التنبيه و الإشارة
الباب الخامس: العامّ و الخاصّ
المسألة الاولى معنى المطلق و المقيّد
الباب السابع: المجملُ و المبيّن
اصول الفقہ حصہ اول
الباب الخامس: العامّ و الخاصّ
`تمهيد: أقسام العامّ:
العامّ و الخاصّ: هما من المفاهيم الواضحة البديهيّة الّتي لا تحتاج إلى التعريف إلّا لشرح اللفظ و تقريب المعنى إلى الذهن؛ فلذلك لا محلّ لتعريفهما بالتعاريف الحقيقيّة.
و القصد من «العامّ»: اللفظ الشامل بمفهومه لجميع ما يصلح انطباق عنوانه عليه في ثبوت الحكم له. و قد يقال للحكم: إنّه عامّ أيضاً باعتبار شموله لجميع أفراد الموضوع أو المتعلَّق أو المكلَّف.
و القصد من «الخاصّ»: الحكم الّذي لا يشمل إلّا بعض أفراد موضوعه أو المتعلَّق أو المكلَّف، أو أنّه اللفظ الدالّ على ذلك.
و التخصيص: هو إخراج بعض الأفراد عن شمول الحكم العامّ بعد أن كان اللفظ في نفسه شاملًا له لو لا التخصيص.
و التخصّص: هو أن يكون اللفظ من أوّل الأمر- بلا تخصيص- غير شامل لذلك الفرد غير المشمول للحكم. ينقسم العامّ إلى ثلاثة أقسام باعتبار تعلّق الحكم به:
1- العموم الاستغراقي، و هو أن يكون الحكم شاملًا لكلّ فردٍ فردٍ،
أصول الفقه ( مظفر، محمد رضا - طبع انتشارات اسلامى )، ج1، ص: 191
فيكون كلّ فردٍ وحده موضوعاً للحكم، و لكلِّ حكمٍ متعلّقٍ بفرد من الموضوع عصيان خاصّ، نحو أكرم كلّ عالم.
2- العموم المجموعي، و هو أن يكون الحكم ثابتاً للمجموع بما هو مجموع، فيكون المجموع موضوعاً واحداً، كوجوب الإيمان بالأئمّة، فلا يتحقّق الامتثال إلّا بالإيمان بالجميع.
3- العموم البدلي، و هو أن يكون الحكم لواحدٍ من الأفراد على البدل، فيكون فرد واحد فقط- على البدل- موضوعاً للحكم، فإذا امتثل في واحد سقط التكليف، نحو «أعتق أيّة رقبة شئت».
فإن قال قائل: إِنَّ عدَّ هذا القسم الثالث من أقسام العموم فيه مسامحة ظاهرة، لأنّ البدليّة تنافي العموم، إذ المفروض أنّ متعلّق الحكم أو موضوعه ليس إلّا فرداً واحداً فقط.
نقول في جوابه: العموم في هذا القسم معناه عموم البدليّة، أي صلاح كلّ فرد لأن يكون متعلّقاً أو موضوعاً للحكم. نعم، إذا كان استفادة العموم من هذا القسم بمقتضى الإطلاق فهو يدخل في المطلق، لا في العامّ.
و على كلّ حال، إنّ عموم متعلّق الحكم لأحواله و أفراده إذا كان متعلّقاً للأمر الوجوبي أو الاستحبابي فهو على الأكثر من نوع العموم البدلي.
إذا عرفت هذا التمهيد، فينبغي أن نشرع في تفصيل مباحث العامّ و الخاصّ في فصول: - 1- ألفاظ العموم
لا شكّ أنّ للعموم ألفاظاً تخصّه دالّة عليه إمّا بالوضع أو بالإِطلاق بمقتضى مقدّمات الحكمة. و هي إمّا أن تكون ألفاظاً مفردة مثل «كلّ»
أصول الفقه ( مظفر، محمد رضا - طبع انتشارات اسلامى )، ج1، ص: 192
و ما في معناها مثل «جميع» و «تمام» و «أيّ» و «دائماً». و إمّا أن تكون هيئات لفظيّة كوقوع النكرة في سياق النفي أو النهي، و كون اللفظ جنساً محلّى باللام جمعاً كان أو مفرداً. فلنتكلّم عنها بالتفصيل: 1- لفظة «كلّ» و ما في معناها، فإنّه من المعلوم دلالتها بالوضع على عموم مدخولها سواء كان عموماً استغراقيّاً أو مجموعيّاً، و أنّ العموم معناه الشمول لجميع أفرادها مهما كان لها من الخصوصيّات اللاحقة لمدخولها.
2- «وقوع النكرة في سياق النفي. أو النهي» فإنّه لا شكّ في دلالتها على عموم السلب لجميع أفراد النكرة عقلًا، لا وضعاً، لأنّ عدم الطبيعة إنّما يكون بعدم جميع أفرادها. و هذا واضح لا يحتاج إلى مزيد بيان. 3- «الجمع المحلّى باللام. و المفرد المحلّى بها» لا شكّ في استفادة العموم منهما عند عدم العهد. و لكن الظاهر أنّه ليس ذلك بالوضع في المفرد المحلّى باللام، و إنّما يستفاد بالإطلاق بمقتضى مقدّمات الحكمة، و لا فرق بينهما من جهة العموم في استغراق جميع الأفراد فرداً فرداً.
و قد توهّم بعضهم «1»: أنّ معنى استغراق الجمع المحلّى و كلّ جمع مثل «أكرم جميع العلماء» هو استغراق بلحاظ مراتب الجمع، لا بلحاظ الأفراد فرداً فرداً، فيشمل كلّ جماعة جماعة، و يكون بمنزلة قول القائل: «أكرم جماعة جماعة» فيكون موضوع الحكم كلّ جماعة على حدة، لا كلّ مفرد، فإكرام شخص واحد لا يكون امتثالًا للأمر. و ذلك نظير عموم التثنية، فإنّ الاستغراق فيها بملاحظة مصاديق التثنية، فيشمل كل اثنين اثنين، فإذا قال: «أكرم كلّ عالمين» فموضوع الحكم كل اثنين من العلماء، لا كلّ فرد.
و منشأ هذا التوهّم أنّ معنى الجمع «الجماعة» كما أنّ معنى التثنية
______________________________ (1) زعمه المحقّق الشريف، على ما نسبه إليه المحقّق الأصفهاني في الفصول الغرويّة: ص 171.
أصول الفقه ( مظفر، محمد رضا - طبع انتشارات اسلامى )، ج1، ص: 193
«الاثنين» فإذا دخلت أداة العموم عليه دلّت على العموم بلحاظ كلّ جماعةٍ جماعة، كما إذا دخلت على المفرد دلّت على العموم بلحاظ كلّ فردٍ فرد، و على التثنية دلّت عليه بلحاظ كلّ اثنين اثنين، لأنّ أداة العموم تفيد عموم مدخولها.
