حضرت امام جعفر صادق عليه‌السلام نے فرمایا: خدا کی قسم نیک لوگ کامیاب ہوگئے، جانتے ہو کہ وہ کون ہیں؟ وہی جو چیونٹی تک کو اذیت نہیں دیتے بحارالانوار ج75ص193،تتمۃ کتاب الروضۃ، ابواب المواعظ والحکم، باب23مواعظ الصادق جعفر بن محمد ؑ

اصول الفقہ حصہ دوم

المسألة الثانية مقدمة الواجب‏

تحرير النزاع:

كلّ عاقل يجد من نفسه أنّه إذا وجب عليه شي‏ء و كان حصوله يتوقّف على مقدّمات، فإنّه لا بدّ له من تحصيل تلك المقدّمات ليتوصّل إلى فعل ذلك الشي‏ء بها.

و هذا الأمر بهذا المقدار ليس موضعاً للشكّ و النزاع. و إنّما الّذي وقع موضعاً للشكّ و جرى فيه النزاع عند الاصوليّين هو أنّ هذه اللابدّية العقليّة للمقدّمة الّتي لا يتمّ الواجب إلّا بها هل يستكشف منها اللابدّية شرعاً أيضاً؟ يعني أنّ الواجب هل يلزم عقلًا من وجوبه الشرعي وجوب مقدّمته شرعاً؟

أو فقل على نحو العموم: كلّ فعلٍ واجب عند مولىً من الموالي هل يلزم منه عقلًا وجوب مقدّمته أيضاً عند ذلك المولى؟

و بعبارة رابعة أكثر وضوحاً: إنّ العقل لا شكّ يحكم بوجوب مقدّمة الواجب- أي يدرك لزومها- و لكن هل يحكم أيضاً بأنّها واجبة أيضاً عند من أمر بما يتوقّف عليها؟

أصول الفقه ( مظفر، محمد رضا - طبع انتشارات اسلامى )، ج‏2، ص: 318

و على هذا البيان، فالملازمة بين حكم العقل و حكم الشرع هي موضع البحث في هذه المسألة.

مقدّمة الواجب من أيّ قسم من المباحث الاصوليّة؟

و إذا اتّضح ما تقدّم في تحرير النزاع نستطيع أن نفهم أنّه في أيّ قسم من أقسام المباحث الاصوليّة ينبغي أن تدخل هذه المسألة. و توضيح ذلك:

إنّ هذه الملازمة- على تقدير القول بها- تكون على أنحاء ثلاثة: إمّا ملازمة غير بيّنة، أو بيّنة بالمعنى الأعمّ، أو بيّنة بالمعنى الأخصّ‏ «1».

فإن كانت هذه الملازمة- في نظر القائل بها- غير بيّنة أو بيّنة بالمعنى الأعمّ، فإثبات اللازم- و هو وجوب المقدّمة شرعاً- لا يرجع إلى دلالة اللفظ أبداً بل إثباته إنّما يتوقّف على حجّية هذا الحكم العقلي بالملازمة. و إذا تحقّقت هناك دلالة فهي من نوع دلالة الإشارة «2». و على هذا فيجب أن تدخل المسألة في بحث الملازمات العقليّة غير المستقلّة، و لا يصحّ إدراجها في مباحث الألفاظ.

و إن كانت هذه الملازمة- في نظر القائل بها- ملازمة بيّنة بالمعنى الأخصّ، فإثبات اللازم يكون لا محالة بالدلالة اللفظيّة، و هي الدلالة الالتزاميّة خاصّة. و الدلالة الالتزاميّة من الظواهر الّتي هي حجّة.

و لعلّه لأجل هذا أدخلوا هذه المسألة في مباحث الألفاظ و جعلوها من مباحث الأوامر بالخصوص. و هم على حقّ في ذلك إذا كان القائل‏

______________________________ (1) راجع عن معنى الملازمة و أقسامها الثلاثة الجزء الأوّل من المنطق للمؤلّف ص 104 من طبعتنا الحديثة.

(2) (*) راجع دلالة الإشارة الجزء الأوّل ص 188، فإنّه ذكرنا هناك أنّ دلالة الإشارة ليست من الظواهر، فلا تدخل في حجّية الظهور، و إنّما حجّيتها- على تقديره- من باب الملازمة العقليّة.

أصول الفقه ( مظفر، محمد رضا - طبع انتشارات اسلامى )، ج‏2، ص: 319

بالملازمة لا يقول بها إلّا لكونها ملازمة بيّنة بالمعنى الأخص. و لكنّ الأمر ليس كذلك.

إذن، يمكننا أن نقول: إنّ هذه المسألة ذات جهتين باختلاف الأقوال فيها، يمكن أن تدخل في مباحث الألفاظ على بعض الأقوال، و يمكن أن تدخل في الملازمات العقليّة على البعض الآخر.

و لكن لأجل الجمع بين الجهتين ناسب إدخالها في الملازمات العقليّة- كما صنعنا- لأنّ البحث فيها على كلّ حال في ثبوت الملازمة، غاية الأمر أنّه على أحد الأقوال تدخل صغرى لحجّية الظهور كما تدخل صغرى لحجّية العقل. و على القول الآخر تتمحّض في الدخول صغرى لحجّية العقل. و الجامع بينهما هو جعلها صغرى لحجّية العقل.

ثمرة النزاع:

إنّ ثمرة النزاع المتصوّرة- أوّلًا و بالذات- لهذه المسألة هي استنتاج وجوب المقدّمة شرعاً بالإضافة إلى وجوبها العقلي الثابت. و هذا المقدار كافٍ في ثمرة المسألة الاصوليّة، لأنّ المقصود من علم الاصول هو الاستعانة بمسائله على استنباط الأحكام من أدلّتها.

و لكن هذه ثمرة غير عمليّة، باعتبار أنّ المقدّمة بعد فرض وجوبها العقلي و لابدّية الإتيان بها لا فائدة في القول بوجوبها شرعاً أو بعدم وجوبها، إذ لا مجال للمكلّف أن يتركها بحالٍ ما دام هو بصدد امتثال ذي المقدّمة.

وعليه، فالبحث عن هذه المسألة لا يكون بحثاً عمليّاً مفيداً، بل يبدو لأوّل وهلة أنّه لغو من القول لا طائل تحته؛ مع أنّ هذه المسألة من أشهر مسائل هذا العلم و أدقّها و أكثرها بحثاً.

و من أجل هذا أخذ بعض الاصوليّين المتأخّرين يفتّشون عن فوائد

أصول الفقه ( مظفر، محمد رضا - طبع انتشارات اسلامى )، ج‏2، ص: 320

عمليّة لهذا البحث غير ثمرة أصل الوجوب. و في الحقيقة أنّ كلّ ما ذكروه من ثمرات لا تسمن و لا تغني من جوع. راجع عنها المطوَّلات إن شئت‏ «1».

فيا ترى هل كان البحث عنها كلّه لغواً؟ و هل من الأصحّ أن نترك البحث عنها؟ نقول: لا!

إنّ للمسألة فوائد علميّة كثيرة إن لم تكن لها فوائد عمليّة، و لا يستهان بتلك الفوائد كما سترى. ثمّ هي ترتبط، بكثير من المسائل ذات الشأن العملي في الفقه، كالبحث عن الشرط المتأخّر، و المقدّمات المفوّتة، و عباديّة بعض المقدّمات كالطهارات الثلاث ممّا لا يسع الاصولي أن يتجاهلها و يغفلها. و هذا كلّه ليس بالشي‏ء القليل و إن لم تكن هي من المسائل الاصوليّة.

و لذا تجد أنّ أهمّ مباحث مسألتنا هي هذه الامور المنوَّه عنها و أمثالها. أمّا نفس البحث عن أصل الملازمة فيكاد يكون بحثاً على الهامش، بل آخر ما يشغل بالَ الاصوليّين.

[تمهيدات تسعة]

هذا، و نحن اتّباعاً لطريقتهم نضع التمهيدات قبل البحث عن أصل المسألة في امور تسعة:

- 1 الواجب النفسي و الغيري‏

تقدّم في الجزء الأوّل (ص 124) معنى الواجب النفسي و الغيري، و يجب توضيحهما الآن، فإنّه هنا موضع الحاجة لبحثهما، لأنّ الوجوب الغيري هو نفس وجوب المقدّمة على تقدير القول بوجوبها.

______________________________ (1) راجع الفصول الغرويّة: ص 116، مطارح الأنظار: ص 18.

أصول الفقه ( مظفر، محمد رضا - طبع انتشارات اسلامى )، ج‏2، ص: 321

وعليه، فنقول في تعريفهما:

الواجب النفسي: ما وجب لنفسه، لا لواجب آخر.

الواجب الغيري: ما وجب ... لواجب آخر.

و هذان التعريفان أسدّ التعريفات لهما و أحسنها، و لكن يحتاجان إلى بعض من التوضيح:

فإنّ قولنا «1»: «ما وجب لنفسه» قد يتوهّم منه المتوهّم لأوّل نظرة أنّ العبارة تعطي أنّ معناها أن يكون وجوب الشي‏ء علّة لنفسه في الواجب النفسي، و ذلك بمقتضى المقابلة لتعريف الواجب الغيري، إذ يستفاد منه أنّ وجوب الغير علّة لوجوبه كما عليه المشهور. و لا شكّ في أنّ هذا محال في الواجب النفسي، إذ كيف يكون الشي‏ء علّة لنفسه؟

و يندفع هذا التوهّم بأدنى تأمّل، فإنّ ذلك التعبير عن الواجب النفسي صحيح لا غبار عليه، و هو نظير تعبيرهم عن اللَّه تعالى بأنّه «واجب الوجود لذاته» فإنّ غرضهم منه أنّ وجوده ليس مستفاداً من الغير و لا لأجل الغير كالممكن، لا أنّ معناه أنه معلول لذاته. و كذلك هنا نقول في الواجب النفسي، فإن معنى «ما وجب لنفسه» أنّ وجوبه غير مستفاد من الغير و لا لأجل الغير في قبال الواجب الغيري الّذي وجوبه لأجل الغير، لا أنّ وجوبه مستفاد من نفسه.

و بهذا يتّضح معنى تعريف الواجب الغيري «ما وجب لواجب آخر» فإنّ معناه: أنّ وجوبه لأجل الغير و تابع للغير، لكونه مقدّمة لذلك الغير الواجب. و سيأتي في البحث الآتي توضيح معنى التبعيّة هذه ليتجلّى لنا المقصود من الوجوب الغيري في الباب.

______________________________ (1) في ط الاولى بدل «فإنّ قولنا»: فنقول.

أصول الفقه ( مظفر، محمد رضا - طبع انتشارات اسلامى )، ج‏2، ص: 322

- 2 معنى التبعيّة في الوجوب الغيري‏

قد شاع في تعبيراتهم كثيراً قولهم: «إنّ الواجب الغيري تابع في وجوبه لوجوب غيره». و لكن هذا التعبير مجمل جدّاً، لأنّ التبعيّة في الوجوب يمكن أن تتصوّر لها معاني أربعة، فلا بدّ من بيانها و بيان المعنى المقصود منها هنا، فنقول:

1- أن يكون معنى «الوجوب التبعي» هو الوجوب بالعرض، و معنى ذلك: أنّه ليس في الواقع إلّا وجوب واحد حقيقي- و هو الوجوب النفسي- ينسب إلى ذي المقدّمة أوّلًا و بالذات و إلى المقدّمة ثانياً و بالعرض؛ و ذلك نظير الوجود بالنسبة إلى اللفظ و المعنى حينما يقال: «المعنى موجود باللفظ» فإنّ المقصود بذلك أنّ هناك وجوداً واحداً حقيقيّاً ينسب إلى اللفظ أوّلًا و بالذات و إلى المعنى ثانياً و بالعرض.

