حضرت امام علی عليه‌السلام نے فرمایا: اللہ سبحانہ کے پیغمبر، حق کے ترجمان اور خالق و مخلوق کے درمیان سفیر ہوتے ہیں۔ غررالحکم حدیث1935

اصول الفقہ حصہ سوم

الباب الرابع: الدليلُ العقلي‏

قد مضى في الجزء الثاني البحث مستوفىً عن الملازمات العقليّة، لتشخيص صغريات حجّية العقل، أي لتعيين القضايا العقلية الّتي يتوصّل بها إلى الحكم الشرعي و بيان ما هو الدليل العقلي الّذي يكون حجّة.

و قد حصرناها هناك في قسمين رئيسين:

الأوّل: حكم العقل بالحسن و القبح و هو قسم المستقلّات العقليّة.

و الثاني: حكمه بالملازمة بين حكم الشرع و حكم آخر «1» و هو قسم غير المستقلّات العقليّة.

و وعدنا هناك ببيان وجه حجّية الدليل العقلي، و الآن قد حلّ الوفاء بالوعد. و لكن قبل بيان وجه الحجّية لا بدّ من الكرّة بأُسلوبٍ جديدٍ إلى البحث عن تلك القضايا العقليّة، لغرض بيان الآراء فيها و بيان وجه حصرها و تعيينها فيما ذكرناه، فنقول:

إنّ علماءنا الاصوليّين من المتقدّمين حصروا الأدلّة على الأحكام الشرعيّة في الأربعة المعروفة الّتي رابعها «الدليل العقلي» بينما أنّ بعض علماء أهل السنّة أضافوا إلى الأربعة المذكورة القياس و نحوه، على اختلاف آرائهم. و من هنا نعرف أنّ المراد من «الدليل العقلي» ما لا يشمل‏

______________________________ (1) في العبارة شي‏ء من الإبهام.

أصول الفقه ( مظفر، محمد رضا - طبع انتشارات اسلامى )، ج‏3، ص: 129

مثل القياس، فمن ظنّ من الأخباريّين فيهم‏ «1» أنّهم يريدون منه ما يشمل القياس [تشنيعاً عليهم‏] «2» ليس في موضعه، و هو ظنّ تأباه تصريحاتهم في عدم الاعتبار بالقياس و نحوه.

و مع ذلك فإنّه لم يظهر لي بالضبط ما كان يقصد المتقدّمون من علمائنا بالدليل العقلي، حتّى أنّ الكثير منهم لم يذكره من الأدلّة، أو لم يفسّره، أو فسّره بما لا يصلح أن يكون دليلًا في قبال الكتاب و السنّة. و أقدم نصٍّ وجدته ما ذكره الشيخ المفيد- المتوفّى سنة 413- في رسالته الاصوليّة الّتي لخّصها الشيخ الكراجكي‏ «3» فإنّه لم يذكر الدليل العقلي من جملة أدلّة الأحكام، و إنّما ذكر أنّ اصول الأحكام ثلاثة: الكتاب و السنّة النبويّة و أقوال الأئمّة عليهم السلام. ثمّ ذكر أنّ الطرق الموصلة إلى ما في هذه الاصول ثلاثة: اللسان، و الأخبار، و أوّلها العقل، و قال عنه:

«و هو سبيل إلى معرفة حجّية القرآن و دلائل الأخبار». و هذا التصريح كما ترى أجنبيّ عمّا نحن في صدده.

ثم يأتي بعده تلميذه الشيخ الطوسي- المتوفّى سنة 460- في كتابه (العُدّة) الّذي هو أوّل كتابٍ مبسَّطٍ في الاصول، فلم يصرّح بالدليل العقلي، فضلًا عن أن يشرحه أو يفرد له بحثاً. و كلّ ما جاء فيه في آخر فصل منه أنّه بعد أن قسّم المعلومات إلى ضروريّة و مكتسبة و المكتسب إلى‏ عقلي و سمعي، ذكر من جملة أمثلة الضروري العلم بوجوب ردّ الوديعة و شكر المنعم و قبح الظلم و الكذب. ثمّ ذكر في معرض كلامه: أنّ القتل و الظلم‏

______________________________ (1) في ط 2: في الاصوليّين.

(2) لم يرد في ط 2.

(3) (*) راجع تأليفه كنز الفوائد: ص 186 المطبوع على الحجر في إيران سنة 1322 ه [ج 2 ص 15 من الطبعة الحديثة].