و لكن هذا توهّم فاسد للفرق بين التثنية و الجمع، لأنّ التثنية تدلّ على الاثنين المحدودة من جانب القلّة و الكثرة. بخلاف الجمع، فإنّه يدلّ على ما هو محدود من جانب القلّة فقط، لأنّ أقلّ الجمع ثلاثة، و أمّا من جانب الكثرة فغير محدود أبداً؛ فكلّ ما تفرض لذلك اللفظ المجموع من أفراد- مهما كثرت- فهي مرتبة من الجمع واحدة و جماعة واحدة، حتى لو اريد جميع الأفراد بأسرها، فإنّها كلّها مرتبة واحدة من الجمع، لا مجموعة مراتب له. فيكون معنى استغراق الجمع عدم الوقوف على حدّ خاصّ من حدود الجمع و مرتبة دانية منه، بل المقصود أعلى مراتبة. فيذهب استغراقه إلى آخر الآحاد، لا إلى آخر المراتب، إذ ليس هناك بلحاظ جميع الأفراد إلّا مرتبة واحدة، لا مراتب متعدّدة، و ليس إلّا حدّ واحد هو الحدّ الأعلى، لا حدود متكثّرة، فهو من هذه الجهة كاستغراق المفرد، معنا: عدم الوقوف على حدّ خاصّ، فيذهب إلى آخر الآحاد.
نعم، الفرق بينهما إنّما هو في عدم الاستغراق، فإنّ عدم استغراق المفرد يوجب الاقتصار على واحد، و عدم استغراق الجمع يوجب الاقتصار على أقلّ الجمع، و هو ثلاثة.
- 2- المخصّص المتّصل و المنفصل
إنّ تخصيص العامّ على نحوين:
1- أن يقترن به مخصّصه في نفس الكلام الواحد الملقى من المتكلّم
أصول الفقه ( مظفر، محمد رضا - طبع انتشارات اسلامى )، ج1، ص: 194
كقولنا: «أشهد أن لا إله إلّا اللَّه». و يُسمّى «المخصّص المتّصل» فيكون قرينة على إرادة ما عدا الخاصّ من العموم. و تلحق به- بل هي منه- القرينة الحالية المكتنف بها الكلام الدالّة على إرادة الخصوص على وجهٍ يصحّ تعويل المتكلّم عليها في بيان مراده.
2- ألّا يقترن به مخصّصه في نفس الكلام، بل يرد في كلامٍ آخر مستقلّ قبلَه أو بعدَه. و يُسمّى «المخصّص المنفصل» فيكون أيضاً قرينة على إِرادة ما عدا الخاصّ من العموم، كالأوّل.
فإذاً لا فرق بين القسمين من ناحية القرينة على مراد المتكلّم، و إنّما الفرق بينهما من ناحية اخرى، و هي ناحية انعقاد الظهور في العموم، ففي المتّصل لا ينعقد للكلام ظهور إلّا في الخصوص، و في المنفصل ينعقد ظهور العامّ في عمومه، غير أنّ الخاصّ ظهوره أقوى، فيقدّم عليه من باب تقديم الأظهر على الظاهر أو النصّ على الظاهر.
و السرّ في ذلك: أنّ الكلام مطلقاً- العامّ و غيره- لا يستقرّ له الظهور و لا ينعقد إلّا بعد الانتهاء منه و الانقطاع عرفاً، على وجهٍ لا يبقى بحسب العرف مجال لإِلحاقه بضميمة تصلح لأن تكون قرينة تصرفه عن ظهوره الابتدائي الأوّلي، و إلّا فالكلام ما دام متّصلًا عرفاً فإنّ ظهوره مراعى، فإن انقطع من دون ورود قرينة على خلافه استقرّ ظهوره الأوّل و انعقد الكلام عليه، و إن لحقته القرينة الصارفة تُبدّل ظهوره الأوّل إلى ظهورٍ آخر حسب دلالة القرينة و انعقد حينئذٍ على الظهور الثاني؛ و لذا لو كانت القرينة مجملة أو إن وُجد في الكلام ما يحتمل أن يكون قرينة أوجب ذلك عدم انعقاد الظهور الأوّل و لا ظهور آخر، فيعود الكلام برُمّته مجملًا.
هذا من ناحية كلّيّة في كلّ كلام. و مقامنا من هذا الباب، لأنّ
أصول الفقه ( مظفر، محمد رضا - طبع انتشارات اسلامى )، ج1، ص: 195
المخصّص- كما قلنا- من قبيل القرينة الصارفة، فالعامّ له ظهور ابتدائي- أو بدوي- في العموم، فيكون مراعى بانقطاع الكلام و انتهائه، فإن لم يلحقه ما يخصّصه استقرّ ظهوره الابتدائي و انعقد على العموم، و إن لحقته قرينة التخصيص قبل الانقطاع تُبدّل ظهوره الأوّل و انعقد له ظهور آخر حسب دلالة المخصّص المتّصل.
إذاً فالعامّ المخصّص بالمتّصل لا يستقرّ و لا ينعقد له ظهور في العموم.
بخلاف المخصّص بالمنفصل، لأنّ الكلام بحسب الفرض قد انقطع بدون ورود ما يصلح للقرينة على التخصيص، فيستقرّ ظهوره الابتدائي في العموم، غير أنّه إذا ورد المخصّص المنفصل يزاحم ظهورَ العامّ، فيُقدَّم عليه من باب أنّه قرينة عليه كاشفة عن المراد الجدّي.
أصول الفقه ( مظفر، محمد رضا - طبع انتشارات اسلامى ) ؛ ج1 ؛ ص195
- 3- هل استعمال العامّ في المخصَّص مجاز؟
قلنا: إنّ المخصّص بقسميه قرينة على إرادة ما عدا الخاصّ من لفظ العموم، فيكون المراد من العامّ بعض ما يشمله ظاهره. فوقع الكلام في أنّ هذا الاستعمال هل هو على نحو المجاز أو الحقيقة؟ و اختلف العلماء فيه على أقوال كثيرة: منها أنّه مجاز مطلقاً «1». و منها أنّه حقيقة مطلقاً «2». و منها التفصيل بين المخصَّص بالمتّصل و بين المخصَّص بالمنفصل، فإن كان
______________________________ (1) قوّاه صاحب المعالم وفاقاً للشيخ و المحقّق و العلّامة في أحد قوليه و كثير من أهل الخلاف، معالم الدين: ص 113.
(2) نسبه العلّامة إلى الحنابلة و جماعة من الأشاعرة (نهاية الوصول: الورقة 60) و على هذا استقرّ رأي المحقّقين من المتأخّرين مثل المحقّق الخراساني في الكفاية: ص 255، و المحقّق النائيني كما في فرائد الاصول: ج 2 ص 516، و المحقّق الحائري في درر الفوائد: ج 1 ص 212.
أصول الفقه ( مظفر، محمد رضا - طبع انتشارات اسلامى )، ج1، ص: 196
التخصيص بالأوّل فهو حقيقة دون ما كان بالثاني «1» و قيل: بالعكس «2».