و لكن هذا الوجه من التبعيّة لا ينبغي أن يكون هو المقصود من التبعيّة هنا، لأنّ المقصود من «الوجوب الغيري» وجوب حقيقي آخر يثبت للمقدّمة غير وجوب ذيها النفسي، بأن يكون لكلّ من المقدّمة و ذيها وجوب قائم به حقيقةً. و معنى التبعيّة في هذا الوجه أنّ الوجوب الحقيقي واحد و يكون الوجوب الثاني وجوباً مجازيّاً. على أنّ هذا الوجوب بالعرض ليس وجوباً يزيد على اللابدّيّة العقليّة للمقدّمة حتّى يمكن فرض النزاع فيه نزاعاً عمليّاً.

2- أن يكون معنى «التبعيّة» صِرف التأخّر في الوجود، فيكون ترتّب الوجوب الغيري على الوجوب النفسي نظير ترتّب أحد الوجودين المستقلّين على الآخر، بأن يفرض البعث الموجّه للمقدّمة بعثاً مستقلّاً و لكنّه بعد البعث نحو ذيها مرتّب عليه في الوجود، فيكون من قبيل الأمر

أصول الفقه ( مظفر، محمد رضا - طبع انتشارات اسلامى )، ج‏2، ص: 323

بالحجّ المرتَّب وجوداً على حصول الاستطاعة، و من قبيل الأمر بالصلاة بعد حصول البلوغ أو دخول الوقت. و لكن هذا الوجه من التبعيّة أيضاً لا ينبغي أن يكون هو المقصود هنا، فإنّه لو كان ذلك هو المقصود لكان هذا الوجوب للمقدّمة- في الحقيقة- وجوباً نفسيّاً آخر في مقابل وجوب ذي المقدّمة و إنّما يكون وجوب ذي المقدّمة له السبق في الوجود فقط. و هذا ينافي حقيقة المقدّميّة، فإنّها لا تكون إلّا موصلة إلى ذي المقدّمة في وجودها و في وجوبها معاً.

3- أن يكون معنى «التبعيّة» ترشّح الوجوب الغيري من الوجوب النفسي لذي المقدّمة على وجهٍ يكون معلولًا له و منبعثاً منه انبعاثَ الأثر من مؤثّره التكويني، كانبعاث الحرارة من النار.

و كأنّ هذا الوجه من التبعيّة هو المقصود للقوم، و لذا قالوا بأنّ وجوب المقدّمة تابع لوجوب ذيها إطلاقاً و اشتراطاً لمكان هذه المعلوليّة، لأنّ المعلول لا يتحقّق إلّا حيث تتحقّق علّته و إذا تحقّقت العلّة لا بدّ من تحقّقه بصورة «1» لا يتخلّف عنها. و أيضاً علّلوا امتناع وجوب المقدّمة قبل وجوب ذيها بامتناع وجود المعلول قبل وجود علّته.

و لكن هذا الوجه لا ينبغي أن يكون هو المقصود من تبعيّة الوجوب الغيري و إن اشتهر على الألسنة، لأنّ الوجوب النفسي لو كان علّة للوجوب الغيري فلا يصحّ فرضه إلّا علّة فاعليّة تكوينيّة دون غيرها من العلل، فإنّه لا معنى لفرضه علّة صوريّة أو ماديّة أو غائيّة. و لكن فرضه علّة فاعليّة أيضاً باطل جزماً، لوضوح أنّ العلّة الفاعليّة الحقيقيّة للوجوب هو الآمر، لأنّ الأمر فعل الآمر.

و الظاهر أنّ السبب في اشتهار معلوليّة الوجوب الغيري هو أنّ شوق‏

______________________________ (1) لم ترد «بصورة» في ط الاولى.

أصول الفقه ( مظفر، محمد رضا - طبع انتشارات اسلامى )، ج‏2، ص: 324

الآمر للمقدّمة هو الّذي يكون منبعثاً من الشوق إلى ذي المقدّمة، لأنّ الإنسان إذا اشتاق إلى فعل شي‏ءٍ اشتاق بالتبع إلى فعل كلّ ما يتوقّف عليه.

و لكن الشوق إلى فعل الشي‏ء من الغير ليس هو الوجوب و إنّما الشوق إلى فعل الغير يدفع الآمر إلى الأمر به إذا لم يحصل ما يمنع من الأمر به، فإذا صدر منه الأمر و هو أهل له انتزع منه الوجوب.

و الحاصل: ليس الوجوب الغيري معلولًا للوجوب النفسي في ذي المقدّمة و لا ينتهي إليه في سلسلة العلل، و إنّما ينتهي الوجوب الغيري في سلسلة علله إلى الشوق إلى ذي المقدمة إذا لم يكن هناك مانع لدى الآمر من الأمر بالمقدّمة، لأنّ الشوق- على كلّ حال- ليس علّة تامّة إلى فعل ما يشتاق إليه. فتذكّر هذا، فإنّه سينفعك في وجوب المقدّمة المفوّتة، و في أصل وجوب المقدّمة، فإنّه بهذا البيان سيتّضح كيف يمكن فرض وجوب المقدّمة المفوّتة قبل وجوب ذيها. و بهذا البيان سيتّضح أيضاً كيف أنّ المقدّمة مطلقاً ليست واجبة بالوجوب المولوي.

4- أن يكون معنى «التبعيّة» هو ترشّح الوجوب الغيري من الوجوب النفسي، و لكن لا بمعنى أنّه معلول له، بل بمعنى أنّ الباعث للوجوب الغيري- على تقدير القول به- هو الواجب النفسي باعتبار أنّ الأمر بالمقدّمة و البعث نحوها إنّما هو لغاية التوصّل إلى ذيها الواجب و تحصيله، فيكون وجوبها وصلة و طريقاً إلى تحصيل ذيها، و لو لا أنّ ذيها كان مراداً للمولى لما أوجب المقدّمة. و يشير إلى هذا المعنى من التبعية تعريفهم للواجب الغيري بأنّه «ما وجب لواجب آخر» أي لغاية واجب آخر و لغرض تحصيله و التوصّل إليه، فيكون الغرض من وجوب المقدّمة على تقدير القول به هو تحصيل ذيها الواجب.

و هذا المعنى هو الّذي ينبغي أن يكون معنى التبعيّة المقصودة في‏

أصول الفقه ( مظفر، محمد رضا - طبع انتشارات اسلامى )، ج‏2، ص: 325

الوجوب الغيري. و يلزمها أن يكون الوجوب الغيري تابعاً لوجوبها إطلاقاً و اشتراطاً.

وعليه، فالوجوب الغيري وجوب حقيقي، و لكنّه وجوب تبعي توصّلي آلي. و شأن وجوب المقدّمة شأن نفس المقدّمة، فكما أنّ المقدّمة بما هي مقدّمة لا يقصد فاعلها إلّا التوصّل إلى ذيها كذلك وجوبها إنّما هو للتوصّل إلى تحصيل ذيها، كالآلة الموصلة الّتي لا تقصد بالأصالة و الاستقلال.

و سرّ هذا واضح، فإنّ المولى- بناءً على القول بوجوب المقدّمة- إذا أمر بذي المقدّمة، فإنّه لا بدّ له لغرض تحصيله من المكلّف أن يدفعه و يبعثه نحو مقدّماته فيأمره بها توصّلًا إلى غرضه.

فيكون البعث نحو المقدّمة- على هذا- بعثاً حقيقيّاً، لا أنّه يتبع البعث إلى ذيها على وجهٍ ينسب إليها بالعرض (كما في الوجه الأوّل) و لا أنّه يبعثه ببعث مستقلّ لنفس المقدّمة و لغرض فيها بعد البعث نحو ذيها (كما في الوجه الثاني) و لا أنّ البعث نحو المقدّمة من آثار البعث نحو ذيها على وجه يكون معلولًا له (كما في الوجه الثالث).

و سيأتي تتمّة للبحث في المقدّمات المفوّتة.

- 3- خصائص الوجوب الغيري‏

بعد ما اتّضح معنى التبعيّة في الوجوب الغيري تتّضح لنا خصائصه الّتي بها يمتاز عن الوجوب النفسي، و هي امور:

1- إِنّ الواجب الغيري كما لا بعث استقلالي له- كما تقدّم- لا إطاعة استقلاليّة له، و إنّما إطاعته كوجوبه لغرض التوصّل إلى ذي المقدّمة.

بخلاف الواجب النفسي، فإنّه واجب لنفسه و يطاع لنفسه.

أصول الفقه ( مظفر، محمد رضا - طبع انتشارات اسلامى )، ج‏2، ص: 326

2- إنّه بعد أن قلنا: إنّه لا إطاعة استقلاليّة للوجوب الغيري و إنّما إطاعته كوجوبه لصِرف التوصّل إلى ذي المقدّمة فلا بدّ ألّا يكون له ثواب على إطاعته‏ «1» غير الثواب الّذي يحصل على إطاعة وجوب ذي المقدّمة، كما لا عقاب على عصيانه غير العقاب على عصيان وجوب ذي المقدّمة؛ و لذا نجد أنّ من ترك الواجب بترك مقدّماته لا يستحقّ أكثر من عقاب واحد على نفس الواجب النفسي، لا أنّه يستحقّ عقابات متعدّدة بعدد مقدّماته المتروكة.

و أمّا ما ورد في الشريعة من الثواب على بعض المقدّمات، مثل ما ورد من الثواب على المشي على القدم إلى الحجّ‏ «2» أو زيارة الحسين عليه السلام و أنّه في كلّ خطوة كذا من الثواب‏ «3» فينبغي- على هذا- أن يُحمل على توزيع ثواب نفس العمل على مقدّماته باعتبار أنّ أفضل الأعمال أحمزها و كلّما كثرت مقدّمات العمل و زادت صعوبتها كثرت حمازة العمل و مشقّته، فينسب الثواب إلى المقدّمة مجازاً ثانياً و بالعرض، باعتبار أنّها السبب في زيادة مقدار الحمازة و المشقّة في نفس العمل، فتكون السبب في زيادة الثواب، لا أنّ الثواب على نفس المقدّمة.

و من أجل أنّه لا ثواب على المقدّمة استشكلوا في استحقاق الثواب على فعل بعض المقدّمات كالطهارات الثلاث الظاهر منه أنّ الثواب‏

______________________________ (1) (*) يرى السيّد الجليل المحقّق الخوئي: أنّ المقدّمة أمر قابل لأن يأتي به الفاعل مضافاً به إلى المولى، فيترتّب على فعلها الثواب إذا أتى بها كذلك. و لا ملازمة عنده بين ترتّب الثواب على عمل و عدم استحقاق العقاب على تركه. و لا يفرق في ذلك بين القول بوجوب المقدّمة و عدمه (1). و هو رأي وجيه باعتبار أنّ فعل المقدّمة يُعدّ شروعا في امتثال ذيها.

