حضرت امام علی عليه‌السلام نے فرمایا: جس انسان کی عقل اس کی خواہش پر غالب آجائے وہ فرشتوں سے افضل اور جس کی خواہش اس کی عقل پر غلبہ پالے وہ جانوروں سے بھی بدتر ہوتا ہے۔ وسائل الشیعۃ حدیث 20298

اصول الفقہ حصہ سوم

الباب الثالث: الإجماع‏

الإجماع أحد معانيه في اللغة: الاتّفاق.

و المراد منه في الاصطلاح: اتّفاق خاصّ.

و هو: إمّا اتّفاق الفقهاء من المسلمين على حكمٍ شرعي.

أو اتّفاق أهل الحلّ و العقد من المسلمين على الحكم.

أو اتّفاق امّة محمّد [صلى الله عليه و آله و سلم‏] على الحكم.

على اختلاف التعريفات عندهم.

و مهما اختلفت هذه التعبيرات، فإنّها- على ما يظهر- ترمي إلى معنى جامع بينها، و هو: «اتّفاق جماعةٍ لاتّفاقهم شأنٌ في إثبات الحكم الشرعي».

و لذا استثنوا من المسلمين سواد الناس و عوامهم، لأنّهم لا شأن لآرائهم في استكشاف الحكم الشرعي، و إنّما هم تبع للعلماء و لأهل الحلّ و العقد.

و على كلّ حال، فإنّ هذا «الإجماع» بما له من هذا المعنى قد جعله الاصوليّون من أهل السنّة أحد الادلّة الأربعة- أو الثلاثة- على الحكم الشرعي، في مقابل الكتاب و السنة.

أصول الفقه ( مظفر، محمد رضا - طبع انتشارات اسلامى )، ج‏3، ص: 103

أمّا الإماميّة فقد جعلوه أيضاً أحد الأدلّة على الحكم الشرعي، و لكن من ناحية شكليّة و اسميّة فقط، مجاراةً للنهج الدراسي في اصول الفقه عند السُّنيّين، أي أنّهم لا يعتبرونه دليلًا مستقلًّا في مقابل الكتاب و السنّة، بل إنّما يعتبرونه إذا كان كاشفاً عن السنّة، أي عن قول المعصوم. فالحجّية و العصمة ليستا للإجماع، بل الحجّة في الحقيقة هو قول المعصوم الّذي يكشف عنه الإجماع عند ما تكون له أهليّة هذا الكشف.

و لذا توسّع الإماميّة في إطلاق كلمة «الإجماع» على اتّفاق جماعة قليلة لا يُسمّى اتّفاقهم في الاصطلاح إجماعاً، باعتبار أنّ اتّفاقهم يكشف كشفاً قطعيّاً عن قول المعصوم، فيكون له حكم الإجماع، بينما لا يعتبرون الإجماع الّذي لا يكشف عن قول المعصوم و إن سُمّي إجماعاً بالاصطلاح. و هذه نقطة خلاف جوهريّة في الإجماع، ينبغي أن نجلّيها و نلتمس الحقّ فيها، فإنّ لها كلّ الأثر في تقييم الإجماع من جهة حجّيته.

و لأجل أن نتوصّل إلى الغرض المقصود لا بدّ من توجيه بعض الأسئلة لأنفسنا لنلتمس الجواب عليها. أوّلًا: من أين انبثق للُاصوليّين القول بالإجماع، فجعلوه حجّة و دليلًا مستقلًّا على الحكم الشرعي في مقابل الكتاب و السنة؟

ثانياً: هل المعتبر عند من يقول بالإجماع اتّفاق جميع الامّة، أو اتّفاق جميع العلماء في عصر من العصور، أو بعض منهم يعتدّ به؟ و من هم الّذين يُعتدّ بأقوالهم؟

أصول الفقه ( مظفر، محمد رضا - طبع انتشارات اسلامى ) ؛ ج‏3 ؛ ص103

[السؤال عن سبب القول بحجية الاجماع‏]

أما السؤال الأوّل:

فإنّ الّذي يثيره في النفس و يجعلها في موضع الشكّ فيه أنّ إجماع الناس جميعاً على شي‏ء أو إجماع امّة من الامم بما هو إجماع و اتّفاق‏

أصول الفقه ( مظفر، محمد رضا - طبع انتشارات اسلامى )، ج‏3، ص: 104

لا قيمة علميّة له في استكشاف حكم اللَّه، لأنّه لا ملازمة بينه و بين حكم اللَّه، فالعلم به لا يستلزم العلم بحكم اللَّه بأيّ وجهٍ من وجوه الملازمة.

نعم، الشي‏ء الّذي يجب ألّا يفوتنا التنبيه عليه في الباب أنّا قد قلنا فيما سبق- في الجزء الثاني، و سيأتي- إنّ تطابق آراء العقلاء بما هم عقلاء في القضايا المشهورة العمليّة الّتي نُسمّيها «الآراء المحمودة» و الّتي تتعلّق بحفظ النظام و النوع يُستكشف به الحكم الشرعي، لأنّ الشارع من العقلاء- بل رئيسهم و هو خالق العقل- فلا بدّ أن يحكم بحكمهم.

و لكن هذا التطابق ليس من نوع الإجماع المقصود، بل هو نفس الدليل العقلي الّذي نقول بحجّيته في مقابل الكتاب و السنّة و الإجماع. و هو من باب التحسين و التقبيح العقليين الّذي ينكره هؤلاء الذاهبون إلى حجّية الإجماع.

أمّا إجماع الناس- الّذي لا يدخل في تطابق آراء العقلاء بما هم عقلاء- فلا سبيل إلى اتّخاذه دليلًا على الحكم الشرعي، لأنّ اتّفاقهم قد يكون بدافع العادة أو العقيدة أو الانفعال النفسي أو الشبهة أو نحو ذلك. و كلّ هذه الدوافع من خصائص البشر لا يشاركهم الشارع فيها لتنزّهه عنها، فإذا حكموا بشي‏ءٍ بأحد هذه الدوافع لا يجب أن يحكم الشارع بحكمهم، فلا يُستكشف من اتّفاقهم على حكمٍ بما هو اتّفاق أنّ هذا الحكم واقعاً هو حكم الشارع.

و لو أنّ إجماع الناس بما هو إجماع- كيف ما كان و بأيّ دافع كان- هو حجّة و دليل، لوجب أن يكون إجماع الامم الاخرى غير المسلمة أيضاً حجّة و دليلًا. و لا يقول بذلك واحد ممّن يرى حجّية الإجماع. إذاً! كيف اتّخذ الاصوليّون إجماع المسلمين بالخصوص حجّة؟

أصول الفقه ( مظفر، محمد رضا - طبع انتشارات اسلامى )، ج‏3، ص: 105

و ما الدليل لهم على ذلك؟ و للجواب عن هذا السؤال علينا أن نرجع القهقرى إلى أوّل إجماع اتّخذ دليلًا في تأريخ المسلمين، إنّه الإجماع المدّعى على بيعة أبي بكر خليفةً للمسلمين. فإنّه إذ وقعت البيعة له- و المفروض أنّه لا سند لها من طريق النصّ القرآني و السنّة النبويّة- اضطرّوا إلى تصحيح شرعيّتها من طريق الإجماع فقالوا:

أوّلًا: إنّ المسلمين من أهل المدينة أو أهل الحلّ و العقد منهم أجمعوا على بيعته.