و الحقّ عندنا هو القول الثاني، أي أنّه حقيقة مطلقاً.
الدليل: إنّ منشأ توهّم القول بالمجاز أنّ أداة العموم لمّا كانت موضوعة للدلالة على سعة مدخولها و عمومه لجميع أفراده، فلو اريد منه بعضه فقد استعملت في غير ما وُضعت، فيكون الاستعمال مجازاً. و هذا التوهّم يدفع بأدنى تأمّل، لأنّه في التخصيص بالمتّصل كقولك- مثلًا-:
«أكرم كلّ عالم إلّا الفاسقين» لم تستعمل أداة العموم إلّا في معناها، و هي الشمول لجميع أفراد مدخولها، غاية الأمر أنّ مدخولها تارةً يدلّ عليه لفظ واحد مثل «أكرم كلّ عادل» و اخرى يدلّ عليه أكثر من لفظ واحد في صورة التخصيص، فيكون التخصيص معناه: أنّ مدخول «كلّ» ليس ما يصدق عليه لفظ «عالم» مثلًا بل هو خصوص «العالم العادل» في المثال.
و أمّا «كلّ» فهي باقية على ما لها من الدلالة على العموم و الشمول، لأنّها تدلّ حينئذٍ على الشمول لكلّ عادل من العلماء، و لذا لا يصحّ أن يوضع مكانها كلمة «بعض» فلا يستقيم المعنى لو قلت: «أكرم بعض العلماء إلّا الفاسقين» و إلّا لما صحّ الاستثناء. كما لا يستقيم لو قلت: «أكرم بعض العلماء العدول» فإنّه لا يدلّ على تحديد الموضوع كما لو كانت «كلّ» و الاستثناء موجودين.
و الحاصل: أنّ لفظة «كلّ» و سائر أدوات العموم في مورد التخصيص لم تستعمل إلّا في معناها، و هو الشمول.
______________________________ (1) أصل هذا التفصيل لأبي الحسين البصري (راجع المعتمد: ج 1 ص 262) و اختاره العلّامة قدس سره في التهذيب (مخطوط) الورقة 17، و مبادئ الوصول: ص 131.
(2) لم نظفر بقائله، انظر نهاية الوصول: الورقة 60، البحث الخامس، و المعتمد لأبي الحسين البصري: ج 1 ص 262.
أصول الفقه ( مظفر، محمد رضا - طبع انتشارات اسلامى )، ج1، ص: 197
و لا معنى للقول بأنّ المجاز في نفس مدخولها، لأنّ مدخولها مثل كلمة «عالم» موضوع لنفس الطبيعة من حيث هي، لا الطبيعة بجميع أفرادها أو بعضها. و إرادة الجميع أو البعض إنّما يكون من دلالة لفظة اخرى ك «كلّ» أو «بعض» فإذا قيّد مدخولها و اريد منه المقيّد بالعدالة في المثال المتقدّم لم يكن مستعملًا إلّا في معناه، و هو «من له العلم» و تكون إرادة ما عدا الفاسق من العلماء من دلالة مجموع القيد و المقيّد من باب تعدّد الدالّ و المدلول. و سيجيء إن شاء اللَّه- تعالى- أنّ تقييد المطلق لا يوجب مجازاً.
هذا الكلام كلّه عن المخصَّص بالمتّصل. و كذلك الكلام عن المخصَّص بالمنفصل، لأنّا قلنا: إنّ التخصيص بالمنفصل معناه جعل الخاصّ قرينة منفصلة على تقييد مدخول «كلّ» بما عدا الخاصّ، فلا تصرّف في أداة العموم، و لا في مدخولها، و يكون أيضاً من باب تعدّد الدال و المدلول. و لو فُرض أنّ المخصّص المنفصل ليس مقيّداً لمدخول أداة العموم بل هو تخصيص للعموم نفسه، فإنّ هذا لا يلزم منه أن يكون المستعمل فيه في العامّ هو البعض حتّى يكون مجازاً، بل إنّما يكشف الخاصّ عن المراد الجدّي من العامّ.
- 4- حجّية العامّ المخصّص في الباقي
إذا شككنا في شمول العامّ المخصَّص لبعض أفراد الباقي من العامّ بعد التخصيص، فهل العام حجّة في هذا البعض، فيتمسّك بظاهر العموم لإدخاله في حكم العامّ؟ على أقوال.
مثلًا، إذا قال المولى: «كلّ ماء طاهر» ثمّ استثنى من العموم- بدليل متّصل أو منفصل- الماءَ المتغيّر بالنجاسة، و نحن احتملنا استثناءَ الماء
أصول الفقه ( مظفر، محمد رضا - طبع انتشارات اسلامى )، ج1، ص: 198
القليل الملاقي للنجاسة بدون تغيير، فإذا قلنا بأنّ العامّ المخصَّص حجّة في الباقي نطرد هذا الاحتمال بظاهر عموم العامّ في جميع الباقي، فنحكم بطهارة الماء الملاقي غير المتغيّر. و إذا لم نقل بحجّيته في الباقي يبقى هذا الاحتمال معلَّقاً لا دليل عليه من العامّ، فنلتمس له دليلًا آخر يقول بطهارته أو نجاسته. و الأقوال في المسألة كثيرة: «1» منها التفصيل بين المخصَّص بالمتّصل فيكون حجّة في الباقي، و بين المخصَّص بالمنفصل فلا يكون حجّة «2» و قيل بالعكس «3».
و الحقّ في المسألة هو الحجّية مطلقاً، لأنّ أساس النزاع ناشئٌ من النزاع في المسألة السابقة، و هي أنّ العامّ المخصَّص مجاز في الباقي أم لا؟
و من قال بالمجاز يستشكل في ظهور العامّ و حجّيته في جميع الباقي، من جهة أنّ المفروض أنّ استعمال العامّ في تمام الباقي مجاز و استعماله في بعض الباقي مجاز آخر أيضاً. فيقع النزاع في أنّ المجاز الأوّل أقرب إلى الحقيقة فيكون العامّ ظاهراً فيه، أو أنّ المجازين متساويان فلا ظهور في أحدهما. فإذا كان المجاز الأوّل هو الظاهر كان العامّ حجّة في تمام الباقي، و إلّا فلا يكون حجّة.
أمّا نحن الّذين نقول بأنّ العامّ المخصَّص حقيقة- كما تقدّم- ففي راحة من هذا النزاع، لأنّا قلنا: إنّ أداة العموم باقية على ما لها من معنى الشمول لجميع أفراد مدخولها، فإذا خرج من مدخولها بعض الأفراد
______________________________ (1) منها: أنّه حجّة في الباقي مطلقاً إن لم يكن المخصّص مجملًا، اختار هذا القول المحقّق في المعارج: ص 97، و العلّامة في النهاية: الورقة: 61، صاحب المعالم في معالم الدين: ص 116. و منها: أنّه لا يجوز الاستدلال به مطلقاً ذهب إليه عيسى بن أبان و أبو ثور، راجع المعتمد لأبي الحسين البصري: ج 1 ص 265.