(2) الوسائل: ج 8 ص 529، الباب 117 من أبواب أحكام العشرة، ح 12.

(3) بحار الأنوار: ج 101 ص 90، ح 28 و 172، ح 23.

- (1) راجع المحاضرات: ج 2 ص 404.

أصول الفقه ( مظفر، محمد رضا - طبع انتشارات اسلامى )، ج‏2، ص: 327

على نفس المقدّمة بما هي. و سيأتي حلّه إن شاء اللَّه تعالى.

3- إنّ الوجوب الغيري لا يكون إلا توصّليّاً، أي لا يكون في حقيقته عباديّاً و لا يقتضي في نفسه عباديّة المقدّمة، إذ لا يتحقّق فيه قصد الامتثال على نحو الاستقلال كما قلنا في الخاصّة الاولى أنّه لا إطاعة استقلاليّة له، بل إنّما يؤتى بالمقدّمة بقصد التوصّل إلى ذيها و إطاعة أمر ذيها، فالمقصود بالامتثال به نفس أمر ذيها.

و من هنا استشكلوا في عباديّة بعض المقدّمات كالطهارات الثلاث.

و سيأتي حلّه إن شاء اللَّه تعالى.

4- إنّ الوجوب الغيري تابع لوجوب ذي المقدّمة إطلاقاً و اشتراطاً و فعليّة و قوّة، قضاء لحقّ التبعيّة، كما تقدم. و معنى ذلك: أنّه كلّ ما هو شرط في وجوب ذي المقدّمة فهو شرط في وجوب المقدّمة، و ما ليس بشرط لا يكون شرطاً لوجوبها، كما أنّه كلّما تحقّق وجوب ذي المقدّمة تحقّق معه وجوب المقدّمة. و على هذا قيل: يستحيل تحقّق وجوب فعليّ للمقدمة قبل تحقّق وجوب ذيها، لاستحالة حصول التابع قبل حصول متبوعه، أو لاستحالة حصول المعلول قبل حصول علّته، بناءً على أنّ وجوب المقدّمة معلول لوجوب ذيها.

و من هنا استشكلوا في وجوب المقدّمة قبل زمان ذيها في المقدّمات المفوّتة كوجوب الغسل- مثلًا- قبل الفجر لإدراك الصوم على طهارة حين طلوع الفجر، فعدم تحصيل الغسل قبل الفجر يكون مفوّتاً للواجب في وقته، و لهذا سُمّيت مقدّمة مفوّتة باعتبار أنّ تركها قبل الوقت يكون مفوّتاً للواجب في وقته، فقالوا بوجوبها قبل الوقت مع أنّ الصوم لا يجب قبل وقته، فكيف تُفرض فعليّة وجوب مقدّمته؟

و سيأتي- إن شاء اللَّه تعالى- حلّ هذا الإشكال في بحث المقدّمات المفوّتة.

أصول الفقه ( مظفر، محمد رضا - طبع انتشارات اسلامى )، ج‏2، ص: 328

- 4 مقدّمة الوجوب‏

قسّموا المقدّمة إلى قسمين مشهورين:

1- مقدّمة الوجوب‏، و تُسمّى «المقدّمة الوجوبيّة» و هي ما يتوقّف عليها نفس الوجوب، بأن تكون شرطاً للوجوب على قولٍ مشهور. و قيل:

إنّها تؤخذ في الواجب على وجهٍ تكون مفروضة التحقّق و الوجود على قول آخر «1» و مع ذلك تُسمّى «مقدّمة الوجوب». و مثالها الاستطاعة بالنسبة إلى الحجّ، و كالبلوغ و العقل و القدرة بالنسبة إلى جميع الواجبات.

و يُسمّى الواجب بالنسبة إليها «الواجب المشروط».

2- مقدّمة الواجب‏، و تُسمّى «المقدّمة الوجوديّة» و هي ما يتوقّف عليها وجود الواجب بعد فرض عدم تقييد الوجوب بها، بل يكون الوجود «2» بالنسبة إليها مطلقاً و لا تؤخذ بالنسبة إليه مفروضة الوجود، بل لا بدّ من تحصيلها مقدّمة لتحصيله كالوضوء بالنسبة إلى الصلاة، و السفر بالنسبة إلى الحجّ و نحو ذلك. و يُسمّى الواجب بالنسبة إليها «الواجب المطلق».

راجع عن الواجب المشروط و المطلق الجزء الأوّل (ص 134).

و المقصود من ذكر هذا التقسيم بيان أنّ محلّ النزاع في مقدّمة الواجب هو خصوص القسم الثاني أعني المقدّمة الوجوديّة، دون المقدمة الوجوبيّة. و السرّ واضح، لأنّه إذا كانت المقدّمة الوجوديّة «3» مأخوذة على أنّها مفروضة الحصول فلا معنى لوجوب تحصيلها، فإنّه خلف، فلا يجب تحصيل الاستطاعة لأجل الحجّ، بل إن اتّفق حصول الاستطاعة وجب‏

______________________________ (1) راجع نهاية الأفكار (تقرير أبحاث المحقّق العراقي): ص 292- 293.

(2) كذا في النسخ، و الظاهر: الوجوب.

(3) كذا، و الظاهر: الوجوبيّة.

أصول الفقه ( مظفر، محمد رضا - طبع انتشارات اسلامى )، ج‏2، ص: 329

الحجّ عندها. و ذلك نظير الفوت في قوله عليه السلام: «اقض ما فات كما فات» «1» فإنّه لا يجب تحصيله لأجل امتثال الأمر بالقضاء، بل إن اتّفق الفوت وجب القضاء. أصول الفقه ( مظفر، محمد رضا - طبع انتشارات اسلامى ) ؛ ج‏2 ؛ ص329 - 5 المقدّمة الداخليّة

تنقسم المقدّمة الوجوديّة إلى قسمين: داخليّة، و خارجيّة.

1- المقدّمة الداخليّة، هي جزء الواجب المركّب، كالصلاة. و إنّما اعتبروا الجزء مقدّمةً فباعتبار أنّ المركّب متوقّف في وجوده على أجزائه، فكلّ جزءٍ في نفسه هو مقدّمة لوجود المركّب، كتقدّم الواحد على الاثنين. و انما سُمّيت «داخليّة» فلأجل أنّ الجزء داخل في قوام المركّب، و ليس للمركّب وجود مستقلّ غير نفس وجود الأجزاء.

2- المقدّمة الخارجيّة، و هي كلّ ما يتوقّف عليه الواجب و له وجود مستقلّ خارج عن وجود الواجب. و الغرض من ذكر هذا التقسيم هو بيان أنّ النزاع في مقدّمة الواجب هل يشمل المقدّمة الداخليّة أو أنّ ذلك يختصّ بالخارجيّة؟

و لقد أنكر جماعة شمول النزاع للداخليّة «2». و سندهم في هذا الإنكار أحد أمرين: الأوّل: إنكار المقدّميّة للجزء رأساً، باعتبار أنّ المركّب نفس الأجزاء بالأسر، فكيف يُفرض توقّف الشي‏ء على نفسه؟

______________________________ (1) التهذيب: ج 2 ص 274، ح 1087 و فيه: فاقض ذلك كما فاتك.

(2) نقله شارح المعالم عن محكيّ بعض الأفاضل، راجع هداية المسترشدين: ص 217. و قد أنكره أيضاً جمع من الأعلام، منهم المحقّق الخراساني في كفاية الاصول: ص 115، و المحقّق النائيني على ما في فوائد الاصول: ج 1 ص 268، و المحقّق العراقي على ما في نهاية الأفكار: ج 1 ص 262.

أصول الفقه ( مظفر، محمد رضا - طبع انتشارات اسلامى )، ج‏2، ص: 330

الثاني: بعد تسليم أنّ الجزء مقدّمة، و لكن يستحيل اتّصافه بالوجوب الغيري ما دام أنّه واجب بالوجوب النفسي، لأنّ المفروض أنّه جزء الواجب بالوجوب النفسي، و ليس المركّب إلّا أجزاءه بالأسر، فينبسط الواجب على الأجزاء. و حينئذٍ لو وجب الجزء بالوجوب الغيري أيضاً لاتّصف الجزء بالوجوبين.

و قد اختلفوا في بيان وجه استحالة اجتماع الوجوبين، و لا يهمّنا بيان الوجه فيه بعد الاتّفاق على الاستحالة.

و لمّا كان هذا البحث لا تتوقّع منه فائدة عمليّة حتّى مع فرض الفائدة العمليّة في مسألة وجوب المقدّمة، مع أنّه بحث دقيق يطول الكلام حوله، فنحن نطوي عنه صفحاً محيلين الطالب إلى المطوّلات إن شاء. - 6 الشرط الشرعي‏

إنّ المقدّمة الخارجيّة تنقسم إلى قسمين: عقليّة و شرعيّة.

1- المقدّمة العقليّة، هي كلّ أمر يتوقّف عليه وجود الواجب توقّفاً واقعيّاً يدركه العقل بنفسه من دون استعانة بالشرع، كتوقّف الحجّ على قطع المسافة.

2- المقدّمة الشرعيّة، هي كلّ أمر يتوقّف عليه الواجب توقّفاً لا يدركه العقل بنفسه، بل يثبت ذلك من طريق الشرع، كتوقّف الصلاة على الطهارة و استقبال القبلة و نحوهما. و يُسمّى هذا الأمر أيضاً «الشرط الشرعي» باعتبار أخذه شرطاً و قيداً في المأمور به عند الشارع، مثل قوله عليه السلام: «لا صلاة إلّا بطهور» «1» المستفاد منه شرطيّة الطهارة للصلاة.

______________________________ (1) من لا يحضره الفقيه: ج 1 ص 33، ح 67.

أصول الفقه ( مظفر، محمد رضا - طبع انتشارات اسلامى )، ج‏2، ص: 331

و الغرض من ذكر هذا التقسيم بيان أنّ النزاع في مقدّمة الواجب هل يشمل الشرط الشرعي؟

و لقد ذهب بعض أعاظم مشايخنا- على ما يظهر من بعض تقريرات درسه‏ «1»- إلى أنّ الشرط الشرعي كالجزء لا يكون واجباً بالوجوب الغيري، و سمّاه «مقدّمة داخليّة بالمعنى الأعمّ» باعتبار أنّ التقييد لمّا كان داخلًا في المأمور به و جزءاً له‏ «2» فهو واجب بالوجوب النفسي. و لمّا كان انتزاع التقييد إنّما يكون من القيد- أي منشأ انتزاعه هو القيد- و الأمر بالعنوان المنتزع أمر بمنشإ انتزاعه، إذ لا وجود للعنوان المنتزع إلّا بوجود منشأ انتزاعه، فيكون الأمر النفسي المتعلّق بالتقييد متعلّقاً بالقيد؛ و إذا كان القيد واجباً نفسيّاً فكيف يكون مرّةً اخرى واجباً بالوجوب الغيري؟

و لكن هذا كلام لا يستقيم عند شيخنا المحقّق الأصفهاني رحمه الله و قد ناقشه في مجلس بحثه بمناقشات مفيدة «3» و هو على حقّ في مناقشاته.