أصول الفقه ( مظفر، محمد رضا - طبع انتشارات اسلامى )، ج‏3، ص: 130

معلوم بالعقل قبحه، و يريد من قبحه تحريمَه. و ذكر أيضاً أنّ الأدلّة الموجبة للعلم فبالعقل يُعلم كونها أدلّة و لا مدخل للشرع في ذلك‏ «1».

و أوّل من وجدته من الاصوليّين يصرّح بالدليل العقلي الشيخ ابن إدريس- المتوفّى 598- فقال (في السرائر ص 2): فإذا فقدت الثلاثة- يعني الكتاب و السنّة و الإجماع- فالمعتمد عند المحقّقين التمسّك بدليل العقل فيها «2». و لكنّه لم يذكر المراد منه.

ثمّ يأتي المحقّق الحلّي- المتوفّى 676- فيشرح المراد منه فيقول في كتابه (المعتبر ص 6) بما ملخّصه: و أمّا الدليل العقلي فقسمان: أحدهما ما يتوقّف فيه على الخطاب، و هو ثلاثة: لحن الخطاب، و فحوى الخطاب، و دليل الخطاب. و ثانيهما ما ينفرد العقل بالدلالة عليه‏ «3». و يحصره في وجوه الحسن و القبح، بما لا يخلو من المناقشة في أمثلته.

و يزيد عليه الشهيد الأوّل- المتوفّى 786- في مقدّمة كتابه (الذكرى) فيجعل القسم الأوّل ما يشمل الأنواع الثلاثة الّتي ذكرها المحقّق، و ثلاثة اخرى و هي: مقدّمة الواجب، و مسألة الضدّ، و أصل الإباحة في المنافع و الحرمة في المضارّ. و يجعل القسم الثاني ما يشمل ما ذكره المحقّق، و أربعة اخرى و هي: البراءة الأصليّة، و ما لا دليل عليه، و الأخذ بالأقلّ عند الترديد بينه و بين الاكثر، و الاستصحاب‏ «4». و هكذا ينهج هذا النهج جماعة آخرون من المؤلّفين، في حين أنّ الكتب الدراسيّة المتداولة- مثل المعالم و الرسائل و الكفاية- لم تبحث هذا

______________________________ (1) العُدّة: ج 2 ص 759- 762.

(2) السرائر: ج 1 ص 46.

(3) المعتبر: ج 1 ص 31.

(4) الذكرى: ج 1 ص 52- 53.

أصول الفقه ( مظفر، محمد رضا - طبع انتشارات اسلامى )، ج‏3، ص: 131

الموضوع و لم تعرّف الدليلَ العقلي. و لم تذكر مصاديقه، إلّا إشارات عابرة في ثنايا الكلام.

و من تصريحات المحقّق و الشهيد الأوّل يظهر أنّه لم تتجلَّ فكرة الدليل العقلي في تلك العصور، فوسّعوا في مفهومه إلى ما يشمل الظواهر اللفظيّة مثل «لحن الخطاب» و هو أن تدلّ قرينة عقليّة على حذف لفظٍ، و «فحوى الخطاب» و يعنون به مفهومَ الموافقة، و «دليل الخطاب»، و يعنون به مفهومَ المخالفة. و هذه كلّها تدخل في حجّية الظهور، و لا علاقة لها بدليل العقل المقابل للكتاب و السنّة.

و كذلك الاستصحاب، فإنّه أصل عملي قائم برأسه، كما بحثه المتقدّمون في مقابل دليل العقل.

و الغريب في الأمر! أنّه حتّى مثل المحقّق القمّي- المتوفّى سنة 1231- نسق على مثل هذا التفسير لدليل العقل فأدخل فيه الظواهر مثل المفاهيم، بينما هو نفسه عرّفه بأنّه «حكم عقلي يوصل به إلى الحكم الشرعي و ينتقل من العلم بالحكم العقلي إلى العلم بالحكم الشرعي» «1».

و أحسن من رأيته قد بحث الموضوع بحثاً مفيداً معاصره العلّامة السيّد محسن الكاظمي في كتابه (المحصول) «2» و كذلك تلميذه المحقّق- صاحب الحاشية على المعالم- الشيخ محمّد تقي الأصفهاني الّذي نسج على منواله‏ «3» و ان كان فيما ذكره بعض الملاحظات‏ «4» لا مجال لذكرها و مناقشتها [هنا] «5».

______________________________ (1) القوانين: ج 2 ص 2.

(2) لا يحضرنا هذا الكتاب.