(2) انظر نهاية الوصول: الورقة 61، و المعتمد: ج 1 ص 265.
(3) انظر نهاية الوصول: الورقة 61، و المعتمد: ج 1 ص 265.
أصول الفقه ( مظفر، محمد رضا - طبع انتشارات اسلامى )، ج1، ص: 199
بالتخصيص بالمتّصل أو المنفصل فلا تزال دلالتها على العموم باقية على حالها، و إنّما مدخولها تتضيّق دائرته بالتخصيص.
فحكم العامّ المخصّص حكم العامّ غير المخصّص في ظهوره في الشمول لكلّ ما يمكن أن يدخل فيه. و على أيّ حال بعد القول بأنّ العامّ المخصَّص حقيقة في الباقي- على ما بيّنّاه- لا يبقى شكّ في حجّيته في الباقي. و إنّما يقع الشكّ على تقدير القول بالمجازيّة، فقد نقول: إنّه حجّة في الباقي على هذا التقدير و قد لا نقول، لا أنّه كلّ من يقول بالمجازيّة يقول بعدم الحجّية، كما توهّم ذلك بعضهم.
- 5- هل يسري إجمال المخصّص إلى العامّ؟
كان البحث السابق- و هو حجّية العام في الباقي- في فرض أنّ الخاصّ مبيَّن لا إجمال فيه، و إنّما الشكّ في تخصيص غيره ممّا علم خروجه عن الخاصّ.
و علينا الآن أن نبحث عن حجّية العامّ في فرض إجمال الخاصّ.
و الإجمال على نحوين:
1- الشبهة المفهوميّة، و هي في فرض الشكّ في نفس مفهوم الخاصّ بأن كان مجملًا، نحو قوله عليه السلام: «كلّ ماءٍ طاهر إلّا ما تغيّر طعمه أو لونه أو ريحه» «1» الّذي يشك فيه: أنّ المراد من «التغيّر» خصوص التغيّر الحسّي أو ما يشمل التغيّر التقديري. و نحو قولنا: «أحسن الظنّ إلّا بخالد» الّذي يشك فيه: أنّ المراد من «خالد» هو خالد بن بكر، أو خالد بن سعد، مثلًا.
______________________________ (1) مستدرك الوسائل: ج 1 ص 186، الباب 1 من أبواب الماء المطلق، ح 5.
أصول الفقه ( مظفر، محمد رضا - طبع انتشارات اسلامى )، ج1، ص: 200
2- الشبهة المصداقيّة، و هي في فرض الشكّ في دخول فردٍ من أفراد العامّ في الخاصّ مع وضوح مفهوم الخاصّ، بأن كان مبيَّناً لا إجمال فيه، كما إذا شكّ في مثال الماء السابق: أنّ ماءً معيّناً أتغيّر بالنجاسة فدخل في حكم الخاصّ أم لم يتغيّر فهو لا يزال باقياً على طهارته؟
و الكلام في الشبهتين يختلف اختلافاً بيّناً. فلنفرد لكلّ منهما بحثاً مستقلًاّ:
أ- الشبهة المفهوميّة:
الدوران في الشبهة المفهومية تارةً يكون بين الأقلّ و الأكثر كالمثال الأوّل، فإنّ الأمر دائر فيه بين تخصيص خصوص التغيّر الحسّي أو يعمّ التقديري، فالأقلّ هو التغيّر الحسّي- و هو المتيقّن- و الأكثر هو الأعمّ منه و من التقديري.
و اخرى يكون بين المتباينين كالمثال الثاني، فإنّ الأمر دائر فيه بين تخصيص «خالد بن بكر» و بين «خالد بن سعد» و لا قدر متيقّن في البين.
ثمّ على كلّ من التقديرين، إمّا أن يكون المخصِّص متّصلًا أو منفصلًا.
و الحكم في المقام يختلف باختلاف هذه الأقسام الأربعة في الجملة، فلنذكرها بالتفصيل:
1، 2- فيما إذا كان المخصّص متّصلًا سواء كان الدوران فيه بين الأقلّ و الأكثر أو بين المتباينين، فإنّ الحقّ فيه أنّ إجمال المخصّص يسري إلى العامّ، أي أنّه لا يمكن التمسّك بأصالة العموم لإدخال المشكوك في حكم العامّ.
و هو واضح على ما ذكرناه سابقاً من أنّ المخصّص المتّصل من نوع قرينة الكلام المتّصلة، فلا ينعقد للعامّ ظهور إلّا فيما عدا الخاصّ، فإذا كان
أصول الفقه ( مظفر، محمد رضا - طبع انتشارات اسلامى )، ج1، ص: 201
الخاصّ مجملًا سرى إجماله إلى العامّ، لأنّ ما عدا الخاصّ غير معلوم، فلا ينعقد للعامّ ظهور فيما لم يُعلم خروجه عن عنوان الخاصّ.
3- في الدوران بين الأقلّ و الأكثر إذا كان المخصَّص منفصلًا، فإنّ الحقّ فيه أنّ إجمال الخاصّ لا يسري إلى العامّ، أي أنّه يصحّ التمسّك بأصالة العموم لإدخال ما عدا الأقلّ في حكم العامّ. و الحجّة فيه واضحة بناءً على ما تقدّم في الفصل الثاني من أنّ العامّ المخصَّص بالمنفصل ينعقد له ظهور في العموم، و إذا كان يقدَّم عليه الخاصّ فمن باب تقديم أقوى الحجّتين فإذا كان الخاصّ مجملًا في الزائد على القدر المتيقّن منه، فلا يكون حجّة في الزائد، لأنّه- حسب الفرض- مجمل لا ظهور له فيه، و إنّما تنحصر حجّيّته في القدر المتيقّن- و هو الأقلّ- فكيف يزاحم العامّ المنعقد ظهوره في الشمول لجميع أفراده الّتي منها القدر المتيقّن من الخاصّ، و منها القدر الزائد عليه المشكوك دخوله في الخاصّ، فإذا خرج القدر المتيقّن بحجّة أقوى من العامّ يبقى القدر الزائد لا مزاحم لحجّية العامّ و ظهوره فيه.
4- في الدوران بين المتباينين إذا كان المخصّص منفصلًا، فإنّ الحقّ فيه أنّ إجمال الخاصّ يسري الى العامّ كالمخصّص المتّصل، لأنّ المفروض حصول العلم الإجمالي بالتخصيص واقعاً و إن تردّد بين شيئين، فيسقط العموم عن الحجّية في كلّ واحد منهما.
و الفرق بينه و بين المخصّص المتّصل المجمل أنّه في المتّصل يرتفع ظهور الكلام في العموم رأساً، و في المنفصل المردّد بين المتباينين ترتفع حجّية الظهور و إن كان الظهور البدويّ باقياً.