و ثانياً: إنّ الإمامة من الفروع، لا من الاصول.

و ثالثاً: إنّ الإجماع حجّة في مقابل الكتاب و السنّة، أي أنّه دليل ثالث غير الكتاب و السنّة.

ثمّ منه توسّعوا فاعتبروه دليلًا في جميع المسائل الشرعيّة الفرعيّة.

و سلكوا لإثبات حجّيته ثلاثة مسالك: الكتاب و السنّة و العقل. و من الطبيعي ألّا يجعلوا الإجماع من مسالكه، لأنّه يؤدّي إلى إثبات الشي‏ء بنفسه، و هو دور باطل.

أمّا مسلك الكتاب: فآيات استدلّوا بها، لا تنهض دليلًا على مقصودهم، و أولاها بالذكر آية «سبيل المؤمنين» و هي قوله تعالى (سورة النساء 114): «وَ مَنْ يُشاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدى‏ وَ يَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ ما تَوَلَّى وَ نُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَ ساءَتْ مَصِيراً» فإنّها توجب اتّباع سبيل المؤمنين، فإذا أجمع المؤمنون على حكم فهو سبيلهم فيجب اتّباعه. و بهذه الآية تمسّك الشافعي، على ما نُقل عنه‏ «1».

و يكفينا في ردّ الاستدلال بها ما استظهره الشيخ الغزالي منها، إذ قال:

______________________________ (1) نقله عنه الغزالي في المستصفى: ج 1 ص 175.

أصول الفقه ( مظفر، محمد رضا - طبع انتشارات اسلامى )، ج‏3، ص: 106

الظاهر أنّ المراد بها أنّ من يقاتل الرسول و يشاقّه و يتّبع غير سبيل المؤمنين في مشايعته و نصرته و دفع الأعداء عنه نولّه ما تولّى. فكأنّه لم يكتف بترك المشاقّة حتّى تنضمّ إليه متابعة سبيل المؤمنين من نصرته و الذبّ عنه و الانقياد له فيما يأمر و ينهى. ثمّ قال: و هذا هو الظاهر السابق إلى الفهم‏ «1». و هو كذلك كما استظهره. أمّا الآيات الاخرى فقد اعترف الغزالي- كغيره- في عدم ظهورها في حجّية الإجماع، فلا نطيل بذكرها و مناقشة الاستدلال بها.

و أمّا مسلك السنّة: فهي أحاديث رواها بما يؤدّي مضمون الحديث «لا تجتمع امتي على الخطأ» «2» و قد ادّعوا تواترها معنىً، فاستنبطوا منها عصمة الامّة الإسلاميّة من الخطأ و الضلالة «3» فيكون إجماعها كقول المعصوم حجّة و مصدراً مستقلّاً لمعرفة حكم اللَّه.

و هذه الأحاديث- على تقدير التسليم بصحّتها و أنّها توجب العلم لتواترها معنىً- لا تنفع في تصحيح دعواهم، لأنّ المفهوم من اجتماع الامّة كلّ الامّة، لا بعضها، فلا يثبت بهذه الأحاديث عصمة البعض من الامّة، بينما أنّ مقصودهم‏ «4» من الإجماع إجماع خصوص الفقهاء أو أهل الحلّ و العقد في عصرٍ من العصور، بل خصوص الفقهاء المعروفين، بل خصوص المعروفين من فقهاء طائفة خاصّة و هي طائفة أهل السنّة، بل يكتفون باتّفاق جماعة يطمئنّون إليهم، كما هو الواقع في بيعة السقيفة.

______________________________ (1) المستصفى: ج 1 ص 175.

(2) سنن ابن ماجة: ج 2 ص 1303 باب السواد الأعظم، بلفظ: إنّ امّتي لا تجتمع على ضلالة.

(3) راجع المعتمد في اصول الفقه لأبي الحسين البصري: ج 2 ص 16.

(4) في ط الاولى: قصودهم.

أصول الفقه ( مظفر، محمد رضا - طبع انتشارات اسلامى )، ج‏3، ص: 107

فأنّى لنا أن نحصل على إجماع جميع الامّة بجميع طوائفها و أشخاصها في جميع العصور! إلّا في

ضروريّات الدين، مثل وجوب الصلاة و الزكاة و نحوهما. و هذه ضروريّات الدين ليست من نوع الإجماع المبحوث عنه، و لا تحتاج في إثبات الحكم بها إلى القول بحجّية الإجماع.

و أمّا مسلك العقل: الّذي عبّر عنه بعضهم بالطريق المعنوي، فغاية ما يقال في توجيهه: إنّ الصحابة إذا قضوا بقضيّة و زعموا أنّهم قاطعون بها فلا يقطعون بها إلّا عن مستند قاطع، و إذا كثروا كثرةً تنتهي إلى حد التواتر فالعادة تحيل عليهم قصدَ الكذب و تحيل عليهم الغلط، فقطعهم في غير محلّ القطع محال في العادة. و التابعون و تابعو التابعين إذا قطعوا بما قطع به الصحابة فيستحيل في العادة أن يشذّ عن جميعهم الحقّ مع كثرتهم.

و مثل هذا الدليل يصحّ أن يناقش فيه:

بأنّ إجماعهم هذا إن كان يعلم بسببه قول المعصوم فلا شكّ في أنّ هذا علم قطعي بالحكم الواقعي، فيكون حجّة لأنّه قطع بالنسبة، و لا كلام لأحد فيه، لأنّ هذا الإجماع يكون من طرق إثبات السنّة. و أمّا إذا لم يُعلم بسببه قول المعصوم- كما هو المقصود من فرض الإجماع حجّة مستقلّة و دليلًا في مقابل الكتاب و السنّة- فإنّ قطع المجمعين مهما كانوا لئن كان يستحيل في العادة قصدهم الكذب في ادّعاء القطع- كما في الخبر المتواتر- فإنّه لا يستحيل في حقّهم الغفلة أو الاشتباه أو الغلط، كما لا يستحيل أن يكون إجماعهم بدافع العادة أو العقيدة أو أيّ دافع من الدوافع الاخرى الّتي أشرنا إليها سابقاً.

و لأجل ذلك اشترطنا في التواتر الموجب للعلم ألّا يتطرّق إليه احتمال خطأ المخبرين في فهم الحادثة و اشتباههم، كما شرحناه في كتاب المنطق‏

أصول الفقه ( مظفر، محمد رضا - طبع انتشارات اسلامى )، ج‏3، ص: 108 الجزء الثالث (ص 10) «1».