(3) راجع هداية المسترشدين: ص 432 س 6.

(4) في ط الاولى: بعض الهنات.

(5) لم يرد في ط الاولى.

أصول الفقه ( مظفر، محمد رضا - طبع انتشارات اسلامى )، ج‏3، ص: 132

و على كلّ حالٍ، فإنّ إدخال المفاهيم و الاستصحاب و نحوها في مصاديق الدليل العقلي لا يناسب جعله دليلًا في مقابل الكتاب و السنّة، و لا يناسب تعريفه بأنّه «ما ينتقل من العلم بالحكم العقلي إلى العلم بالحكم الشرعي».

و بسبب عدم وضوح المقصود من الدليل العقلي انتحى الأخباريّون باللائمة على الاصوليّين إذ يأخذون بالعقل حجّة على الحكم الشرعي.

و لكنّهم‏ «1» أنفسهم أيضاً لم يتّضح مقصودهم في التزهيد بالعقل، و هل تراهم يحكّمون غيرَ عقولهم في التزهيد بالعقول؟

و يتجلّى لنا عدم وضوح المقصود من الدليل العقلي ما «2» ذكره الشيخ المحدّث البحراني في حدائقه، و هذا نصّ عبارته:

المقام الثالث في دليل العقل، و فسّره بعض بالبراءة و الاستصحاب، و آخرون قصّروه على الثاني، و ثالث فسّره بلحن الخطاب و فحوى الخطاب و دليل الخطاب، و رابع بعد البراءة الأصليّة و الاستصحاب بالتلازم بين الحكمين المندرج فيه مقدّمة الواجب و استلزام الأمر بالشي‏ء النهي عن ضدّه الخاصّ، و الدلالة الالتزامية «3» ثمّ تكلّم عن كلّ منها في مطالب عدا التلازم بين الحكمين لم يتحدّث عنه. و لم يذكر من الأقوال حكم العقل في مسألة الحسن و القبح، بينما أنّ حكم العقل المقصود الّذي ينبغي‏ ______________________________ (1) في ط الاولى: و مع الأسف انّهم.

(2) كذا، و الظاهر: «ممّا» بملاحظة قوله: «و يتجلّى» و لعلّ الأصل فيه يجلّي.

(3) الحدائق الناضرة: ج 1 ص 40. أصول الفقه ( مظفر، محمد رضا - طبع انتشارات اسلامى )، ج‏3، ص: 133

أن يُجعل دليلًا هو خصوص التلازم بين الحكمين و حكم العقل في الحسن و القبح. و ما نقله من الأقوال لم يكن دقيقاً كما سبق بيان بعضها.

و كيفما كان، فالّذي يصلح أن يكون مراداً من الدليل العقلي المقابل للكتاب و السنّة هو: «كلّ حكمٍ للعقل يوجب القطع بالحكم الشرعي» و بعبارة ثانية هو: «كلّ قضيّةٍ عقلية يتوصّل بها إلى العلم القطعي بالحكم الشرعي». و قد صرّح بهذا المعنى جماعة من المحقّقين المتأخّرين‏ «1».

و هذا أمر طبيعي، لأنّه إذا كان الدليل العقلي مقابلًا للكتاب و السنّة لا بدّ ألّا يعتبر حجّة إلّا إذا كان موجباً للقطع الّذي هو حجة بذاته؛ فلذلك لا يصحّ أن يكون شاملًا للظنون و ما لا يصلح للقطع بالحكم من المقدّمات العقليّة.

و لكن هذا التحديد بهذا المقدار لا يزال مجملًا، و قد وقع خلط و خبط عظيمان في فهم هذا الأمر. و لأجل أن تُرفع جميع الشكوك و المغالطات و الأوهام لا بدّ لنا من توضيح الأمر بشي‏ءٍ من البسط، لوضع النقاط على الحروف كما يقولون، فنقول:

1- إنّه قد تقدّم (ج 2 ص 277) أنّ العقل ينقسم إلى عقلٍ نظري و عقلٍ عملي. و هذا التقسيم باعتبار ما يتعلق به الإدراك:

فالمراد من «العقل النظري»: إدراك ما ينبغي أن يُعلم، أي إدراك الامور الّتي لها واقع. و المراد من «العقل العملي»: إدراك ما ينبغي أن يُعمل، أي حكمه بأنّ هذا الفعل ينبغي فعله أولا ينبغي فعله.