فلا يمكن التمسّك بأصالة العموم في أحد المردّدين، بل لو فرض أنّها تجري بالقياس إلى أحدهما فهي تجري أيضاً بالقياس إلى الآخر، و لا
أصول الفقه ( مظفر، محمد رضا - طبع انتشارات اسلامى )، ج1، ص: 202
يمكن جريانهما معاً، لخروج أحدهما عن العموم قطعاً، فيتعارضان و يتساقطان، و إن كان الحقّ أنّ نفس وجود العلم الإجمالي يمنع من جريان أصالة العموم في كلّ منهما رأساً، لا أنّها تجري فيهما فيحصل التعارض ثمّ التساقط.
ب- الشبهة المصداقيّة:
قلنا: إنّ الشبهة المصداقيّة تكون في فرض الشكّ في دخول فرد من أفراد ما ينطبق عليه العامّ في المخصّص، مع كون المخصّص مبيَّناً لا إجمال فيه و إنّما الإجمال في المصداق، فلا يدرى أنّ هذا الفرد متّصف بعنوان الخاصّ فخرج عن حكم العامّ، أم لم يتّصف فهو مشمول لحكم العامّ، كالمثال المتقدّم، و هو الماء المشكوك تغيّره بالنجاسة، و كمثال الشكّ في اليد على مالٍ أنّها يدُ عادية أو يدُ أمانة، فيُشكّ في شمول العامّ لها، و هو قوله صلى الله عليه و آله و سلم: «على اليد ما أخذت حتّى تؤدّي» «1» لأنّها يد عادية، أو خروجها منه لأنّها يد أمانة، لما دلّ على عدم ضمان يد الأمانة المخصِّص لذلك العموم.
ربما ينسب إلى المشهور من العلماء الأقدمين القول بجواز التمسّك بالعامّ في الشبهة المصداقيّة «2» و لذا أفتوا في مثال اليد المشكوكة بالضمان «3». و قد يستدلّ لهذا القول: بأنّ انطباق عنوان العامّ على المصداق
______________________________ (1) مستدرك الوسائل: ج 17 ص 88، الباب 1 من أبواب الغصب، ح 4. سنن ابن ماجة: ج 2 ص 802 ح 2400 بلفظ «حتى تؤدّيه» في المصدرين.
(2) لم نظفر بقائله، قال في المحاضرات: إنّ هذه المسألة لم تكن معنونةً في كلماتهم لا في الاصول و لا في الفروع، و لكن مع ذلك نُسب إليهم فتاوى لا يمكن إتمامها بدليل إلّا على القول بجواز التمسّك بالعامّ في الشبهات المصداقيّة، فلأجل ذلك نُسب إليهم، محاضرات في اصول الفقه، (تقريرات أبحاث السيّد الخوئي قدس سره): ج 5 ص 190.
(3) لم نتوفّق للفحص عن ذلك و الإشارة إلى مواضع فتياهم.
أصول الفقه ( مظفر، محمد رضا - طبع انتشارات اسلامى )، ج1، ص: 203
المردّد معلوم فيكون العامّ حجّة فيه ما لم يعارض بحجّة أقوى، و أمّا انطباق عنوان الخاصّ عليه فغير معلوم، فلا يكون الخاصّ حجّة فيه، فلا يزاحم حجّية العامّ. و هو نظير ما قلناه في المخصّص المنفصل في الشبهة المفهوميّة عند الدوران بين الأقلّ و الأكثر.
و الحقّ عدم جواز التمسّك بالعامّ في الشبهة المصداقية في المتّصل و المنفصل معاً.
و دليلنا على ذلك: أنّ المخصّص لمّا كان حجّة أقوى من العامّ، فإنّه موجب لقصر حكم العام على باقي أفراده، و رافع لحجّية العامّ في بعض مدلوله. و الفرد المشكوك مردّد بين دخوله فيما كان العامّ حجّة فيه و بين خروجه عنه مع عدم دلالة العامّ على دخوله فيما هو حجّة فيه، فلا يكون العامّ حجّة فيه بلا مزاحم، كما قيل في دليلهم. و لئن كان انطباق عنوان العامّ عليه معلوماً، فليس هو معلوم الانطباق عليه بما هو حجّة.
و الحاصل: أنّ هناك عندنا حجّتين معلومتين حسب الفرض: إحداهما العامّ، هو حجّة فيما عدا الخاصّ. و ثانيتهما المخصّص، و هو حجّة في مدلوله، و المشتبه مردّد بين دخوله في تلك الحجّة أو هذه الحجّة. و بهذا يظهر الفرق بين الشبهة المصداقيّة و بين الشبهة المفهوميّة في المنفصل عند الدوران بين الأقلّ و الأكثر، فإنّ الخاصّ في الشبهة المفهوميّة ليس حجّة إلّا في الأقلّ، و الزائد المشكوك ليس مشكوك الدخول فيما كان الخاصّ معلوم الحجّية فيه، بل الخاصّ مشكوك أنّه جعل حجّة فيه أم لا، و مشكوك الحجّيّة في شيء ليس بحجّة- قطعاً- في ذلك الشيء «1».
______________________________ (1) سيأتي في مباحث الحجّة: أنّ قوام حجّية الشيء بالعلم، لأنّه إنّما يكون الشيء صالحاً لأنّ يحتجّ به المولى على العبد إذا كان واصلًا إليه بالعلم، فالعلم مأخوذ في موضوع الحجّة، فعند الشكّ في حجّية شيء يرتفع موضوعها فيعلم بعدم حجّيته. و معنى الشكّ في حجّيته احتمال أنّه نصبه الشارع حجّة واقعاً على تقدير وصوله، و حيث لم يصل يقطع بعدم حجّيته فعلًا، فيزول ذلك الاحتمال البدوي عند الالتفات إلى ذلك، لا أنّه حين الشكّ في الحجّية يقطع بعدم الحجّية، و إلّا للزم اجتماع الشكّ و القطع بشيء واحد في آنٍ واحد، و هو محال.
أصول الفقه ( مظفر، محمد رضا - طبع انتشارات اسلامى )، ج1، ص: 204
و أمّا العامّ فهو حجّة إلّا فيما كان الخاصّ حجّة فيه. وعليه لا يكون الأكثر مردّداً بين دخوله في تلك الحجّة أو هذه الحجّة، كالمصداق المردّد، بل هو معلوم أنّ الخاصّ ليس حجّة فيه، لمكان الشكّ، فلا يزاحم حجّية العامّ فيه.
و أمّا فتوى المشهور بالضمان في اليد المشكوكة أنّها يد عادية أو يد أمانة فلا يُعلم أنّها لأجل القول بجواز التمسّك بالعامّ في الشبهة المصداقيّة، و لعلّ لها وجهاً آخر، ليس المقام محلّ ذكره.
