حضرت امام علی عليه‌السلام نے فرمایا: سرکشی سے بچتے رہو،کیونکہ یہ بہت جلد شکست سے دوچار کردیتی ہے اور سرکش انسان کو نشانۂ عبرت بنادیتی ہے۔ غررالحکم حدیث2657

اصول الفقہ حصہ سوم

المقدّمة

`و فيها مباحث:

1- موضوع المقصد الثالث‏

من التمهيد المتقدّم في بيان المقصود من «مباحث الحجّة» يتبيّن لنا أنّ الموضوع لهذا المقصد الّذي يُبحث فيه عن لواحق ذلك الموضوع و محمولاته هو: «كلّ شي‏ءٍ يصلح أن يُدّعى ثبوت الحكم الشرعي به، ليكون دليلًا و حجّة عليه». فإن استطعنا في هذا المقصد أن نثبت بدليل قطعي‏ «1» أنّ هذا الطريق الكذائي‏ «2» حجّة أخذنا به و رجعنا إليه لإثبات الأحكام الشرعيّة، و إلّا طرحناه و نبذناه‏ «3» و بصريح العبارة نقول:

إنّ الموضوع لهذا المقصد في الحقيقة هو «ذات الدليل» بما هو في نفسه، لا بما هو دليل.

______________________________ (1) سيأتي في المبحث السادس بيان أنّه لما ذا يجب أن يكون ثبوت حجّية الدليل بالدليل القطعي، و لا يكفي الدليل الظنّي.

(2) في ط 2 بدل «الكذائي»: مثلًا.

(3) في ط 2: أهملناه.

أصول الفقه ( مظفر، محمد رضا - طبع انتشارات اسلامى )، ج‏3، ص: 11

و أمّا محمولاته و لواحقه- الّتي نفحصها و نبحث عنها لإثباتها له- فهي كون ذلك الشي‏ء دليلًا و حجّة، فإمّا أن نُثبت ذلك أو ننفيه.

و لا يصحّ أن نجعل موضوعه «الدليل بما هو دليل» أو «الحجّة بما هي حجّة» أي بصفة كونه دليلًا و حجّة، كما نُسب ذلك إلى المحقّق القمّي- أعلى اللَّه مقامه- في قوانينه‏ «1» إذ جعل موضوعَ أصل علم الاصول «الأدلّة الأربعة بما هي أدلّة».

و لو كان الأمر كما ذهب إليه رحمه الله لوجب أن تخرج مسائل هذا المقصد كلّها عن علم الاصول، لأنّها تكون حينئذٍ من مبادئه التصوّريّة، لا من مسائله. و ذلك واضح، لأنّ البحث عن حجّية الدليل يكون بحثاً عن أصل وجود الموضوع و ثبوته الّذي هو مفاد «كان التامّة» لا بحثاً عن لواحق الموضوع الّذي هو مفاد «كان الناقصة». و المعروف عند أهل الفنّ أنّ البحث عن وجود الموضوع- أيّ موضوعٍ كان سواء كان موضوع العلم أو موضوع أحد أبوابه و مسائله- معدود من مبادئ العلم التصوّرية، لا من مسائله.

و لكن هنا نكتة «2» ينبغي التنبيه عليها في هذا الصدد، و هي:

إِنّ تخصيص موضوع علم الاصول بالأدلّة الأربعة- كما صنع‏ «3» الكثير من مؤلّفينا- يستدعي أن يلتزموا بأنّ الموضوع هو الدليل بما هو دليل، كما صنع‏ «4» صاحب القوانين، و ذلك لأنّ هؤلاء لمّا خصّصوا الموضوع بهذه الأربعة فإنّما خصّصوه بها فلأجل أنّها «5» معلومة الحجّية عندهم، فلا بدّ أنّهم لاحظوها موضوعاً للعلم بما هي أدلّة، لا بما هي هي،

______________________________ (1) راجع القوانين المحكمة: ج 1 ص 9.

(2) في ط 2: ملاحظة.

(3 و 4) في ط 2: فعل.

(5) في ط 2: لأنّها.

أصول الفقه ( مظفر، محمد رضا - طبع انتشارات اسلامى )، ج‏3، ص: 12

و إلّا لجعلوا الموضوع شاملًا لها و لغيرها ممّا هو غير معتبر عندهم- كالقياس و الاستحسان و نحوهما- و ما كان وجه لتخصيصها بالأدلّة الأربعة.

و حينئذٍ لا مخرج لهم من الإشكال المتقدّم، و هو لزوم خروج عمدة مسائل علم الاصول عنه.

و على هذا يتّضح أن مناقشة صاحب الفصول لصاحب القوانين ليست في محلّها، لأنّ دعواه هذه لا بدّ من الالتزام بها بعد الالتزام بأنّ الموضوع خصوص الأدلّة الأربعة و إن لزم عليه إشكال خروج أهمّ المسائل عنه.

و لو كان الموضوع هي الأدلّة بما هي هي- كما ذهب إليه صاحب الفصول‏ «1»- لما كان معنى لتخصيصه بخصوص الأربعة، و لوجب تعميمه لكلّ ما يصلح أن يُبحث عن دليليّته و إن ثبت بعد البحث أنّه ليس بدليل.

و الخلاصة: أنّه إمّا أن نخصّص الموضوع بالأدلّة الأربعة فيجب أن نلتزم بما التزم به صاحب القوانين فتخرج مباحث هذا المقصد الثالث عن علم الاصول، و إمّا أن نعمّم الموضوع- كما هو الصحيح- لكلّ ما يصلح أن يُدّعى أنّه دليل، فلا يختصّ بالأربعة. و حينئذٍ يصحّ أن نلتزم بما التزم به صاحب الفصول و تدخل مباحث هذا المقصد في مسائل العلم.

فالالتزام بأنّ الموضوع هي الأربعة فقط ثم الالتزام بأنّها بما هي هي لا يجتمعان.

و هذا أحد الشواهد على تعميم موضوع علم الاصول لغير الأدلّة الأربعة، و هو الّذي نريد إثباته هنا. و قد سبقت الإشارة إلى ذلك ص 51 من الجزء الأوّل.

______________________________ (1) الفصول الغرويّة: ص 12.

أصول الفقه ( مظفر، محمد رضا - طبع انتشارات اسلامى )، ج‏3، ص: 13

و النتيجة «1»: أنّ الموضوع الّذي يُبحث عنه في هذا المقصد هو:

«كلّ شي‏ء يصلح أن يُدّعى أنّه دليل و حجّة».

فيعمّ البحث كلّ ما يقال: إنّه حجّة، فيدخل فيه البحث عن حجّيّة خبر الواحد و الظواهر و الشهرة و الإجماع المنقول و القياس و الاستحسان و نحو ذلك، بالإضافة إلى البحث عن أصل الكتاب و السنّة و الإجماع و العقل.

فما ثبت أنه حجّة من هذه الامور أخذنا به، و ما لم يثبت طرحناه.

كما يدخل فيه أيضاً البحث عن مسألة التعادل و التراجيح، لأنّ البحث فيها- في الحقيقة- عن تعيين ما هو حجّة و دليل من بين المتعارضين، فتكون المسألة من مسائل مباحث الحجّة.

و نحن جعلناها في الجزء الأوّل (ص 52) خاتمة لعلم الاصول اتّباعاً لمنهج القوم، و رأينا الآن العدول عن ذلك، رعايةً لواقعها و للاختصار.

2- معنى الحجّة

1- الحجّة لغة: «كلّ شي‏ءٍ يصلح أن يحتجّ به على الغير».

و ذلك بأن يكون به الظفر على الغير عند الخصومة معه. و الظفر على الغير على نحوين:

إمّا بإسكاته و قطع عذره و إبطاله.

و إمّا بأن يلجئه على عذر صاحب الحجّة فتكون الحجّة معذرة له لدى الغير.

2- و أمّا الحجّة في الاصطلاح العلمي فلها معنيان أو اصطلاحان:

أ- ما عند المناطقة، و معناها: «كلّ ما يتألّف من قضايا تنتج مطلوباً»

______________________________ (1) في ط الاولى: و زبدة المخض.

أصول الفقه ( مظفر، محمد رضا - طبع انتشارات اسلامى )، ج‏3، ص: 14

أي مجموع القضايا المترابطة الّتي يتوصّل بتأليفها و ترابطها إلى العلم بالمجهول، سواء كان في مقام الخصومة مع أحد أم لم يكن. و قد يطلقون الحجّة أيضاً على نفس «الحدّ الأوسط» في القياس.

ب- ما عند الاصوليين، و معناها عندهم حسب تتبّع استعمالها:

«كلّ شي‏ءٍ يثبت متعلّقه و لا يبلغ درجة القطع» أي لا يكون سبباً للقطع بمتعلّقه، و إلّا فمع القطع يكون القطع هو الحجّة و لكن هو حجّة بمعناها اللغوي. أو قل بتعبير آخر:

الحجّة: كلّ شي‏ءٍ يكشف عن شي‏ءٍ آخر و يحكي عنه على وجهٍ يكون مثبتاً له.

و نعني بكونه مثبتاً له: أنّ إثباته يكون‏ «1» بحسب الجعل من الشارع، لا بحسب ذاته، فيكون معنى إثباته له حينئذٍ: أنّه يثبت الحكم الفعلي في حقّ المكلّف بعنوان أنّه هو الواقع. و إنّما يصحّ ذلك و يكون مثبتاً له فبضميمة «2» الدليل على اعتبار ذلك الشي‏ء الكاشف الحاكي و على أنّه حجّة من قبل الشارع.

و سيأتي- إن شاء اللَّه تعالى- تحقيق معنى الجعل للحجّية و كيف يثبت الحكم بالحجّة.

و على هذا، فالحجّة بهذا الاصطلاح لا تشمل القطع، أي أنّ القطع لا يُسمّى حجّة بهذا المعنى بل بالمعنى اللغوي، لأن طريقيّة القطع- كما سيأتي- ذاتيّة غير مجعولة من قبل أحد.

و تكون الحجّة بهذا المعنى الاصولي مرادفة لكلمة «الأمارة».

______________________________ (1) في ط الاولى: أنّه يكون إثباته له.

(2) كذا، و الظاهر: بضميمة.

أصول الفقه ( مظفر، محمد رضا - طبع انتشارات اسلامى )، ج‏3، ص: 15

كما أنّ كلمة «الدليل» و كلمة «الطريق» تستعملان في هذا المعنى، فيكونان مرادفتين لكلمة «الأمارة» و «الحجّة» أو كالمترادفتين.

وعليه، فلك أن تقول في عنوان هذا المقصد بدل كلمة «مباحث الحجّة»:

«مباحث الأمارات».

أو «مباحث الأدلّة».

أو «مباحث الطرق» و كلّها تؤدّي معنىً واحداً.

و مما ينبغي التنبيه عليه في هذا الصدد أنّ استعمال كلمة «الحجّة» في المعنى الّذي تؤدّيه كلمة «الأمارة» مأخوذ من المعنى اللغوي من باب تسمية الخاصّ باسم العامّ، نظراً إلى أنّ الأمارة ممّا يصحّ أن يحتجّ المكلّف بها إذا عمل بها و صادفت مخالفة الواقع فتكون معذّرة له، كما أنّه ممّا يصحّ أن يحتجّ بها المولى على المكلّف إذا لم يعمل بها و وقع في مخالفة الحكم الواقعي فيستحقّ العقاب على المخالفة.

3- مدلول كلمة الأمارة و الظنّ المعتبر

بعد أن قلنا: إنّ الأمارة مرادفة لكلمة «الحجّة» باصطلاح الاصوليّين، ينبغي أن ننقل الكلام إلى كلمة «الأمارة» لنتسقّط بعض استعمالاتها، كما سنستعملها بدل كلمة «الحجّة» في المباحث الآتية، فنقول:

إنّه كثيراً ما يجري على ألسنة الاصوليّين إطلاق كلمة «الأمارة» على معنى ما تؤدّيه كلمة «الظنّ» و يقصدون من الظنّ «الظنَّ المعتبر»، أي الّذي اعتبره الشارع و جعله حجّة. و يوهم ذلك أنّ الأمارة و الظنّ المعتبر لفظان مترادفان يؤدّيان معنى واحداً. مع أنّهما ليسا كذلك.