2- إنّه ما المراد من العقل الّذي نقول إنّه حجّة من هذين القسمين؟

إن كان المراد «العقل النظري» فلا يمكن أن يستقلّ بإدراك الأحكام الشرعيّة ابتداءً، أي لا طريق للعقل أن يعلم من دون الاستعانة بالملازمة أنّ هذا الفعل حكمه كذا عند الشارع.

______________________________ (1) انظر القوانين: ج 2 ص 2، و الفصول الغرويّة: ص 316، و مطارح الأنظار: ص 229.

أصول الفقه ( مظفر، محمد رضا - طبع انتشارات اسلامى )، ج‏3، ص: 134

و السرّ في ذلك واضح، لأنّ أحكام اللَّه توقيفيّة فلا يمكن العلم بها إلّا من طريق السماع من مبلّغ الأحكام المنصوب من قِبَله تعالى لتبليغها، ضرورة أنّ أحكام اللَّه ليست من القضايا الأوّلية و ليست ممّا تنالها المشاهدة بالبصر و نحوه من الحواسّ الظاهرة بل الباطنة، و ليست أيضاً ممّا تنالها التجربة و الحدس. و إذا كانت كذلك فكيف يمكن العلم بها من غير طريق السماع من مبلّغها؟ و شأنها في ذلك شأن سائر المجعولات الّتي يضعها البشر كاللغات و الخطوط و الرموز و نحوها.

و كذلك ملاكات الأحكام- كنفس الأحكام- لا يمكن العلم بها إلّا من طريق السماع من مبلّغ الأحكام، لأنّه ليس عندنا قاعدة مضبوطة نعرف بها أسرار أحكام اللَّه و ملاكاتها الّتي انيطت بها الأحكام عنده‏ «1» و الظنّ لا يغني من الحقّ شيئاً.

و على هذا، فمن نفى حجّية العقل و قال: «إنّ الأحكام سمعيّة لا تُدرك بالعقول» فهو على حقّ إذا أراد من ذلك ما أشرنا إليه، و هو نفي استقلال العقل النظري من إدراك الأحكام و ملاكاتها. و لعلّ بعض منكري الملازمة بين حكم العقل و حكم الشرع قصد هذا المعنى- كصاحب الفصول و جماعة من الأخباريّين‏ «2»- و لكن خانه التعبير عن مقصوده. و إذا كان هذا مرادهم فهو أجنبيّ عمّا نحن بصدده من كون الدليل العقلي حجّة يتوصّل به إلى الحكم الشرعي.

إنّنا نقصد من الدليل العقلي حكم العقل النظري بالملازمة بين الحكم الثابت شرعاً أو عقلًا و بين حكم شرعي آخر، كحكمه بالملازمة في مسألة الإجزاء و مقدّمة الواجب و نحوهما، و كحكمه باستحالة التكليف‏

______________________________ (1) راجع ما تقدّم في ج 2 ص 296.

(2) راجع ج 2 ص 269 و 293.

أصول الفقه ( مظفر، محمد رضا - طبع انتشارات اسلامى )، ج‏3، ص: 135

بلا بيان اللازم منه حكم الشارع بالبراءة، و كحكمه بتقديم الأهمّ في مورد التزاحم بين الحكمين المستنتج منه فعليّة حكم الأهمّ عند اللَّه، و كحكمه بوجوب مطابقة حكم اللَّه لما حكم به العقلاء في الآراء المحمودة.

فإنّ هذه الملازمات و أمثالها امور حقيقيّة واقعيّة يدركها العقل النظري بالبداهة أو بالكسب، لكونها من الأوّليّات و الفطريّات الّتي قياساتها معها، أو لكونها تنتهي إليها فيعلم بها العقل على سبيل الجزم. و إذا قطع العقل بالملازمة- و المفروض أنّه قاطع بثبوت الملزوم- فإنّه لا بدّ أن يقطع بثبوت اللازم، و هو- أي اللازم- حكم الشارع. و مع حصول القطع فإنّ القطع حجّة يستحيل النهي عنه، بل به حجّية كلّ حجّة، كما سبق بيانه ص 22.

وعليه، فهذه الملازمات العقليّة هي كبريات القضايا العقليّة الّتي بضمّها إلى صغرياتها يتوصّل بها إلى الحكم الشرعي. و لا أظنّ أحداً بعد التوجّه إليها و الالتفات إلى حقيقتها يستطيع إنكارها، إلّا السوفسطائيّين الّذين ينكرون الوثوق بكلّ معرفةٍ حتّى المحسوسات.

