حضرت محمد مصطفیٰ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم نے فرمایا: یقینا شیطان جب نماز کے لیے (اذان کی) آواز سنتا ہے تو بھاگ جاتا ہے کنزالعمال حدیث20951

تعريف علم الاصول:
المقدّمة
- 2 من الواضع؟
- 3 الوضع تعيينىٌّ و تعيّنيٌ‏
- 4 أقسام الوضع‏
- 6 وقوع الوضع العامّ و الموضوع له الخاصّ و تحقيق المعنى الحرفي‏
- 7- الاستعمال حقيقيٌّ و مجازيٌ‏
- 8 الدلالة تابعة للإرادة
- 9 الوضع شخصيٌّ و نوعيٌ‏
- 10 وضع المركَّبات‏
- 11- الحقيقة و المجاز
- 12 الاصول اللفظيّة تمهيد:
- 13- الترادف و الاشتراك‏
استعمال اللفظ في أكثر من معنى:
- 14 الحقيقة الشرعيّة
الصحيح و الأعمّ‏
المقصد الأوّل: مباحث الألفاظ
الباب الأوّل: المشتقّ‏
- 2- جريان النزاع في اسم الزمان‏
- 3 اختلاف المشتقّات من جهة المبادئ‏
- 4 استعمال المشتقّ بلحاظ حال التلبّس حقيقة
الباب الثاني: الأوامر
المبحث الثاني: صيغة الأمر
الخاتمة: في تقسيمات الواجب‏
الباب الثالث: النواهي‏
الباب الرابع: المفاهيم‏
الأوّل مفهوم الشرط
الثاني مفهوم الوصف‏
الثالث مفهوم الغاية
الرابع مفهوم الحصر
الخامس مفهوم العدد
السادس مفهوم اللقب‏
خاتمة في دلالة الاقتضاء و التنبيه و الإشارة
الباب الخامس: العامّ و الخاصّ‏
المسألة الاولى معنى المطلق و المقيّد
الباب السابع: المجملُ و المبيّن‏

اصول الفقہ حصہ اول

المبحث الثاني: صيغة الأمر

- 1 معنى صيغة الأمر

صيغة الأمر- أي هيئته- كصيغة «افعل» و نحوها «1»: تستعمل في موارد كثيرة:

منها: البعث، كقوله تعالى: «فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ» «2»*. «أَوْفُوا بِالْعُقُودِ» «3».

و منها: التهديد، كقوله تعالى: «اعْمَلُوا ما شِئْتُمْ» «4».

و منها: التعجيز، كقوله تعالى: «فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ» «5».

و غير ذلك، من التسخير، و الإنذار، و الترجّي، و التمنّي، و نحوها.

و لكن الظاهر أنّ الهيئة في جميع هذه المعاني استعملت في معنىً‏

______________________________ (1) (*) المقصود بنحو صيغة «افعل»: أيّة صيغة و كلمة تؤدّي مؤدّاها في الدلالة على الطلب و البعث، كالفعل المضارع المقرون بلام الأمر أو المجرّد منه إذا قصد به إنشاء الطلب، نحو قولنا: «تصلّي» «تغتسل» «أطلب منك كذا» أو جملة اسميّة، نحو «هذا مطلوب منك» أو اسم فعل، نحو: صَهْ و مَهْ و مهلًا، و غير ذلك.

(2) المجادلة: 13، الحج: 78.

(3) المائدة: 1.

(4) فصّلت: 40.

(5) البقرة: 23.

أصول الفقه ( مظفر، محمد رضا - طبع انتشارات اسلامى )، ج‏1، ص: 111

واحد، لكن ليس هو واحداً من هذه المعاني، لأنّ الهيئة مثل «افعل» شأنها شأن الهيئات الاخرى وُضعت لإفادة نسبة خاصّة كالحروف، و لم توضع لإفادة معانٍ مستقلّة، فلا يصحّ أن يراد منها مفاهيم هذه المعاني المذكورة الّتي هي معانٍ اسميّة.

وعليه، فالحقّ أنّها موضوعة للنسبة الخاصّة القائمة بين المتكلّم و المخاطب و المادّة. و المقصود من المادّة الحدث الّذي وقع عليه مفاد الهيئة، مثل الضرب و القيام و القعود في «اضرب» و «قم» و «اقعد» و نحو ذلك. و حينئذٍ ينتزع منها عنوان «طالب» و «مطلوب منه» و «مطلوب».

فقولنا: «اضرب» يدلّ على النسبة الطلبيّة بين الضرب و المتكلّم و المخاطب، و معنى ذلك: جعل الضرب على عهدة المخاطب و بعثه نحوه و تحريكه إليه، و جعل الداعي في نفسه للفعل.

و على هذا فمدلول هيئة الأمر و مفادها هو النسبة الطلبيّة، و إن شئت فسمِّها النسبة البعثيّة، لغرض إبراز جعل المأمور به- أي المطلوب- في عهدة المخاطب، و جعل الداعي في نفسه و تحريكه و بعثه نحوه. ما شئت فعبّر.

غير أنّ هذا الجعل أو الإنشاء يختلف فيه الداعي له من قبل المتكلّم.

فتارة: يكون الداعي له هو البعث الحقيقي و جعل الداعي في نفس المخاطب لفعل المأمور به، فيكون هذا الإنشاء حينئذٍ مصداقاً للبعث و التحريك و جعل الداعي، أو إن شئت فقل: يكون مصداقاً للطلب، فإنّ المقصود واحد.

و اخرى: يكون الداعي له هو التهديد، فيكون مصداقاً للتهديد و يكون تهديداً بالحمل الشائع.

و ثالثة: يكون الداعي له هو التعجيز، فيكون مصداقاً للتعجيز و تعجيزاً بالحمل الشائع ... و هكذا في باقي المعاني المذكورة و غيرها.

أصول الفقه ( مظفر، محمد رضا - طبع انتشارات اسلامى )، ج‏1، ص: 112

و إلى هنا يتجلّى ما نريد أن نوضحه، فإنّا نريد أن نقول بنصّ العبارة:

إنّ البعث أو التهديد أو التعجيز أو نحوها ليست هي معاني لهيئة الأمر قد استعملت في مفاهيمها- كما ظنّه القوم- لا معاني حقيقيّة و لا مجازيّة. بل الحقّ أن المنشأ بها ليس إلّا النسبة الطلبيّة الخاصّة، و هذا الإنشاء يكون مصداقاً لأحد هذه الامور باختلاف الدواعي، فيكون تارةً بعثاً بالحمل الشائع و اخرى تهديداً بالحمل الشائع ... و هكذا. لا أنّ هذه المفاهيم مدلولة للهيئة و منشأة بها حتّى مفهوم البعث و الطلب.

و الاختلاط في الوهم بين المفهوم و المصداق هو الّذي جعل اولئك يظنّون أنّ هذه الامور مفاهيم لهيئة الأمر و قد استُعملت فيها استعمالَ اللفظ في معناه، حتّى اختلفوا في أنّه أيّها المعنى الحقيقي الموضوع له الهيئة و أيّها المعنى المجازي.