أمّا أوّلًا: فلأنّ هذا القيد- المفروض دخوله في المأمور به- لا يخلو إمّا أن يكون دخيلًا في أصل الغرض من المأمور به، و إمّا أن يكون دخيلًا في فعليّة الغرض منه. و لا ثالث لهما.

فإن كان من قبيل الأوّل، فيجب أن يكون مأموراً به بالأمر النفسي،

______________________________ (1) راجع فوائد الاصول: ج 1 ص 225 و 263.

(2) (*) إنّ الفرق بين الجزء و الشرط: هو أنّه في الجزء يكون التقييد (أ) و القيد معاً داخلين في المأمور به.

و أمّا في الشرط فالتقييد فقط يكون داخلًا و القيد يكون خارجاً، يعني أنّ التقييد يكون جزءاً تحليليّاً للمأمور به، إذ يكون المأمور به- في المثال- هو الصلاة بما هي مقيّدة بالطهارة، أي أنّ المأمور به هو المركّب من ذات الصلاة و التقييد بوصف الطهارة، فذات الصلاة جزء تحليلي و التقييد جزء تحليلي آخر.

(3) الظاهر عدم ورود تلك المناقشات مفصّلًا في نهاية الدراية، انظر ج 2 ص 33.

- (أ) كذا، و الظاهر: التقيّد. و هكذا فيما يأتي.

أصول الفقه ( مظفر، محمد رضا - طبع انتشارات اسلامى )، ج‏2، ص: 332

و لكن بمعنى أنّ متعلّق الأمر لا بدّ أن يكون الخاصّ بما هو خاصّ، و هو المركّب من المقيَّد و القيد، فيكون القيد و التقييد معاً داخلين. و السرّ في ذلك واضح، لأنّ الغرض يدعو بالأصالة إلى إرادة ما هو وافٍ بالغرض و ما يفي بالغرض- حسب الفرض- هو الخاصّ بما هو خاصّ، أي المركّب من المقيَّد و القيد، لا أنّ الخصوصيّة تكون خصوصيّة في المأمور به المفروغ عن كونه مأموراً به، لأنّ المفروض أنّ ذات المأمور به ذي الخصوصيّة ليس وحده دخيلًا في الغرض. و على هذا فيكون هذا القيد جزءاً من المأمور به كسائر أجزائه الاخرى، و لا فرق بين جزءٍ و جزءٍ في كونه من جملة المقدّمات الداخليّة، فتسمية مثل هذا الجزء ب «المقدّمة الداخليّة بالمعنى الأعمّ» بلا وجه، بل هو مقدّمة داخليّة بقول مطلق، كما لاوجه لتسميته بالشرط.

و إن كان من قبيل الثاني، فهذا هو شأن الشرط سواء كان شرطاً شرعيّاً أو عقليّاً و مثل هذا لا يُعقل أن يدخل في حيّز الأمر النفسي، لأنّ الغرض- كما قلنا- لا يدعو بالأصالة إلّا إلى إرادة ذات ما يفي بالغرض و يقوم به في الخارج، و أمّا ما له دخل في تأثير السبب- أي في فعليّة الغرض- فلا يدعو إليه الغرض في عرض ذات السبب، بل الّذي يدعو إلى إيجاد شرط التأثير لا بدّ أن يكون غرضاً تبعيّاً يتبع الغرض الأصلي و ينتهي إليه.

و لا فرق بين الشرط الشرعي و غيره في ذلك، و إنّما الفرق أنّ الشرط الشرعي لمّا كان لا يُعلم دخله في فعليّة الغرض إلّا من قبل المولى كالطهارة و الاستقبال و نحوهما بالنسبة إلى الصلاة، و لا بدّ أن ينبّه المولى على اعتباره و لو بأن يأمر به، إمّا بالأمر المتعلّق بالمأمور به- أي يأخذه قيداً فيه- كأن يقول مثلًا: «صلّ عن طهارة» أو بأمرٍ مستقلّ كأن يقول‏

أصول الفقه ( مظفر، محمد رضا - طبع انتشارات اسلامى )، ج‏2، ص: 333

مثلًا: «تطهّر للصلاة» و على جميع الأحوال لا تكون الإرادة المتعلّقة به في عرض إرادة ذات السبب حتّى يكون مأموراً به بالأمر النفسي، بل الإرادة فيه تبعيّة؛ و كذا الأمر به.

فإن قلتم: على هذا يلزم سقوط الأمر المتعلّق بذات السبب الواجب إذا جاء به المكلّف من دون الشرط. قلت: من لوازم الاشتراط عدم سقوط الأمر بالسبب بفعله من دون شرطه، و إلّا كان الاشتراط لغواً و عبثاً. و أمّا ثانيا: فلو سلّمنا دخول التقييد في الواجب على وجهٍ يكون جزءاً منه، فإنّ هذا لا يوجب أن يكون نفس القيد و الشرط- الّذي هو حسب الفرض منشأ لانتزاع التقييد- مقدّمةً داخلية، بل هو مقدّمة خارجيّة، فإنّ وجود الطهارة- مثلًا- يوجب حصول تقييد الصلاة بها، فتكون مقدّمة خارجيّة للتقييد الّذي هو جزء حسب الفرض. و هذا يشبه المقدّمات الخارجيّة لنفس أجزاء المأمور به الخارجيّة، فكما أنّ مقدّمة الجزء ليست بجزء فكذلك مقدّمة التقييد ليست جزءاً.

و الحاصل: أنّه لمّا فرضتم في الشرط أنّ التقييد داخل و هو جزء تحليلي فقد فرضتم معه أنّ القيد خارج، فكيف تفرضونه مرّةً اخرى أنّه داخل في المأمور به المتعلّق بالمقيّد؟

- 7- الشرط المتأخّر

لا شكّ في أنّ من الشروط الشرعيّة: ما هو متقدّم في وجوده زماناً على المشروط، كالوضوء و الغسل بالنسبة إلى الصلاة و نحوها، بناءً على أن الشرط نفس الأفعال لا أثرها الباقي إلى حين الصلاة.

و منها: ما هو مقارن للمشروط في وجوده زماناً، كالاستقبال و طهارة اللباس للصلاة.

أصول الفقه ( مظفر، محمد رضا - طبع انتشارات اسلامى )، ج‏2، ص: 334

و إنّما وقع الشكّ في «الشرط المتأخّر» أي أنّه هل يمكن أن يكون الشرط الشرعي متأخّراً في وجوده زماناً عن المشروط أو لا يمكن؟

و من قال بعدم إمكانه قاس الشرط الشرعي على الشرط العقلي، فإنّ المقدّمة العقليّة يستحيل فيها أن تكون متأخّرة عن ذي المقدّمة، لأنّه لا يوجد الشي‏ء إلّا بعد فرض وجود علّته التامّة المشتملة على كلّ ما له دخل في وجوده، لاستحالة وجود المعلول بدون علّته التامّة، و إذا وُجد الشي‏ء فقد انتهى، فأيّة حاجة له تبقى إلى ما سيوجد بعدُ.

و منشأ هذا الشكّ و البحث: ورود بعض الشروط الشرعيّة الّتي ظاهرها تأخّرها في الوجود عن المشروط، و ذلك مثل الغسل الليلي للمستحاضة الكبرى الّذي هو شرط- عند بعضهم‏ «1»- لصوم النهار السابق على الليل. و من هذا الباب إجازة بيع الفضولي بناءً على أنّها كاشفة عن صحّة البيع، لا ناقلة.

و لأجل ما ذكرنا من استحالة الشرط المتأخّر في العقليّات اختلف العلماء في الشرط الشرعي اختلافاً كثيراً جدّاً. فبعضهم ذهب إلى إمكان الشرط المتأخّر في الشرعيّات‏ «2» و بعضهم ذهب إلى استحالته‏ «3» قياساً

______________________________ (1) قال صاحب المدارك فيما علّقه على قول المحقّق: «و إن أخلّت بالأغسال لم يصحّ صومها»: و اعلم أنّ إطلاق العبارة يقتضي أنّ إخلال المستحاضة بشي‏ءٍ من الأغسال مقتضٍ لفساد الصوم، و هو مشكل، و قيّدها الشارحون بالأغسال النهاريّة و قطعوا بعدم توقّف صوم اليوم على غسل الليلة المستقبلة و تردّدوا في غسل الليلة الماضية، مدارك الأحكام: ج 2 ص 39.

(2) انظر كفاية الاصول: ص 118- 120، فوائد الاصول ج 1 ص 272، نهاية الأفكار: ج 1 ص 279.

(3) الأصل في الاعتراض و الإنكار على الشرط المتأخّر هو جمال المحقّقين الخونساري في حاشية الروضة على ما يظهر من كلام الشيخ الأنصاري في المكاسب في مسألة كاشفيّة الإجازة، راجع المكاسب: ج 3 ص 408.

أصول الفقه ( مظفر، محمد رضا - طبع انتشارات اسلامى )، ج‏2، ص: 335

على الشرط العقلي كما ذكرنا آنفاً. و الذاهبون إلى الاستحالة أوّلوا ما ورد في الشريعة بتأويلات كثيرة يطول شرحها.

و أحسن ما قيل في توجيه إمكان الشرط المتأخّر في الشرعيّات ما عن بعض مشايخنا الأعاظم قدس سره في بعض تقريرات درسه‏ «1». و خلاصته:

إنّ الكلام تارةً يكون في شرط المأمور به، و اخرى في شرط الحكم سواء كان تكليفيّاً أم وضعيّاً.

أمّا في «شرط المأمور به» فإنّ مجرّد كونه شرطاً شرعيّاً للمأمور به لا مانع منه، لأنّه ليس معناه إلّا أخذه قيداً في المأمور به على أن تكون الحصّة الخاصّة من المأمور به هي المطلوبة. و كما يجوز ذلك في الأمر السابق و المقارن فإنّه يجوز في اللاحق بلا فرق. نعم، إذا رجع الشرط الشرعي إلى شرط واقعي- كرجوع شرط الغسل الليلي للمستحاضة إلى أنّه رافع للحدث في النهار- فإنّه يكون حينئذٍ واضح الاستحالة كالشرط الواقعي بلا فرق.

و سرّ ذلك: أنّ المطلوب لمّا كان هو الحصّة الخاصّة من طبيعي المأمور به فوجود القيد المتأخّر لا شأن له إلّا الكشف عن وجود تلك الحصّة في ظرف كونها مطلوبة، و لا محذور في ذلك. إنّما المحذور في تأثير المتأخّر في المتقدّم.

و أمّا في «شرط الحكم» سواء كان الحكم تكليفيّاً أم وضعيّاً، فإنّ الشرط فيه معناه: أخذه مفروض الوجود و الحصول في مقام جعل الحكم و إنشائه، و كونه مفروض الوجود لا يفرق فيه بين أن يكون متقدّماً أو مقارناً أو متأخّراً، كأن يجعل الحكم في الشرط المتأخّر على الموضوع المقيد بقيد أخذ مفروض الوجود بعد وجود الموضوع.

______________________________ (1) لم نتحقّق المراد من بعض مشايخه باتّاً، راجع فوائد الاصول: ج 1 ص 272- 280.

أصول الفقه ( مظفر، محمد رضا - طبع انتشارات اسلامى )، ج‏2، ص: 336

و يتقرّب ذلك إلى الذهن بقياسه على الواجب المركّب التدريجي الحصول، فإنّ التكليف في فعليّته في الجزء الأوّل و ما بعده يبقى مراعى إلى أن يحصل الجزء الأخير من المركّب، و قد بقيت إلى حين حصول كمال الأجزاء شرائطُ التكليف: من الحياة و القدرة و نحوهما.