أصول الفقه ( مظفر، محمد رضا - طبع انتشارات اسلامى )، ج‏3، ص: 16

و في الحقيقة أنّ هذا تسامح في التعبير منهم على نحو المجاز في الاستعمال، لا أنّه وضع آخر لكلمة «الأمارة». و إنّما مدلول الأمارة الحقيقي هو كلّ شي‏ءٍ اعتبره الشارع لأجل أنّه يكون سبباً للظنّ، كخبر الواحد و الظواهر.

و المجاز هنا:

إمّا من جهة إطلاق السبب على مسبّبه، فيُسمّى الظنّ المسبّب «أمارة».

و إمّا من جهة إطلاق المسبّب على سببه، فتُسمّى الأمارة الّتي هي سبب للظنّ «ظنّاً» فيقولون: «الظنّ المعتبر» و «الظنّ الخاصّ» و الاعتبار و الخصوصيّة إنّما هما لسبب الظنّ.

و منشأ هذا التسامح في الإطلاق هو: أنّ السرّ في اعتبار الأمارة و جعلها حجّة و طريقاً هو إفادتها للظنّ دائماً أو على الأغلب. و يقولون للثاني الّذي يفيد الظنّ على الأغلب: «الظنّ النوعي» على ما سيأتي بيانه.

4- الظنّ النوعي‏

و معنى «الظنّ النوعي»: أنّ الأمارة تكون من شأنها أن تفيد الظنّ عند غالب الناس و نوعهم. و اعتبارها عند الشارع إنّما يكون من هذه الجهة، فلا يضرّ في اعتبارها و حجّيتها ألّا يحصل منها ظنّ فعليّ للشخص الّذي قامت عنده الأمارة، بل تكون حجّة عند هذا الشخص أيضاً، حيث إنّ دليل اعتبارها دلّ على أنّ الشارع إنّما اعتبرها حجّة و رضي بها طريقاً لأنّ من شأنها أن تفيد الظنّ و إن لم يحصل الظنّ الفعلي منها لدى بعض الأشخاص.

ثمّ لا يخفى عليك: أنّا قد نعبّر فيما يأتي تبعاً للاصوليّين، فنقول:

«الظنّ الخاصّ» أو «الظنّ المعتبر» أو «الظنّ الحجّة» و أمثال هذه‏

أصول الفقه ( مظفر، محمد رضا - طبع انتشارات اسلامى )، ج‏3، ص: 17

التعبيرات. و المقصود منها دائماً سبب الظنّ، أعني الأمارة المعتبرة و إن لم تفد ظنّاً فعليّاً. فلا يشتبه عليك الحال.

5- الأمارة و الأصل العملي‏

و اصطلاح «الأمارة» لا يشمل «الأصل العملي» كالبراءة و الاحتياط و التخيير و الاستصحاب، بل هذه الاصول تقع في جانبٍ و الأمارة في جانبٍ آخر مقابلٍ له، فإنّ المكلّف إنّما يرجع إلى الاصول إذا افتقد الأمارة، أي إذا لم تقم عنده الحجّة على الحكم الشرعي الواقعي، على ما سيأتي توضيحه و بيان السرّ فيه.

و لا ينافي ذلك أنّ هذه الاصول أيضاً قد يطلق عليها أنّها حجّة، فإنّ إطلاق الحجّة عليها ليس بمعنى الحجّة في باب الأمارات، بل بالمعنى اللغوي باعتبار أنّها معذّرة للمكلف إذا عمل بها و أخطأ الواقع، و يحتجّ بها المولى على المكلّف إذا خالفها و لم يعمل بها ففوّت الواقع المطلوب.

و لأجل هذا جعلنا باب «الاصول العمليّة» باباً آخر مقابلَ باب «مباحث الحجّة».

و قد اشير في تعريف الأمارة إلى خروج الاصول العمليّة بقولهم:

«يثبت متعلّقه» لأنّ الاصول العمليّة لا تثبت متعلّقاتها، لأنّه ليس لسانها لسان إثبات الواقع و الحكاية عنه، و إنّما هي في حقيقتها مرجع للمكلّف في مقام العمل عند الحيرة و الشكّ في الواقع و عدم ثبوت حجّة عليه؛ و غاية شأنها أنّها تكون معذّرة للمكلّف.

و من هنا اختلفوا في «الاستصحاب» أنّه أمارة أو أصل؟ باعتبار أنّ له شأن الحكاية عن الواقع و إحرازه في الجملة، لأنّ اليقين السابق غالباً

أصول الفقه ( مظفر، محمد رضا - طبع انتشارات اسلامى )، ج‏3، ص: 18

ما يورث الظنّ ببقاء المتيقّن في الزمان اللاحق، و لأنّ حقيقته- كما سيأتي في موضعه- البناء على اليقين السابق بعد الشكّ كأنّ المتيقّن السابق لم يَزُل و لم يُشكّ في بقائه. و لأجل هذا سُمّي الاستصحاب عند من يراه أصلًا «أصلًا محرزاً». فمن لاحظ في الاستصحاب جهةَ ما له من إحرازٍ و أنّه يوجب الظنّ و اعتبر حجّيته من هذه الجهة عدّه من الأمارات. و من لاحظ فيه أنّ الشارع إنّما جعله مرجعاً للمكلّف عند الشكّ و الحيرة و اعتبر حجّيته من جهة دلالة الأخبار عليه عدّه من جملة الاصول. و سيأتي- إن شاء اللَّه تعالى- شرح ذلك في محلّه مع بيان الحقّ فيه.

6- المناط في إثبات حجّية الأمارة

ممّا يجب أن نعرفه- قبل البحث و التفتيش عن الأمارات الّتي هي حجّة- المناط في إثبات حجّية الأمارة و أنّه بأيّ شي‏ءٍ يثبت لنا أنّها حجّة يُعوّل عليها. و هذا هو أهمّ شي‏ءٍ تجب معرفته قبل الدخول في المقصود.

فنقول:

إنّه لا شكّ في أنّ الظنّ بما هو ظنّ لا يصحّ أن يكون هو المناط في حجّية الأمارة و لا يجوز أن يُعوّل عليه في إثبات الواقع، لقوله تعالى:

«إِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً» «1»* و قد ذمّ اللَّه تعالى فى كتابه المجيد من يتّبع الظنّ بما هو ظنّ كقوله: «إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَ إِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ» «2»*. و قال تعالى: «قُلْ آللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللَّهِ تَفْتَرُونَ» «3».

______________________________ (1) يونس: 36.

(2) يونس: 66.

(3) يونس: 59.

أصول الفقه ( مظفر، محمد رضا - طبع انتشارات اسلامى )، ج‏3، ص: 19

و في هذه الآية الأخيرة بالخصوص قد جعل ما أذن به أمراً مقابلًا للافتراء عليه، فما لم يأذن به لا بدّ أن يكون افتراءً بحكم المقابلة بينهما، فلو نسبنا الحكم إلى اللَّه تعالى من دون إذنٍ منه فلا محالة يكون افتراءً محرّماً مذموماً بمقتضى الآية. و لا شكّ في أنّ العمل بالظنّ و الالتزام به على أنّه من اللَّه و مثبت لأحكامه يكون من نوع نسبة الحكم إليه من دون إذنٍ منه، فيدخل في قسم الافتراء المحرَّم.

و على هذا التقرير، فالقاعدة تقتضي أنّ الظنّ- بما هو ظنّ- لا يجوز العمل على مقتضاه و لا الأخذ به لإثبات أحكام اللَّه مهما كان سببه، لأنّه لا يغني من الحقّ شيئاً، فيكون خَرصاً باطلًا و افتراءً محرَّماً.

هذا مقتضى القاعدة الأوّليّة في الظنّ بمقتضى هذه الآيات الكريمة.

و لكن لو ثبت بدليلٍ قطعي و حجّةٍ يقينيّة أنّ الشارع قد جعل ظنّاً خاصّاً من سببٍ مخصوصٍ طريقاً لأحكامه و اعتبره حجّة عليها و ارتضاه أمارةً يُرجع إليها و جوّز لنا الأخذ بذلك السبب المحقّق للظنّ، فإنّ هذا الظنّ يخرج عن مقتضى تلك القاعدة الأوّليّة، إذ لا يكون خَرصاً و تخميناً و لا افتراءً.

و خروجه من القاعدة يكون تخصيصاً بالنسبة إلى آية النهي عن اتّباع الظنّ، و يكون تخصّصاً بالنسبة إلى آية الافتراء، لأنه يكون حينئذٍ من قسم ما أذن اللَّه تعالى به، و ما أذن به ليس افتراءً.

و في الحقيقة إنّ الأخذ بالظنّ المعتبر الّذي ثبت على سبيل القطع بأنّه‏ «1» حجّة لا يكون أخذاً بالظنّ بما هو ظنّ و إن كان اعتباره عند

______________________________ (1) أنّه، ظ.

أصول الفقه ( مظفر، محمد رضا - طبع انتشارات اسلامى )، ج‏3، ص: 20

الشارع من جهة كونه ظنّاً، بل يكون أخذاً بالقطع و اليقين، ذلك القطع الّذي قام على اعتبار ذلك السبب للظنّ. و سيأتي أنّ القطع حجّة بذاته لا يحتاج إلى جعلٍ من أحد.

و من هنا يظهر الجواب عمّا شنّع به جماعة من الأخباريّين على الاصوليّين من أخذهم ببعض الأمارات الظنّية الخاصّة- كخبر الواحد و نحوه- إِذ شنّعوا عليهم بأنّهم أخذوا بالظنّ الّذي لا يغني من الحقّ شيئاً.

و قد فاتهم أنّ الاصوليّين إذ أخذوا بالظنون الخاصّة لم يأخذوا بها من جهة أنّها ظنون فقط، بل أخذوا بها من جهة أنّها معلومة الاعتبار على سبيل القطع بحجّيتها، فكان أخذهم بها في الحقيقة أخذاً بالقطع و اليقين، لا بالظنّ و الخَرص و التخمين. و لأجل هذا سُمّيت الأمارات المعتبرة ب «الطرق العلميّة» نسبةً إلى العلم القائم على اعتبارها و حجّيتها، لأنّ حجّيتها ثابتة بالعلم.

إلى هنا يتّضح ما أردنا أن نرمي إليه، و هو أنّ المناط في إثبات حجّية الأمارات و مرجع اعتبارها و قوامه ما هو؟ إنّه «العلم القائم على اعتبارها و حجّيتها» فإذا لم يحصل العلم بحجّيتها و اليقين بإذن الشارع بالتعويل عليها و الأخذ بها لا يجوز الأخذ بها و إن أفادت ظنّاً غالباً، لأنّ الأخذ بها يكون حينئذٍ خَرصاً و افتراءً على اللَّه تعالى.

و لأجل هذا قالوا: يكفي في طرح الأمارة أن يقع الشكّ في اعتبارها، أو فقل على الأصحّ: يكفي ألّا يحصل العلم باعتبارها، فإنّ نفس عدم العلم بذلك كافٍ في حصول العلم بعدم اعتبارها، أي بعدم جواز التعويل عليها و الاستناد إليها. و ذلك كالقياس و الاستحسان و ما إليهما و إن أفادت ظنّاً قويّاً.

أصول الفقه ( مظفر، محمد رضا - طبع انتشارات اسلامى )، ج‏3، ص: 21

و لا نحتاج في مثل هذه الامور إلى الدليل على عدم اعتبارها و عدم حجّيتها، بل بمجرّد عدم حصول القطع بحجّية الشي‏ء يحصل القطع بعدم جواز الاستناد إليه في مقام العمل و بعدم صحّة التعويل عليه. فيكون القطع مأخوذاً في موضوع حجّية الأمارة.