أصول الفقه ( مظفر، محمد رضا - طبع انتشارات اسلامى ) ؛ ج‏1 ؛ ص112

- 2 ظهور الصيغة في الوجوب‏

اختلف الاصوليّون في ظهور صيغة الأمر في الوجوب و في كيفيّته على أقوالٍ. و الخلاف يشمل صيغة «افعل» و ما شابهها و ما بمعناها من صيغ الأمر.

و الأقوال في المسألة كثيرة، و أهمّها قولان:

أحدهما: أنّها ظاهرة في الوجوب، إمّا لكونها موضوعة فيه، أو من جهة انصراف الطلب إلى أكمل الأفراد. ثانيهما: أنّها حقيقة في القدر المشترك بين الوجوب و الندب، و هو- أي القدر المشترك- مطلق الطلب الشامل لهما من دون أن تكون ظاهرة في أحدهما.

أصول الفقه ( مظفر، محمد رضا - طبع انتشارات اسلامى )، ج‏1، ص: 113

و الحقّ أنّها ظاهرة في الوجوب، و لكن لا من جهة كونها موضوعة للوجوب، و لا من جهة كونها موضوعة لمطلق الطلب و أنّ الوجوب أظهر أفراده. و شأنها في ظهورها في الوجوب شأن مادّة الأمر، على ما تقدّم هناك: من أنّ الوجوب يستفاد من حكم العقل بلزوم إطاعة أمر المولى و وجوب الانبعاث عن بعثه، قضاءً لحقّ المولويّة و العبوديّة، ما لم يرخّص نفس المولى بالترك و يأذن به. و بدون الترخيص فالأمر لو خلّي و طبعه شأنه أن يكون من مصاديق حكم العقل بوجوب الطاعة.

فيكون الظهور هذا ليس من نحو الظهورات اللفظيّة، و لا الدلالة هذه على الوجوب من نوع الدلالات الكلاميّة. إذ صيغة الأمر- كمادّة الأمر- لا تستعمل في مفهوم الوجوب لا استعمالًا حقيقيّاً و لا مجازيّاً، لأنّ الوجوب- كالندب- أمر خارج عن حقيقة مدلولها و لا من كيفيّاته و أحواله.

و تمتاز الصيغة عن مادّة كلمة «الأمر» أنّ الصيغة لا تدلّ إلّا على النسبة الطلبيّة- كما تقدّم- فهي بطريق أولى لا تصلح للدلالة على الوجوب الّذي هو مفهوم اسميّ؛ و كذا الندب.

و على هذا فالمستعمل فيه الصيغة على كلا الحالين (الوجوب و الندب) واحد لا اختلاف فيه. و استفادة الوجوب- على تقدير تجرّدها عن القرينة على إذن الآمر بالترك- إنّما هو بحكم العقل كما قلنا، إذ هو من لوازم صدور الأمر من المولى.

و يشهد لما ذكرناه من كون المستعمل فيه واحداً في مورد الوجوب و الندب ما جاء في كثير من الأحاديث من الجمع بين الواجبات و المندوبات بصيغة واحدة و أمر واحد أو اسلوب واحد مع تعدّد الأمر «1».

______________________________ (1) قال المحقّق القمّي بعد إيراد الكلام المذكور: مثل قوله: «اغتسل للجمعة و للزيارة و للجنابة و لمسّ الميّت» لكنّا لم نظفر به في الروايات.

أصول الفقه ( مظفر، محمد رضا - طبع انتشارات اسلامى )، ج‏1، ص: 114

و لو كان الوجوب و الندب من قبيل المعنيين للصيغة لكان ذلك في الأغلب من باب استعمال اللفظ في أكثر من معنى و هو مستحيل، أو تأويله‏ «1» بإرادة «مطلق الطلب» البعيد إرادته من مساق الأحاديث، فإنّه تجوّز- على تقديره- لا شاهد له و لا يساعد عليه اسلوب الأحاديث الواردة.

تنبيهان:

الأوّل: ظهور الجملة الخبريّة الدالّة على الطلب في الوجوب.

اعلم أنّ الجملة الخبريّة في مقام إنشاء الطلب شأنها شأن صيغة «افعل» في ظهورها في الوجوب، كما أشرنا إليه سابقاً بقولنا: «صيغة افعل و ما شابهها».

و الجملة الخبريّة مثل قول: يغتسل، يتوضّأ، يصلّي، بعد السؤال عن شي‏ء يقتضي مثلَ هذا الجواب، و نحو ذلك.

و السرّ في ذلك: أنّ المناط في الجميع واحد، فإنّه إذا ثبت البعث من المولى بأيّ مُظهر كان و بأيّ لفظ كان، فلا بدّ أن يتبعه حكم العقل بلزوم الانبعاث ما لم يأذن المولى بتركه.

بل ربما يقال: إنّ دلالة الجملة الخبريّة على الوجوب آكد، لأنّها في الحقيقة إخبار عن تحقّق الفعل بادّعاء أنّ وقوع الامتثال من المكلَّف مفروغ عنه.

الثاني: ظهور الأمر بعد الحظر أو توهّمه.

قد يقع إنشاء الأمر بعد تقدّم الحظر- أي المنع- أو عند توهّم الحظر، كما لو منع الطبيب المريض عن شرب الماء، ثمّ قال له: «اشرب الماء» أو قال ذلك عند ما يتوهّم المريض أنّه ممنوع منه و محظور عليه شربه.

______________________________ (1) كذا، و الظاهر أنّه معطوف على «من باب» و العبارة غير منسجمة.

أصول الفقه ( مظفر، محمد رضا - طبع انتشارات اسلامى )، ج‏1، ص: 115

و قد اختلف الاصوليّون في مثل هذا الأمر أنّه هل هو ظاهر في الوجوب، أو ظاهر في الإباحة، أو الترخيص فقط- أي رفع المنع فقط من دون التعرّض لثبوت حكم آخر من إباحة أو غيرها- أو يرجع إلى ما كان عليه سابقاً قبلَ المنع؟ على أقوال كثيرة.

و أصحّ الأقوال هو الثالث و هو دلالتها على الترخيص فقط.

و الوجه في ذلك: أنّك قد عرفت أنّ دلالة الأمر على الوجوب إنّما تنشأ من حكم العقل بلزوم الانبعاث ما لم يثبت الإذن بالترك. و منه تستطيع أن تتفطّن أنّه لا دلالة للأمر في المقام على الوجوب، لأنّه ليس فيه دلالة على البعث و إنّما هو ترخيص في الفعل لا أكثر.

و أوضح من هذا أن نقول: إنّ مثل هذا الأمر هو إنشاء بداعي الترخيص في الفعل و الإذن به، فهو لا يكون إلّا ترخيصاً و إذناً بالحمل الشائع. و لا يكون بعثاً إلّا إذا كان الإنشاء بداعي البعث. و وقوعه بعد الحظر أو توهّمه قرينة على عدم كونه بداعي البعث، فلا يكون دالّاً على الوجوب. و عدم دلالته على الإباحة بطريق أولى، فيرجع فيه إلى دليل آخر من أصل أو أمارة.