و هكذا يفرض الحال فيما نحن فيه، فإنّ الحكم في الشرط المتأخّر يبقى في فعليّته مراعى إلى أن يحصل الشرط الّذي اخذ مفروض الحصول. فكما أنّ الجزء الأوّل من المركّب التدريجي الواجب في فرض حصول جميع الأجزاء يكون واجباً و فعليَّة الوجوب من أوّل الأمر لا أنّ فعليّته تكون بعد حصول جميع الأجزاء- و كذا باقي الأجزاء لا تكون فعليّتها بعد حصول الجزء الأخير بل حين حصولها و لكن في فرض حصول الجميع- فكذلك ما نحن فيه يكون الواجب المشروط بالشرط المتأخّر فعليَّ الوجوب من أوّل الأمر في فرض حصول الشرط في ظرفه، لا أنّ فعليّته تكون متأخّرة إلى حين الشرط.

هذا خلاصة رأي شيخنا المعظّم. و لا يخلو عن مناقشة، و البحث عن الموضوع بأوسع ممّا ذكرنا لا يسعه هذا المختصر.

- 8- المقدّمات المفوِّتة

ورد في الشريعة المطهّرة وجوب بعض المقدّمات قبل زمان ذيها في الموقّتات، كوجوب قطع المسافة للحجّ قبل حلول أيّامه، و وجوب الغسل من الجنابة للصوم قبل الفجر، و وجوب الوضوء أو الغسل- على قولٍ- قبل وقت الصلاة عند العلم بعدم التمكّن منه بعد دخول وقتها ... و هكذا.

و تُسمّى هذه المقدّمات باصطلاحهم «المقدّمات المفوّتة» باعتبار أنّ تركها موجب لتفويت الواجب في وقته، كما تقدّم.

أصول الفقه ( مظفر، محمد رضا - طبع انتشارات اسلامى )، ج‏2، ص: 337

و نحن نقول: لو لم يحكم الشارع المقدّس بوجوب مثل هذه المقدّمات، فإنّ العقل يحكم بلزوم الإتيان بها، لأنّ تركها موجب لتفويت الواجب في ظرفه، ويحكم أيضاً بأنّ التارك لها يستحقّ العقاب على الواجب في ظرفه بسبب تركها.

و لأوّل وهلةٍ يبدو أن هذين الحكمين العقليّين الواضحين لا ينطبقان على القواعد العقليّة البديهيّة في الباب من جهتين:

أمّا أوّلًا: فلأنّ وجوب المقدّمة تابع لوجوب ذيها، على أيّ نحوٍ فُرض من أنحاء التبعيّة، لا سيما إذا كان من نحو تبعيّة المعلول لعلّته على ما هو المشهور. فكيف يُفرض الواجب‏ «1» التابع في زمانٍ سابقٍ على زمان فرض الوجوب المتبوع؟ و أمّا ثانياً: فلأنّه كيف يستحقّ العقاب على ترك الواجب بترك مقدّمته قبل حضور وقته، مع أنّه حسب الفرض لا وجوب له فعلًا. و أمّا في ظرفه فينبغي أن يسقط وجوبه، لعدم القدرة عليه بترك مقدّمته و القدرة شرطٌ عقلي في الوجوب.

و لأجل التوفيق بين هاتيك البديهيّات العقليّة الّتي يبدو كأنّها متعارضة- و إن كان يستحيل التعارض في الأحكام العقليّة و بديهيّات العقل- حاول جماعة من أعلام الاصوليّين المتأخّرين تصحيح ذلك بفرض انفكاك زمان الوجوب عن زمان الواجب و تقدّمه عليه، إمّا في خصوص الموقّتات أو في مطلق الواجبات، على اختلاف المسالك. و بذلك يحصل لهم التوفيق بين تلكم الأحكام العقليّة، لأنّه حينما يُفرض تقدّم وجوب ذي المقدّمة على زمانه فلا مانع من فرض وجوب المقدّمة قبل وقت الواجب، و كان استحقاق العقاب على ترك الواجب على القاعدة، لأنّ وجوبه كان فعليّاً حين ترك المقدّمة.

______________________________ (1) في ط الاولى: الوجوب.

أصول الفقه ( مظفر، محمد رضا - طبع انتشارات اسلامى )، ج‏2، ص: 338

أمّا كيف يُفرض تقدّم زمان الوجوب على زمان الواجب و بأيّ مناط؟

فهذا ما اختلف فيه الانظار و المحاولات.

فأوّل المحاولين لحلّ هذه الشبهة- فيما يبدو- صاحب الفصول الّذي قال بجواز تقدّم زمان الوجوب على طريقة «الواجب المعلَّق» «1» الّذي اخترعه، كما أشرنا إليه في الجزء الأوّل (ص 136) و ذلك في خصوص الموقّتات، بفرض أنّ الوقت في الموقّتات وقت للواجب فقط، لا للوجوب، أي أنّ الوقت ليس شرطاً و قيداً للوجوب، بل هو قيد للواجب. فالوجوب- على هذا الفرض- متقدّم على الوقت و لكنّ الواجب معلّق على حضور وقته. و الفرق بين هذا النوع و بين الواجب المشروط هو أنّ التوقّف في المشروط للوجوب و في المعلّق للفعل.

وعليه لا مانع من فرض وجوب المقدّمة قبل زمان ذيها.

و لكن نقول: على تقدير إمكان فرض تقدّم زمان الوجوب على زمان الواجب، فإنّ فرض رجوع القيد إلى الواجب لا إلى الوجوب يحتاج إلى دليل. و نفس ثبوت وجوب المقدّمة المفوّتة قبل زمان وجوب ذيها لا يكون وحده دليلًا على ثبوت الواجب المعلق، لأنّ الطريق في تصحيح وجوب المقدّمة المفوّتة لا ينحصر فيه، كما سيأتي بيان الطريق الصحيح.

و المحاولة الثانية: ما نسب إلى الشيخ الأنصاري من رجوع القيد في جميع شرائط الوجوب إلى المادّة «2»- و إن اشتهر القول برجوعها إلى الهيئة- سواء كان الشرط هو الوقت أو غيره كالاستطاعة للحجّ و القدرة و البلوغ و العقل و نحوها من الشرائط العامّة لجميع التكاليف. و معنى ذلك: أنّ الوجوب الّذي هو مدلول الهيئة في جميع الواجبات مطلق دائماً غير مقيّد بشرطٍ أبداً، و كلّ ما يتوهّم من رجوع القيد إلى الوجوب فهو راجع في‏

______________________________ (1) الفصول الغروية: ص 79- 80.

(2) راجع مطارح الأنظار: ص 49.

أصول الفقه ( مظفر، محمد رضا - طبع انتشارات اسلامى )، ج‏2، ص: 339

الحقيقة إلى الواجب الّذي هو مدلول المادّة. غاية الأمر أنّ بعض القيود مأخوذة في الواجب على وجهٍ يكون مفروض الحصول و الوقوع كالاستطاعة بالنسبة إلى الحجّ، و مثل هذا لا يجب تحصيله و يكون حكمه حكم ما لو كان شرطاً للوجوب. و بعضها لا يكون مأخوذاً على وجهٍ يكون مفروض الحصول، بل يجب تحصيله توصّلًا إلى الواجب، لأنّ الواجب يكون هو المقيّد بما هو مقيّد بذلك القيد.

و على هذا التصوير فالوجوب يكون دائماً فعليّاً قبل مجي‏ء وقته، و شأنه في ذلك شأن الوجوب على القول بالواجب المعلّق، لا فرق بينهما في الموقّتات بالنسبة إلى الوقت، فإذا كان الواجب استقباليّاً فلا مانع من وجوب المقدّمة المفوّتة قبل زمان ذيها.

و المحاولة الثالثة: ما نسب إلى بعضهم من أنّ الوقت شرط للوجوب، لا للواجب كما في المحاولتين الأوّليتين، و لكنّه مأخوذ فيه على نحو الشرط المتأخّر «1». وعليه، فالوجوب يكون سابقاً على زمان الواجب نظير القول بالمعلّق فيصحّ فرض وجوب المقدّمة المفوّتة قبل زمان ذيها لفعليّة الوجوب قبل زمانه، فتجب مقدّمته.

و كلّ هذه المحاولات مذكورة في كتب الاصول المطوّلة، و فيها مناقشات و أبحاث طويلة لا يسعها هذا المختصر. و مع الغضّ عن المناقشة في إمكانها في أنفسها لا دليل عليها إلّا ثبوت وجوب المقدّمة قبل زمان ذيها، إذ كلّ صاحب محاولةٍ منها يعتقد أنّ التخلّص من إشكال وجوب المقدّمة قبل زمان ذيها ينحصر في المحاولة الّتي يتصوّرها، فالدليل الّذي يدلّ على وجوب المقدّمة المفوّتة قبل وقت الواجب لا محالة يدلّ عنده على محاولته.

______________________________ (1) تستفاد هذه المحاولة من كلام المحقّق العراقي قدس سره، راجع نهاية الأفكار: ج 1 ص 298.

أصول الفقه ( مظفر، محمد رضا - طبع انتشارات اسلامى )، ج‏2، ص: 340

و الّذي أعتقده: أنّه لا موجب لكلّ هذه المحاولات لتصحيح وجوب المقدّمة قبل زمان ذيها، فإنّ الصحيح- كما أفاده شيخنا الأصفهاني رحمه الله- أنّ وجوب المقدّمة ليس معلولًا لوجوب ذيها و لا مترشّحاً منه، فليس هناك إشكال في وجوب المقدّمة المفوّتة قبل زمان ذيها حتّى نلتجئ إلى إحدى هذه المحاولات لفكّ الإشكال. و كلّ هذه الشبهة إنّما جاءت من هذا الفرض، و هو فرض معلوليّة وجوب المقدّمة لوجوب ذيها، و هو فرض لا واقع له أبداً، و إن كان هذا القول يبدو غريباً على الأذهان المشبعة بفرض أنّ وجوب ذي المقدّمة علّة لوجوب المقدّمة، بل نقول أكثر من ذلك: إنّه يجب في المقدّمة المفوّتة أن يتقدّم وجوبها على وجوب ذيها إذا كنّا نقول بأنّ مقدّمة الواجب واجبة، و إن كان الحقّ- و سيأتي- عدم وجوبها مطلقاً.

بيان‏ «1» عدم معلوليّة وجوب المقدّمة لوجوب ذيها «2»: إنّ الأمر في الحقيقة هو فعل الآمر، سواء كان الأمر نفسيّاً أم غيريّاً، فالآمر هو العلّة الفاعليّة له دون سواه. و لكن كلّ أمرٍ إنّما يصدر عن إرادة الآمر لأنّه فعله الاختياري و الإرادة بالطبع مسبوقة بالشوق إلى فعل المأمور به، أي أنّ الآمر لا بدّ أن يشتاق أوّلًا إلى فعل الغير على أن يصدر من الغير، فإذا اشتاقه لا بدّ أن يدعو الغير و يدفعه و يحثّه على الفعل فيشتاق إلى الأمر به.