و يتحصّل من ذلك كله: أنّ أماريّة الأمارة و حجّية الحجّة إنّما تحصل و تتحقّق بوصول علمها إلى المكلّف، و بدون العلم بالحجّية لا معنى لفرض كون الشي‏ء أمارة و حجّة؛ و لذا قلنا: إنّ مناط إثبات الحجّة و قوامها «العلم». فهو مأخوذ في موضوع الحجّية، فإنّ العلم تنتهي إليه حجّية كلّ حجّة.

و لزيادة الإيضاح لهذا الأمر، و لتمكين النفوس المبتدئة من الاقتناع بهذه الحقيقة البديهيّة، نقول من طريق آخر لإثباتها: أوّلًا- إنّ الظنّ بما هو ظنّ ليس بحجّةٍ بذاته.

و هذه مقدّمة واضحة قطعيّة، و إلّا لو كان الظنّ حجّة بذاته لما جاز النهي عن اتّباعه و العمل به و لو في بعض الموارد على نحو الموجبة الجزئيّة، لأنّ ما هو بذاته حجّة يستحيل النهي عن الأخذ به، كما سيأتي في حجّية القطع- المبحث الآتي- و لا شكّ في وقوع النهي عن اتّباع الظنّ في الشريعة الإسلاميّة المطهّرة. و يكفي في إثبات ذلك قوله تعالى:

«إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ ...» «1».*

ثانياً- إذا لم يكن الظنّ حجّة بذاته، فحجّيته تكون عرضيّة، أي أنّها تكون مستفادة من الغير. فننقل الكلام إلى ذلك الغير المستفادة منه حجّية الظنّ.

______________________________ (1) يونس: 66.

أصول الفقه ( مظفر، محمد رضا - طبع انتشارات اسلامى )، ج‏3، ص: 22

فإن كان هو القطع، فذلك هو المطلوب.

و إن لم يكن قطعاً، فما هو؟

و ليس يمكن فرض شي‏ءٍ آخر غير نفس الظنّ، فإنّه لا ثالث لهما يمكن فرض حجّيته.

و لكن الظنّ الثاني القائم على حجّية الظنّ الأوّل أيضاً ليس حجّة بذاته، إذ لا فرق بين ظنّ و ظنّ من هذه الناحية. فننقل الكلام إلى هذا الظنّ الثاني، و لا بدّ أن تكون حجّيته أيضاً مستفادة من الغير، فما هو ذلك الغير؟

فإن كان هو القطع، فذلك هو المطلوب.

و إن لم يكن قطعاً، فظنّ ثالث.

فننقل الكلام إلى هذا الظنّ الثالث، فيحتاج إلى ظنٍّ رابع ... و هكذا إلى غير النهاية، و لا ينقطع التسلسل إلا بالانتهاء إلى ما هو حجّة بذاته، و ليس هو إلّا العلم.

ثالثاً- فانتهى الأمر بالأخير إلى العلم، فتمّ المطلوب.

و بعبارة أسدّ و أخصر، نقول:

إنّ الظنّ لمّا كانت حجّيته ليست ذاتيّة فلا تكون إلّا بالعرض، و كلّ ما بالعرض لا بدّ أن ينتهي إلى ما هو بالذات، و لا مجاز بلا حقيقة. و ما هو حجّة بالذات ليس إلّا العلم، فانتهى الأمر بالأخير إلى العلم.

و هذا ما أردنا إثباته، و هو أنّ قوام الأمارة و المناط في إثبات حجّيتها هو العلم، فإنّه تنتهي إليه حجّية كلّ حجّة، لأنّ حجّيته ذاتيّة.

7- حجّية العلم ذاتيّة

كرّرنا في البحث السابق القول بأنّ «حجّية العلم ذاتيّة» و وعدنا ببيانها، و قد حلّ هنا الوفاء بالوعد، فنقول: أصول الفقه ( مظفر، محمد رضا - طبع انتشارات اسلامى )، ج‏3، ص: 23

قد ظهر ممّا سبق معنى كون الشي‏ء حجّيته ذاتيّة، فإنّ معناه: أنّ حجّيته منبعثة من نفس طبيعة ذاته، فليست مستفادة من الغير و لا تحتاج إلى جعلٍ من الشارع و لا إلى صدور أمرٍ منه باتّباعه، بل العقل هو الّذي يكون حاكماً بوجوب اتّباع ذلك الشي‏ء.

و ما هذا شأنه ليس هو إلّا العلم.

و لقد أحسن الشيخ العظيم الأنصاري قدس سره مجلى هذه الأبحاث في تعليل وجوب متابعة القطع‏ «1» فإنّه بعد أن ذكر أنّه «لا إشكال في وجوب متابعة القطع و العمل عليه ما دام موجوداً» علّل ذلك بقوله: «لأنّه بنفسه طريق إلى الواقع، و ليست طريقيّته قابلةً لجعل الشارع إثباتاً أو نفياً» «2».

و هذا الكلام فيه شي‏ء من الغموض بعد أن اختلفت تعبيرات الاصوليّين من بعده، فنقول لبيانه: إنّ هنا شيئين أو تعبيرين:

أحدهما: وجوب متابعة القطع و الأخذ به.

ثانيهما: طريقيّة القطع للواقع.

فما المراد من كون القطع حجّة بذاته؟

هل المراد أنّ وجوب متابعته أمر ذاتيٌّ له- كما وقع في تعبيرات بعض الاصوليّين المتأخّرين‏ «3»- أم أنّ المراد أنّ طريقيّته ذاتيّة؟

______________________________ (1) (*) ممّا يجب التنبيه عليه: أنّ المراد من «العلم» هنا هو «القطع» اي الجزم الّذي لا يحتمل الخلاف. و لا يعتبر فيه أن يكون مطابقاً للواقع في نفسه و إن كان في نظر القاطع لا يراه إلّا مطابقاً للواقع، فالقطع الّذي هو الحجّة تجب متابعته أعمّ من اليقين و الجهل المركّب، يعني أنّ المبحوث عنه هو العلم من جهة أنّه جزم لا يحتمل الخلاف عند القاطع.

(2) فرائد الاصول: ج 1 ص 4.

(3) لم نظفر على من عبّر بعين التعبير المذكور، راجع نهاية الدراية للمحقّق الأصفهاني قدس سره: ج 3 ص 17- 18، و نهاية الأفكار (تقرير أبحاث المحقّق العراقي قدس سره): ج 3 ص 6- 9.

أصول الفقه ( مظفر، محمد رضا - طبع انتشارات اسلامى )، ج‏3، ص: 24

و إنّما صحّ أن يُسأل هذا السؤال فمن‏ «1» أجل قياسه على الظنّ حينما نقول: إنه حجّة، فإنّ فيه جهتين:

1- جهة طريقيّته للواقع، فحينما نقول: إنّ حجّيته مجعولة، نقصد أنّ طريقيّته مجعولة، لأنّها ليست ذاتيّة له، لوجود احتمال الخلاف. فالشارع يجعله طريقاً إلى الواقع بإلغاء احتمال الخلاف كأنّه لم يكن، فتتمّ بذلك طريقيّته الناقصة ليكون كالقطع في الإيصال إلى الواقع. و هذا المعنى هو المجعول للشارع.

2- جهة وجوب متابعته، فحينما نقول: إنّه حجّة، نقصد أنّ الشارع أمر بوجوب متابعة ذلك الظنّ و الأخذ به أمراً مولويّاً، فينتزع من هذا الأمر أنّ هذا الظنّ موصل إلى الواقع و منجّز له. فيكون المجعول هذا الوجوب، و يكون هذا معنى حجّية الظنّ.

و إذا كان هذا حال الظنّ، فالقطع ينبغي أن يكون له أيضاً هاتان الجهتان، فنلاحظهما حينما نقول مثلًا: «إنّ حجّيته ذاتيّة» إمّا من جهة كونه طريقاً بذاته، و إمّا من جهة وجوب متابعة لذاته.

و لكن- في الحقيقة- إِنّ التعبير بوجوب متابعة القطع لا يخلو عن مسامحة ظاهرة، منشؤها ضيق العبارة عن المقصود إِذ يقاس على الظنّ.

و السرّ في ذلك واضح، لأنّه ليس للقطع متابعة مستقلّة غير الأخذ بالواقع المقطوع به، فضلًا عن أن يكون لهذه المتابعة وجوب مستقلّ غير نفس وجوب الأخذ بالواقع المقطوع به، أي وجوب طاعة الواقع المنكشف بالقطع من وجوبٍ أو حرمةٍ أو نحوهما. إِذ ليس وراء انكشاف الواقع شي‏ء ينتظره الإنسان، فإذا انكشف الواقع له فلا بدّ أن يأخذ به.

______________________________ (1) من، ظ.

أصول الفقه ( مظفر، محمد رضا - طبع انتشارات اسلامى )، ج‏3، ص: 25

و هذه اللابدّيّة لابدّيّة عقليّة «1» منشؤها إنّ القطع بنفسه طريق إلى الواقع. وعليه، فيرجع التعبير بوجوب متابعة القطع إلى معنى كون القطع بنفسه طريقاً إلى الواقع و أنّ نفسه نفس انكشاف الواقع. فالجهتان في جهة واحدة في الحقيقة.

و هذا هو السرّ في تعليل الشيخ الأعظم رحمه الله لوجوب متابعته بكونه طريقاً بذاته‏ «2» و لم يتعرّض في التعليل لنفس الوجوب. و من أجل هذا ركز البحث كلَّه على طريقيّته الذاتيّة.

و يظهر لنا حينئذٍ أنّه لا معنى لأن يقال في تعليل حجّيته الذاتيّة: أنّ وجوب متابعته أمر ذاتي له.

و إذا اتّضح ما تقدّم، وجب علينا توضيح معنى كون القطع طريقا ذاتيّاً، و هو كلّ البحث عن حجّية القطع و ما وراءه من الكلام فكلّه فضول.

وعليه، فنقول:

تقدّم أنّ القطع حقيقته انكشاف الواقع، لأنّه حقيقة نوريّة محضة لا غطش فيها و لا احتمال للخطإ يرافقها. فالعلم نور لذاته نور لغيره، فذاته نفس الانكشاف، لا أنّه شي‏ء له الانكشاف.

و قد عرفتم في مباحث الفلسفة: أنّ الذات و الذاتي يستحيل جعله بالجعل التأليفي، لأنّ جعل شي‏ء لشي‏ء إنّما يصحّ أن يُفرض فيما يمكن فيه التفكيك بين المجعول و المجعول له، و واضح أنّه يستحيل التفكيك بين الشي‏ء و ذاته- أي بين الشي‏ء و نفسه- و لا بينه و بين ذاتياته.

______________________________ (1) (*) هذه اللابدّيّة العقليّة هي نفس وجوب الطاعة الّذي هو وجوب عقلي، لأنّه داخل في «الآراء المحمودة» الّتي تتطابق عليها آراء العقلاء بما هم عقلاء، كما شرحناه في الجزء الثاني.

(2) تقدّم كلامه في ص 23.

أصول الفقه ( مظفر، محمد رضا - طبع انتشارات اسلامى )، ج‏3، ص: 26

و هذا معنى قولهم المشهور: «الذاتي لا يعلّل»

ذاتيّ شي‏ءٍ لم يكن معلّلًا و كان ما يسبقه تعقّلًا

و عندنا الحدوث ذاتيٌّ و لا شي‏ء من الذاتيّ جا معلّلًا

«1». و إنّما المعقول من جعل القطع هو جعله بالجعل البسيط، أي خلقه و إيجاده.

وعليه، فلا معنى لفرض جعل الطريقيّة للقطع جعلًا تأليفيّاً بأيّ نحوٍ فُرض للجعل، سواء كان جعلًا تكوينيّاً أم جعلًا تشريعيّاً، فإنّ ذلك مساوق لجعل القطع لنفس القطع، و جعل الطريق لذات الطريق.

و على تقدير التنزّل عن هذا و قلنا مع من قال: إنّ القطع شي‏ء له الطريقيّة و الكاشفيّة عن الواقع- كما وقع في تعبيرات بعض الاصوليّين المتأخّرين عن الشيخ‏ «2»- فعلى الأقلّ تكون الطريقيّة من لوازم ذاته الّتي لا تنفكّ عنه، كالزوجيّة بالنسبة إلى الأربعة.