مثاله قوله تعالى: «وَ إِذا حَلَلْتُمْ فَاصْطادُوا» «1» فإنّه أمر بعد الحظر عن الصيد حال الإحرام، فلا يدلّ على وجوب الصيد.

نعم لو اقترن الكلام بقرينة خاصّة على أنّ الأمر صدر بداعي البعث أو لغرض بيان إباحة الفعل، فإنّه حينئذٍ يدلّ على الوجوب أو الإباحة.

و لكن هذا أمر آخر لا كلام فيه، فإنّ الكلام في فرض صدور الأمر بعد الحظر أو توهّمه مجرّداً عن كلّ قرينة اخرى غير هذه القرينة.

***______________________________ (1) المائدة: 2.

أصول الفقه ( مظفر، محمد رضا - طبع انتشارات اسلامى )، ج‏1، ص: 116 - 3 لتعبّدي و التوصّلي تمهيد:

كلّ متفقّهٍ يعرف أنّ في الشريعة المقدّسة واجبات لا تصحّ و لا تسقط أوامرها إلّا بإتيانها قربيّة إلى وجه اللَّه تعالى.

و كونها قربيّة إنّما هو بإتيانها بقصد امتثال أوامرها أو بغيره من وجوه قصد القربة إلى اللَّه تعالى، على ما ستأتي الاشارة إليها. و تُسمّى هذه الواجبات «العباديّات» أو «التعبّديّات» كالصلاة و الصوم و نحوها.

و هناك واجبات اخرى تُسمّى «التوصّليّات» و هي الّتي تسقط أوامرها بمجرّد وجودها و إن لم يُقصد بها القربة، كإنقاذ الغريق، و أداء الدين، و دفن الميّت، و تطهير الثوب و البدن للصلاة، و نحو ذلك.

و للتعبّدي و التوصّلي تعريف آخر كان مشهوراً عند القدماء، و هو أنّ التوصّلي: «ما كان الداعي للأمر به معلوماً» «1». و في قباله التعبّدي، و هو:

«ما لم يعلم الغرض منه». و إنّما سُمّي تعبّديّاً، لأنّ الغرض الداعي للمأمور ليس إلّا التعبّد بأمر المولى فقط.

و لكن التعريف غير صحيح، إلّا إذا اريد به اصطلاح ثانٍ للتعبّدي و التوصّلي، فيراد بالتعبّد التسليم للَّه تعالى فيما أمر به و إن كان المأمور به توصّليّاً بالمعنى الأوّل، كما يقولون مثلًا: «نعمل هذا تعبّداً» و يقولون:

«نعمل هذا من باب التعبّد» أي نعمل هذا من باب التسليم لأمر اللَّه و إن لم نعلم المصلحة فيه.

______________________________ (1) لم نظفر به في كلمات القدماء و المتأخّرين، نعم قد عُرّف التعبّديّ بما لا يُعلم انحصار مصلحته في شي‏ء، و التوصّلي بما يُعلم انحصارها في شي‏ءٍ، راجع مطارح الأنظار: ص 59، و بدائع الأفكار للمحقّق الرشتي: ص 284.

أصول الفقه ( مظفر، محمد رضا - طبع انتشارات اسلامى )، ج‏1، ص: 117 و على ما تقدّم من بيان معنى التوصّلي و التعبّدي- المصطلح الأوّل- فإن عُلم حال واجب بأنّه تعبّدي أو توصّلي فلا إشكال، و إن شكّ في ذلك فهل الأصل كونه تعبّديّا أو توصّليّاً؟ فيه خلاف بين الاصوليّين. و ينبغي لتوضيح ذلك و بيان المختار تقديم امور:

أ- منشأ الخلاف و تحريره:

إنّ منشأ الخلاف هنا هو الخلاف في إمكان أخذ قصد القربة في متعلّق الأمر- كالصلاة مثلًا- قيداً له على نحو الجزء أو الشرط، على وجهٍ يكون المأمور به المتعلّق للأمر هو الصلاة المأتيّ بها بقصد القربة، بهذا القيد، كقيد الطهارة فيها، إذ يكون المأمور به الصلاة عن طهارةٍ، لا الصلاة المجرّدة عن هذا القيد من حيث هي هي.

فمن قال بإمكان أخذ هذا القيد- و هو قصد القربة- كان مقتضى الأصل عنده التوصّليّة، إلّا إذا دلّ دليل خاصّ على التعبّديّة، كسائر القيود الاخرى، لما عرفت أنّ إطلاق كلام المولى حجّة يجب الأخذ به ما لم يثبت التقييد، فعند الشكّ في اعتبار قيدٍ يمكن أخذه في المأمور به فالمرجع أصالة الإطلاق لنفي اعتبار ذلك القيد.

و من قال باستحالة أخذ قيد «قصد القربة» فليس له التمسّك بالإطلاق، لأنّ الإطلاق ليس إلّا عبارة عن عدم التقييد فيما من شأنه التقييد، لأنّ التقابل بينهما من باب تقابل العدم و الملكة (الملكة هي التقييد و عدمها الإطلاق) و إذا استحالت الملكة استحال عدمها بما هو عدم ملكة، لا بما هو عدم مطلق. و هذا واضح، لأنّه إذا كان التقييد مستحيلًا فعدم التقييد في لسان الدليل لا يُستكشف منه إرادة الإطلاق، فإنّ عدم التقييد يجوز أن يكون لاستحالة التقييد و يجوز أن يكون لعدم إرادة التقييد، و لا طريق لإثبات الثاني بمجرّد عدم ذكر القيد وحده.

أصول الفقه ( مظفر، محمد رضا - طبع انتشارات اسلامى )، ج‏1، ص: 118

و بعد هذا نقول: إذا شككنا في اعتبار شي‏ء في مراد المولى و ما تعلّق به غرضه واقعاً و لم يمكن له بيانه، فلا محالة يرجع ذلك إلى الشكّ في سقوط الأمر إذا خلا المأتيّ به من ذلك القيد المشكوك، و عند الشكّ في سقوط الأمر- أي في امتثاله- يحكم العقل بلزوم الإتيان به مع القيد المشكوك كيما يحصل له العلم بفراغ ذمّته من التكليف، لأنّه إذا اشتغلت الذّمة بواجب يقيناً فلا بدّ من إحراز الفراغ منه في حكم العقل. و هذا معنى ما اشتهر في لسان الاصوليّين من قولهم: «الاشتغال اليقيني يستدعي الفراغ اليقيني».

و هذا ما يُسمّى عندهم بأصل الاشتغال أو أصالة الاحتياط.

ب- محلّ الخلاف من وجوب‏ «1» قصد القربة

إنّ محلّ الخلاف في المقام هو إمكان أخذ قصد امتثال الأمر في المأمور به.