و إذا لم يحصل مانع من الأمر فلا محالة يشتدّ الشوق إلى الأمر حتّى يبلغ الإرادة الحتميّة، فيجعل الداعي في نفس الغير للفعل المطلوب، و ذلك بتوجيه الأمر نحوه.

هذا حال كلّ مأمور به، و من جملته «مقدّمة الواجب» فإنّه إذا ذهبنا إلى وجوبها من قبل المولى لا بدّ أن نفرض حصول الشوق أوّلًا في نفس‏

______________________________ (1) في ط 2: و لبيان.

(2) في ط 2 زيادة: نذكر.

أصول الفقه ( مظفر، محمد رضا - طبع انتشارات اسلامى )، ج‏2، ص: 341

الآمر إلى صدورها من المكلّف، غاية الأمر أنّ هذا الشوق تابع للشوق إلى فعل ذي المقدّمة و منبثق منه، لأنّ المختار إذا اشتاق إلى تحصيل شي‏ءٍ و أحبّه اشتاق و أحبّ بالتبع كلَّ ما يتوقّف عليه ذلك الشي‏ء على نحو الملازمة بين الشوقين. و إذا لم يكن هناك مانع من الأمر بالمقدّمات حصلت لدى الآمر- ثانياً- الإرادة الحتميّة الّتي تتعلّق بالأمر بها، فيصدر حينئذٍ الأمر.

إذا عرفت ذلك، فإنّك تعرف أنّه إذا فُرض أنّ المقدمة متقدّمة بالوجود الزماني على ذيها على وجهٍ لا يحصل ذوها في ظرفه و زمانه إلّا إذا حصلت هي قبل حلول زمانه- كما في أمثلة المقدّمات المفوّتة- فإنّه لا شكّ في أنّ الآمر يشتاقها أن تحصل في ذلك الزمان المتقدّم، و هذا الشوق بالنسبة إلى المقدّمة يتحوّل إلى الإرادة الحتميّة بالأمر، إذ لا مانع من البعث نحوها حينئذٍ، و المفروض أنّ وقتها قد حان فعلًا، فلا بدّ أن يأمر بها فعلًا. أمّا ذو المقدمة فحسب الفرض لا يمكن البعث نحوَه و الأمر به قبل وقته، لعدم حصول ظرفه، فلا أمر قبل الوقت و إن كان الشوق إلى الأمر به حاصل حينئذٍ و لكن لا يبلغ مبلغ الفعليّة لوجود المانع.

و الحاصل: أنّ الشوق إلى ذي المقدّمة و الشوق إلى المقدّمة حاصلان قبل وقت ذي المقدّمة، و الشوق الثاني منبعث و منبثق من الشوق الأوّل و لكن الشوق إلى المقدّمة يؤثّر أثره و يصير إرادة حتميّة لعدم وجود ما يمنع من الأمر، دون الشوق إلى ذي المقدّمة لوجود المانع من الأمر.

و على هذا، فتجب المقدّمة المفوّتة قبل وجوب ذيها و لا محذور فيه، بل هو أمر لا بدّ منه و لا يصحّ أن يقع غير ذلك.

و لا تستغرب ذلك، فإنّ هذا أمر مطّرد حتّى بالنسبة إلى أفعال الإنسان نفسه، فإنّه إذا اشتاق إلى فعل شي‏ءٍ اشتاق إلى مقدّماته تبعاً، و لمّا كانت‏

أصول الفقه ( مظفر، محمد رضا - طبع انتشارات اسلامى )، ج‏2، ص: 342

المقدّمات متقدّمة بالوجود زماناً على ذيها، فإنّ الشوق إلى المقدّمات يشتدّ حتّى يبلغ درجة الإرادة الحتميّة المحرّكة للعضلات فيفعلها، مع أنّ ذي المقدّمة لم يحن وقته بعدُ و لم تحصل له الإرادة الحتميّة المحرّكة للعضلات، و إنّما يمكن أن تحصل له الإرادة الحتميّة إذا حان وقته بعد طيّ المقدّمات.

فإرادة الفاعل التكوينيّة للمقدّمة متقدّمة زماناً على إرادة ذيها، و على قياسها الإرادة التشريعيّة، فلا بدّ أن تحصل‏ «1» للمقدّمة المتقدّمة زماناً قبل أن تحصل لذيها المتأخّر زماناً، فيتقدّم الوجوب الفعلي للمقدّمة على الوجوب الفعلي لذيها زماناً، على العكس ممّا اشتهر. و لا محذور فيه، بل هو المتعيّن.

و هذا حال كلّ متقدّم بالنسبة إلى المتأخّر، فإنّ الشوق يصير شيئاً فشيئاً قصداً و إرادةً، كما في الأفعال التدريجيّة الوجود.

و قد تقدّم معنى تبعيّة وجوب المقدّمة لوجوب ذيها فلا نعيد، و قلنا:

إنّه ليس معناه معلوليّته لوجوب ذي المقدّمة و تبعيّته له وجوداً، كما اشتهر على لسان الاصوليّين. فان قلت: إنّ وجوب المقدّمة- كما سبق- تابع لوجوب ذي المقدّمة إطلاقاً و اشتراطاً، و لا شكّ في أنّ الوقت- على الرأي المعروف- شرط لوجوب ذي المقدّمة، فيجب أن يكون أيضاً وجوب المقدّمة مشروطاً به، قضاءً لحقّ التبعيّة.

قلت: إنّ الوقت على التحقيق ليس شرطاً للوجوب بمعنى أنّه دخيل في مصلحة الأمر- كالاستطاعة بالنسبة إلى وجوب الحجّ- و إن كان دخيلًا في مصلحة المأمور به، و لكنّه لا يتحقّق البعث قبله، فلا بدّ أن يؤخذ

______________________________ (1) أي: الإرادة التشريعيّة.

أصول الفقه ( مظفر، محمد رضا - طبع انتشارات اسلامى )، ج‏2، ص: 343

مفروض الوجوب‏ «1» بمعنى عدم الدعوة إليه، لأنّه غير اختياري للمكلَّف.

أمّا عدم تحقّق وجوب الموقّت قبل الوقت فلامتناع البعث قبل الوقت.

و السرّ واضح، لأنّ البعث حتّى البعث الجعلي منه يلازم الانبعاث إمكاناً و وجوداً، فإذا أمكن الانبعاث أمكن البعث و إلّا فلا، و إذ يستحيل الانبعاث قبل الوقت استحال البعث نحوَه حتّى الجعلي. و من أجل هذا نقول بامتناع الواجب المعلّق، لأنّه يلازم انفكاك الانبعاث عن البعث.

و هذا بخلاف المقدّمة قبل وقت الواجب، فإنّه يمكن الانبعاث نحوها فلا مانع من فعليّة البعث بالنظر إليها لو ثبت، فعدم فعليّة الوجوب قبل زمان الواجب إنّما هو لوجود المانع، لا لفقدان الشرط، و هذا المانع موجود في ذي المقدّمة قبل وقته مفقود في المقدّمة.

و يتفرّع على هذا فرع فقهي، و هو: أنّه حينئذٍ لا مانع في المقدّمة المفوّتة العباديّة كالطهارات الثلاث من قصد الوجوب في النيّة قبل وقت الواجب لو قلنا بأنّ مقدّمة الواجب واجبة.

و الحاصل: أنّ العقل يحكم بلزوم الإتيان بالمقدّمة المفوّتة قبل وقت ذيها و لا مانع عقليّ من ذلك. هذا كلّه من جهة إشكال انفكاك وجوب المقدّمة عن وجوب ذيها.

و أمّا من جهة إشكال استحقاق العقاب على ترك الواجب بترك مقدّمته مع عدم فعليّة وجوبه، فيُعلم دفعه ممّا سبق، فإنّ التكليف بذي المقدّمة الموقّت يكون تامّ الاقتضاء و إن لم يصر فعليّاً لوجود المانع و هو عدم حضور وقته. و لا ينبغي الشكّ في أنّ دفع التكليف مع تماميّة اقتضائه تفويتٌ لغرض المولى المعلوم الملزم.

و هذا يُعدّ ظلماً في حقّه و خروجاً عن زيّ الرقّيّة و تمرّداً عليه، فيستحقّ عليه العقاب و اللوم من هذه الجهة و إن لم يكن فيه مخالفة للتكليف الفعلي المنجز.

______________________________ (1) كذا، و الظاهر: الوجود.

أصول الفقه ( مظفر، محمد رضا - طبع انتشارات اسلامى )، ج‏2، ص: 344

و هذا لا يشبه دفع مقتضى التكليف كعدم تحصيل الاستطاعة للحجّ، فإنّ مثله لا يُعدّ ظلماً و خروجاً عن زيّ الرقّية و تمرّداً على المولى، لأنّه ليس فيه تفويت لغرض المولى المعلوم التامّ الاقتضاء. و المدار في استحقاق العقاب هو تحقّق عنوان «الظلم للمولى» القبيح عقلًا.

- 9- المقدّمة العباديّة

ثبت بالدليل أنّ بعض المقدّمات الشرعيّة لا تقع مقدّمة إلّا إذا وقعت على وجهٍ عبادي، و ثبت أيضاً ترتّب الثواب عليها بخصوصها. و مثالها منحصر في الطهارات الثلاث: الوضوء و الغسل و التيمم.

و قد سبق في الأمر الثاني الإشكال فيها من جهتين: من جهة أنّ الواجب الغيري لا يكون إلّا توصّليّاً، فكيف يجوز أن تقع المقدّمة بما هي مقدّمة عبادة و من جهةٍ ثانية: أنّ الواجب الغيري بما هو واجب غيري لا استحقاق للثواب عليه.

و في الحقيقة أنّ هذا الإشكال ليس إلّا إشكالًا على اصولنا الّتي أصّلناها للواجب الغيري فنقع في حيرةٍ في التوفيق بين ما فهمناه عن الواجب الغيري و بين عباديّة هذه المقدّمات الثابتة عباديّتها. و إلّا فكون هذه المقدّمات عبادية يُستحقّ الثواب عليها أمر مفروغ عنه لا يمكن رفع اليد عنه.

فإذاً، لا بدّ لنا من تصحيح ما أصّلناه في الواجب الغيري بتوجيه عباديّة المقدّمة على وجهٍ يلائم توصّليّة الأمر الغيري. و قد ذهبت الآراء أشتاتاً في توجيه ذلك.

و نحن نقول على الاختصار: إنّه من المتيقّن الّذي لا ينبغي أن يتطرّق إليه الشكّ من أحد أنّ الصلاة- مثلًا- ثبت من طريق الشرع توقّف صحّتها

أصول الفقه ( مظفر، محمد رضا - طبع انتشارات اسلامى )، ج‏2، ص: 345

على إحدى الطهارات الثلاث، و لكن لا تتوقّف على مجرّد أفعالها كيفما اتّفق وقوعها، بل إنّما تتوقّف على فعل الطهارة إذا وقع على الوجه العبادي، أي إذا وقع متقرّباً به إلى اللَّه تعالى. فالوضوء العبادي- مثلًا- هو الشرط و هو المقدّمة الّتي تتوقّف صحّة الصلاة عليها.