و لا أظنّ أنّ هذه القضايا العقليّة هي مقصود من أنكر حجّيتها من الأخباريّين و غيرهم و إن أوهمت بعض عباراتهم ذلك، لعدم التمييز بين نقاط البحث.

و إذا عرفت ذلك، تعرف أنّ الخلط في المقصود من إدراك العقل النظري و عدم التمييز بين ما يدركه من الأحكام ابتداءً و ما يدركه منها بتوسّط الملازمة هو سبب المحنة في هذا الاختلاف و سبب المغالطة الّتي وقع فيها بعضهم‏ «1» إذ نفى مطلقاً إدراكَ العقل لحكم الشارع و حجّيَّته،

______________________________ (1) لم يتعيّن لنا هذا البعض، انظر الحدائق: ج 1 ص 131.

أصول الفقه ( مظفر، محمد رضا - طبع انتشارات اسلامى )، ج‏3، ص: 136

قائلًا: «إنّ أحكام اللَّه توقيفيّة لا مسرح للعقول فيها» و غفل عن أنّ هذا التعليل إنّما يصلح لنفي إدراكه للحكم ابتداءً و بالاستقلال، و لا يصلح لنفي إدراكه للملازمة المستتبع لعلمه بثبوت اللازم و هو الحكم. 3- هذا كله إذا اريد من العقل «العقل النظري».

و أمّا لو اريد به «العقل العملي» فكذلك لا يمكن أن يستقلّ في إدراك أنّ هذا ينبغي فعله عند الشارع أو لا ينبغي، بل لا معنى لذلك، لأنّ هذا الإدراك وظيفة العقل النظري، باعتبار انّ «كون هذا الفعل ينبغي فعله عند الشارع بالخصوص أو لا ينبغي» من الامور الواقعيّة الّتي تدرك بالعقل النظري لا بالعقل العملي. و إنّما كلّ ما للعقل العملي من وظيفةٍ هو أن يستقلّ بإدراك أنّ هذا الفعل في نفسه ممّا ينبغي فعله أو لا ينبغي مع قطع النظر عن نسبته إلى الشارع المقدّس أو إلى أيّ حاكم آخر، يعني أنّ العقل العملي يكون هو الحاكم في الفعل، لا حاكياً عن حاكمٍ آخر.

و إذا حصل للعقل العملي هذا الإدراك جاء العقل النظري عقيبه، فقد يحكم بالملازمة بين حكم العقل العملي و حكم الشارع و قد لا يحكم. و لا يحكم بالملازمة إلّا في خصوص مورد مسألة التحسين و التقبيح العقليّين، أي خصوص القضايا المشهورات الّتي تُسمّى «الآراء المحمودة» و الّتي تطابقت عليها آراء العقلاء كافّةً بما هم عقلاء.

و حينئذٍ بعد حكم العقل النظري بالملازمة يُستكشف حكم الشارع على سبيل القطع، لأنّه بضمّ المقدّمة العقليّة المشهورة الّتي هي من الآراء المحمودة (الّتي يدركها العقل العملي) إلى المقدّمة التي تتضمّن الحكم بالملازمة (الّتي يدركها العقل النظري) يحصل للعقل النظري العلم بأنّ الشارع له هذا الحكم، لأنّه حينئذٍ يقطع باللازم- و هو الحكم- بعد فرض قطعه بثبوت الملزوم و الملازمة.

أصول الفقه ( مظفر، محمد رضا - طبع انتشارات اسلامى )، ج‏3، ص: 137

و من هنا قلنا سابقاً: إنّ المستقلّات العقليّة تنحصر في مسألةٍ واحدة، و هي مسألة التحسين و التقبيح العقليّين، لأنّه لا يشارك الشارعُ حكمَ العقل العملي إلّا فيها، أي أنّ العقل النظري لا يحكم بالملازمة إلّا في هذا المورد خاصّة «1».

أصول الفقه ( مظفر، محمد رضا - طبع انتشارات اسلامى ) ؛ ج‏3 ؛ ص137

وجه حجّية العقل:

4- إذا عرفت ما شرحناه، و هو أنّ العقل النظري يقطع باللازم- أعني حكم الشارع- بعد قطعه بثبوت الملزوم الّذي هو حكم الشرع أو العقل.