و أمّا غير قصد الامتثال من وجوه قصد القربة، كقصد محبوبيّة الفعل المأمور به الذاتيّة باعتبار أنّ كل مأمور به لا بدّ أن يكون محبوباً للآمر و مرغوباً فيه عنده، و كقصد التقرّب إلى اللَّه تعالى محضاً بالفعل لا من جهة قصد امتثال أمره بل رجاءً لرضاه، و نحو ذلك من وجوه قصد القربة؛ فإنّ كلّ هذه الوجوه لا مانع قطعاً من أخذها قيداً للمأمور به، و لا يلزم المحال الّذي ذكروه في أخذ قصد الامتثال، على ما سيأتي.

و لكن الشأن في أنّ هذه الوجوه هل هي مأخوذة في المأمور به فعلًا على نحو لا تكون العبادة عبادة إلّا بها؟

الحقّ أنّه لم يؤخذ شي‏ء منها في المأمور به. و الدليل على ذلك ما

______________________________ (1) كذا، و الظاهر: وجوه.

أصول الفقه ( مظفر، محمد رضا - طبع انتشارات اسلامى )، ج‏1، ص: 119

نجده من الاتّفاق على صحّة العبادة- كالصلاة مثلًا- إذا أتى بها بداعي أمرها مع عدم قصد الوجوه الاخرى. و لو كان غير قصد الامتثال من وجوه القربة مأخوذاً في المأمور به لما صحّت العبادة و لما سقط أمرها بمجرّد الإتيان بداعي أمرها بدون قصد ذلك الوجه.

فالخلاف- إذاً- منحصر في إمكان أخذ قصد الامتثال و استحالته.

ج- الإطلاق و التقييد في التقسيمات الأوّليّة للواجب‏

إنّ كلّ واجب في نفسه له تقسيمات باعتبار الخصوصيّات الّتي يمكن أن تلحقه في الخارج، مثلًا:

الصلاة تنقسم في ذاتها مع قطع النظر عن تعلّق الأمر بها إلى:

1- ذات سورة، و فاقدتها.

2- ذات تسليم، و فاقدته.

3- صلاة عن طهارة، و فاقدتها.

4- صلاة مستقبل بها القبلة، و غير مستقبل بها.

5- صلاة مع الساتر و بدونه.

و هكذا يمكن تقسيمها إلى ما شاء اللَّه من الأقسام بملاحظة أجزائها و شروطها و ملاحظة كلّ ما يمكن فرض اعتباره فيها و عدمه.

و تُسمّى مثل هذه التقسيمات: «التقسيمات الأوّليّة» لأنّها تقسيمات تلحقها في ذاتها مع قطع النظر عن فرض تعلّق شي‏ء بها. و تقابلها «التقسيمات الثانويّة» الّتي تلحقها بعد فرض تعلّق شي‏ء بها كالأمر مثلًا، و سيأتي ذكرها.

فإذا نظرنا إلى هذه التقسيمات الأوّليّة للواجب فالحكم بالوجوب بالقياس إلى كلّ خصوصيّة منها لا يخلو في الواقع من أحد احتمالات ثلاثة:

أصول الفقه ( مظفر، محمد رضا - طبع انتشارات اسلامى )، ج‏1، ص: 120

1- أن يكون مقيّداً بوجودها، و يُسمّى «بشرط شي‏ء» مثل شرط الطهارة و الساتر و الاستقبال و السورة و الركوع و السجود و غيرها من أجزاء و شرائط بالنسبة إلى الصلاة.

2- أن يكون مقيّداً بعدمها، و يُسمّى ب «شرط لا» مثل شرط الصلاة بعدم الكلام و القهقهة و الحدث ... إلى غير ذلك من قواطع الصلاة.

3- أن يكون مطلقاً بالنسبة إليها- أي غير مقيّد بوجودها و لا بعدمها- و يُسمّى «لا بشرط» مثل عدم اشتراط الصلاة بالقنوت، فإنّ وجوبها غير مقيّد بوجوده و لا بعدمه.

هذا في مرحلة الواقع و الثبوت. و أمّا في مرحلة الإثبات و الدلالة، فإنّ الدليل الّذي يدلّ على وجوب شي‏ءٍ إن دلّ على اعتبار قيدٍ فيه أو على اعتبار عدمه فذاك. و إن لم يكن الدليل متضمّناً لبيان التقييد بما هو محتمل التقييد لا وجوداً و لا عدماً، فإنّ المرجع في ذلك هو أصالة الإطلاق، إذا توفّرت المقدّمات المصحِّحة للتمسّك بأصالة الإطلاق على ما سيأتي في بابه- و هو باب المطلق و المقيّد- و بأصالة الإطلاق يُستكشف أنّ إرادة المتكلّم الآمر متعلّقة بالمطلق واقعاً، أي أنّ الواجب لم يؤخذ بالنسبة إلى القيد إلّا على نحو اللابشرط.

و الخلاصة أنّه لا مانع من التمسّك بالإطلاق لرفع احتمال التقييد في التقسيمات الأوّليّة.

د- عدم إمكان الإطلاق و التقييد في التقسيمات الثانويّة للواجب‏

ثمّ إنّ كلّ واجب- بعد ثبوت الوجوب و تعلّق الأمر به واقعاً- ينقسم إلى ما يؤتى به في الخارج بداعي أمره، و ما يؤتى به لا بداعي أمره. ثمّ ينقسم أيضاً إلى معلوم الوجوب‏ «1» و مجهوله.

______________________________ (1) في ط 2: الواجب.

أصول الفقه ( مظفر، محمد رضا - طبع انتشارات اسلامى )، ج‏1، ص: 121

و هذه التقسيمات تُسمّى «التقسيمات الثانويّة» لأنّها من لواحق الحكم و بعد فرض ثبوت الوجوب واقعاً، إذ قبل تحقّق الحكم لا معنى لفرض إتيان الصلاة- مثلًا- بداعي أمرها، لأنّ المفروض في هذه الحالة لا أمر بها حتّى يمكن فرض قصده. و كذا الحال بالنسبة إلى العلم و الجهل بالحكم.

و في مثل هذه التقسيمات يستحيل التقييد- أي تقييد المأمور به- لأنّ قصد امتثال الأمر- مثلًا- فرع وجود الأمر، فكيف يعقل أن يكون الأمر مقيّداً به؟ و لازمه أن يكون الأمر فرع قصد الأمر، و قد كان قصد الأمر فرع وجود الأمر، فيلزم أن يكون المتقدّم متأخّراً و المتأخّر متقدّماً. و هذا خلف، أو دور.

و اذا استحال التقييد استحال الإطلاق أيضاً، لما قلنا سابقا: إنّ الإطلاق من قبيل عدم الملكة بالقياس إلى التقييد، فلا يفرض إلّا في مورد قابل للتقييد. و مع عدم إمكان التقييد لا يستكشف من عدم التقييد إرادة الإطلاق.