وعليه، لا بدّ أن يُفرض الوضوء عبادةً قبل فرض تعلّق الأمر الغيري به، لأنّ الأمر الغيري- حسبما فرضناه- إنّما يتعلّق بالوضوء العبادي بما هو عبادة، لا بأصل الوضوء بما هو. فلم تنشأ عباديّته من الأمر الغيري حتّى يقال: إنّ عباديّته لا تلائم توصّليّة الأمر الغيري، بل عباديّته لا بدّ أن تكون مفروضة التحقّق قبل فرض تعلّق الأمر الغيري به. و من هنا يصحّ استحقاق الثواب عليه، لأنّه عبادة في نفسه.

و لكن ينشأ من هذا البيان إشكال آخر، و هو أنّه إذا كانت عباديّة الطهارات غير ناشئة من الأمر الغيري، فما هو الأمر المصحّح لعباديّتها؟

و المعروف أنّه لا يصحّ فرض العبادة عبادةً إلّا بتعلّق أمر بها ليمكن قصد امتثاله، لأنّ قصد امتثال الأمر هو المقوّم لعباديّة العبادة عندهم. و ليس لها في الواقع إلّا الأمر الغيري. فرجع الأمر بالأخير إلى الغيري لتصحيح عباديّتها.

على أنّه يستحيل أن يكون الأمر الغيري هو المصحّح لعباديّتها، لتوقّف عباديّتها- حينئذٍ- على سبق الأمر الغيري، و المفروض: أنّ الأمر الغيري متأخّر عن فرض عباديّتها لأنّه إنّما تعلّق بها بما هي عبادة، فيلزم تقدّم المتأخّر و تأخّر المتقدّم. و هو خلف محال، أو دور على ما قيل.

و قد اجيب عن هذه الشبهة بوجوهٍ كثيرة.

و أحسنها فيما أرى- بناءً على ثبوت الأمر الغيري أي وجوب مقدّمة الواجب، و بناءً على أنّ عباديّة العبادة لا تكون إلّا بقصد الأمر المتعلّق بها-

أصول الفقه ( مظفر، محمد رضا - طبع انتشارات اسلامى )، ج‏2، ص: 346

هو أنّ المصحّح لعباديّة الطهارات هو الأمر النفسي الاستحبابي لها في حدّ ذاتها السابق على الأمر الغيري بها. و هذا الاستحباب باقٍ حتّى بعد فرض الأمر الغيري، و لكن لا بحدّ الاستحباب الّذي هو جواز الترك، إذ المفروض أنّه قد وجب فعلها فلا يجوز تركها، و ليس الاستحباب إلّا مرتبة ضعيفة بالنسبة إلى الوجوب، فلو طرأ عليه الوجوب لا ينعدم، بل يشتدّ وجوده، فيكون الوجوب استمراراً له كاشتداد السواد و البياض من مرتبة ضعيفة إلى مرتبة أقوى، و هو وجود واحد مستمرّ. و إذا كان الأمر كذلك فالأمر الغيري حينئذٍ يدعو إلى ما هو عبادة في نفسه، فليست عباديّتها متأتّية من الأمر الغيري حتّى يلزم الإشكال.

و لكن هذا الجواب- على حسنه- غير كافٍ بهذا المقدار من البيان لدفع الشبهة. و سرّ ذلك: أنّه لو كان المصحّح لعباديّتها هو الأمر الاستحبابي النفسي بالخصوص لكان يلزم ألّا تصح هذه المقدّمات إلّا إذا جاء بها المكلّف بقصد امتثال الأمر الاستحبابي فقط، مع أنّه لا يفتي بذلك أحد، و لا شكّ في أنّها تقع صحيحة لو أتى بها بقصد امتثال أمرها الغيري، بل بعضهم اعتبر قصده في صحّتها بعد دخول وقت الواجب المشروط بها.

فنقول إكمالًا للجواب: أنّه ليس مقصود المجيب من كون استحبابها النفسي مصحّحاً لعباديّتها أنّ المأمور به بالأمر الغيري هو الطهارة المأتيّ بها بداعي امتثال الأمر الاستحبابي. كيف! و هذا المجيب قد فرض عدم بقاء الاستحباب بحدّه بعد ورود الأمر الغيري، فكيف يفرض أنّ المأمور به هو المأتي به بداعي امتثال الأمر الاستحبابي؟

بل مقصود المجيب: أنّ الأمر الغيري لمّا كان متعلّقه هو الطهارة بما هي عبادة، و لا يمكن أن تكون عباديّتها ناشئة من نفس الأمر الغيري بما هو أمر غيري، فلا بدّ من فرض عباديّتها لا من جهة الأمر الغيري و بفرضٍ‏ أصول الفقه ( مظفر، محمد رضا - طبع انتشارات اسلامى )، ج‏2، ص: 347

سابقٍ عليه، و ليس هو إلّا الأمر الاستحبابي النفسي المتعلّق بها، و هذا يصحّح عباديّتها قبل فرض تعلّق الأمر الغيري بها، و إن كان حين توجّه الأمر الغيري لا يبقى ذلك الاستحباب بحدّه، و هو جواز الترك، و لكن لا تذهب بذلك عباديّتُها، لأن المناط في عباديّتها ليس جواز الترك كما هو واضح، بل المناط مطلوبيّتها الذاتيّة و رجحانها النفسي، و هي باقية بعد تعلّق الأمر الغيري.

و إذا صحّ تعلّق الأمر الغيري بها بما هي عبادة و اندكاك الاستحباب فيه، بمعنى أنّ الأمر الغيري يكون استمراراً لتلك المطلوبيّة، فإنّه حينئذٍ لا يبقى إلّا الأمر الغيري صالحاً للدعوة إليها، و يكون هذا الأمر الغيري نفسه أمراً عباديّاً، غاية الأمر أنّ عباديّته لم تجئ من أجل نفس كونه أمراً غيريّاً، بل من أجل كونه امتداداً لتلك المطلوبيّة النفسيّة و ذلك الرجحان الذاتي الّذي حصل من ناحية الأمر الاستحبابي النفسي السابق. وعليه، فينقلب الأمر الغيري عباديّاً، و لكنّها عبادية بالعرض لا بالذات حتى يقال: إنّ الأمر الغيري توصّلي لا يصلح للعباديّة.

و من هنا لا يصحّ الإتيان بالطهارة بقصد الاستحباب بعد دخول الوقت للواجب المشروط بها، لأنّ الاستحباب بحدّه قد اندكّ في الأمر الغيري فلم يعدّ موجوداً حتّى يصحّ قصده.

نعم يبقى أن يقال: إنّ الأمر الغيري إنّما يدعو إلى الطهارة الواقعة على وجه العبادة، لأنّه حسب الفرض متعلّقه هو الطهارة بصفة العبادة، لا ذات الطهارة، و الأمر لا يدعو إلّا إلى ما تعلّق به، فكيف صحّ أن يؤتى بذات العبادة بداعي امتثال أمرها الغيري و لا أمر غيري بذات العبادة؟

و لكن ندفع هذا الإشكال بأن نقول: إذا كان الوضوء- مثلًا- مستحبّاً نفسيّاً فهو قابل لأن يتقرّب به من المولى، و فعليّة التقرّب تتحقّق بقصد

أصول الفقه ( مظفر، محمد رضا - طبع انتشارات اسلامى )، ج‏2، ص: 348

الأمر الغيري المندكّ فيه الأمر الاستحبابي. و بعبارة اخرى: قد فرضنا الطهارات عبادات نفسيّة في مرتبةٍ سابقةٍ على الأمر الغيري المتعلّق بها، و الأمر الغيري إنّما يدعو إلى ذلك، فإذا جاء المكلّف بها بداعي الأمر الغيري المندكّ فيه الاستحباب- و المفروض ليس هناك أمر موجود غيره- صحّ التقرّب به و وقعت عبادة لا محالة، فيتحقّق ما هو شرط الواجب و مقدّمته.

هذا كلّه بناءً على ثبوت الأمر الغيري بالمقدّمة، و بناءً على أنّ مناط عباديّة العبادة هو قصد الأمر المتعلّق بها.

و كلا المبنيين نحن لا نقول بهما.

أمّا الأوّل: فسيأتي في البحث الآتي الدليل على عدم وجوب مقدّمة الواجب، فلا أمر غيري أصلًا.

و أمّا الثاني فلأنّ الحقّ أنّه يكفي في عباديّة الفعل ارتباطه بالمولى و الإتيان به متقرّباً إليه تعالى. غاية الأمر أنّ العبادات قد ثبت أنّها توقيفيّة فما لم يثبت رضا المولى بالفعل و حسن الانقياد و قصد وجه اللَّه بالفعل لا يصحّ الإتيان بالفعل عبادةً بل يكون تشريعاً محرّماً. و لا يتوقّف ذلك على تعلّق أمر المولى بنفس الفعل على أن يكون أمراً فعليّاً من المولى، و لذا قيل: يكفي في عباديّة العبادة حسنها الذاتي و محبوبيّتها الذاتيّة للمولى حتّى لو كان هناك مانع من توجّه الأمر الفعلي بها «1».

و إذا ثبت ذلك، فنقول في تصحيح عباديّة الطهارات: إنّ فعل المقدّمة بنفسه يُعدّ شروعاً في امتثال ذي المقدّمة الّذي هو حسب الفرض في المقام عبادة في نفسه مأمور بها.

فيكون الإتيان بالمقدّمة بنفسه يُعدّ امتثالًا للأمر النفسي بذي المقدّمة

______________________________ (1) كفاية الاصول: ص 166، فوائد الاصول: ج 1 ص 315.

أصول الفقه ( مظفر، محمد رضا - طبع انتشارات اسلامى )، ج‏2، ص: 349 العبادي. و يكفي في عباديّة الفعل كما قلنا ارتباطه بالمولى و الإتيان به متقرّباً إليه تعالى مع عدم ما يمنع من التعبّد به. و لا شكّ في أنّ قصد الشروع بامتثال الأمر النفسي بفعل مقدّماته قاصداً بها التوصّل إلى الواجب النفسي العبادي يُعدّ طاعة و انقياداً للمولى.

و بهذا تُصحّح عباديّة المقدّمة و إن لم نقل بوجوبها الغيري، و لا حاجة إلى فرض طاعة الأمر الغيري. و من هنا يصحّ أن تقع كلّ مقدّمة عبادة و يستحقّ عليها الثواب بهذا الاعتبار و إن لم تكن في نفسها معتبراً فيها أن تقع على وجه العبادة، كتطهير الثوب- مثلًا- مقدّمة للصلاة، أو كالمشي حافياً مقدّمة للحجّ أو الزيارة. غاية الأمر أنّ الفرق بين المقدّمات العباديّة و غيرها أنّ غير العباديّة لا يلزم فيها أن تقع على وجهٍ قربيّ، بخلاف المقدّمات المشروط فيها أن تقع عبادة، كالطهارات الثلاث.

و يؤيّد ذلك ما ورد من الثواب على بعض المقدّمات‏ «1». و لا حاجة إلى التأويل الّذي ذكرناه سابقاً في الأمر الثالث من أنّ الثواب على ذي المقدّمة يوزَّع على المقدّمات باعتبار دخالتها في زيادة حمازة الواجب، فإنّ ذلك التأويل مبنيّ على فرض ثبوت الأمر الغيري و أنّ عباديّة المقدّمة و استحقاق الثواب عليها لا ينشآن إلّا من جهة الأمر الغيري، اتّباعاً للمشهور المعروف بين القوم.