و لا عجب في تطرّق احتمال الخطأ في اتّفاق الناس على رأي، بل تطرّق الاحتمال إلى ذلك أكثر من تطرّقه إلى الاتّفاق في النقل، لأنّ أسباب الاشتباه و الغلط فيه أكثر.

ثمّ إنّ هذا الطريق العقلي أو المعنوي لو تمّ، فأيّ شي‏ءٍ يخصّصه بخصوص الصحابة أو المسلمين أو علماء طائفة خاصّة من دون باقي الناس و سائر الامم؟ إلّا إذا ثبت من دليل آخر اختصاص المسلمين أو بعضٍ منهم بمزيّة خاصّة ليست للُامم الاخرى و هي العصمة من الخطأ.

فإذاً- على هذا التقدير- لا يكون الدليل على الإجماع إلّا هذا الدليل الآخر الّذي يُثبت العصمة للُامّة المسلمة أو بعضها، لا الطريق العقلي المدّعى. و هذا رجوع إلى المسلك الأوّل و الثاني، و ليس هو مسلكاً مستقلّاً عنها.

و بالختام نقول: إذا كانت هذه المسالك الثلاثة لم تتمّ لنا أدلّة على حجّية الإجماع من أصله من جهة أنّه إجماع، فلا يظهر للإجماع قيمة من ناحية كونه حجّة و مصدراً للتشريع الإسلامي، مهما بالغ الناس في الاعتماد عليه. و إنّما يصحّ الاعتماد عليه إذا كشف لنا عن قول المعصوم، فيكون حينئذٍ كالخبر المتواتر الّذي تثبت به السنّة. و سيأتي البحث عن ذلك.

[السؤال عن ضرورة اتفاق الجميع او كفاية البعض‏]

و أمّا السؤال الثاني:

فالّذي يثيره أنّ ظاهر تلك المسالك الثلاثة المتقدّمة يقضي بأنّ الحجّة

______________________________ (1) الصفحة 333 من طبعتنا الحديثة.

أصول الفقه ( مظفر، محمد رضا - طبع انتشارات اسلامى )، ج‏3، ص: 109

إنّما هو إجماع الامّة كلّها أو جميع المؤمنين بدون استثناء، فمتى ما شذّ واحد منهم- أيٌّ كان- فلا يتحقّق الإجماع الّذي قام الدليل على حجّيته، فإنّه مع وجود المخالف و إن كان واحداً لا يحصل القطع بحجّية إجماع من عداه مهما كان شأنهم، لأنّ العصمة على تقدير ثبوتها بالأدلّة المتقدّمة إنّما ثبتت لجميع الامّة لا لبعضها.

و لكن ما توقّعوه من ذهابهم إلى حجّية الإجماع- و هو إثبات شرعية بيعة أبي بكر- لم يحصل لهم، لأنّه قد ثبت من طريق التواتر مخالفة عليّ عليه السلام و جماعة كبيرة من بني هاشم و باقي المسلمين، و لئن التجأ أكثرهم بعد ذلك إلى البيعة، فإنّه بقي منهم من لم يبايع حتّى مات مثل «سعد بن عبادة» قتيل الجنّ! «1».

و لأجل هذه المفارقة بين أدلّة الإجماع و واقعه الّذي أرادوا تصحيحه كثرت الأقوال في هذا الباب لتوجيهها: فقال مالك- على ما نسب إليه-: إنّ الحجّة هو إجماع أهل المدينة فقط «2». و قال قوم:

الحجّة إجماع أهل الحرمين (مكّة و المدينة) و المصرين (الكوفة و البصرة) «3». و قال قوم:

المعتبر إجماع أهل الحلّ و العقد «4». و قال بعض: المعتبر إجماع الفقهاء الاصوليّين خاصّة «5». و قال بعض: الاعتبار بإجماع أكثر المسلمين‏

______________________________ (1) راجع اسد الغابة: ج 2 ص 284- 285.

(2) نسبه إليه الغزالي في المستصفى: ج 1 ص 187.

(3) المصدر السابق.

(4) قاله العلّامة في تهذيب الوصول (مخطوط) المقصد الثامن في الإجماع. و عزاه في مفاتيح الاصول (ص 494) إلى الزاري.

(5) قال في مفاتيح الاصول: و عرّفه الحاجبي: بأنّه اتّفاق المجتهدين من هذه الامّة في عصر على أمر. أصول الفقه ( مظفر، محمد رضا - طبع انتشارات اسلامى )، ج‏3، ص: 110

و اشترط بعض في المجمعين أن يحقّقوا عدد التواتر «1». و قال آخرون:

الاعتبار بإجماع الصحابة فقط دون غيرهم ممّن جاءوا بعد عصرهم كما نُسب ذلك إلى داود و شيعته‏ «2» ... إلى غير ذلك من الأقوال الّتي يطول ذكرها المنقولة في جملة من كتب الاصول.

و كلّ هذه الأقوال تحكّمات لا سند لها و لا دليل، و لا ترفع الغائلة من تلك المفارقة الصارخة. و الّذي دفع اولئك القائلين بتلك المقالات امور وقعت في تأريخ بيعة الخلفاء- يطول شرحها- أرادوا تصحيحها بالإجماع.

هذه هي الجذور العميقة للمسألة الّتي أوقعت القائلين بحجّية الإجماع في حيصٍ و بيصٍ لتصحيحه و توجيهه، و إلّا فتلك المسالك الثلاثة- إن سلمت- لا تدلّ على أكثر من حجّية إجماع الكلّ بدون استثناء، فتخصيص حجّيته ببعض الامّة دون بعضٍ بلا مخصّص.

نعم، المخصّص هو الرغبة في إصلاح أصل المذهب و المحافظة عليه على كلّ حال. الإجماع عند الإماميّة

إنّ الإجماع بما هو إجماع لا قيمة علميّة له عند الإماميّة ما لم يكشف عن قول المعصوم، كما تقدّم وجهه. فإذا كشف على نحو القطع عن قوله فالحجّة في الحقيقة هو المنكشف لا الكاشف، فيدخل حينئذٍ في السنّة، و لا يكون دليلًا مستقلّاً في مقابلها.

و قد تقدّم أنّه لم تثبت عندنا عصمة الامّة عن الخطأ. و إنّما أقصى‏

______________________________ (1) راجع المستصفى: ج 1 ص 188.

(2) المصدر السابق: ص 189، و معارج الاصول للمحقّق الحلّي: ص 130.

أصول الفقه ( مظفر، محمد رضا - طبع انتشارات اسلامى )، ج‏3، ص: 111

ما يثبت عندنا من اتّفاق الامّة أنّه يكشف عن رأي من له العصمة.

فالعصمة في المنكشف لا في الكاشف.