و لوازم الذات كالذات يستحيل أيضاً جعلها بالجعل التأليفي على ما هو الحقّ، و إنّما يكون جعلها بنفس جعل الذات جعلًا بسيطاً لا بجعل آخر وراء جعل الذات. و قد أوضحنا ذلك في مباحث الفلسفة.

و إذا استحال جعل الطريقيّة للقطع استحال نفيها عنه، لأنّه كما يستحيل جعل الذات و لوازمها يستحيل نفي الذات و لوازمها عنها و سلبها بالسلب التأليفي.

بل نحن إنّما نعرف استحالة جعل الذات و الذاتي و لوازم الذات بالجعل‏

______________________________ (1) قال الحكيم السبزواري في ارجوزة المنطق:

ذاتيّ شي‏ءٍ لم يكن معلّلًا و كان ما يسبقه تعقّلًا

و في ارجوزة الحكمة:

و عندنا الحدوث ذاتيٌّ و لا شي‏ء من الذاتيّ جا معلّلًا

. (2) لم نقف على من عبّر بعين التعبير المذكور، راجع فوائد الاصول: ج 3 ص 6، و نهاية الأفكار: ج 3 ص 6.

أصول الفقه ( مظفر، محمد رضا - طبع انتشارات اسلامى )، ج‏3، ص: 27

التأليفي، لأنّا نعرف أوّلًا امتناع انفكاك الذات عن نفسها و امتناع انفكاك لوازمها عنها، كما تقدّم بيانه.

على أنّ نفي الطريقيّة عن القطع يلزم منه التناقض بالنسبة إلى القاطع و في نظره، فإنّه- مثلًا- حينما يقطع بأنّ هذا الشي‏ء واجب يستحيل عليه أن يقطع ثانياً بأنّ هذا القطع ليس طريقاً موصلًا إلى الواقع، فإنّ معنى هذا أن يقطع ثانياً بأنّ ما قطع بأنّه واجب ليس بواجب مع فرض بقاء قطعه الأوّل على حاله.

و هذا تناقض بحسب نظر القاطع و وجدانه، يستحيل أن يقع منه حتّى لو كان في الواقع على خطإٍ في قطعه الأوّل، و لا يصحّ هذا إلّا إذا تبدّل قطعه و زال. و هذا شي‏ء آخر غير ما نحن في صدده.

و الحاصل: أنّ اجتماع القطعين بالنفي و الإثبات محال كاجتماع النفي و الإثبات، بل يستحيل في حقّه حتّى احتمال أنّ قطعه ليس طريقاً إلى الواقع فإنّ هذا الاحتمال مساوق لانسلاخ القطع عنده و انقلابه إلى الظنّ.

فما فُرض أنّه قطع لا يكون قطعاً، و هو خلف محال.

و هذا الكلام لا ينافي أن يحتمل الإنسان أو يقطع أنّ بعض علومه على الإجمال غير المعيّن في نوعٍ خاصّ و لا في زمنٍ من الأزمنة كان على خطإٍ، فإنّه بالنسبة إلى كلّ قطعٍ فعلي بشخصه لا يتطرّق إليه الاحتمال بخطئه، و إلّا لو اتّفق له ذلك لا نسلخ عن كونه قطعاً جازماً.

نعم، لو احتمل خطأ أحد علوم محصورة و معيّنة في وقتٍ واحد، فإنّه لا بدّ أن تنسلخ كلّها عن كونها اعتقاداً جازماً، فإنّ بقاء قطعه في جميعها مع تطرّق احتمال خطإٍ واحدٍ منها لا على التعيين لا يجتمعان.

و الخلاصة: أنّ القطع يستحيل جعل الطريقيّة له تكويناً و تشريعاً،

أصول الفقه ( مظفر، محمد رضا - طبع انتشارات اسلامى )، ج‏3، ص: 28

و يستحيل نفيها عنه، مهما كان السبب الموجب له [و لو كان حصوله من خفقان جناح أو مرور هواء] «1».

وعليه، فلا يُعقل التصرّف بأسبابه، كما نُسب ذلك إلى بعض الأخباريّين من حكمهم بعدم تجويز الأخذ بالقطع إذا كان سببه من مقدّمات عقليّة «2». و قد أشرنا إلى ذلك في الجزء الثاني ص 269.

و كذلك لا يمكن التصرّف فيه من جهة الأشخاص بأن يُعتبر قطع شخصٍ و لا يُعتبر قطع آخر، كما قيل بعدم الاعتبار بقطع القطّاع‏ «3» قياساً على كثير الشكّ الّذي حُكم شرعاً بعدم الاعتبار بشكّه في ترتّب أحكام الشكّ.

و كذلك لا يمكن التصرّف فيه من جهة الأزمنة و لا من جهة متعلّقه، بأن يُفرق في اعتباره بين ما إذا كان متعلّقه الحكم فلا يُعتبر، و بين ما إذا كان متعلّقه موضوع الحكم أو متعلّقه فيُعتبر.

فإنّ القطع في كلّ ذلك طريقيّته ذاتيّة غير قابلة للتصرّف فيها بوجهٍ من الوجوه و غير قابلةٍ لتعلّق الجعل بها نفياً و إثباتاً. و إنّما الّذي يصحّ و يمكن أن يقع في الباب هو إلفات‏ «4» نظر الخاطئ في قطعه إلى الخلل في مقدّمات قطعه، فإذا تنبّه إلى الخلل في سبب قطعه فلا محالة أنّ قطعه سيتبدّل إمّا إلى احتمال الخلاف أو إلى القطع بالخلاف. و لا ضير في ذلك، و هذا واضح.

______________________________ (1) لم يرد في ط 2.

(2) راجع فرائد الاصول: ج 1 ص 15 و لاحظ ما حكاه عن الأمين الأسترابادي و المحدّث الجزائري و المحدّث البحراني (صاحب الحدائق) قدس سرهم.

(3) قال الشيخ الأعظم قدس سره: و لعلّ الأصل في ذلك ما صرّح به كاشف الغطاء قدس سره راجع فرائد الاصول: ج 1 ص 22، كشف الغطاء: ص 64 س 22.

(4) في ط الاولى: أن يلفت.

أصول الفقه ( مظفر، محمد رضا - طبع انتشارات اسلامى )، ج‏3، ص: 29

8- موطن حجّية الأمارات‏

قد أشرنا في مبحث الإجزاء (الجزء الثاني ص 309 السطر الأخير) إلى أنّ جعل الطرق و الأمارات يكون في فرض التمكّن من تحصيل العلم، و أحلنا بيانه إلى محلّه. و هذا هو محلّه، فنقول:

إنّ غرضنا من ذلك القول هو أنّنا إذ نقول: إنّ أمارةً حجّة- كخبر الواحد- مثلًا- فإنّما نعني أنّ تلك الأمارة مجعولة حجّة مطلقاً، أي أنّها في نفسها حجّة مع قطع النظر عن كون الشخص الّذي قامت عنده تلك الأمارة متمكّناً من تحصيل العلم بالواقع أو غير متمكّن منه، فهي حجّة يجوز الرجوع إليها لتحصيل الأحكام مطلقاً حتّى في موطن يمكن فيه أن يحصل القطع بالحكم لمن

قامت عنده الأمارة، أي كان باب العلم بالنسبة إليه مفتوحاً. فمثلًا، إذا قلنا بحجّية خبر الواحد فإنّا نقول: إنّه حجّة حتّى في زمانٍ يسع المكلف أن يرجع إلى المعصوم رأسا فيأخذ الحكم منه مشافهةً على سبيل اليقين، فإنّه في هذا الحال لو كان خبر الواحد حجّة يجوز للمكلّف أن يرجع إليه، و لا يجب عليه أن يرجع إلى المعصوم.

و على هذا، فلا يكون موطن حجّية الأمارات في خصوص موردٍ تعذّر حصول العلم أو امتناعه، أي ليس في خصوص مورد انسداد باب العلم، بل الأعمّ من ذلك، فيشمل حتّى موطن التمكّن من تحصيل العلم و انفتاح بابه.

نعم، مع حصول العلم بالواقع فعلًا لا يبقى موضع للرجوع إلى الأمارة، بل لا معنى لحجّيتها حينئذٍ، لا سيّما مع مخالفتها للعلم، لأنّ معنى ذلك انكشاف خطأها.

أصول الفقه ( مظفر، محمد رضا - طبع انتشارات اسلامى )، ج‏3، ص: 30

و من هنا كان هذا الأمر موضع حيرة الاصوليّين و بحثهم، إذ للسائل- كما سيأتي- أن يسأل: كيف جاز أن تفرضوا صحّة الرجوع إلى الأمارات الظنّية مع انفتاح باب العلم بالأحكام؟ إذ قد يوجب سلوكها تفويت الواقع عند خطأها، و لا يحسن من الشارع أن يأذن بتفويت الواقع مع التمكّن من تحصيله، بل ذلك قبيح يستحيل في حقّه.

و لأجل هذا السؤال المحرج سلك الاصوليّون عدّة طرق للجواب عنه و تصحيح جعل حجّية الأمارات. و سيأتي بيان هذه الطرق و الصحيح منها في البحث 12 ص 40.

و غرضنا من ذكر هذا التنبيه هو أنّ هذا التصحيح شاهد على ما أردنا الإشارة إليه هنا: من أنّ موطن حجّية الأمارات و موردها ما هو أعمّ من فرض التمكّن من تحصيل العلم و انفتاح بابه و من فرض انسداد بابه.

و من هنا نعرف وجه المناقشة في استدلال بعضهم على حجّية خبر الواحد بالخصوص بدليل انسداد باب العلم، كما صنع صاحب المعالم‏ «1» فإنّه لمّا كان المقصود إثبات حجّية خبر الواحد في نفسه حتّى مع فرض انفتاح باب العلم لا يبقى معنى للاستدلال على حجّيته بدليل الانسداد.

على أنّ دليل الانسداد إنّما يثبت فيه حجّية مطلق الظنّ من حيث هو ظنّ- كما سيأتي بيانه- فلا يثبت به حجّية ظنٍّ خاصّ بما هو ظنٌّ خاصّ.

نعم، استدلّ بعضهم على حجّية خبر الواحد بدليل الانسداد الصغير «2».

و لا يبعد صحّة ذلك. و يعنون به انسداد باب العلم في خصوص الأخبار ______________________________ (1) معالم الدين: 192.

(2) إن شئت توضيح المراد من «الانسداد الصغير» و تفصيل الكلام فيه راجع فوائد الاصول (تقرير أبحاث المحقّق النائيني قدس سره) ج 3 ص 196.

أصول الفقه ( مظفر، محمد رضا - طبع انتشارات اسلامى )، ج‏3، ص: 31

الّتي بأيدينا الّتي نعلم على الإجمال بأنّ بعضها موصل إلى الواقع و محصّل له، و لا يتميّز الموصل إلى الواقع من غيره، مع انحصار السنّة في هذه الأخبار الّتي بأيدينا.

و حينئذٍ نلتجئ إلى الاكتفاء بما يفيد الظنّ و الاطمئنان من هذه الأخبار. و هذا ما نعنيه بخبر الواحد.

و الفرق بين دليل الانسداد الكبير و الصغير: أنّ الكبير هو انسداد باب العلم في جميع الأحكام من جهة السنّة و غيرها، و الصغير هو انسداد باب العلم بالسنّة مع انفتاح باب العلم في الطرق الاخرى، و المفروض أنّه ليس لدينا إلّا هذه الأخبار التي لا يفيد أكثرها العلم، و بعضها حجّة قطعاً و موصل إلى الواقع.

9- الظنّ الخاصّ و الظنّ المطلق‏

تكرّر منّا التعبير بالظنّ الخاصّ و الظنّ المطلق، و هو اصطلاح للُاصوليّين المتأخّرين، فينبغي بيان ما يَعنُون بهما، فنقول: 1- يراد من «الظنّ الخاصّ»: كلّ ظنّ قام دليل قطعي على حجّيته و اعتباره بخصوصه غير دليل الانسداد الكبير.