تنبيه:
في جواز التمسّك بالعامّ في الشبهة المصداقيّة إذا كان المخصّص لُبّياً المقصود من «المخصّص اللُبّي» ما يقابل اللفظي، كالإجماع و دليل العقل اللذين هما دليلان و ليسا من نوع الألفاظ. فقد نسب إلى الشيخ المحقّق الأنصاري قدس سره جواز التمسّك بالعامّ في الشبهة المصداقيّة مطلقاً إذا كان المخصّص لُبّياً «1» و تبعه جماعة من المتأخّرين عنه «2».
و ذهب المحقّق شيخ أساتذتنا صاحب الكفاية قدس سره إلى التفصيل بين ما إذا كان المخصّص اللبّي ممّا يصحّ أن يتّكل عليه المتكلّم في بيان مراده- بأن كان عقليّاً ضروريّاً- فإنّه يكون كالمتّصل فلا ينعقد للعامّ ظهور في العموم فلا مجال للتمسّك بالعامّ في الشبهة المصداقيّة، و بين ما إذا لم يكن كذلك- كما إذا لم يكن التخصيص ضروريّاً على وجهٍ يصحّ أن يتّكل عليه
______________________________ (1) راجع مطارح الأنظار: ص 194 الهداية الثالثة من مباحث العامّ و الخاصّ.
(2) لم نحقّق ذلك، و إن صرّح بهذه التبعيّة في فوائد الاصول أيضاً، راجع ج 2 ص 536.
أصول الفقه ( مظفر، محمد رضا - طبع انتشارات اسلامى )، ج1، ص: 205
المتكلّم- فإنّه لا مانع من التمسّك بالعامّ في الشبهة المصداقيّة، لبقاء العامّ على ظهوره، و هو حجّة بلا مزاحم.
و استشهد على ذلك بما ذكره من الطريقة المعروفة و السيرة المستمرّة المألوفة بين العقلاء، كما إذا أمر المولى منهم عبده بإكرام جيرانه، و حصل القطع للعبد بأنّ المولى لا يريد إكرام من كان عدوّاً له من الجيران، فإنّ العبد ليس له ألّا يكرم من يشكّ في عداوته، و للمولى أن يؤاخذه على عدم إكرامه. و لا يصحّ منه الاعتذار بمجرّد احتمال العداوة، لأنّ بناء العقلاء و سيرتهم هي ملاك حجّية أصالة الظهور، فيكون ظهور العامّ في هذا المقام حجّة بمقتضى بناء العقلاء.
و زاد على ذلك بأنّه يستكشف من عموم العامّ للفرد المشكوك أنّه ليس فرداً للخاصّ الّذي عُلم خروجه من حكم العامّ. و مثّل له بعموم قوله:
«لعن اللَّه بني فلان قاطبة» «1» المعلوم منه خروج من كان مؤمناً منهم، فإن شكّ في إيمان شخصٍ يحكم بجواز لعنه، للعموم. و كلّ من جاز لعنه ليس مؤمناً، فينتج من الشكل الأوّل: هذا الشخص ليس مؤمناً «2». هذا خلاصة رأي صاحب الكفاية قدس سره
و لكن شيخنا المحقّق الكبير النائيني- أعلى اللَّه مقامه- لم يرتضِ هذا التفصيل، و لا إطلاق رأي الشيخ قدس سره، بل ذهب إلى تفصيلٍ آخر.
و خلاصته: أنّ المخصّص اللُبّي سواء كان عقليّاً ضروريّاً يصحّ أن يتّكل عليه المتكلّم في مقام التخاطب، أو لم يكن كذلك- بأن كان عقليّاً نظريّاً أو إجماعاً- فإنّه كالمخصّص اللفظي كاشفٌ عن تقييد المراد الواقعي في العامّ: من عدم كون موضوع الحكم الواقعي باقياً على إطلاقه الّذي يظهر فيه العامّ. فلا مجال للتمسّك بالعامّ في الفرد المشكوك بلا فرق
______________________________ (1) كامل الزيارات: ص 329.
(2) راجع كفاية الاصول: ص 259- 261.
أصول الفقه ( مظفر، محمد رضا - طبع انتشارات اسلامى )، ج1، ص: 206
بين اللُبّي و اللفظي، لأنّ المانع من التمسّك بالعامّ مشترك بينهما، و هو انكشاف تقييد موضوعٍ الحكم واقعاً. و لا يفرق في هذه الجهة بين أن يكون الكاشف لفظياً أو لُبّياً.
و استثنى من ذلك ما إذا كان المخصص اللُبّي لم يُستكشف منه تقييد موضوع الحكم واقعاً بأن كان العقل إنّما أدرك ما هو ملاك حكم الشارع واقعاً، أو قام الإجماع على كونه ملاكاً لحكم الشارع- كما إذا أدرك العقل أو قام الإجماع على أنّ ملاك لعن بني فلان هو كفرهم- فإنّ ذلك لا يوجب تقييد موضوع الحكم، لأنّ الملاك لا يصلح لتقييدٍ، بل من العموم يستكشف وجود الملاك في جميعهم. فإذا شُكّ في وجود الملاك في فردٍ يكون عموم الحكم كاشفاً عن وجوده فيه. نعم، لو علم بعدم وجود الملاك في فردٍ يكون الفرد نفسه خارجاً كما لو أخرجه المولى بالنصّ عليه، لا أنّه يكون كالمقيِّد لموضوع العامّ.
و أمّا سكوت المولى عن بيانه، فهو إمّا لمصلحة أو لغفلة إذا كان من الموالي العاديّين.
نعم، لو تردّد الأمر بين أن يكون المخصِّص كاشفاً عن الملاك أو مقيِّداً لعنوان العامّ، فإنّ التفصيل الّذي ذكره صاحب الكفاية يكون وجيهاً.
و الحاصل: أنّ المخصّص إن أحرزنا أنّه كاشف عن تقييد موضوع العامّ فلا يجوز التمسّك بالعموم في الشبهة المصداقيّة أبداً، و إن أحرزنا أنّه كاشف عن ملاك الحكم فقط من دون تقييدٍ فلا مانع من التمسّك بالعموم، بل يكون كاشفاً عن وجود الملاك في المشكوك. و إن تردّد أمره و لم يحرز كونه قيداً أو ملاكاً، فإن كان حكم العقل ضروريّاً يمكن الاتّكال عليه في التفهيم، فيلحق بالقسم الأوّل، و إن كان نظريّاً أو إجماعاً لا يصحّ الاتّكال عليه فيلحق بالقسم الثاني، فيتمسّك بالعموم، لجواز أن يكون الفرد
أصول الفقه ( مظفر، محمد رضا - طبع انتشارات اسلامى )، ج1، ص: 207
المشكوك قد أحرز المولى وجود الملاك فيه، مع احتمال أنّ ما أدركه العقل أو قام عليه الإجماع من قبيل الملاكات «1».
هذا كلّه حكاية أقوال علمائنا في المسألة. و إنّما أطلت في نقلها، لأنّ هذه المسألة حادثة، أثارها شيخنا الأنصاري قدس سره- مؤسّس الاصول الحديث- و اختلف فيها أساطين مشايخنا. و نكتفي بهذا المقدار دون بيان ما نعتمد عليه من الأقوال لئلّا نخرج عن الغرض الّذي وضعت له الرسالة.