النتيجة:

و إذا عرفنا هذه المقدّمات يحسن بنا أن نرجع إلى صلب الموضوع، فنقول:

قد اختلف الاصوليّون في أنَّ الأصل في الواجب- إذا شُكّ في كونه تعبّديّاً أو توصّليّاً- هل أنّه تعبّدي أو توصّلي؟

ذهب جماعة إلى أنّ الأصل في الواجبات أن تكون عباديّة إلّا أن يقوم دليل خاصّ على عدم دخل قصد القربة في المأمور به‏ «1» لأنّه لا بدّ

______________________________ (1) منهم الشيخ الكبير في كشف الغطاء: ص 55 س 18، و السيّد المراغي في العناوين: ج 1 ص

378، و هو ظاهر عبارة السيّد في مدارك الأحكام: ج 1 ص 184.

أصول الفقه ( مظفر، محمد رضا - طبع انتشارات اسلامى )، ج‏1، ص: 122

من الإتيان به تحصيلًا للفراغ اليقيني مع عدم الدليل على الاكتفاء بدونه، و لا يمكن التمسّك بالإطلاق لنفيه حسب الفرض. و قد تقدّم ذلك في الأمر الأوّل. فتكون أصالة الاحتياط هي المرجع هنا، و هي تقتضي العباديّة.

و ذهب جماعة إلى أنّ الأصل في الواجبات أن تكون توصّلية «1» لا لأجل التمسّك بأصالة الإطلاق في نفس الأمر، و لا لأجل أصالة البراءة من اعتبار قيد القربة، بل نتمسّك‏ «2» لذلك بإطلاق المقام.

توضيح ذلك: أنّه لا ريب في أنّ المأمور به إطلاقاً و تقييداً يتبع الغرض سعةً و ضيقاً، فإن كان القيد دخيلًا في الغرض فلا بدّ من بيانه و أخذه في المأمور به قيداً، و إلّا فلا.

غير أنّ ذلك فيما يمكن أخذه من القيود في المأمور به- كما في التقسيمات الأوّليّة-.

أمّا ما لا يمكن أخذه في المأمور به قيداً- كالّذي نحن فيه و هو قيد قصد الامتثال- فلا يصحّ من الآمر أن يتغافل عنه حيث لا يمكن أخذه قيداً في الكلام الواحد المتضمّن للأمر، بل لا مناص له من اتّباع طريقة اخرى ممكنة لاستيفاء غرضه، و لو بإنشاء أمرين: أحدهما يتعلّق بذات الفعل مجرّداً عن القيد، و الثاني يتعلّق بالقيد.

مثلًا: لو فرض أنّ غرض المولى قائم بالصلاة المأتيّ بها بداعي أمرها، فإنّه إذا لم يمكن تقييد المأمور به بذلك في نفس الأمر المتعلّق بها لما عرفت من امتناع التقييد في التقسيمات الثانويّة، فلا بدّ له- أي الآمر- لتحصيل غرضه أن يسلك طريقة اخرى، كأن يأمر أوّلًا بالصلاة ثمّ يأمر ثانياً بإتيانها بداعي أمرها الأوّل، مبيّناً ذلك بصريح العبارة.

______________________________ (1) نسبه في التقريرات إلى ظاهر جماعةٍ- لم يُسمِّهم- و استقربه، مطارح الأنظار: ص 60.

(2) كذا، و الظاهر: بل تمسّكوا.

أصول الفقه ( مظفر، محمد رضا - طبع انتشارات اسلامى )، ج‏1، ص: 123

و هذان الأمران يكونان في حكم أمرٍ واحد ثبوتاً و سقوطاً، لأنّهما ناشئان من غرضٍ واحد، و الثاني يكون بياناً للأوّل، فمع عدم امتثال الأمر الثاني لا يسقط الأمر الأوّل بامتثاله فقط، و ذلك بأن يأتى بالصلاة مجرّدة عن قصد أمرها، فيكون الأمر الثاني بانضمامه إلى الأوّل مشتركاً مع التقييد في النتيجة و إن لم يُسمَّ تقييداً اصطلاحاً.

إذا عرفت ذلك فإذا أمر المولى‏ بشي‏ء- و كان في مقام البيان- و اكتفى بهذا الأمر و لم يلحقه بما يكون بياناً له فلم يأمر ثانياً بقصد الامتثال، فإنّه يستكشف منه عدم دخل قصد الامتثال في الغرض، و إلّا لبيّنه بأمرٍ ثانٍ.

و هذا ما سمّيناه ب «إطلاق المقام».

وعليه، فالأصل في الواجبات كونها توصّليّة حتّى يثبت بالدليل أنّها تعبّديّة.

- 4 الواجب العيني و إطلاق الصيغة

الواجب العيني: «ما يتعلّق بكلّ مكلَّف و لا يسقط بفعل الغير» كالصلاة اليوميّة و الصوم. و يقابله الواجب الكفائي، و هو: «المطلوب فيه وجود الفعل من أيّ مكلَّف كان» فيسقط بفعل بعض المكلّفين عن الباقي، كالصلاة عن الميّت و تغسيله و دفنه. و سيأتي في تقسيمات الواجب ذكرهما.

و فيما يتعلّق في مسألة «1» تشخيص الظهور نقول:

إن دلّ الدليل على أنّ الواجب عينيٌّ أو كفائيٌّ فذاك. و إن لم يدلّ فإنّ إطلاق صيغة «افعل» تقتضي أن يكون عينيّاً سواء أتى بذلك العمل‏

______________________________ (1) كذا، و الظاهر: بمسألة.

أصول الفقه ( مظفر، محمد رضا - طبع انتشارات اسلامى )، ج‏1، ص: 124

شخص آخر أم لم يأت به، فإنّ العقل يحكم بلزوم امتثال الأمر ما لم يعلم سقوطه بفعل الغير.

فالمحتاج إلى مزيد البيان على أصل الصيغة هو الواجب الكفائي، فإذا لم ينصب المولى قرينة على إرادته- كما هو المفروض- يُعلم أنّ مراده الوجوب العيني.

- 5- الواجب التعييني و إطلاق الصيغة

الواجب التعييني: هو «الواجب بلا واجبٍ آخر يكون عِدلًا له و بديلًا عنه في عرضه» كالصلاة اليوميّة. و يقابله الواجب التخييري، كخصال كفّارة الإفطار العمدي في صوم شهر رمضان، المخيّرة بين: إطعام ستّين مسكيناً، وصوم شهرين متتابعين، و عتق رقبة. و سيأتي في الخاتمة توضيح الواجب التعييني و التخييري.

فإذا عُلم واجب أنّه من أيّ القسمين فذاك، و إلّا فمقتضى إطلاق صيغة الأمر وجوب ذلك الفعل سواء أتى بفعل آخر أم لم يأت به. فالقاعدة تقتضي عدم سقوطه بفعل شي‏ء آخر، لأنّ التخيير محتاج إلى مزيد بيان مفقود.