وعليه، فيكون المراد منه الأمارة الّتي هي حجّة مطلقاً حتّى مع انفتاح باب العلم، و يُسمّى أيضاً «الطريق العلمي» نسبةً إلى العلم باعتبار قيام العلم على حجّيته كما تقدّم.

2- يراد من «الظنّ المطلق»: كلّ ظن قام دليل الانسداد الكبير على حجّيته و اعتباره.

فيكون المراد منه الأمارة الّتي هي حجّة في خصوص حالة انسداد

أصول الفقه ( مظفر، محمد رضا - طبع انتشارات اسلامى )، ج‏3، ص: 32

باب العلم و العلمي، أي انسداد باب نفس العلم بالأحكام و باب الطرق العلميّة المؤدّية إليها.

و نحن في هذا المختصر لا نبحث إلّا عن الظنون الخاصّة فقط. أمّا الظنون المطلقة فلا نتعرّض لها، لثبوت حجّية جملة من الأمارات المغنية عندنا عن فرض انسداد باب العلم و العلمي. فلا تصل النوبة إلى هذا الفرض حتّى نبحث عن دليل الانسداد لإثبات حجّية مطلق الظنّ.

و لكن بعد أن انتهينا إلى هنا ينبغي ألّا يخلو هذا المختصر من الإشارة إلى مقدمات دليل الانسداد على نحو الاختصار تنويراً لذهن الطالب، فنقول:

10- مقدّمات دليل الانسداد

إنّ الدليل المعروف ب «دليل الانسداد» يتألّف من مقدّمات أربع إذا تمّت يترتّب عليها حكم العقل بلزوم العمل بما قام عليه الظنّ في الأحكام أيّ ظنّ كان، عدا الظنّ الثابت فيه- على نحو القطع- عدم جواز العمل به، كالقياس مثلًا.

و نحن نذكر بالاختصار هذه المقدّمات:

1- المقدّمة الاولى: دعوى انسداد باب العلم و العلمي في معظم أبواب الفقه في عصورنا المتأخّرة عن عصر أئمّتنا عليهم السلام. و قد علمت أنّ أساس المقدّمات كلّها هي هذه المقدّمة و هي دعوى قد ثبت عندنا عدم صحّتها، لثبوت انفتاح باب الظنّ الخاصّ بل العلم في معظم أبواب الفقه.

فانهار هذا الدليل من أساسه.

2- المقدمة الثانية: أنّه لا يجوز إهمال امتثال الأحكام الواقعيّة المعلومة إجمالًا، و لا يجوز طرحها في مقام العمل. أصول الفقه ( مظفر، محمد رضا - طبع انتشارات اسلامى )، ج‏3، ص: 33

و إهمالها و طرحها يقع بفرضين:

إمّا بأن نعتبر أنفسنا كالبهائم و الأطفال لا تكليف علينا.

و إمّا بأن نرجع إلى أصالة البراءة و أصالة عدم التكليف في كلّ موضعٍ لا يُعلم وجوبه و حرمته. و كلا الفرضين ضروري البطلان. 3- المقدمة الثالثة: أنّه بعد فرض وجوب التعرّض للأحكام المعلومة إجمالًا فإنّ الأمر لتحصيل فراغ الذّمة منها يدور بين حالات أربع لا خامسة لها:

أ- تقليد من يرى انفتاح باب العلم.

ب- الأخذ بالاحتياط في كلّ مسألة.

ج- الرجوع إلى الأصل العملي الجاري في كلّ مسألة: من نحو البراءة و الاحتياط و التخيير و الاستصحاب، حسبما يقتضيه حال المسألة.

د- الرجوع إلى الظنّ في كلّ مسألة فيها ظنّ بالحكم، و فيما عداها يرجع إلى الاصول العمليّة.

و لا يصحّ الأخذ بالحالات الثلاث الاولى، فتتعيّن الرابعة.

أمّا الاولى- و هي تقليد الغير في انفتاح باب العلم- فلا يجوز، لأنّ المفروض أنّ المكلّف يعتقد بالانسداد، فكيف يصحّ له الرجوع إلى من يعتقد بخطئه و أنّه على جهل.

و أمّا الثانية- و هي الأخذ بالاحتياط- فإنّه يلزم منه العسر و الحرج الشديدان، بل يلزم اختلال النظام لو كُلّف جميع المكلَّفين بذلك.

و أمّا الثالثة- و هي الأخذ بالأصل الجاري- فلا يصحّ أيضاً، لوجود العلم الإجمالي بالتكاليف، و لا يمكن ملاحظة كلّ مسألة على حدة غير منضمّةٍ إلى غيرها من المسائل الاخرى المجهولة الحكم. و الحاصل:

أصول الفقه ( مظفر، محمد رضا - طبع انتشارات اسلامى )، ج‏3، ص: 34

أنّ وجود العلم الإجمالي بوجود المحرّمات و الواجبات في جميع المسائل المشكوكة الحكم يمنع من إجراء أصل البراءة و الاستصحاب، و لو في بعضها.

4- المقدّمة الرابعة: أنّه بعد أن أبطلنا الرجوع إلى الحالات الثلاث ينحصر الأمر في الرجوع إلى الحالة الرابعة في المسائل الّتي يقوم فيها الظنّ، و فيها يدور الأمر بين الرجوع إلى الطرف الراجح في الظنّ و بين الرجوع إلى الطرف المرجوح- أي الموهوم- و لا شكّ في أنّ الأخذ بطرف المرجوح ترجيح للمرجوح على الراجح، و هو قبيح عقلًا.

وعليه، فيتعيّن الأخذ بالظنّ ما لم يقطع بعدم جواز الأخذ به- كالقياس- و هو المطلوب.

و في فرض الظنّ المقطوع بعدم حجّيته يُرجع إلى الاصول العمليّة، كما يُرجع إليها في المسائل المشكوكة الّتي لا يقوم فيها ظنّ أصلًا.

و لا ضير حينئذٍ بالرجوع إلى الاصول العمليّة، لانحلال العلم الإجمالي بقيام الظنّ في معظم المسائل الفقهيّة إلى علمٍ تفصيلي بالأحكام الّتي قامت عليها الحجّة و شكٍّ بدوي في الموارد الاخرى، فتجري فيها الاصول.

هذه خلاصة «مقدّمات دليل الانسداد» و فيها أبحاث دقيقة طويلة الذيل لا حاجة لنا بها، و يكفي ما ذكرناه عنها بالاختصار. أصول الفقه ( مظفر، محمد رضا - طبع انتشارات اسلامى ) ؛ ج‏3 ؛ ص34

11- اشتراك الأحكام بين العالم و الجاهل‏

قام إجماع الإماميّة على أنّ أحكام اللَّه تعالى مشتركة بين العالم و الجاهل بها، أي أنّ حكم اللَّه ثابت لموضوعه في الواقع، سواء علم به‏

أصول الفقه ( مظفر، محمد رضا - طبع انتشارات اسلامى )، ج‏3، ص: 35

المكلّف أم لم يعلم، فإنّه مكلّف به على كلّ حال.

فالصلاة- مثلًا- واجبة على جميع المكلّفين سواء علموا بوجوبها أم جهلوه، فلا يكون العلم دخيلًا في ثبوت الحكم أصلًا. و غاية ما نقوله في دخالة العلم في التكليف دخالته في تنجّز الحكم التكليفي، بمعنى أنّه لا يتنجّز على المكلّف على وجهٍ يستحقّ على مخالفته العقاب إلّا إذا علم به، سواء كان العلم تفصيليّاً أو إجماليّا «1» أو قامت لديه حجّة معتبرة على الحكم تقوم مقام العلم.

فالعلم و ما يقوم مقامه يكون- على ما هو التحقيق- شرطاً لتنجّز التكليف لا علّة تامّة- خلافاً للشيخ الآخوند صاحب الكفاية قدس سره‏ «2»- فإذا لم يحصل العلم و لا ما يقوم مقامه بعد الفحص و اليأس لا يتنجّز عليه التكليف الواقعي، يعني لا يعاقب المكلّف لو وقع في مخالفته عن جهلٍ، و إلّا لكان العقاب عليه عقاباً بلا بيان، و هو قبيح عقلًا. و سيأتي- إن شاء اللَّه تعالى- في أصل البراءة شرح ذلك.

و في قبال هذا القول زعم من يرى أنّ الأحكام إنّما تثبت لخصوص العالم بها أو من قامت عنده الحجّة، فمن لم يعلم بالحكم و لم تقم لديه الحجّة عليه لا حكم في حقّه حقيقةً و في الواقع‏ «3».

و من هؤلاء من يذهب إلى تصويب المجتهد، إذ يقول: «إنّ كلّ مجتهد مصيب» (3) و سيأتي بيانه في محلّه- إن شاء اللَّه تعالى- في هذا الجزء.

______________________________ (1) (*) سيأتي في الجزء الرابع- إن شاء اللَّه تعالى- مدى تأثير العلم الإجمالي في تنجيز الأحكام الواقعيّة.

(2) راجع كفاية الاصول: ص 297 و 406، و درر الفوائد (الحاشية على الفرائد): ص 25.

(3) قال به الأشعري و جمهور المتكلّمين، راجع تمهيد القواعد للشهيد الثاني ص 321.

أصول الفقه ( مظفر، محمد رضا - طبع انتشارات اسلامى )، ج‏3، ص: 36

و عن الشيخ الأنصاري- أعلى اللَّه مقامه- و عن غيره أيضاً كصاحب الفصول رحمه الله: أنّ أخبارنا متواترة معنىً في اشتراك الأحكام بين العالم و الجاهل‏ «1». و هو كذلك.

و الدليل على هذا الاشتراك- مع قطع النظر عن الإجماع و تواتر الأخبار «2»- واضح، و هو أن نقول:

1- إنّ الحكم لو لم يكن مشتركاً لكان مختصّاً بالعالم به، إذ لا يجوز أن يكون مختصّاً بالجاهل به، و هو واضح.

2- و إذا ثبت أنّه مختصّ بالعالم، فإنّ معناه تعليق الحكم على العلم به.

3- و لكن تعليق الحكم على العلم به محال، لأنّه يلزم منه الخلف.

4- إذن يتعيّن أن يكون مشتركاً بين العالم و الجاهل.

بيان لزوم الخلف: أنّه لو كان الحكم معلّقاً على العلم به كوجوب الصلاة مثلًا، فإنّه يلزمه- بل هو نفس معنى التعليق- عدم الوجوب لطبيعي الصلاة، إذ الوجوب يكون حسب الفرض للصلاة المعلومة الوجوب بما هي معلومة الوجوب، بينما أنّ تعلّق العلم بوجوب الصلاة

______________________________ (1) فرائد الاصول: ج 1 ص 44. و أمّا صاحب الفصول فما عثرنا عليه من كلامه هو ادّعاء تواتر الأخبار عن الأئمّة الأطهار عليهم السلام على أنّ للَّه تعالى في كلّ واقعة حكماً معيّناً، راجع الفصول: ص 406 س 38.

(2) لم نقف على خبرٍ صريح في اشتراك الأحكام بين العالم و الجاهل، نعم يستفاد ذلك من روايات وردت في أبوابٍ مختلفة بألفاظٍ متفاوتة:

منها: ما وردت في بيان ثبوت حكمٍ خاصّ لكلّ شي‏ء في نفس الأمر، راجع اصول الكافي ج 1 ص 59 باب الردّ إلى الكتاب و السنّة.

و منها: ما وردت في التخطئة و التصويب، مثل ما عن النبيّ صلى الله عليه و آله: «إذا حكم الحاكم فاجتهد فأصاب فله أجران، و إذا حكم فاجتهد فأخطأ فله أجر» مسند أحمد بن حنبل: ج 4 ص 198.

و منها ما ورد في عدم قبول اعتذار غير العامل بالتكليف بأنّه كان جاهلًا به، راجع بحار الأنوار: ج 1 ص 178 ح 58.

أصول الفقه ( مظفر، محمد رضا - طبع انتشارات اسلامى )، ج‏3، ص: 37

لا يمكن فرضه إلا إذا كان الوجوب متعلّقاً بطبيعي الصلاة. فما فرضناه متعلّقاً بطبيعي الصلاة لم يكن متعلّقاً بطبيعيّها، بل بخصوص معلوم الوجوب. و هذا هو الخلف المحال.