و على هذا، فيكون الإجماع منزلته منزلة الخبر المتواتر الكاشف بنحو القطع عن قول المعصوم، فكما أنّ الخبر المتواتر ليس بنفسه دليلًا على الحكم الشرعي رأساً بل هو دليل على الدليل على الحكم، فكذلك الإجماع ليس بنفسه دليلًا بل هو دليل على الدليل.

غاية الأمر أنّ هناك فرقاً بين الإجماع و الخبر المتواتر: إنّ الخبر دليل لفظي على قول المعصوم، أي أنّه يثبت به نفس كلام المعصوم و لفظه فيما إذا كان التواتر للّفظ. أمّا الإجماع فهو دليل قطعي على نفس رأي المعصوم لا على لفظٍ خاصّ له، لأنّه لا يثبت به- في أيّ حال- أنّ المعصوم قد تلفّظ بلفظٍ خاصّ معيّن في بيانه للحكم.

و لأجل هذا يُسمّى الإجماع ب «الدليل اللُبّي» نظير «الدليل العقلي»، يعني أنّه يثبت بهما نفس المعنى و المضمون من الحكم الشرعي الّذي هو كاللُبّ بالنسبة إلى اللفظ الحاكي عنه الّذي هو كالقشر له.

و الثمرة بين الدليل اللفظي و اللُبّي تظهر في المخصّص إذا كان لُبّيّاً أو لفظيّاً على ما ذكره الشيخ الأعظم- كما تقدّم في الجزء الأوّل ص 204- لذهابه إلى جواز التمسّك بالعامّ في الشبهة المصداقيّة إذا كان المخصّص لُبّياً دون ما إذا كان لفظيّاً.

و إذا كان الإجماع حجّة من جهة كشفه عن قول المعصوم فلا يجب فيه اتّفاق الجميع بغير استثناءٍ كما هو مصطلح أهل السنّة على مبناهم، بل يكفي اتّفاق كلّ من يستكشف من اتّفاقهم قول المعصوم كثروا أم قلّوا إذا كان العلم باتّفاقهم يستلزم العلم بقول المعصوم، كما صرّح بذلك جماعة من علمائنا.

أصول الفقه ( مظفر، محمد رضا - طبع انتشارات اسلامى )، ج‏3، ص: 112

قال المحقّق في المعتبر (ص 6) بعد أن أناط حجّية الإجماع بدخول المعصوم: فلو خلا المائة من فقهائنا من قوله لما كان حجّة، و لو حصل في اثنين كان قولهما حجّة «1».

و قال السيّد المرتضى- على ما نقل عنه-: إذا كان علّة كون الإجماع حجّة كون الإمام فيهم، فكلّ جماعة كثرت أو قلّت كان [قول‏] الإمام في أقوالها فإجماعها حجّة «2».

إلى غير ذلك من التصريحات المنقولة عن جماعة كثيرة من علمائنا.

و لكن سيأتي أنّه على بعض المسالك في الإجماع لا بدّ من إحراز اتّفاق الجميع.

و على هذا، فيكون تسمية اتّفاق جماعة من علماء الإماميّة بالإجماع مسامحة ظاهرة، فإنّ الإجماع حقيقة عرفيّة في اتّفاق جميع العلماء من المسلمين على حكمٍ شرعي، و لا يلزم من كون مثل اتّفاق الجماعة القليلة حجّة أن يصحّ تسميتها بالإجماع. و لكن قد شاع هذا التسامح في لسان الخاصّة من علماء الإماميّة على وجهٍ أصبح لهم اصطلاح آخر فيه، فيراد من الإجماع عندهم كلّ اتّفاق يُستكشف منه قول المعصوم سواء كان اتّفاق الجميع أو البعض، فيعمّ القسمين.

و الخلاصة الّتي نريد أن ننصّ عليها و تعنينا من البحث: أنّ الإجماع إنّما يكون حجّة إذا عُلم بسببه- على سبيل القطع- قولُ المعصوم، فما لم يحصل العلم بقوله و إن حصل الظنّ منه فلا قيمة له عندنا، و لا دليل على حجّية مثله.

أمّا كيف يُستكشف من الإجماع على سبيل القطع قول المعصوم؟ فهذا

______________________________ (1) المعتبر: ج 1 ص 31، ط الحديثة.

(2) الذريعة إلى اصول الشريعة: ج 2 ص 630.

أصول الفقه ( مظفر، محمد رضا - طبع انتشارات اسلامى )، ج‏3، ص: 113

ما ينبغي البحث عنه. و قد ذكروا لذلك طرقاً أنهاها المحقّق الشيخ أسد اللَّه التستري في رسالته في المواسعة و المضايقة- على ما نقل عنه- إلى اثنتي عشرة طريقاً «1». و نحن نكتفي بذكر الطرق المعروفة و هي ثلاث، بل أربع:

1- طريقة الحسّ: و بها يُسمّى الإجماع «الإجماع الدخولي» و تُسمّى «الطريقة التضمّنية» و هي الطريقة المعروفة عند قدماء الأصحاب الّتي اختارها السيّد المرتضى‏ «2» و جماعة سلكوا مسلكه‏ «3». و حاصلها: أن يُعلم بدخول الإمام في ضمن المجمعين على سبيل القطع من دون أن يُعرف بشخصه من بينهم.

و هذه الطريقة إنّما تتصوّر إذا استقصى الشخص المحصّل للإجماع بنفسه و تتبّع أقوال العلماء فعرف اتّفاقهم و وجد من بينها أقوالًا متميّزة معلومة لأشخاص مجهولين حتّى حصل له العلم بأنّ الإمام من جملة اولئك المتّفقين. أو يتواتر لديه النقل عن أهل بلدٍ أو عصرٍ فعلم أنّ الإمام كان من جملتهم و لم يعلم قوله بعينه من بينهم، فيكون من نوع الإجماع المنقول بالتواتر.

و من الواضح: أنّ هذه الطريقة لا تتحقّق غالباً إلّا لمن كان موجوداً في عصر الإمام. أمّا بالنسبة إلى العصور المتأخّرة فبعيدة التحقّق، لا سيّما في الصورة الاولى و هي السماع من نفس الإمام.

و قد ذكروا أنّه لا يضرّ في حجّية الإجماع- على هذه الطريقة- مخالفة معلوم النسب و إن كثروا ممّن يُعلم أنّه غير الإمام. بخلاف مجهول‏

______________________________ (1) منهج التحقيق في التوسعة و التضييق (لا توجد عندنا هذه الرسالة) راجع كشف القناع له قدس سره: ص 230.

(2) انظر الذريعة إلى اصول الشريعة: ج 2 ص 632.

(3) منهم المحقّق في المعتبر: ج 1 ص 31 و صاحب المعالم في معالم الدين: ص 174.

أصول الفقه ( مظفر، محمد رضا - طبع انتشارات اسلامى )، ج‏3، ص: 114

النسب على وجهٍ أنّه الإمام، فإنّه في هذه الصورة لا يتحقّق العلم بدخول الإمام في المجمعين.