- 6 الواجب النفسي و إطلاق الصيغة

الواجب النفسي: هو «الواجب لنفسه لا لأجل واجبٍ آخر» كالصلاة اليوميّة. و يقابله الواجب الغيري كالوضوء، فإنّه إنّما يجب مقدّمةً للصلاة الواجبة، لا لنفسه، إذ لو لم تجب الصلاة لما وجب الوضوء. فإذا شُكّ في واجب أنّه نفسي أو غيري فمقتضى إطلاق تعلّق الأمر به‏

أصول الفقه ( مظفر، محمد رضا - طبع انتشارات اسلامى )، ج‏1، ص: 125

- سواء وجب شي‏ء آخر أم لا- أنّه واجب نفسي. فالإطلاق يقتضي النفسيّة ما لم تثبت الغيريّة. - 7 الفور و التراخي‏

اختلف الاصوليّون في دلالة صيغة الأمر على الفور و التراخي على أقوال:

1- أنّها موضوعة للفور «1».

2- أنّها موضوعة للتراخي‏ «2».

3- أنّها موضوعة لهما على نحو الاشتراك اللفظي‏ «3».

4- أنّها غير موضوعة لا للفور و لا للتراخي و لا للأعمّ منهما، بل لا دلالة لها على أحدهما بوجهٍ من الوجوه، و إنّما يستفاد أحدهما من القرائن الخارجيّة الّتي تختلف باختلاف المقامات‏ «4».

و الحقّ هو الأخير. و الدليل عليه: ما عرفت من أنّ صيغة «افعل» إنّما تدلّ على النسبة الطلبيّة، كما أنّ المادّة لم توضع إلّا لنفس الحدث غير الملحوظة معه شي‏ء من خصوصيّاته الوجوديّة. وعليه، فلا دلالة لها- لا بهيئتها و لا بمادّتها- على الفور أو التراخي، بل لا بدّ من دالّ آخر على شي‏ءٍ منهما. فإن تجرّدت عن الدالّ الآخر فإنّ ذلك يقتضي جواز الإتيان بالمأمور به على الفور أو التراخي.

______________________________ (1) قال به الشيخ و جماعته [من العامّة] راجع معالم الدين: 55.

(2) ذهب إليه الجبّائيان و أبو الحسين البصري و القاضي أبو بكر، و جماعة من الشافعيّة و جماعة من الأشاعرة، حكاه عنهم العلّامة في نهاية الوصول: الورقة 32.

(3) اختاره السيّد المرتضى في الذريعة: ج 1 ص 132.

(4) ذهب إليه المحقّق في معارج الاصول: ص 65، و العلّامة في نهاية الوصول: الورقة 32، و قوّاه صاحب المعالم، معالم الدين: ص 56.

أصول الفقه ( مظفر، محمد رضا - طبع انتشارات اسلامى )، ج‏1، ص: 126

هذا بالنظر إلى نفس الصيغة. أمّا بالنظر إلى الدليل الخارجي المنفصل فقد قيل بوجود الدليل على الفور في جميع الواجبات على نحو العموم إلّا ما دلّ عليه دليل خاصّ ينصّ على جواز التراخي فيه بالخصوص‏ «1». و قد ذكروا لذلك آيتين.

الاولى: قوله تعالى- في سورة آل عمران 127-: «وَ سارِعُوا إِلى‏ مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ». و تقريب الاستدلال بها: أنّ المسارعة إلى المغفرة لا تكون إلّا بالمسارعة إلى سببها، و هو الإتيان بالمأمور به، لأنّ المغفرة فعل اللَّه تعالى فلا معنى لمسارعة العبد إليها. وعليه، فيكون الإسراع إلى فعل المأمور به واجباً لما مرّ من ظهور صيغة «افعل» في الوجوب.

الثانية: قوله تعالى- في سورة البقرة 143 و المائدة 53-: «فَاسْتَبِقُوا الْخَيْراتِ»* فإنّ الاستباق بالخيرات عبارة اخرى عن الإتيان بها فوراً.

و الجواب عن الاستدلال بكلتا الآيتين: إنّ «الخيرات» و «سبب المغفرة» كما تصدق على الواجبات تصدق على المستحبّات أيضاً، فتكون المسارعة و المسابقة شاملتين لما هما في المستحبّات أيضاً، و من البديهي عدم وجوب المسارعة فيها؛ كيف! و هي يجوز تركها رأساً. و إذا كانتا شاملتين للمستحبّات بعمومهما كان ذلك قرينة على أنّ طلب المسارعة ليس على نحو الإلزام. فلا تبقى لهما دلالة على الفوريّة في عموم الواجبات.

بل لو سلّمنا باختصاصهما في الواجبات‏ «2» لوجب صرف ظهور صيغة «افعل» فيها «3» في الوجوب و حملها على الاستحباب، نظراً إلى أنّا نعلم‏

______________________________ (1) انظر هداية المسترشدين: ص 190 س 27.

(2) الأولى في العبارة: اختصاصهما بالواجبات.

(3) كذا، و الظاهر: فيهما.

أصول الفقه ( مظفر، محمد رضا - طبع انتشارات اسلامى )، ج‏1، ص: 127

عدم وجوب الفوريّة في أكثر الواجبات، فيلزم تخصيص الأكثر بإخراج أكثر الواجبات عن عمومهما. و لا شكّ أنّ الإتيان بالكلام عامّاً مع تخصيص الأكثر و إخراجه من العموم بعد ذلك قبيح في المحاورات العرفيّة و يُعدّ الكلام عند العرف مستهجناً؛ فهل ترى يصحّ‏ «1» لعارفٍ بأساليب الكلام أن يقول مثلًا: «بعت أموالي» ثمّ يستثني واحداً فواحداً حتّى لا يبقى تحت العامّ إلّا القليل؟ لا شكّ في أنّ هذا الكلام يُعدّ مستهجناً لا يصدر عن حكيم عارف.

إذن لا يبقى مناص من حمل الآيتين على الاستحباب.

- 8 المرّة و التكرار «2»

و اختلفوا أيضاً في دلالة صيغة «افعل» على المرّة و التكرار على أقوال‏ «3» كاختلافهم في الفور و التراخي. و المختار هنا كالمختار هناك، و الدليل نفس الدليل: من عدم دلالة الصيغة لا بهيئتها و لا بمادّتها على المرّة و لا التكرار، لما عرفت من أنّها لا تدلّ على أكثر من طلب نفس‏

______________________________ (1) في ط الاولى: أ لا ترى أ يصحّ.

(2) (*) المرّة و التكرار لهما معنيان: الأوّل الدفعة و الدفعات، الثاني الفرد و الأفراد. و الظاهر أنّ المراد منهما في محل النزاع هو المعنى الأوّل: و الفرق بينهما: أنّ الدافعة قد تتحقّق بفرد واحد من الطبيعة المطلوبة، و قد تتحقّق بأفراد متعدّدة إذا جي‏ء بها في زمانٍ واحد؛ فلذلك تكون «الدفعة» أعمّ من «الفرد» مطلقاً. كما أنّ «الأفراد» أعمّ مطلقاً من «الدفعات»، لأنّ الأفراد- كما قلنا- قد تحصل دفعة واحدة و قد تحصل بدفعات.