فإن قلت: إنّ الأمر لا يدعو إلّا إلى ما تعلّق به، فلا يُعقل أن يكون الأمر بذي المقدّمة داعياً بنفسه إلى المقدّمة إلّا إذا قلنا بترشّح أمر آخر منه بالمقدّمة، فيكون هو الداعي، و ليس هذا الأمر الآخر المترشّح إلّا الأمر الغيري. فرجع الإشكال جذعاً.

______________________________ (1) راجع ص 326.

أصول الفقه ( مظفر، محمد رضا - طبع انتشارات اسلامى )، ج‏2، ص: 350

قلت: نعم، الأمر لا يدعو إلّا إلى ما تعلّق به، و لكنّا لا ندّعي أنّ الأمر بذي المقدّمة هو الّذي يدعو إلى المقدمة، بل نقول: إنّ العقل هو الداعي إلى فعل المقدّمة توصّلًا إلى فعل الواجب. و سيأتي أنّ هذا الحكم العقلي لا يُستكشف منه ثبوت أمر غيري من المولى. و لا يلزم أن يكون هناك أمر بنفس المقدّمة لتصحيح عباديّتها و يكون داعياً إليها.

و الحاصل: أنّ الداعي إلى فعل المقدّمة هو حكم العقل، و المصحّح لعباديّتها شي‏ء آخر هو قصد التقرّب بها، و يكفي في التقرّب بها إلى اللَّه أن يأتي بها بقصد التوصّل إلى ما هو عبادة. لا أنّ الداعي إلى فعل المقدّمة هو نفس المصحّح لعباديّتها، و لا أنّ المصحّح لعباديّة العبادة منحصر في قصد الأمر المتعلّق بها. و قد سبق توضيح ذلك.

وعليه، فإن كانت المقدّمة ذات الفعل- كالتطهير من الخبث- فالعقل لا يحكم إلّا بإتيانها على أيّ وجه وقعت.

و لكن لو أتى بها المكلّف متقرباً بها إلى اللَّه توصّلًا إلى العبادة صحّ و وقعت على صفة العباديّة و استحقّ عليها الثواب. و إن كانت المقدّمة عملًا عباديّاً- كالطهارة من الحدث- فالعقل يُلزم بالإتيان بها كذلك، و المفروض أنّ المكلّف متمكّن من ذلك، سواء كان هناك أمر غيري أم لم يكن، و سواء كانت المقدّمة في نفسها مستحبّة أم لم تكن.

فلا إشكال من جميع الوجوه في عباديّة الطهارات.

النتيجة: مسألة مقدّمة الواجب و الأقوال فيها

بعد تقديم تلك التمهيدات التسعة نرجع إلى أصل المسألة، و هو البحث عن وجوب مقدّمة الواجب الّذي قلنا: إنّه آخر ما يشغل بالَ الاصوليّين.

أصول الفقه ( مظفر، محمد رضا - طبع انتشارات اسلامى )، ج‏2، ص: 351

و قد عرفت في مدخل المسألة موضع البحث فيها، ببيان تحرير النزاع. و هو- كما قلنا- الملازمة بين حكم العقل و حكم الشرع، إذ قلنا:

إنّ العقل يحكم بوجوب مقدّمة الواجب أي أنّه يدرك لزومها، و لكن وقع البحث في أنّه هل يحكم أيضاً بأنّ المقدّمة واجبة أيضاً عند من أمر بما يتوقّف عليها؟

لقد تكثّرت الأقوال جدّاً في هذه المسألة على مرور الزمن نذكر أهمّها، و نذكر ما هو الحقّ منها. و هي: 1- القول بوجوبها مطلقاً «1».

2- القول بعدم وجوبها مطلقاً «2» (و هو الحقّ و سيأتي دليله).

3- التفصيل بين السبب فلا يجب، و بين غيره كالشرط و عدم المانع و المعدّ فيجب‏ «3».

4- التفصيل بين السبب و غيره أيضاً، و لكن بالعكس، أي يجب السبب دون غيره‏ «4».

5- التفصيل بين الشرط الشرعيّ فلا يجب بالوجوب الغيري باعتبار أنّه واجب بالوجوب النفسي نظير جزء الواجب، و بين غيره فيجب بالوجوب الغيري. و هو القول المعروف عن شيخنا المحقّق النائيني‏ «5».

______________________________ (1) لأكثر الاصوليّين، القوانين: ج 1 ص 103.

(2) اختاره صاحب القوانين، و نسبه إلى الشهيد الثاني في تمهيد القواعد. (لكن لم نظفر به في التمهيد) و نسبه المحقّق الرشتي إلى ظاهر المعالم و صريح الإشارات، بدائع الأفكار: ص 348.

(3) نسبه في القوانين إلى ابن الحاجب في خصوص الشرط الشرعي، و لم يذكر عدمَ المانع و المعدّ.

(4) عزاه في القوانين إلى الواقفيّة، ثمّ قال: و نسبه جماعة إلى السيّد [المرتضى‏] رحمه اللَّه و هو وَهْم، القوانين: ج 1 ص 104.

(5) انظر فوائد الاصول: ج 1 ص 225 و 284.

أصول الفقه ( مظفر، محمد رضا - طبع انتشارات اسلامى )، ج‏2، ص: 352

6- التفصيل بين الشرط الشرعي و غيره أيضاً، و لكن بالعكس، أي يجب الشرط الشرعي بالوجوب

المقدّمي دون غيره‏ «1».

7- التفصيل بين المقدّمة الموصلة، أي الّتي يترتّب عليها الواجب النفسي فتجب، و بين المقدّمة غير الموصلة فلا تجب. و هو المذهب المعروف لصاحب الفصول‏ «2».

8- التفصيل بين ما قُصد به التوصّل من المقدّمات فيقع على صفة الوجوب و بين ما لم يُقصد به ذلك فلا يقع واجباً. و هو القول المنسوب إلى الشيخ العظيم الأنصاري‏ «3».

9- التفصيل المنسوب إلى صاحب المعالم الّذي أشار إليه في مسألة الضدّ، و هو اشتراط وجوب المقدّمة بإرادة ذيها «4». فلا تكون المقدّمة واجبة على تقدير عدم إرادته.

10- التفصيل بين المقدّمة الداخليّة- أي الجزء- فلا تجب، و بين المقدّمة الخارجيّة فتجب‏ «5».

و هناك تفصيلات اخرى عند المتقدّمين لا حاجة إلى ذكرها.

و قد قلنا: إنّ الحقّ في المسألة- كما عليه جماعة «6» من المحقّقين‏

______________________________ (1) ليس هذا التفصيل قسيماً للقول الثالث المتقدّم، بل هو قسم منه، و هو مقتضى كلام كلّ من استدلّ لوجوب الشرط الشرعي بالعقل، مثل ابن الحاجب و العضدي، و هكذا الكلام في التفصيل السابق، راجع بدائع الأفكار للمحقّق الرشتي: ص 355.

(2) فى ط الاولى زيادة: الّذي كان يتبجّح به، راجع الفصول الغرويّة: ص 82- 86.

(3) راجع مطارح الأنظار: ص 72.

(4) يظهر من عبارته في بحث الضدّ، راجع معالم الدين: ص 71.

(5) ليس هذا تفصيلًا في الحقيقة، فإنّ مراد من يقول بعدم وجوب المقدّمة الداخلية هو نفي الوجوب الغيري عنها باعتبار عدم كونها مقدّمة، للزوم المغايرة بين المقدّمة وذي المقدّمة، راجع فوائد الاصول: ج 1 ص 264.

(6) (*) أوّل من تنبّه إلى ذلك و أقام عليه البرهان بالاسلوب الّذي ذكرناه- فيما أعلم- استاذنا المحقّق الأصفهاني- قدّس اللَّه نفسه الزكيّة- و قد عضد هذا القول السيّد الجليل المحقّق الخوئي- دام ظلّه- و كذلك ذهب إلى هذا القول، و أوضحه سيّدنا المحقق الحكيم- دام ظلّه- في حاشيته على الكفاية.

أصول الفقه ( مظفر، محمد رضا - طبع انتشارات اسلامى )، ج‏2، ص: 353

المتأخّرين- القول الثاني، و هو عدم وجوبها مطلقاً.

و الدليل عليه واضح بعد ما قلناه (ص 294) من أنّه في موارد حكم العقل بلزوم شي‏ءٍ على وجهٍ يكون حكماً داعياً للمكلّف إلى فعل الشي‏ء لا يبقى مجال للأمر المولوي، فإنّ هذه المسألة من ذلك الباب من جهة العلّة.

و ذلك: لأنه إذا كان الأمر بذي المقدّمة داعياً للمكلّف إلى الإتيان بالمأمور به، فإنّ دعوته هذه- لا محالة بحكم العقل- تحمله و تدعوه إلى الإتيان بكلّ ما يتوقّف عليه المأمور به تحصيلًا له. و مع فرض وجود هذا الداعي في نفس المكلّف لا تبقى حاجة إلى داعٍ آخر من قِبَل المولى مع علم المولى- حسب الفرض- بوجود هذا الداعي، لأنّ الأمر المولوي- سواء كان نفسيّاً أم غيريّاً- إنّما يجعله المولى لغرض تحريك المكلّف نحوَ فعل المأمور به، إذ يجعل الداعي في نفسه حيث لا داع‏ «1». بل يستحيل في هذا الفرض جعل الداعي الثاني من المولى، لأنّه يكون من باب تحصيل الحاصل.

و بعبارة اخرى: أنّ الأمر بذي المقدّمة لو لم يكن كافياً في دعوة المكلّف إلى الإتيان بالمقدّمة فألفُ أمرٍ «2» بالمقدّمة لا ينفع و لا يكفي للدعوة إليها بما هي مقدّمة. و مع كفاية الأمر بذي المقدّمة لتحريكه إلى المقدمة و للدعوة اليها فأيّة حاجة تبقى إلى الأمر بها من قِبَل المولى؟ بل يكون عبثاً و لغواً، بل يمتنع، لأنّه تحصيل للحاصل.

______________________________ (1) كذا، و الظاهر: لا داعي.

(2) في ط 2: فأيّ أمرٍ.

أصول الفقه ( مظفر، محمد رضا - طبع انتشارات اسلامى )، ج‏2، ص: 354

وعليه، فالأوامر الواردة في بعض المقدّمات يجب حملها على الإرشاد و بيان شرطيّة متعلّقها للواجب و توقّفه عليها كسائر الأوامر الإرشاديّة في موارد حكم العقل. و على هذا يحمل قوله عليه السلام: إذا زالت الشمس فقد وجب الطهور و الصلاة «1».

و من هذا البيان نستحصل على النتيجة الآتية:

إنّه لا وجوب غيري أصلًا، و ينحصر الوجوب المولوي بالواجب النفسي فقط. فلا موقع إذاً لتقسيم الواجب إلى النفسي و الغيري. فليُحذف ذلك من سجلّ الأبحاث الاصوليّة.

***______________________________ (1) الوسائل: ج 1 ص 261، الباب 4 من أبواب الوضوء، ح 1، بلفظ: إذا دخل الوقت وجب الطهور و الصلاة. أصول الفقه ( مظفر، محمد رضا - طبع انتشارات اسلامى )، ج‏2، ص: 355