2- طريقة قاعدة اللطف: و هي أن يستكشف عقلًا رأى المعصوم من اتّفاق من عداه من العلماء الموجودين في عصره خاصّة أو في العصور المتأخّرة مع عدم ظهور ردعٍ من قِبَله لهم بأحد وجوه الردع الممكنة خفيّةً أو ظاهرةً- إمّا بظهوره نفسه أو بإظهار من يبيّن الحقّ في المسألة- فإنّ «قاعدة اللطف» كما اقتضت نصبَ الإمام و عصمتَه تقتضي أيضاً أن يُظهر الإمامُ الحقَّ في المسألة الّتي يتّفق المفتون فيها على خلاف الحقّ، و إلّا للزم سقوط التكليف بذلك الحكم أو إخلال الامام بأعظم ما وجب عليه و نُصب لأجله، و هو تبليغ الأحكام المنزلة.

و هذه الطريقة هي الّتي اختارها الشيخ الطوسي‏ «1» و من تبعه، بل يرى انحصار استكشاف قول الإمام من الإجماع فيها. و ربما يستظهر من كلام السيّد المرتضى- المنقول في العُدّة عنه‏ «2» في ردّ هذه الطريقة- كونها معروفة قبل الشيخ أيضاً.

و لازم هذه الطريقة عدم قدح المخالفة مطلقاً سواء كان من معلوم النسب أو مجهوله مع العلم بعدم كونه الإمام و لم يكن معه برهان يدلّ على صحّة فتواه.

و لازم هذه الطريقة أيضاً عدم كشف الإجماع إذا كان هناك آية أو سنّة قطعيّة على خلاف المجمعين و إن لم يفهموا دلالتها على الخلاف، إذ يجوز أن يكون الإمام قد اعتمد عليها في تبليغ الحقّ.

3- طريقة الحدس: و هي أن يقطع بكون ما اتّفق عليه الفقهاء الإماميّة

______________________________ (1) العُدّة: ج 2 ص 639- 642.

(2) راجع العُدّة: ج 2 ص 631 و 643.

أصول الفقه ( مظفر، محمد رضا - طبع انتشارات اسلامى )، ج‏3، ص: 115

وصل إليهم من رئيسهم و إمامهم يداً بيد، فإنّ اتّفاقهم مع كثرة اختلافهم في أكثر المسائل يُعلم منه أنّ الاتّفاق كان مستنداً إلى رأي إمامهم، لا عن اختراعٍ للرأي من تلقاء أنفسهم اتّباعاً للأهواء أو استقلالًا بالفهم. كما يكون ذلك في اتّفاق أتباع سائر ذوي الآراء و المذاهب، فإنّه لا نشكّ فيها أنّها مأخوذة من متبوعهم و رئيسهم الّذي يرجعون إليه.

و الّذي يظهر أنّه قد ذهب إلى هذه الطريقة أكثر المتأخّرين‏ «1». و لازمها أنّ الاتّفاق ينبغي أن يقع في جميع العصور من عصر الأئمة إلى العصر الّذي نحن فيه، لأنّ اتّفاق أهل عصرٍ واحد مع مخالفة من تقدّم يقدح في حصول القطع، بل يقدح فيه مخالفة معلوم النسب ممّن يعتدّ بقوله، فضلًا عن مجهول النسب.

4- طريقة التقرير: و هي أن يتحقّق الإجماع بمرأى و مسمع من المعصوم مع إمكان ردعهم ببيان الحقّ لهم و لو بإلقاء الخلاف بينهم، فإنّ اتّفاق الفقهاء على حكم- و الحال هذه- يكشف عن إقرار المعصوم لهم فيما رأوه و تقريرهم على ما ذهبوا إليه، فيكون ذلك دليلًا على أنّ ما اتّفقوا عليه هو حكم اللَّه واقعاً.

و هذه الطريقة لا تتمّ إلا مع إحراز جميع شروط التقرير الّتي قد تقدّم الكلام عليها في مبحث السنّة «2». و مع إحراز جميع الشروط لا شكّ في استكشاف موافقة المعصوم، بل بيان الحكم من شخصٍ واحد بمرأى و مسمعٍ من المعصوم مع إمكان ردعه و سكوته عنه يكون سكوته تقريراً كاشفاً عن موافقته. و لكن المهمّ أن يثبت لنا أنّ الإجماع في عصر الغيبة

______________________________ (1) قال المحقّق الوحيد البهبهاني قدس سره: و اتّفق كلّ المحقّقين في أمثال هذه الأزمان على ذلك، الرسائل الاصوليّة: ص 303.

(2) راجع ص 70.

أصول الفقه ( مظفر، محمد رضا - طبع انتشارات اسلامى )، ج‏3، ص: 116

هل يتحقّق فيه إمكان الردع من الإمام و لو بإلقاء الخلاف؟ أو هل يجب على الإمام بيان الحكم الواقعي و الحال هذه؟ و سيأتي ما ينفع في المقام.

هذه خلاصة ما قيل من الوجوه المعروفة في استنتاج قول الإمام من الإجماع. و قد يحصل للإنسان المتتبّع لأقوال العلماء المحصّل لإجماعهم بعض الوجوه دون البعض، أي لا يجب في كلّ إجماع أن يبتني على وجهٍ واحد من هذه الوجوه. و إن كان السيّد المرتضى يرى انحصاره في الطريقة الاولى (الطريقة التضمّنية) أي الإجماع الدخولي و الشيخ الطوسي يرى انحصاره‏ «1» في الطريقة الثانية (طريقة قاعدة اللطف).

و على كلّ حال، فإنّ الإجماع إنّما يكون حجّة إذا كشف كشفاً قطعيّاً عن قول المعصوم من أيّ سببٍ كان و على أيّة طريقةٍ حصل. فليس من الضروري أن نفرض حصوله من طريقة مخصوصة من هذه الطرق أو نحوها، بل المناط حصول القطع بقول المعصوم.

و التحقيق: أنّه يندر حصول القطع بقول المعصوم من الإجماع المحصَّل ندرةً لا تبقى معها قيمة لأكثر الإجماعات الّتي نحصّلها، بل لجميعها بالنسبة إلى عصور الغيبة. و تفصيل ذلك أن نقول ببرهان السبر و التقسيم‏ «2»:

إنّ المجمعين إمّا أن يكون رأيهم الّذي اتّفقوا عليه بغير مستندٍ و دليل أو عن مستندٍ و دليل. لا يصحّ الفرض الأوّل، لأنّ ذلك مستحيل عادةً في حقّهم. و لو جاز ذلك في حقّهم فلا تبقى قيمة لآرائهم حتّى يُستكشف منها الحقّ.

______________________________ (1) في ط الاولى: و حصره الشيخ الطوسي.

(2) إن شئت مزيد الاطّلاع على البرهان المذكور راجع المنطق للمؤلّف قدس سره: ج 1 ص 127 مبحث القسمة.