(3) قال العلّامة قدس سره: فقال أبو إسحاق الإسفرائني و جماعة من الفقهاء و المتكلّمين: إنّه يقتضي التكرار المستوعب لمدّة العمر مع الإمكان. و قال آخرون: إنّه لا يقتضي وحدة و لا تكرار من حيث المفهوم، إلّا أنّ ذلك المطلوب لمّا حصل بالمرّة الواحدة اكتفى بها، و هو الحقّ، و هو مذهب السيّد المرتضى و أبي الحسين البصري و فخر الدين الرازي. و قال قوم: إنّه يقتضي المرّة الواحدة لفظاً. و آخرون توقّفوا، نهاية الوصول: الورقة 30.

أصول الفقه ( مظفر، محمد رضا - طبع انتشارات اسلامى )، ج‏1، ص: 128

الطبيعة من حيث هي؛ فلا بدّ من دالّ آخر على كلٍّ منهما.

أمّا الإطلاق، فإنّه يقتضي الاكتفاء بالمرّة. و تفصيل ذلك:

إنّ مطلوب المولى لا يخلو من أحد وجوه ثلاثة (و يختلف الحكم فيها من ناحية جواز الاكتفاء و جواز التكرار):

1- أن يكون المطلوب صِرف وجود الشي‏ء بلا قيد و لا شرط، بمعنى أنّه يريد ألّا يبقى مطلوبه معدوماً، بل يخرج من ظلمة العدم إلى نور الوجود لا أكثر، و لو بفردٍ واحد. و لا محالة- حينئذ- ينطبق المطلوب قهراً على أوّل وجوداته، فلو أتى المكلّف بما امر به أكثر من مرّة فالامتثال يكون بالوجود الأوّل، و يكون الثاني لغواً محضاً، كالصلاة اليوميّة.

2- أن يكون المطلوب الوجود الواحد بقيد الوحدة، أي بشرط ألّا يزيد على أوّل وجوداته فلو أتى المكلّف حينئذٍ بالمأمور به مرّتين لا يحصل الامتثال أصلًا، كتكبيرة الإحرام للصلاة، فإنّ الإتيان بالثانية عقيب الاولى مبطل للُاولى و هي تقع باطلة.

3- أن يكون المطلوب الوجود المتكرّر، إمّا بشرط تكرّره فيكون المطلوب هو المجموع بما هو مجموع، فلا يحصل الامتثال بالمرّة أصلًا كركعات الصلاة الواحدة. و إمّا لا بشرط تكرّره بمعنى أنّه يكون المطلوب كل واحدٍ من الوجودات كصوم أيّام شهر رمضان، فلكلّ مرّة امتثالها الخاصّ.

و لا شكّ أنّ الوجهين الأخيرين يحتاجان إلى بيان زائد على مفاد الصيغة. فلو أطلق المولى و لم يقيِّد بأحد الوجهين- و هو في مقام البيان- كان إطلاقه دليلًا على إرادة الوجه الأوّل. وعليه، يحصل الامتثال- كما قلنا- بالوجود الأوّل، و لكن لا يضرّ الوجود الثاني، كما أنّه لا أثر له في الامتثال و غرض المولى.

أصول الفقه ( مظفر، محمد رضا - طبع انتشارات اسلامى )، ج‏1، ص: 129

و مما ذكرنا يتّضح أنّ مقتضى الإطلاق جواز الإتيان بأفراد كثيرة معاً دفعةً واحدة و يحصل الامتثال بالجميع. فلو قال المولى: «تصدّق على مسكين» فمقتضى الإطلاق جواز الاكتفاء بالتصدّق مرّةً واحدة على مسكينٍ واحد، و حصول الامتثال بالتصدّق على عدّة مساكين دفعةً واحدة و يكون امتثالًا واحداً بالجميع، لصدق صِرف الوجود على الجميع، إذ الامتثال كما يحصل بالفرد الواحد يحصل بالأفراد المجتمعة بالوجود.

- 9 هل يدلّ نسخ الوجوب على الجواز؟

إذا وجب شي‏ء في زمانٍ بدلالة الأمر ثمّ نُسخ ذلك الوجوب قطعاً، فقدِ اختلفوا في بقاء الجواز الّذي كان مدلولًا للأمر، لأنّ الأمر كان يدلّ على جواز الفعل مع المنع من تركه، فمنهم من قال ببقاء الجواز «1» و منهم من قال بعدمه‏ «2».

و يرجع النزاع- في الحقيقة- إلى النزاع في مقدار دلالة نسخ الوجوب، فإنّ فيه احتمالين:

1- إنّه يدلّ على رفع خصوص المنع من الترك فقط، و حينئذٍ تبقى دلالة الأمر على الجواز على حالها لا يمسّها النسخ و هو القول الأوّل.

و منشأ هذا: أنّ الوجوب ينحلّ إلى الجواز و المنع من الترك، و لا شأن في النسخ إلّا رفع المنع من الترك فقط، و لا تعرّض له لجنسه و هو الجواز، أي الإذن في الفعل.

2- إنّه يدلّ على رفع الوجوب من أصله، فلا يبقى لدليل الوجوب‏

______________________________ (1) مبادئ الوصول إلى علم الاصول: ص 113.

(2) معالم الدين: ص 86.

أصول الفقه ( مظفر، محمد رضا - طبع انتشارات اسلامى )، ج‏1، ص: 130

شي‏ء يدلّ عليه. و منشأ هذا هو: أنّ الوجوب معنى بسيطٌ لا ينحلّ إلى جزءين، فلا يتصوّر في النسخ أنّه رفع للمنع من الترك فقط.

و المختار هو القول الثاني، لأنّ الحقّ أنّ الوجوب أمر بسيط و هو «الإلزام بالفعل» و لازمه المنع من الترك، كما أنّ الحرمة هي «المنع من الفعل» و لازمها الإلزام بالترك، و ليس الإلزام بالترك الّذي هو معناه وجوب الترك جزءاً من معنى حرمة الفعل، و كذلك المنع من الترك الّذي معناه حرمة الترك ليس جزءاً من معنى وجوب الفعل، بل أحدهما لازمٌ للآخر ينشأ منه تبعاً له.

فثبوت الجواز بعد النسخ للوجوب يحتاج إلى دليلٍ خاصّ يدلّ عليه، و لا يكفي دليل الوجوب، فلا دلالة لدليل الناسخ و لا لدليل المنسوخ على الجواز. و يمكن أن يكون الفعل بعد نسخ وجوبه محكوماً بكلّ واحدٍ من الأحكام الأربعة الباقية.

و هذا البحث لا يستحقّ أكثر من هذا الكلام، لقلّة البلوى به. و ما ذكرناه فيه الكفاية.

- 10 الأمر بشي‏ءٍ مرّتين‏

إذا تعلّق الأمر بفعلٍ مرّتين فهو يمكن أن يقع على صورتين:

1- أن يكون الأمر الثاني بعد امتثال الأمر الأوّل. و حينئذٍ لا شبهة في لزوم امتثاله ثانياً.

2- أن يكون الأمر الثاني قبل امتثال الأمر الأوّل. و حينئذٍ يقع الشكّ في وجوب امتثاله مرّتين، أو كفاية المرّة الواحدة في الامتثال. فإن كان الأمر الثاني تأسيساً لوجوبٍ آخر تعيّن الامتثال مرّةً بعد اخرى، و إن كان تأكيداً للأمر الأوّل فليس لهما إلّا امتثال واحد.