و ببيانٍ آخر في وجه استحالة تعليق الحكم على العلم به نقول:

إنّ تعليق الحكم على العلم به يستلزم منه‏ «1» المحال، و هو استحالة العلم بالحكم، و الّذي يستلزم منه‏ «2» المحال محال، فيستحيل نفس الحكم.

و ذلك لأنّه قبل حصول العلم لا حكم- حسب الفرض- فإذا أراد أن يعلم يعلم بما ذا؟ فلا يُعقل حصول العلم لديه بغير متعلّقٍ مفروضِ الحصول.

و اذا استحال حصول العلم استحال حصول الحكم المعلّق عليه، لاستحالة ثبوت الحكم بدون موضوعه. و هو واضح. و على هذا، فيستحيل تقييد الحكم بالعلم به. و إذا استحال ذلك تعيّن أن يكون الحكم مشتركاً بين العالم و الجاهل، أي بثبوته واقعاً في صورتي العلم و الجهل و إن كان الجاهل القاصر معذوراً، أي أنّه لا يعاقب على المخالفة. و هذا شي‏ء آخر غير نفس عدم ثبوت الحكم في حقّه.

و لكنّه قد يُستشكل في استكشاف اشتراك الأحكام في هذا الدليل بما تقدّم منّا (في الجزء الأوّل ص 121 و 225) من أنّ الإطلاق و التقييد متلازمان في مقام الإثبات، لأنّهما من قبيل العدم و الملكة، فإذا استحال التقييد في موردٍ استحال معه الإطلاق أيضاً. فكيف- إذن- نستكشف اشتراك الأحكام من إطلاق أدلّتها؟ لامتناع تقييدها بالعلم، و الإطلاق كالتقييد محال بالنسبة إلى قيد العلم في أدلّة الأحكام.

______________________________ (1) الأولى في العبارة حذف «منه».

(2) الأولى في العبارة حذف «منه».

أصول الفقه ( مظفر، محمد رضا - طبع انتشارات اسلامى )، ج‏3، ص: 38

و قد أصرّ شيخنا النائيني- أعلى اللَّه مقامه- على امتناع الإطلاق في ذلك، و قال بما محصّله: إنّه لا يمكن أن نحكم بالاشتراك من نفس أدلّة الأحكام، بل لا بدّ لإثباته من دليلٍ آخر «1» سمّاه «متمّم الجعل» على أن يكون الاشتراك من باب «نتيجة الإطلاق» كاستفادة تقييد الأمر العبادي بقصد الامتثال من دليلٍ ثانٍ متمّمٍ للجعل، على أن يكون ذلك من باب نتيجة التقييد. و كاستفادة تقييد وجوب الجهر و الإخفات و القصر و الإتمام بالعلم بالوجوب من دليل آخر متمّمٍ للجعل على أن يكون ذلك أيضاً من باب نتيجة التقييد.

و قال بما خلاصته: يمكن استفادة الإطلاق في المقام من الأدلّة الّتي ادّعى الشيخ الأنصاري تواترها «2» فتكون هي المتمّمة للجعل.

أقول: و يمكن الجواب عن الإشكال المذكور بما محصّله:

إنّ هذا الكلام صحيح لو كانت استفادة اشتراك الأحكام متوقّفة على إثبات إطلاق أدلّتها بالنسبة إلى العالم بها، غير أنّ المطلوب الّذي ينفعنا هو نفس عدم اختصاص الأحكام بالعالم على نحو السالبة المحصّلة، فيكون التقابل بين اشتراك الأحكام و اختصاصها بالعالم من قبيل تقابل السلب و الإيجاب، لا من باب تقابل العدم و الملكة، لأنّ المراد من الاشتراك نفس عدم الاختصاص بالعالم.

و هذا السلب يكفي في استفادته من أدلّة الأحكام نفس إثبات امتناع الاختصاص، و لا يحتاج إلى مئونة زائدة لإثبات الإطلاق أو إثبات نتيجة الإطلاق بمتمّم الجعل من إجماعٍ أو أدلّةٍ اخرى، لأنّه من نفس امتناع التقييد نعلم أنّ الحكم مشترك لا يختصّ بالعالم.

______________________________ (1) راجع فوائد الاصول: ج 3 ص 11.

(2) فرائد الاصول: ج 1 ص 44.

أصول الفقه ( مظفر، محمد رضا - طبع انتشارات اسلامى )، ج‏3، ص: 39

نعم، يتمّ ذلك الإشكال لو كان امتناع التقييد ليس إلّا من جهةٍ بيانيّة و في مرحلة الإنشاء في دليل نفس الحكم و إن كان واقعه يمكن أن يكون مقيّداً أو مطلقاً مع قطع النظر عن أدائه باللفظ، فإنّه حينئذٍ لا يمكن بيانه بنفس دليله الأوّل فنحتاج إلى استكشاف الواقع المراد من دليلٍ آخر نُسمّيه «متمّم الجعل» و لأجل ذلك نسمّيه بالمتمّم للجعل، فتحصل لنا نتيجة الإطلاق أو نتيجة التقييد من دون أن يحصل تقييد أو إطلاق المفروض أنّهما مستحيلان، كما كان الحال في تقييد الوجوب بقصد الامتثال في الواجب التعبّدي.

أمّا لو كان نفس الحكم واقعاً مع قطع النظر عن أدائه بأيّة عبارة كانت- كما فيما نحن فيه- يستحيل تقييده سواء ادّي ذلك ببيانٍ واحد أو ببيانين أو بألف بيان، فإنّ واقعه لا محالة ينحصر في حالة واحدة، و هو أن يكون في نفسه شاملًا لحالتي وجود القيد المفروض و عدمه.

وعليه، فلا حاجة في مثله إلى استكشاف الاشتراك من نفس إطلاق دليله الأوّل و لا من دليل ثانٍ متمّمٍ للجعل. و لا نمانع أن نُسمّي ذلك «نتيجة الإطلاق» إذا حلا لكم هذا التعبير.

و يبقى الكلام حينئذٍ في وجه تقييد وجوب الجهر و الإخفات و القصر و الإتمام بالعلم مع فرض امتناعه حتّى بمتمّم الجعل، و المفروض أنّ هذا التقييد ثابت في الشريعة، فكيف تصحّحون ذلك؟

فنقول: إنّه لمّا امتنع تقييد الحكم بالعلم فلا بدّ أن نلتمس توجيهاً لهذا الظاهر من الأدلّة. و ينحصر التوجيه في أن نفرض أن يكون هذا التقييد من باب إعفاء الجاهل بالحكم في هذين الموردين عن الإعادة و القضاء و إسقاطهما عنه اكتفاءً بما وقع كإعفاء الناسي و إن كان الوجوب واقعاً

أصول الفقه ( مظفر، محمد رضا - طبع انتشارات اسلامى )، ج‏3، ص: 40

غير مقيّد بالعلم. و الإعادة و القضاء بيد الشارع رفعهما و وضعهما.

و يشهد لهذا التوجيه أنّ بعض الروايات في البابين عبّرت بسقوط الإعادة عنه، كالرواية عن أبي جعفر عليه السلام في من صلّى في السفر أربعاً:

«إن كان قُرئت عليه آية التقصير و فُسّرت له فصلّى أربعاً أعاد، و إن لم يكن قُرئت عليه و لم يعلمها فلا إعادة» «1». 12- تصحيح جعل الأمارة

بعد ما ثبت أنّ جعل الأمارة يشمل فرض انفتاح باب العلم- مع ما ثبت من اشتراك الأحكام بين العالم و الجاهل- تنشأ شبهة عويصة في صحّة جعل الأمارة قد أشرنا إليها فيما سبق (ص 29) و هي:

أنّه في فرض التمكّن من تحصيل الواقع و الوصول إليه كيف جاز أن يأذن الشارع باتّباع الأمارة الظنّية، و هي- حسب الفرض- تحتمل الخطأ المفوّت للواقع؟ و الإذن في تفويته قبيح عقلًا، لأنّ الأمارة لو كانت دالّة على جواز الفعل- مثلًا- و كان الواقع هو الوجوب أو الحرمة، فإنّ الاذن باتّباع الأمارة في هذا الفرض يكون إذناً بترك الواجب أو فعل الحرام، مع أنّ الفعل لا يزال باقياً على وجوبه الواقعي أو حرمته الواقعيّة، مع تمكّن المكلّف من الوصول إلى معرفة الواقع حسب الفرض. و لا شكّ في قبح ذلك من الحكيم.

و هذه الشبهة هي الّتي ألجأت بعض الاصوليّين‏ «2» إلى القول بأنّ‏

______________________________ (1) الوسائل: ج 5 ص 531، الباب 17 من أبواب صلاة المسافر، ح 4.

(2) لم نتحقّق مَن أراده بهذا البعض، لأنّ سببيّة الأمارة لحدوث المصلحة تتصوّر على وجوهٍ. و لكلّ وجهٍ قائل يخصّه، راجع فرائد الاصول: ج 1 ص 43، فوائد الاصول: ج 3 ص 95.

أصول الفقه ( مظفر، محمد رضا - طبع انتشارات اسلامى )، ج‏3، ص: 41

الأمارة مجعولة على نحو «السببيّة» إذ عجزوا عن تصحيح جعل الأمارة على نحو «الطريقيّة» الّتي هي الأصل في الأمارة، على ما سيأتي من شرح ذلك قريباً.

و الحقّ معهم إذا نحن عجزنا عن تصحيح جعل الأمارة على نحو الطريقيّة، لأنّ المفروض أنّ الأمارة قد ثبتت حجّيتها قطعاً فلا بدّ أن يُفرض- حينئذٍ- في قيام الأمارة أو في اتّباعها مصلحة يتدارك بها ما يفوت من مصلحة الواقع على تقدير خطأها حتّى لا يكون إذن الشارع بتفويت الواقع قبيحاً، ما دام أنّ تفويته له يكون لمصلحةٍ أقوى و أجدى أو مساوية لمصلحة الواقع، فينشأ على طبق مؤدّى الأمارة حكم ظاهري بعنوان أنّه الواقع، إمّا أن يكون مماثلًا للواقع عند الإصابة أو مخالفاً له عند الخطأ.

و نحن- بحمد اللَّه تعالى- نرى أنّ الشبهة يمكن دفعها على تقدير الطريقيّة، فلا حاجة إلى فرض السببيّة.

و الوجه في دفع الشبهة: أنّه بعد أن فرضنا أنّ القطع قام على أنّ الأمارة الكذائيّة- كخبر الواحد- حجّة يجوز اتّباعها مع التمكّن من تحصيل العلم، فلا بدّ أن يكون الإذن من الشارع العالم بالحقائق الواقعيّة لأمرٍ علم به و غاب عنّا علمه. و لا يخرج هذا الأمر عن أحد شيئين لا ثالث لهما، و كلّ منهما جائز عقلًا لا مانع منه:

1- أن يكون قد علم بأنّ إصابة الأمارة للواقع مساوية لإصابة العلوم الّتي تتّفق للمكلّفين أو أكثر منها، بمعنى أنّ العلوم الّتي يتمكّن المكلّفون من تحصيلها يعلم الشارع بأنّ خطأها سيكون مساوياً لخطأ الأمارة المجعولة أو أكثر خطأً منها. أصول الفقه ( مظفر، محمد رضا - طبع انتشارات اسلامى )، ج‏3، ص: 42

2- أن يكون قد علم بأنّ في عدم جعل أمارات خاصّة لتحصيل الأحكام و الاقتصار على العلم تضييقاً على المكلّفين و مشقّةً عليهم، لا سيّما بعد أن كانت تلك الأمارات قد اعتادوا سلوكها و الأخذ بها في شئونهم الخاصّة و امورهم الدنيويّة و بناء العقلاء كلّهم كان عليها.