أصول الفقه ( مظفر، محمد رضا - طبع انتشارات اسلامى )، ج‏3، ص: 117

فيتعيّن الفرض الثاني، و هو أن يكون لهم مدرك خفي علينا و ظهر لهم.

و مدارك الأحكام منحصرة عند الإمامية في أربعة: الكتاب و السنّة و الإجماع و الدليل العقلي. و لا يصحّ أن يكون مدركهم ما عدا السنّة من هذه الأربعة:

أمّا الكتاب: فإنّما لا يصحّ أن يكون مدركهم فلأجل أنّ القرآن الكريم بين أيدينا مقروء و مفهوم، فلا يمكن فرض آية منه خفيت علينا و ظهرت لهم. و لو فُرض أنّهم فهموا من آيةٍ شيئاً خفي علينا وجهه فإنّ فهمهم ليس حجّة علينا، فاجتماعهم لو استند إلى ذلك لا يكون موجباً للقطع بالحكم الواقعي أو موجباً لقيام الحجّة علينا. فلا ينفع مثل هذا الإجماع.

و أمّا الإجماع: فواضح أنّه لا يصحّ أن يكون مدركاً لهم، لأنّ هذا الإجماع الّذي صار مدركاً للإجماع ننقل الكلام إليه أيضاً، فنسأل عن مدركه. فلا بدّ أن ينتهي إلى غيره من المدارك الاخرى.

و أمّا الدليل العقلي: فأوضح، لأنّه لا يتصوّر هناك قضيّة عقليّة يتوصّل بها إلى حكم شرعي كانت مستورة علينا و ظهرت لهم، ضرورة أنّه لا بدّ في القضيّة العقليّة الّتي يتوصّل بها إلى الحكم الشرعي أن تتطابق عليها جميع آراء العقلاء، و إلّا فلا يصحّ التوصّل بها إلى الحكم الشرعي. فلو أنّ المجمعين كانوا قد تمسّكوا بقضيّة عقلية ليست بهذه المثابة فلا تبقى قيمة لآرائهم حتّى يُستكشف منها الحقّ و موافقة الإمام، لأنّهم يكونون كمن لا مدرك لهم.

فانحصر مدركهم في جميع الأحوال في السنّة.

و الاستناد إلى السنّة يتصوّر على وجهين:

1- أن يسمع المجمعون أو بعضهم الحكم من المعصوم مشافهةً أو يرون فعله أو تقريره. و هذا بالنسبة إلى عصرنا لا سبيل فيه حتّى إلى‏

أصول الفقه ( مظفر، محمد رضا - طبع انتشارات اسلامى )، ج‏3، ص: 118

الظنّ به فضلًا عن القطع، و إن احتمل امكان مشافهة بعض الأبدال من العلماء للإمام.

بل الحال كذلك حتّى بالنسبة إلى من هم في عصر المعصومين، أي أنّه لا يحصل القطع فيه لنا بمشافهتهم للمعصوم، لاحتمال أنّهم استندوا إلى رواية وثقوا بها، و إن كان احتمال المشافهة قريباً جدّاً، بل هي مظنونة.

على أنّه لا مجال بالنسبة إلينا لتحصيل إجماع الفقهاء الموجودين في تلك العصور، إذ ليست آراؤهم مدوّنة، و كلّ ما دوّنوه هي الأحاديث الّتي ذكروها في اصولهم المعروفة بالاصول الأربعمائة.

2- أن يستند المجمعون إلى روايةٍ عن المعصوم. و لا مجال في هذا الإجماع لإفادته القطع بالحكم أو كشفه عن الحجّة الشرعيّة من جهة السند و الدلالة معاً:

أمّا من جهة السند: فلاحتمال أنّ المجمعين كانوا متّفقين على اعتبار الخبر الموثّق أو الحسن، فمن لا يرى حجّيتهما لا مجال له في الاستناد إلى مثله. فمن أين يحصل لنا العلم بأنّهم استندوا إلى ما هو حجّة باتّفاق الجميع؟

و أمّا من جهة الدلالة: فلاحتمال أن يكون ذلك الخبر المفروض- لو فُرض أنّه حجّة من جهة السند- ليس نصّاً في الحكم. و لا ينفع أن يكون ظاهراً عندهم في الحكم، فإنّ ظهور دليلٍ عند قومٍ لا يستلزم أن يكون ظاهراً لدى كلّ أحد، و فهم قومٍ ليس حجّة على غيرهم. أ لا ترى أنّ المتقدّمين اشتهر عِندهم استفادة النجاسة من أخبار البئر و اشتهر عند المتأخّرين عكس ذلك، ابتداءً من العلّامة الحلّي‏ «1». فلعلّ الخبر الّذي كان مدركاً لهم ليس ظاهراً عندنا لو اطّلعنا عليه.

______________________________ (1) راجع مختلف الشيعة: ج 1 ص 187.

أصول الفقه ( مظفر، محمد رضا - طبع انتشارات اسلامى )، ج‏3، ص: 119

إذا عرفت ذلك ظهر لك أنّ الإجماع لا يستلزم القطع بقول المعصوم عدا الإجماع الدخولي و هو بالنسبة إلينا غير عملي.

و أمّا القول بأنّ «قاعدة اللطف» تقتضي أن يكون الإمام موافقاً لرأي المجمعين و إن استند المجمعون إلى خبر الواحد الّذي ربما لا تثبت لنا حجّيته من جهة السند أو الدلالة لو اطّلعنا عليه، فإنّنا لم نتحقّق جريان هذه القاعدة في المقام وفاقاً لما ذهب إليه الشيخ الأعظم الأنصاري‏ «1» و غيره بالرغم من تعويل الشيخ الطوسي و أتباعه عليها، لأنّ السبب الّذي يدعو إلى اختفاء الإمام و احتجاب نفعه- مع ما فيه من تفويت لأعظم المصالح النوعيّة للبشر- هو نفسه قد يدعو إلى احتجاب حكم اللَّه عند إجماع العلماء على حكمٍ مخالفٍ للواقع، لا سيّما إذا كان الإجماع من أهل عصرٍ واحد. و لا يلزم من ذلك إخلال الإمام بالواجب عليه و هو تبليغ الأحكام، لأنّ الاحتجاب ليس من سببه.

و على هذا فمن أين يحصل لنا القطع بأنّه لا بدّ للإمام من إظهار الحقّ في حال غيبته عند حصول إجماع مخالف للواقع؟

و للمشكّك أن يزيد على ذلك فيقول: لما ذا لا تقتضي هذه القاعدة أن يُظهر الإمامُ الحقَّ حتّى في صورة الخلاف، لا سيّما أنّ بعض المسائل الخلافيّة قد يقع فيها أكثر الناس في مخالفة الواقع؟ بل لو أحصينا المسائل الخلافيّة في الفقه الّتي هي الأكثر من مسائله لوجدنا أنّ كثيراً من الناس لا محالة واقعون في مخالفة الواقع، فلما ذا لا يجب على الإمام هنا تبليغ الأحكام ليقلّ الخلاف أو ينعدم، و به نجاة المؤمنين من الوقوع في مخالفة الواقع.