أصول الفقه ( مظفر، محمد رضا - طبع انتشارات اسلامى )، ج‏1، ص: 131

و لتوضيح الحال و بيان الحقّ في المسألة نقول: إنّ هذا الفرض له أربع حالات:

الاولى: أن يكون الأمران معاً غير معلّقين على شرط، كأن يقول مثلًا:

«صلِّ» ثمّ يقول ثانياً «صلِّ» فإنّ الظاهر حينئذٍ أن يحمل الأمر الثاني على التأكيد، لأنّ الطبيعة الواحدة يستحيل تعلّق الأمرين بها من دون امتياز في البين، فلو كان الثاني تأسيساً غير مؤكّد للأوّل لكان على الآمر تقييد متعلّقه و لو بنحو «مرّة اخرى». فمن عدم التقييد و ظهور وحدة المتعلّق فيهما يكون اللفظ في الثاني ظاهراً في التأكيد و إن كان التأكيد في نفسه خلاف الأصل و خلاف ظاهر الكلام لو خلّي و نفسه.

الثانية: أن يكون الأمران معاً معلّقين على شرطٍ واحد، كأن يقول المولى مثلًا: «إن كنت محدثاً فتوضّأ»؛ ثمّ يكرّر نفس القول ثانياً، ففي هذه الحالة أيضاً يحمل على التأكيد لعين ما قلناه في الحالة الاولى بلا تفاوت.

الثالثة: أن يكون أحد الأمرين معلّقاً و الآخر غير معلّق، كأن يقول مثلًا: «اغتسل» ثمّ يقول: «إن كنت جنباً فاغتسل» ففي هذه الحالة أيضاً يكون المطلوب واحداً و يحمل على التأكيد، لوحدة المأمور به ظاهراً المانعة من تعلّق الأمرين به. غير أنّ الأمر المطلق- أعني غير المعلّق- يحمل إطلاقه على المقيّد- أعني المعلَّق- فيكون الثاني مقيّداً لإطلاق الأوّل و كاشفاً عن المراد منه.

الرابعة: أن يكون أحد الأمرين معلّقاً على شي‏ء و الآخر معلّقاً على شي‏ءٍ آخر، كأن يقول مثلًا: «إن كنت جنباً فاغتسل» و يقول: «إن مسست ميّتاً فاغتسل» ففي هذه الحالة يحمل- ظاهراً- على التأسيس، لأنّ الظاهر أنّ المطلوب في كلّ منهما غير المطلوب في الآخر، و يبعد جدّاً

أصول الفقه ( مظفر، محمد رضا - طبع انتشارات اسلامى )، ج‏1، ص: 132

حمله على أنّ المطلوب واحد. أمّا التأكيد فلا معنى له هنا. و أمّا القول بالتداخل- بمعنى الاكتفاء بامتثال واحد عن المطلوبين- فهو ممكن، و لكنّه ليس من باب التأكيد، بل لا يُفرض إلّا بعد فرض التأسيس و أنّ هناك أمرين يُمتثلان معاً بفعلٍ واحد.

و لكن التداخل- على كلّ حال- خلاف الأصل، و لا يصار إليه إلّا بدليل خاصّ، كما ثبت في غسل الجنابة أنّه يجزئ عن كلّ غسل آخر.

و سيأتي البحث عن التداخل مفصّلًا في مفهوم الشرط.

- 11 دلالة الأمر بالأمر على الوجوب‏

إذا أمر المولى أحد عبيده أن يأمر عبده الآخر بفعل، فهل هو أمر بذلك الفعل حتّى يجب على الثاني فعله؟ [اختلفوا] على قولين. و هذا يمكن فرضه على نحوين:

1- أن يكون المأمور الأوّل على نحو المبلِّغ لأمر المولى إلى المأمور الثاني، مثل أن يأمر رئيس الدولة وزيره أن يأمر الرعيّة عنه بفعلٍ. و هذا النحو- لا شكّ- خارج عن محلّ الخلاف، لأنّه لا يشكّ أحد في ظهوره في وجوب الفعل على المأمور الثاني. و كلّ أوامر الأنبياء بالنسبة إلى المكلّفين من هذا القبيل.

2- ألّا يكون المأمور الأوّل على نحو المبلِّغ، بل هو مأمور أن يستقلّ في توجيه الأمر إلى الثاني من قبل نفسه، على نحو قول الإمام عليه السلام «مرهم بالصلاة و هم أبناء سبع» «1» يعني الأطفال. و هذا النحو هو محلّ الخلاف و البحث. و يلحق به ما لم يعلم الحال فيه أنّه على أيّ نحو من النحوين المذكورين.

______________________________ (1) الوسائل: ج 3 ص 12 الباب 3 من ابواب أعداد الفرائض، ح 5. (باختلاف في اللفظ).

أصول الفقه ( مظفر، محمد رضا - طبع انتشارات اسلامى )، ج‏1، ص: 133

و المختار: أنّ مجرّد الأمر بالأمر ظاهر عرفاً في وجوبه على الثاني.

توضيح ذلك: أنّ الأمر بالأمر لا على نحو التبليغ يقع على صورتين:

الاولى: أن يكون غرض المولى يتعلّق في فعل المأمور الثاني، و يكون أمره بالأمر طريقاً للتوصّل إلى حصول غرضه. و إذا عرف غرضه أنّه على هذه الصورة يكون أمره بالأمر- لا شكّ- أمراً بالفعل نفسه.

الثانية: أن يكون غرضه في مجرّد أمر المأمور الأوّل من دون أن يتعلّق له غرض بفعل المأمور الثاني، كما لو أمر المولى ابنه- مثلًا- أن يأمر العبد بشي‏ءٍ و لا يكون غرضه إلّا أن يعود ابنه على إصدار الأوامر أو نحو ذلك، فيكون غرضه فقط في إصدار الأوّل أمرَه، فلا يكون الفعل مطلوباً له أصلًا في الواقع.

و واضح لو علم الثاني المأمور بهذا الغرض لا يكون أمر المولى بالأمر أمراً له و لا يُعدّ عاصياً لمولاه لو تركه، لأنّ الأمر المتعلّق لأمر المولى يكون مأخوذاً على نحو الموضوعيّة و هو متعلّق الغرض، لا على نحو الطريقيّة لتحصيل الفعل من العبد- المأمور الثاني-.

فإن قامت قرينة على إحدى الصورتين المذكورتين فذاك، و إن لم تقم قرينة فإنّ ظاهر الأوامر عرفاً مع التجرّد عن القرائن هو أنّه على نحو الطريقيّة.

فإذاً، الأمر بالأمر مطلقاً يدلّ على الوجوب، إلّا إذا ثبت أنّه على نحو الموضوعيّة، و ليس مثله يقع في الأوامر الشرعيّة.

*** أصول الفقه ( مظفر، محمد رضا - طبع انتشارات اسلامى )، ج‏1، ص: 134