و هذا الاحتمال الثاني قريب إلى التصديق جدّاً، فإنّه لا نشكّ في أنّ تكليف كلّ واحد من الناس بالرجوع إلى المعصوم أو الأخبار المتواترة في تحصيل جميع الأحكام أمر فيه ما لا يوصف من الضيق و المشقّة، لا سيّما أنّ ذلك على خلاف ما جرت عليه طريقتهم في معرفة ما يتعلّق بشئونهم الدنيويّة.

وعليه، فمن القريب جدّاً أنّ الشارع إنّما رخّص في اتّباع الأمارات الخاصّة فلغرض تسهيل الأخذ بأحكامه و الوصول إليها. و مصلحة التسهيل من المصالح النوعيّة المتقدّمة في نظر الشارع على المصالح الشخصيّة الّتي قد تفوت أحياناً على بعض المكلّفين عند العمل بالأمارة لو أخطأت.

و هذا أمر معلوم من طريقة الشريعة الإسلامية الّتي بُنيت في تشريعها على التيسير و التسهيل.

و على التقديرين و الاحتمالين، فإنّ الشارع في إذنه باتّباع الأمارة طريقاً إلى الوصول إلى الواقع من أحكامه لا بدّ أن يُفرض فيه أنّه قد تسامح في التكاليف الواقعيّة عند خطأ الأمارة، أي أنّ الأمارة تكون معذّرة للمكلّف، فلا يستحقّ العقاب في مخالفة الحكم كما لا يستحقّ ذلك عند المخالفة في خطأ القطع، لا أنّه بقيام الأمارة يحدث حكم آخر ثانوي، بل شأنها في هذه الجهة شأن القطع بلا فرق.

و لذا أنّ الشارع في الموارد الّتي يريد فيها المحافظة على تحصيل‏

أصول الفقه ( مظفر، محمد رضا - طبع انتشارات اسلامى )، ج‏3، ص: 43

الواقع على كلّ حالٍ أمر باتّباع الاحتياط و لم يكتف بالظنون فيها، و ذلك كموارد الدماء و الفروج‏ «1».

13- لأمارة طريق أو سبب‏

قد أشرنا في البحث السابق إلى مذهبي السببيّة و الطريقيّة في الأمارة و قد عقدنا هذا البحث لبيان هذا الخلاف. فإنّ ذلك من الامور الّتي وقعت أخيراً موضع البحث و الردّ و البدل عند الاصوليّين، فاختلفوا في أنّ الأمارة هل هي حجّة مجعولة على نحو «الطريقيّة» أو أنّها حجّة مجعولة على نحو «السببيّة» أي أنّها طريق أو سبب.

و المقصود من كونها طريقاً: أنّها مجعولة لتكون موصلة فقط إلى الواقع للكشف عنه، فإن أصابته فإنّه يكون منجَّزاً بها و هي منجِّزة له، و إن أخطأته فإنّها حينئذٍ تكون صِرف معذّر للمكلّف في مخالفة الواقع.

و المقصود من كونها سبباً: أنّها تكون سبباً لحدوث مصلحة في مؤدّاها تقاوم تفويت مصلحة الأحكام الواقعيّة على تقدير الخطأ، فينشئ الشارع حكماً ظاهريّاً على طبق ما أدَّت إليه الأمارة.

و الحقّ أنّها مأخوذة على نحو «الطريقيّة».

و السرّ في ذلك واضح بعد ما تقدّم، فإنّ القول بالسببيّة- كما قلنا- مترتّب على القول بالطريقيّة، يعني أنّ منشأ قول من قال بالسببيّة هو العجز عن تصحيح جعل الطرق على نحو الطريقيّة، فيلتجئ إلى فرض السببيّة.

______________________________ (1) لم نقف على نصّ خاصّ يأمر بالاحتياط في الموردين، و الظاهر أنّه مستفاد من اهتمام الشرع بهما في مختلف أبواب الفقه، مضافاً إلى حكم العقل.

أصول الفقه ( مظفر، محمد رضا - طبع انتشارات اسلامى )، ج‏3، ص: 44

أمّا إذا أمكن تصحيح الطريقيّة فلا يبقى دليل على السببيّة ويتعيّن كون الأمارة طريقاً محضاً، لأنّ الطريقيّة هي الأصل فيها. و معنى أنّ الطريقية هي الأصل: أنّ طبع الأمارة لو خُلّيت و نفسَها يقتضي أن تكون طريقاً محضاً إلى مؤدّاها، لأنّ لسانها التعبير عن الواقع و الحكاية و الكشف عنه.

على أنّ العقلاء إنّما يعتبرونها و يستقرّ بناؤهم عليها فلأجل‏ «1» كشفها عن الواقع، و لا معنى لأن يُفرض في بناء العقلاء أنّه على نحو السببيّة، و بناء العقلاء هو الأساس الأوّل في حجّية الأمارة، كما سيأتي.

نعم، إذا منع مانع عقلي من فرض الأمارة طريقاً من جهة الشبهة المتقدّمة أو نحوها، فلا بدّ أن تخرج على خلاف طبعها و نلتجئ إلى فرض السببيّة.

و لمّا كنّا دفعنا الشبهة في جعلها على نحو الطريقيّة فلا تصل النوبة إلى التماس دليلٍ على سببيّتها أو طريقيّتها، اذ لا موضع للترديد و الاحتمال لنحتاج إلى الدليل.

هذا، و قد يُلتمس الدليل على السببيّة من نفس دليل حجّية الأمارة بأن يقال: إنّ دليل الحجّية- لا شكّ- يدل على وجوب اتّباع الأمارة، و لمّا كانت الأحكام تابعة لمصالح و مفاسد في متعلّقاتها، فلا بدّ أن يكون في اتّباع الأمارة مصلحة تقتضي وجوب اتّباعها و إن كانت على خطإٍ في الواقع. و هذه هي السببيّة بعينها.

أقول: و الجواب عن ذلك واضح، فإنّا نسلّم أنّ الأحكام تابعة للمصالح و المفاسد، و لكن لا يلزم في المقام أن يكون في نفس اتّباع الأمارة مصلحة، بل يكفي أن ينبعث الوجوب من نفس مصلحة الواقع، فيكون‏

______________________________ (1) لأجل، ظ.

أصول الفقه ( مظفر، محمد رضا - طبع انتشارات اسلامى )، ج‏3، ص: 45

جعل وجوب اتّباع الأمارة لغرض تحصيل مصلحة الواقع. بل يجب أن يكون الحال فيها كذلك، لأنّه لا شكّ أنّ الغرض من جعل الأمارة هي‏ «1» الوصول بها إلى الواقع، فالمحافظة على الواقع و الوصول إليه هو الباعث على جعل الأمارة لغرض تنجيزه و تحصيله، فيكون الأمر باتّباع الأمارة طريقاً إلى تحصيل الواقع.

و لذا نقول: إذا لم تصب الواقع لا تكليف هناك و لا تدارك لما فات من الواقع، و ما هي إلّا المعذّريّة في مخالفته و رفع العقاب على المخالفة، لا أكثر. و هذه المعذّريّة تقتضيها نفس الرخصة في اتّباع الأمارة الّتي قد تخطئ.

و على هذا، فليس لهذا الأمر الطريقي المتعلّق باتّباع الأمارة بما هو أمر طريقي مخالفة و لا موافقة، لأنّه في الحقيقة ليس فيه جعل للداعي إلى الفعل الّذي هو مؤدّى الأمارة مستقلّاً عن الأمر الواقعي، و إنّما هو جعل للأمارة منجّزة للأمر الواقعي، فهو موجب لدعوة الأمر الواقعي، فلا بعث حقيقي في مقابل البعث الواقعي، فلا تكون له مصلحة إلّا مصلحة الواقع، و لا طاعة غير طاعة الواقع، إذ لا بعث فيه إلّا بعث الواقع.

14- المصلحة السلوكيّة

ذهب الشيخ الأنصاري قدس سره إلى فرض المصلحة السلوكيّة في الأمارات لتصحيح جعلها «2»- كما تقدّمت الإشارة إلى ذلك في مبحث الإجزاء الجزء الثاني ص 309- و حمل عليه كلام الشيخ الطوسي في العدّة «3»

______________________________ (1) هو، ظ.

(2) راجع فرائد الاصول: ج 1 ص 42.

(3) العدّة: ج 1 ص 103.

أصول الفقه ( مظفر، محمد رضا - طبع انتشارات اسلامى )، ج‏3، ص: 46

و العلّامة في النهاية «1».

و إنّما ذهب إلى هذا الفرض لأنّه لم يتمّ عنده تصحيح جعل الأمارة على نحو الطريقيّة المحضة، و وجد أيضاً أنّ القول بالسببيّة المحضة يستلزم القول بالتصويب المجمع على بطلانه عند الإماميّة فسلك طريقاً وسطاً لا يذهب به إلى الطريقيّة المحضة و لا إلى السببيّة المحضة، و هو أن يفرض المصلحة في نفس سلوك الأمارة و تطبيق العمل على ما أدّت إليه.

و بهذه المصلحة يتدارك ما يفوت من مصلحة الواقع عند الخطأ، فتكون الأمارة من ناحيةٍ لها شأن الطريقيّة إلى الواقع، و من ناحيةٍ اخرى لها شأن السببيّة.

و غرضه من فرض المصلحة السلوكيّة أنّ نفس سلوك طريق الأمارة و الاستناد إليها في العمل بمؤدّاها فيه مصلحة تعود لشخص المكلّف يتدارك بها ما يفوته من مصلحة الواقع عند الخطأ، من دون أن يحدث في نفس المؤدّى- أي في ذات الفعل و العمل- مصلحة حتّى تستلزم إنشاء حكم آخر غير الحكم الواقعي على طبق ما أدّت إليه الأمارة الّذي هو نوع من التصويب‏ «2».

______________________________ (1) نهاية الوصول (مخطوط) الورقة 136.

(2) (*) إنّ التصويب الباطل على ما بيّنه الشيخ على نحوين:

الأوّل: ما يُنسب إلى الأشاعرة و هو أن يفرض أن لا حكم ثابتاً في نفسه يشترك فيه العالم و الجاهل، بل الشارع ينشئ أحكامه على طبق ما تؤدّي إليه آراء المجتهدين.

الثاني: ما ينسب إلى المعتزلة و هو أن تكون هناك أحكام واقعيّة ثابتة في نفسها يشترك فيها العالم و الجاهل، و لكن لرأي المجتهد أثراً في تبدّل عنوان موضوع الحكم أو متعلّقه، فتحدث على وفقِ ما أدّى إليه رأيه مصلحة غالبة على مصلحة الواقع، فينشئ الشارع أحكاماً ظاهرية ثانويّة غير الأحكام الواقعيّة. و هذا المعنى من التصويب ترجع إليه السببيّة المحضة. و إنّما كان هذا تصويباً باطلًا لأنّ معناه خلوّ الواقع عن الحكم حين قيام الأمارة على خلافه.

أصول الفقه ( مظفر، محمد رضا - طبع انتشارات اسلامى )، ج‏3، ص: 47

قال رحمه الله في رسائله فيما قال: و معنى وجوب العمل على طبق الأمارة وجوب ترتيب أحكام الواقع على مؤدّاها من دون أن تحدث في الفعل مصلحة على تقدير مخالفة الواقع‏ «1».

و لا ينبغي أن يتوهّم أنّ القول بالمصلحة السلوكيّة هي نفس ما ذكرناه في أحد وجهي تصحيح الطريقيّة من فرض مصلحة التسهيل، لأنّ الغرض من القول بالمصلحة السلوكيّة أن تحدث مصلحة في سلوك الأمارة تعود تلك المصلحة لشخص المكلّف لتدارك ما يفوته من مصلحة الواقع. بينما أنّ غرضنا من مصلحة التسهيل مصلحة نوعيّة قد لا تعود لشخص من قامت عنده الأمارة، و تلك المصلحة النوعيّة مقدّمة في مقام المزاحمة عند الشارع على مصلحة الواقع الّتي قد تفوت على شخص المكلّف.