و بالاختصار: أنّ ما ذهب إليه الشيخ هو الأولى بالاعتماد، و لكن مع تحريرٍ لقوله على غير ما هو المعروف عنه «2».
______________________________ (1) فوائد الاصول: ج 2 ص 536- 537.
(2) (*) و توضيح ذلك: أنّ كلّ عامٍّ ظاهرٍ في العموم لا بدّ أن يتضمّن ظهورين: 1- ظهوره في عدم منافاة أيّة صفة من الصفات أو أيّ عنوان من العناوين لحكمه.
2- ظهوره في عدم وجود المنافي أيضاً. أي: أنّه ظاهر في عدم المنافاة و عدم المنافي معه.
فإنّ معنى ظهور عموم «أكرم جيراني»- مثلًا-: أنّه ليس هناك صفة أو عنوان ينافي الحكم بوجوب إكرام الجيران، نحو صفة العداوة أو الفسق أو نحو ذلك، كما أنّ معناه أيضاً أنّه ليس يوجد في الجيران من فيه صفة أو عنوان ينافي الحكم بوجوب إكرامه. و هذا واضح لا غبار فيه.
فإذا جاء بعد انعقاد هذا الظهور في العموم مخصّص منفصل لفظي، كما لو قال في المثال المتقدّم: «لا تكرم الأعداء من جيراني» فإنّ هذا المخصّص لا شكّ في أنّه يكون ظاهراً في أمرين:
1- إنّ صفة العداوة منافية لوجوب الإكرام.
2- إنّ في الجيران من هو على صفة العداوة فعلًا أو يتوقّع منه أن يكون عدواً، و إلّا لو لم يوجد العدوّ و لا يتوقّع فيهم لكان هذا التخصيص لغواً و عبثاً لا يصدر من الحكيم.
و على ذلك فيكون المخصّص اللفظي مزاحماً للعامّ في الظهورين معاً، فيسقط عن الحجّية فيهما معاً. فإذا شككنا في فرد من الجيران أنّه عدوّ أم لا، فلا مجال فيه للتمسّك بالعامّ في إلحاقه بحكمه، لسقوط العامّ عن حجّيته في شموله له، إذ يكون هذا الفرد مردّداً بين دخوله فيما أصبح العامّ حجّة فيه و بين دخوله فيما كان الخاصّ حجّة فيه.
أمّا لو كان هناك مخصِّص لُبّي، كما لو حكم العقل- مثلًا- بأنّ العداوة تنافي وجوب الإكرام، فإنّ هذا الحكم من العقل لا يتوقّف على أن يكون هناك أعداء بالفعل أو متوقّعون، بل العقل يحكم بهذا الحكم سواء كان هناك أعداء أم لم يكونوا أبداً، إذ لا مجال للقول بأنّه لو لم يكن هناك أعداء لكان حكم العقل لغواً و عبثاً، كما هو واضح بادنى تأمّل و التفات. وعليه، فالحكم العقلي هذا لا يزاحم الظهور الثاني للعامّ، أعني ظهوره في عدم المنافي، فظهوره الثاني هذا يبقى بلا مزاحم.
فإذا شككنا في فرد من الجيران أنّه عدوٌّ أم لا فلا مانع من التمسّك بالعامّ في إدخاله في حكمه، لأنّه لا يكون هذا الفرد مردّداً بين دخوله في هذه الحجّة أو هذه الحجّة، إذ المخصّص اللُبّي حسب الفرض لا يقتضي وجود المنافي و ليس حجّة فيه، أمّا العام فهو حجّة فيه بلا مزاحم.
فظهر من هذا البيان: أنّ الفرق عظيم بين المخصِّص اللُبّي و المخصِّص اللفظي من هذه الناحية، لأنّه في المخصِّص اللُبّي يبقى العامّ حجّة في ظهوره الثاني من دون أن يكون المخصّص متعرّضاً له، و لا يسقط العامّ عن الحجّية في ظهوره إلّا بمقدار المزاحمة لا أكثر. و هذا بخلاف المخصِّص اللفظي، فإنّه ظاهر في الأمرين معاً، كما قدّمناه، فيكون مزاحماً للعامّ فيهما معاً.
و لا فرق في المخصّص اللُبّي بين أن يكون ضروريّاً أو يكون غير ضروري، و لا بين أن يكون كاشفاً عن تقييد موضوع العامّ أو كاشفاً عن ملاك الحكم، فإنّه في جميع هذه الصور لا يقتضي وجود المنافي.
و بهذا التحرير للمسألة يتجلّى مرام الشيخ الأعظم انّه الأولى بالاعتماد.
[هذه التعليقة لم ترد في ط الاولى]
أصول الفقه ( مظفر، محمد رضا - طبع انتشارات اسلامى )، ج1، ص: 208
- 6 لا يجوز العمل بالعامّ قبل الفحص عن المخصِّص
لا شكّ في أنّ بعض عمومات القرآن الكريم و السنّة الشريفة ورد لها مخصِّصات منفصلة شرحت المقصود من تلك العمومات. و هذا معلوم من طريقة صاحب الشريعة و الأئمّة الأطهار- عليهم الصلاة و السلام- حتى قيل: «ما من عامّ إلّا و قد خُصّ». و لذا ورد عن أئمّتنا ذمّ من استبدّوا برأيهم في الأحكام، لأنّ في الكتاب المجيد و السنّة عامّاً و خاصّاً و مطلقاً و مقيَّداً.
أصول الفقه ( مظفر، محمد رضا - طبع انتشارات اسلامى )، ج1، ص: 209
و هذه الامور لا تُعرف إلّا من طريق آل البيت عليهم السلام [و صاحب البيت أدرى بالّذي فيه] «1».
و هذا ما أوجب التوقّف في التسرّع بالأخذ بعموم العامّ قبل الفحص و اليأس من وجود المخصِّص، لجواز أن يكون هذا العامّ من العمومات الّتي لها مخصِّص موجود في السنّة أو في الكتاب لم يطّلع عليه من وصل إليه العامّ. و قد نقل عدم الخلاف بل الإجماع على عدم جواز الأخذ بالعامّ قبل الفحص و اليأس «2» و هو الحقّ.
و السرّ في ذلك واضح لما قدّمناه، لأنّه إذا كانت طريقة الشارع في بيان مقاصده تعتمد على القرائن المنفصلة لا يبقى اطمئنان بظهور العامّ في عمومه، فإنّه يكون ظهوراً بدويّاً. و للشارع الحجّة على المكلّف إذا قصّر في الفحص عن المخصّص.