______________________________ (1) راجع فرائد الاصول: ج 1 ص 84.

أصول الفقه ( مظفر، محمد رضا - طبع انتشارات اسلامى )، ج‏3، ص: 120

و إذا جاء الاحتمال لا يبقى مجال لاستلزام الإجماع القطعَ بقول المعصوم من جهة «قاعدة اللطف».

و أمّا «مسلك الحدس» فإنّ عهدة دعواه على مدّعيها. و ليس من السهل حصول القطع للإنسان في ذلك، إلّا أن يبلغ الاتّفاق درجةً يكون الحكم فيه من ضروريّات الدين أو المذهب- أو قريباً من ذلك- عند ما يُحرز اتّفاق جميع العلماء في جميع العصور بغير استثناء، فإنّ مثل هذا الاتّفاق يستلزم عادةً موافقته لقول الإمام و إن كان مستند المجمعين خبر الواحد أو الأصل.

و كذلك يلحق بالحدس «مسلك التقرير» و نحوه ممّا هو من هذا القبيل.

و على كلّ حالٍ لم تبق لنا ثقة بالإجماع فيما بعد عصر الإمام في استفادة قول الإمام على سبيل القطع و اليقين.

الإجماع المنقول‏

إنّ الإجماع- في الاصطلاح- ينقسم إلى قسمين:

1- «الإجماع المحصَّل» و المقصود به الإجماع الّذي يحصّله الفقيه بنفسه بتتبّع أقوال أهل الفتوى. و هو الّذي تقدّم البحث عنه.

2- «الإجماع المنقول» و المقصود به الإجماع الّذي لم يحصّله الفقيه بنفسه و إنّما ينقله له من حصّله من الفقهاء، سواء كان النقل له بواسطةٍ أم بوسائط.

ثمّ النقل تارةً: يقع على نحو التواتر. و هذا حكمه حكم المحصّل من جهة الحجّية.

أصول الفقه ( مظفر، محمد رضا - طبع انتشارات اسلامى )، ج‏3، ص: 121

و اخرى: يقع على نحو خبر الواحد. و إذا اطلق قول «الإجماع المنقول» في لسان الاصوليّين فالمراد منه هذا الأخير.

و قد وقع الخلاف بينهم في حجّيته على أقوال.

و لكن الّذي يظهر أنّهم متّفقون على حجّية نقل «الإجماع الدخولي» و هو الإجماع الّذي يُعلم فيه من حال الناقل أنّه تتبّع فتاوى من نقل اتّفاقهم حتّى المعصوم، فيدخل المعصوم في جملة المجمعين. و ينبغي أن يتّفقوا على ذلك، لأنّه لا يشترط في حجّية خبر الواحد معرفة المعصوم تفصيلًا حين سماع الناقل منه، و هذا الناقل- حسب الفرض- قد نقل عن المعصوم بلا واسطة و إن لم يعرفه بالتفصيل. غير أنّ «الإجماع الدخولي» ممّا يُعلم عدم وقوع نقله، لا سيّما في العصور المتأخّرة عن عصر الأئمّة، بل لم يُعهد من الناقلين للإجماع من ينقله على هذا الوجه و يدّعى ذلك.

وعليه، فموضع الخلاف منحصر في حجّية الإجماع المنقول غير «الإجماع الدخولي» و هو كما قلنا على أقوال:

1- إنّه حجّة مطلقاً، لأنّه خبر واحد «1».

2- إنّه ليس بحجّة مطلقاً، لأنّه لا يدخل في أفراد خبر الواحد من جهة كونه حجّة «2».

3- التفصيل بين نقل إجماع جميع الفقهاء في جميع العصور الّذي يُعلم فيه من طريق الحدس قول المعصوم فيكون حجّة، و بين غيره من‏

______________________________ (1) قال به العلّامة في نهاية الوصول: الورقة 120، و الشهيد في الذكرى: ج 1 ص 50 و صاحب المعالم في معالم الدين: ص 180.

(2) نسبه في نهاية الوصول إلى جماعة من الحنفيّة و الغزالي من الشافعيّة.

أصول الفقه ( مظفر، محمد رضا - طبع انتشارات اسلامى )، ج‏3، ص: 122

الإجماعات المنقولة الّذي يُستكشف منها بقاعدة اللطف أو نحوها قول المعصوم فلا يكون حجّة. و إلى هذا التفصيل مال الشيخ الأنصاري الأعظم‏ «1».

و سرّ الخلاف في المسألة يكمن في أنّ أدلّة خبر الواحد من جهة أنّها تدلّ على وجوب التعبّد بالخبر لا تشمل كلّ خبر عن أيّ شي‏ءٍ كان، بل مختصّة بالخبر الحاكي عن حكم شرعي أو عن ذي أثر شرعي، ليصحّ أن يتعبّدنا الشارع به. و إلّا فالمحكي بالخبر إذا لم يكن حكماً شرعيّاً أو ذا أثر شرعي لا معنى للتعبّد به، فلا يكون مشمولًا لأدلّة حجّية خبر الواحد.

و من المعلوم: أنّ الإجماع المنقول- غير الإجماع الدخولي- إنّما المحكيّ به بالمطابقة نفس أقوال العلماء، و أقوال العلماء في أنفسها بما هي أقوال علماء ليست حكماً شرعيّاً و لا ذات أثرٍ شرعي. وعليه، فنقل أقوال العلماء من جهة كونها أقوال علماء لا يصحّ أن يكون مشمولًا لأدلّة خبر الواحد، و إنّما يصحّ أن يكون مشمولًا لها إذا كشف هذا النقل عن الحكم الصادر عن المعصوم ليصحّ التعبّد به. إذا عرفت ذلك، فنقول:

إن ثبت لدينا: أنّه يكفي في صحّة التعبّد بالخبر هو كشفه- على أيّ نحو كان من الكشف- عن الحكم الصادر من المعصوم و لو باعتبار الناقل- نظراً إلى أنّه لا يعتبر في حجّية الخبر حكاية نصّ ألفاظ المعصوم، لأنّ المناط معرفة حكمه و لذا يجوز النقل بالمعنى- فالإجماع المنقول الّذي هو موضع البحث يكون حجّة مطلقاً، لأنّه كاشف و حاكٍ عن الحكم باعتقاد الناقل، فيكون مشمولًا لأدلّة حجّية الخبر.

______________________________ (1) فرائد الاصول: ج 1 ص 95.

أصول الفقه ( مظفر، محمد رضا - طبع انتشارات اسلامى )، ج‏3، ص: 123

و أمّا إن ثبت لدينا: أنّ المناط في صحّة التعبّد بالخبر أن يكون حاكياً عن الحكم من طريق الحسّ، أي يجب أن يكون الناقل قد سمع بنفسه الحكم من المعصوم- و لذا لا تشمل أدلّة حجّية الخبر فتوى المجتهد و إن كان قاطعاً بالحكم، مع أنّ فتواه في الحقيقة حكاية عن الحكم بحسب اجتهاده- فالإجماع المنقول الّذي هو موضع البحث ليس بحجّة مطلقاً.