و إذا اتّضح الفرق بينهما نقول: إنّ القول بالمصلحة السلوكيّة و فرضها يأتي بالمرتبة الثانية للقول بمصلحة التسهيل، يعني أنّه إذا لم تثبت عندنا مصلحة التسهيل، أو قلنا بعدم تقديم المصلحة النوعيّة على المصلحة الشخصيّة، و لم يصحّ عندنا أيضاً احتمال مساواة خطأ الأمارات للعلوم، فإنّا نلتجئ إلى ما سلكه الشيخ من المصلحة السلوكيّة إذا استطعنا تصحيحها، فراراً من الوقوع في التصويب الباطل.

و أمّا نحن فإذ ثبت عندنا أنّ هناك مصلحة التسهيل في جعل الأمارة تفوق المصالح الشخصيّة و مقدّمة عليها عند الشارع، أصبحنا في غنىً عن فرض المصلحة السلوكيّة.

على أنّ المصلحة السلوكيّة إلى الآن لم نتحقّق مراد الشيخ منها و لم نجد الوجه لتصحيحها في نفسها، فإنّ في عبارته شيئاً من الاضطراب‏

______________________________ (1) فرائد الاصول: ج 1 ص 45.

أصول الفقه ( مظفر، محمد رضا - طبع انتشارات اسلامى )، ج‏3، ص: 48

و الإبهام، و كفى أن يقع في بعض النسخ زيادة كلمة «الأمر» على قوله:

«إلّا أنّ العمل على طبق تلك الأمارة» فتصير العبارة هكذا: «إلّا أنّ الأمر بالعمل ...» فلا يُدرى مقصوده هل أنّه في نفس العمل مصلحة سلوكيّة أو في الأمر به. و قيل: إنّ هذا التصحيح وقع من بعض تلامذته إذ أوكل إليه أمر تصحيح العبارة بعد مناقشات تلاميذه لها في مجلس البحث‏ «1».

و على كلّ حال، فإنّ الظاهر أنّ الفارق عنده بين السببيّة المحضة و بين المصلحة السلوكيّة بمقتضى عبارته قبل التصحيح المذكور أنّ المصلحة على الأوّل تكون قائمة بذات الفعل، و على الثاني قائمة بعنوانٍ آخر هو السلوك، فلا تزاحم مصلحتُه مصلحةَ الفعل.

و لكنّنا لم نتعقّل هذا الفارق المذكور، لأنّه إنّما يتمّ إذا استطعنا أن نتعقّل لعنوان السلوك عنواناً مستقلّاً في وجوده عن ذات الفعل لا ينطبق عليه و لا يتّحد معه حتّى لا تزاحم مصلحته مصلحة الفعل، و تصوير هذا في غاية الإشكال. و لعلّ هذا هو السرّ في مناقشة تلاميذه له فحمل بعضهم على إضافة كلمة «الأمر» ليجعل المصلحة تعود إلى نفس الأمر لا إلى متعلّقه فلا يقع التزاحم بين المصلحتين.

وجه الإشكال: أوّلًا: أنّنا لا نفهم من عنوان السلوك و الاستناد إلى الأمارة إلّا عنواناً للفعل الذي تؤدّي إليه الأمارة بأيّ معنىً فسّرنا السلوك و الاستناد، إذ ليس للسلوك و متابعة الأمارة وجود آخر مستقلّ غير نفس وجود الفعل المستند إلى الأمارة. نعم، إذا أردنا من الاستناد إلى الأمارة معنىً آخر- و هو الفعل القصدي من النفس- فإنّ له وجودا آخر غير وجود الفعل، لأنّه فعل قلبي جوانحي‏

______________________________ (1) راجع فوائد الاصول: ج 3 ص 98.

أصول الفقه ( مظفر، محمد رضا - طبع انتشارات اسلامى )، ج‏3، ص: 49

لا وجود له إلّا وجوداً قصديّاً. و لكنّه من البعيد جدّاً أن يكون ذلك غرض الشيخ من السلوك، لأنّ هذا الفعل القلبي إنّما يصحّ أن يُفرض وجوبه في خصوص الامور العباديّة، و لا معنى للالتزام بوجوب القصد في جميع أفعال الإنسان المستند فعلها إلى الأمارة.

ثانياً: على تقدير تسليم اختلافهما وجوداً، فإنّ قيام المصلحة بشي‏ءٍ إنّما يدعو إلى تعلّق الأمر به، لا بشي‏ءٍ آخر غيره وجوداً و إن كانا متلازمين في الوجود. فمهما فرضنا من معنى للسلوك- و إن كان بمعنى الفعل القلبي- فإنّه إذا كانت المصلحة المقتضية للأمر قائمة به فكيف يصحّ توجيه الأمر إلى ذات الفعل و المفروض أنّ له وجوداً آخر لم تقم به المصلحة؟ و أمّا إضافة كلمة «الأمر» على عبارة الشيخ فهي بعيدة جدّاً عن مراده و عباراته الاخرى.

15- الحجّية أمر اعتباري أو انتزاعي‏

من الامور الّتي وقعت موضع البحث أيضاً عند المتأخّرين مسألة أنّ الحجّية هل هي من الامور الاعتباريّة المجعولة بنفسها و ذاتها، أو أنّها من الانتزاعيات الّتي تنتزع من المجعولات؟

و هذا النزاع في الحجّية فرع- في الحقيقة- عن النزاع في أصل الأحكام الوضعيّة. و هذا النزاع في خصوص الحجيّة- على الأقلّ- لم أجد له ثمرة عمليّة في الاصول.

على أنّ هذا النزاع في أصله غير محقّق و لا مفهوم لأنّ لكلمتي «الاعتباريّة» و «الانتزاعيّة» مصطلحات كثيرة، في بعضها تكون الكلمتان‏

أصول الفقه ( مظفر، محمد رضا - طبع انتشارات اسلامى )، ج‏3، ص: 50

متقابلتين، و في البعض الآخر متداخلتين. و تفصيل ذلك يخرجنا عن وضع الرسالة.

و نكتفي أن نقول على سبيل الاختصار:

إنّ الّذي يظهر من أكثر كلمات المتنازعين في المسألة أنّ المراد من الأمر الانتزاعي هو المجعول ثانياً و بالعرض في مقابل المجعول أوّلًا و بالذات، بمعنى أنّ الإيجاب و الجعل الاعتباري يُنسب أوّلًا و بالذات إلى شي‏ءٍ هو المجعول حقيقة، ثمّ يُنسب الجعل ثانياً و بالعرض إلى شي‏ءٍ آخر.

فالمجعول الأوّل هو «الأمر الاعتباري» و الثاني هو «الأمر الانتزاعي».

فيكون هناك جعل واحد يُنسب إلى الأوّل بالذات و إلى الثاني بالعرض، لا أنّه هناك جعلان و اعتباران: يُنسب أحدهما إلى شي‏ءٍ ابتداءً و يُنسب ثانيهما إلى آخر بتبع الأوّل، فإنّ هذا ليس مراد المتنازعين قطعاً.

فيقال في الملكيّة- مثلًا- الّتي هي من جملة موارد النزاع: إنّ المجعول أوّلًا و بالذات هو إباحة تصرّف الشخص بالشي‏ء المملوك، فينتزع منها أنّه مالك، أي أنّ الجعل يُنسب ثانياً و بالعرض إلى الملكيّة.

فالملكيّة يقال لها: إنّها مجعولة بالعرض، و يقال لها: إنّها منتزعة من الإباحة. هذا إذا قيل: إنّ الملكيّة انتزاعيّة. أمّا إذا قيل: إنّها اعتباريّة فتكون عندهم هي المجعولة أوّلًا و بالذات للشارع أو العرف.

و على هذا، فإذا اريد من «الانتزاعي» هذا المعنى فالحقّ أنّ الحجّية أمر اعتباري، و كذلك الملكيّة و الزوجيّة و نحوها من الأحكام الوضعيّة.

و شأنها في ذلك شأن الأحكام التكليفيّة المسلّم فيها أنّها من الاعتباريّات الشرعيّة.

توضيح ذلك: أنّ حقيقة الجعل هو الإيجاد. و الإيجاد على نحوين:

أصول الفقه ( مظفر، محمد رضا - طبع انتشارات اسلامى )، ج‏3، ص: 51

1- ما يراد منه إيجاد الشي‏ء حقيقةً في الخارج. و يسمّى «الجعل التكويني»، أو «الخلق».

2- ما يراد منه إيجاد الشي‏ء اعتباراً و تنزيلًا، و ذلك بتنزيله منزلة الشي‏ء الخارجي الواقعي من جهة ترتيب أثرٍ من آثاره أو لخصوصيّةٍ فيه من خصوصيّات الأمر الواقعي. و يُسمّى «الجعل الاعتباري» أو «التنزيلي».

و ليس له واقع إلّا الاعتبار و التنزيل، و إن كان نفس الاعتبار أمراً واقعيّاً حقيقيّاً لا اعتباريّاً.

مثلًا حينما يقال: «زيد أسد» فإنّ الأسد مطابقه الحقيقي هو الحيوان المفترس المخصوص، و هو طبعاً مجعول و مخلوق بالجعل و الخلق التكويني، و لكن العرف يعتبرون الشجاع أسداً، فزيد أسد اعتباراً و تنزيلًا من قِبَل العرف من جهة ما فيه من خصوصيّة الشجاعة كالأسد الحقيقي.

و من هذا المثال يظهر كيف أنّ الأحكام التكليفيّة اعتبارات شرعيّة، لأنّ الآمر حينما يريد من شخص أن يفعل فعلًا ما فبدلًا أن يدفعه بيده- مثلًا- ليحرّكه نحو العمل ينشئ الأمر بداعي جعل الداعي في دخيلة نفس المأمور، فيكون هذا الإنشاء للآمر دفعاً و تحريكاً اعتباريّاً تنزيلًا له منزلة الدفع الخارجي باليد مثلًا. و كذلك النهي زجر اعتباري تنزيلًا له منزلة الردع و الزجر الخارجي باليد مثلًا.

و كذلك يقال في حجّية الأمارة المجعولة، فإنّ القطع لمّا كان موصلًا إلى الواقع حقيقةً و طريقاً بنفسه إليه، فالشارع يعتبر الأمارة الظنّية طريقاً إلى الواقع تنزيلًا لها منزلة القطع بالواقع بإلغاء احتمال الخلاف، فتكون الأمارة قطعاً اعتباريّاً و طريقاً تنزيليّاً.

أصول الفقه ( مظفر، محمد رضا - طبع انتشارات اسلامى )، ج‏3، ص: 52

و متى صحّ و أمكن أن تكون الحجّية هي المعتبرة أوّلًا و بالذات فما الّذي يدعو إلى فرضها مجعولةً ثانياً و بالعرض حتّى تكون أمراً انتزاعيّاً؟

إلّا أن يريدوا من «الانتزاعي» معنى آخر، و هو ما يستفاد من دليل الحكم على نحو الدلالة الالتزاميّة كأن تُستفاد الحجّية للأمارة من الأمر باتّباعها، مثل ما لو قال الإمام عليه السلام: «صدّق العادل» الّذي يدلّ بالدلالة الالتزاميّة على حجّية خبر العادل و اعتباره عند الشارع.

و هذا المعنى للانتزاعي صحيح، و لا مانع من أن يقال للحجّية: إنّها أمر انتزاعي بهذا المعنى. و لكنه بعيد عن مرامهم، لأنّ هذا المعنى من الانتزاعيّة لا يقابل الاعتباريّة بالمعنى الّذي شرحناه.

و على كلّ حال: فدعوى انتزاعيّة الحجّية- بأيّ معنى للانتزاعي- لا موجب لها، لا سيّما أنّه لم يتّفق ورود أمر من الشارع باتّباع أمارة من الأمارات في جميع ما بأيدينا من الآيات و الروايات حتّى يُفرض أنّ الحجّية منتزعة من ذلك الأمر.

هذا كلّ ما أردنا بيانه من المقدّمات قبل الدخول في المقصود. و الآن نشرع في البحث عن المقصود، و هو تشخيص الأدلّة الّتي هي حجّة على الأحكام الشرعيّة من قبل الشارع المقدّس. و نضعها في أبواب:

*** أصول الفقه ( مظفر، محمد رضا - طبع انتشارات اسلامى )، ج‏3، ص: 54

`