أمّا إذا بذل وُسعَه و فحص عن المخصّص في مظانّه حتّى حصل له الاطمئنان بعدم وجوده، فله الأخذ بظهور العامّ. و ليس للشارع حجّة عليه فيما لو كان هناك مخصّص واقعاً لم يتمكّن المكلّف من الوصول إليه عادةً بالفحص، بل للمكلَّف أن يحتجّ فيقول: إنّي فحصت عن المخصّص فلم أظفر به، و لو كان مخصِّص هناك كان ينبغي بيانه على وجهٍ لو فحصنا عنه عادةً لوجدناه في مظانّه. و إلّا فلا حجّة فيه علينا.
و هذا الكلام جارٍ في كلّ ظهور، فإنّه لا يجوز الأخذ به إلّا بعد الفحص عن القرائن المنفصلة. فإذا فحص المكلّف و لم يظفر بها فله أن يأخذ بالظهور و يكون حجّة عليه.
______________________________ (1) لم يرد في ط 2.
(2) قال في مطارح الأنظار (ص 201 السطر الأخير): و ربما نفي الخلاف فيه كما عن الغزالي و الآمدي، بل ادّعي عليه الاجماع كما عن النهاية.
أصول الفقه ( مظفر، محمد رضا - طبع انتشارات اسلامى )، ج1، ص: 210
و من هنا نستنتج قاعدةً عامّة تأتي في محلّها و نستوفي البحث عنها- إن شاء اللَّه تعالى- و المقام من صغرياتها، و هي:
إنّ أصالة الظهور لا تكون حجّة إلّا بعد الفحص و اليأس عن القرينة.
أمّا بيان مقدار الفحص الواجب أ هو الّذي يوجب اليأس على نحو القطع بعدم القرينة، أو على نحو الظنّ الغالب و الاطمئنان بعدمها؟ فذلك موكول إلى محلّه. و المختار كفاية الاطمئنان.
و الّذي يهوّن الخطب في هذه العصور المتأخّرة أنّ علماءنا- قدّس اللَّه تعالى أرواحهم- قد بذلوا جهودهم على تعاقب العصور في جمع الأخبار و تبويبها و البحث عنها و تنقيحها في كتب الأخبار و الفقه، حتّى أنّ الفقيه أصبح الآن يسهل عليه الفحص عن القرائن بالرجوع إلى مظانّها المهيَّأة، فإذا لم يجدها بعد الفحص يحصل له القطع غالباً بعدمها.
- 7 تعقيب العامّ بضمير يرجع إلى بعض أفراده
قد يرد عامّ ثمّ ترد بعده جملة فيها ضمير يرجع إلى بعض أفراد العامّ بقرينة خاصّة. مثل قوله تعالى (2: 228): «وَ الْمُطَلَّقاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ ...» إلى قوله: «وَ بُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذلِكَ» فإنّ المطلَّقات عامّة للرجعيّات و غيرها، و لكن الضمير في «بعولتهنّ» يراد به خصوص الرجعيّات. فمثل هذا الكلام يدور فيه الأمر بين مخالفتين للظاهر، إمّا:
1- مخالفة ظهور العامّ في العموم، بأن يجعل مخصوصاً بالبعض الّذي يرجع إليه الضمير. و إمّا:
2- مخالفة ظهور الضمير في رجوعه إلى ما تقدّم عليه من المعنى
أصول الفقه ( مظفر، محمد رضا - طبع انتشارات اسلامى )، ج1، ص: 211
الّذي دلّ عليه اللفظ، بأن يكون مستعملًا على سبيل الاستخدام، فيراد منه البعض، و العامّ يبقى على دلالته على العموم، فأيّ المخالفتين أولى؟ وقع الخلاف على أقوال ثلاثة:
الأوّل: أنّ أصالة العموم هي المقدّمة «1» فيلتزم بالمخالفة الثانية.
الثاني: أنّ أصالة عدم الاستخدام هي المقدّمة «2» فيلتزم بالمخالفة الاولى.
الثالث: عدم جريان الأصلين معاً «3» و الرجوع إلى الاصول العمليّة.
أمّا عدم جريان أصالة العموم، فلوجود ما يصلح أن يكون قرينة في الكلام و هو عود الضمير على البعض، فلا ينعقد ظهور العامّ في العموم.
و أمّا أنّ أصالة عدم الاستخدام لا تجري، فلانّ الاصول اللفظيّة يشترط في جريانها- كما سبق أوّلَ الكتاب- أن يكون الشكّ في مراد المتكلّم، فلو كان المراد معلوماً- كما في المقام- و كان الشكّ في كيفية الاستعمال، فلا تجري قطعاً.
و الحقّ أنّ أصالة العموم جارية و لا مانع منها، لأنّا ننكر أن يكون عود الضمير إلى بعض أفراد العامّ موجباً لصرف ظهور العموم، إذ لا يلزم من تعيّن البعض من جهة مرجعيّة الضمير بقرينةٍ أن يتعيّن إرادة البعض من جهة حكم العامّ الثابت له بنفسه، لأنّ الحكم في الجملة المشتملة على الضمير غير الحكم في الجملة المشتملة على العامّ، و لا علاقة بينهما، فلا يكون عود الضمير على بعض العامّ من القرائن الّتي تصرف ظهورَه
______________________________ (1) قاله القاضي عبد الجبّار و اختاره جماعة من المعتزلة و الأشاعرة، نهاية الوصول: الورقة: 75.
(2) اختاره العلّامة في نهاية الوصول.
(3) هو مذهب السيّد المرتضى و أبي الحسين البصري و الجويني و فخر الدين الرازي،- كما في المصدر المتقدّم- و اختاره المحقّق في معارج الاصول: ص 100.
أصول الفقه ( مظفر، محمد رضا - طبع انتشارات اسلامى )، ج1، ص: 212
عن عمومه. و اعتبر ذلك في المثال، فلو قال المولى: «العلماء يجب إكرامهم» ثمّ قال: «و هم يجوز تقليدهم» و اريد من ذلك «العدول» بقرينةٍ، فإنّه واضح في هذا المثال أنّ تقييد الحكم الثاني بالعدول لا يوجب تقييد الحكم الأوّل بذلك، بل ليس فيه إشعار به. و لا يفرق في ذلك بين أن يكون التقييد بمتّصل كما في مثالنا، أو بمنفصل كما في الآية.
- 8- تعقيب الاستثناء لجمل متعدّدة
قد ترد عمومات متعدّدة في كلامٍ واحد ثمّ يتعقّبها اس`
مقبول
طہارۃ، استعمال طہور مشروط بالنیت
المدخل۔۔۔
الزکاۃ،کتاب الزکاۃ وفصولہ اربعۃ۔۔۔
مقدمہ و تعریف :الامرلاول تعریف علم الاصول۔۔۔
الطہارۃ و مختصر حالات زندگانی
الفصل السابع :نسخ الوجوب۔۔
الفصل الثالث؛ تقسیم القطع الی طریقی ...
مقالات
دینی مدارس کی قابل تقلید خوبیاں
ایک اچھے مدرس کے اوصاف
اسلام میں استاد کا مقام و مرتبہ
طالب علم کے لئے کامیابی کے زریں اصول