و أمّا لو ثبت أنّ الإخبار عن حدس اللازم للإخبار عن حسّ يصحّ التعبّد به- لأنّ حكمه حكم الإخبار عن حسّ بلا فرق- فإنّ التفصيل المتقدّم في القول الثالث يكون هو الأحقّ.

و إذا اتّضح لدينا سرّ الخلاف في المسألة، بقي علينا أن نفهم أيّ وجهٍ من الوجوه المتقدّمة هو الأولى بالتصديق و الأحقّ بالاعتماد، فنقول:

أوّلًا: إِنّ أدلّة خبر الواحد جميعها- من آيات و روايات و بناء عقلاء- أقصى دلالتها أنّها تدلّ على وجوب تصديق الثقة و تصويبه في نقله لغرض التعبّد بما ينقل، و لكنّها لا تدلّ على تصويبه في اعتقاده.

بيان ذلك: أنّ معنى تصديق الثقة: هو البناء على واقعيّة نقله، و واقعيّة النقل تستلزم واقعيّة المنقول، بل واقعيّة النقل عين واقعيّة المنقول، فالقطع بواقعية النقل لا محالة يستلزم القطع بواقعيّة المنقول؛ و كذلك البناء على واقعيّة النقل يستلزم البناء على واقعيّة المنقول.

وعليه، فإذا كان المنقول حكماً أو ذا أثر شرعي صحّ البناء على الخبر و التعبّد به بالنظر إلى هذا المنقول. أمّا إذا كان المنقول اعتقاد الناقل- كما لو أخبر شخص عن اعتقاده بحكم- فغاية ما يقتضي البناء على تصديق نقله هو البناء على واقعيّة اعتقاده الّذي هو المنقول، و الاعتقاد في نفسه ليس حكماً و لا ذا أثر شرعي. أمّا صحّة اعتقاده و مطابقته للواقع فذلك‏

أصول الفقه ( مظفر، محمد رضا - طبع انتشارات اسلامى )، ج‏3، ص: 124

شي‏ء آخر أجنبيّ عنه، لأنّ واقعيّة الاعتقاد لا تستلزم واقعيّة المعتقد به، يعني أنّنا قد نصدّق المخبر عن اعتقاده في أنّ هذا هو اعتقاده واقعاً، لكن لا يلزمنا أن نصدّق بأنّ ما اعتقده صحيح و له واقعيّة.

و من هنا نقول: إنّه إذا أخبر شخص بأنّه سمع الحكم من المعصوم صحّ أن نبنيَ على واقعيّة نقله تصديقاً له بمقتضى أدلّة حجّية الخبر، لأنّ ذلك يستلزم واقعيّة المنقول و هو الحكم، إذ لم يمكن التفكيك بين واقعيّة النقل و واقعيّة المنقول. أمّا إذا أخبر عن اعتقاده بأنّ المعصوم حكم بكذا فلا يصحّ البناء على واقعيّة اعتقاده تصديقاً له بمقتضى أدلّة حجّية الخبر، لأنّ البناء على واقعيّة اعتقاده تصديقاً له لا يستلزم البناء على واقعيّة معتقده، فيجوز التفكيك بينهما.

فتحصّل أنّ أدلّة خبر الواحد إنّما تدلّ على أنّ الثقة مصدّق و يجب تصويبه في نقله، و لا تدلّ على تصويبه في رأيه و اعتقاده و حدسه. و ليس هناك أصل عقلائي يقول: إنّ الأصل في الإنسان- أو الثقة خاصّة- أن يكون مصيباً في رأيه و حدسه و اعتقاده.

ثانياً: بعد أن ثبت أنّ أدلّة حجّية الخبر لا تدلّ على تصويب الناقل في رأيه و حدسه، فنقول: لو أنّ ما أخبر به الناقل للإجماع يستلزم في نظر المنقول إليه الحكم الصادر من المعصوم و إن لم يكن في نظر الناقل مستلزماً لذلك، فهل هذا أيضاً غير مشمول لأدلّة حجّية الخبر؟

الحقّ أنّه ينبغي أن يكون مشمولًا لها، لأنّ الأخذ به حينئذٍ لا يكون من جهة تصديق الناقل في رأيه و ربما كان الناقل لا يرى الاستلزام، بل لا يكون الأخذ به إلّا من جهة تصديقه في نقله، لأنّه لما كان المنقول- و هو الإجماع- يستلزم في نظر المنقول إليه الحكم الصادر من المعصوم،

أصول الفقه ( مظفر، محمد رضا - طبع انتشارات اسلامى )، ج‏3، ص: 125

فالأخذ به و البناء على صحّة نقله يستلزم البناء على صدور الحكم فيصحّ التعبّد به بلحاظ هذه الجهة. بل إنّ الخبر عن فتاوى الفقهاء يكون في نظر المنقول إليه ملزوماً للخبر عن رأي المعصوم. و حينئذٍ يكون هذا الخبر الثاني اللازم للخبر الأوّل هو المشمول لأدلّة حجّية الخبر، لا سيّما إذا كان في نظر الناقل أيضاً مستلزماً. و لا نحتاج بعدئذٍ إلى تصحيح شمولها للخبر الأوّل الملزوم بلحاظ استلزامه للحكم، يعني أنّ الخبر عن الإجماع يكون دالّاً بالدلالة الالتزاميّة على صدور الحكم من المعصوم، فيكون من ناحية المدلول الالتزامي و هو الإخبار عن صدور الحكم حجّة مشمولًا لأدلّة حجّية الخبر و إن لم يكن من جهة المدلول المطابقي حجّة مشمولًا لها، لأنّ الدلالة الالتزاميّة غير تابعة للدلالة المطابقيّة من ناحية الحجّية و إن كانت تابعة لها ثبوتاً، إذ لا دلالة التزاميّة إلّا مع فرض الدلالة المطابقيّة، و لكن لا تلازم بينهما في الحجّية.

و إذا اتّضح لك ما شرحناه يتّضح لك أنّ الأولى التفصيل في الإجماع المنقول بين ما إذا كان كاشفاً عن الحكم في نظر المنقول إليه لو كان هو المحصّل له فيكون حجّة، و بين ما إذا كان كاشفاً عن الحكم في نظر الناقل فقط دون المنقول اليه فلا يكون حجّة، لما تقدّم أنّ أدلّة خبر الواحد لا تدلّ على تصديق الناقل في نظره و رأيه.

و لعلّه إلى هذا التفصيل يرمي الشيخ الأعظم في تفصيله الذي أشرنا سابقاً.

أصول الفقه ( مظفر، محمد رضا - طبع انتشارات اسلامى )، ج‏3، ص: 128