و بعد فرض قطعه بالملازمة نشرع في بيان وجه حجّية العقل، فنقول:

لقد انتهى الأمر بنا في البحث السابق إلى أنّ الدليل العقلي ما أوجب القطع بحكم الشارع، و إذا كان الأمر كذلك فليس ما وراء القطع حجّة، فإنّه تنتهي إليه حجّية كلّ حجة، لأنّه- كما تقدّم ص 22- هو حجّة بذاته، و لا يُعقل سلخ الحجّية عنه.

و هل تثبت الشريعة إلا بالعقل؟ و هل يثبت التوحيد و النبوّة إلّا بالعقل؟

و إذا سلخنا أنفسنا عن حكم العقل فكيف نصدّق برسالة؟ و كيف نؤمن بشريعة؟ بل كيف نؤمن بأنفسنا و اعتقاداتها؟ و هل العقل إلّا ما عُبد به الرحمن؟ و هل يُعبد الديّان إلّا به؟

إنّ التشكيك في حكم العقل سفسطة ليس وراءها سفسطة! نعم، كلّ ما يمكن الشكّ فيه هو الصغريات، أعني ثبوت الملازمات في المستقلّات العقليّة أو في غير المستقلّات العقليّة. و نحن إنّما نتكلّم في حجّية العقل لإثبات الحكم الشرعي بعد ثبوت تلك الملازمات. و قد شرحنا في الجزء

______________________________ (1) (*) راجع البحث الرابع في أسباب حكم العقل العملي ج 2 ص 279 فما بعدها لتعرف السرّ في التخصيص بالآراء المحمودة.

أصول الفقه ( مظفر، محمد رضا - طبع انتشارات اسلامى )، ج‏3، ص: 138

الثاني مواقع كثيرة من تلك الملازمات، فأثبتنا بعضها في مثل المستقلّات العقليّة، و نفينا بعضاً آخر في مثل مقدّمة الواجب و مسألة الضدّ. أمّا بعد ثبوت الملازمة و ثبوت الملزوم فأيّ معنى للشكّ في حجّية العقل؟ أو الشكّ في ثبوت اللازم و هو حكم الشارع؟

و لكن مع كلّ هذا وقع الشكّ لبعض الأخباريّين في هذا الموضوع، فلا بدّ من تجليته لكشف المغالطة، فنقول:

قد أشرنا في الجزء الثاني (ص 270) إلى هذا النزاع، و قلنا: إنّ مرجع هذا النزاع إلى ثلاث نواحٍ، و ذلك حسب اختلاف عباراتهم:

الاولى: في إمكان أن ينفي الشارع حجّية هذا القطع. و قد اتّضح لنا ذلك بما شرحناه في حجّية القطع الذاتيّة (ص 22) من هذا الجزء «1» فارجع إليه، لتعرف استحالة النهي عن اتّباع القطع.

الثانية: بعد فرض إمكان حجّية القطع هل نهى الشارع عن الأخذ بحكم العقل؟ و قد ادّعى ذلك جملة من الأخباريّين الذين وصل إلينا كلامهم‏ «2» مدّعين أنّ الحكم الشرعي لا يتنجّز و لا يجوز الأخذ به إلّا إذا ثبت من طريق الكتاب و السنّة.

أقول: و مردّ هذه الدعوى في الحقيقة إلى دعوى تقييد الأحكام الشرعيّة بالعلم بها من طريق الكتاب و السنّة. و هذا خير ما يوجّه به كلامهم. و لكن قد سبق الكلام مفصّلًا في مسألة اشتراك الأحكام بين العالم و الجاهل (ص 34 من هذا الجزء) فقلنا: إنّه يستحيل تعليق الأحكام‏

______________________________ (1) العبارة في ط الاولى: و قد استرحنا من هذا البحث بما شرحناه من هذا الجزء في حجّية القطع الذاتيّة ص 16.

(2) منهم المحدّث الاسترابادي في الفوائد المدنيّة: ص 29، و المحدّث البحراني في الحدائق: ج 1 ص 131.

أصول الفقه ( مظفر، محمد رضا - طبع انتشارات اسلامى )، ج‏3، ص: 139

على العلم بها مطلقاً، فضلًا عن تقييدها بالعلم الناشئ من سببٍ خاصّ.

و هذه الاستحالة ثابتة حتّى لو قلنا بإمكان نفي حجّية القطع، لما قلناه من لزوم الخلف، كما شرحناه هناك.

و أمّا ما ورد عن آل البيت عليهم السلام من نحو قولهم: «إنّ دين اللَّه لا يصاب بالعقول» «1» فقد ورد في قباله مثل قولهم: «إنّ للَّه على الناس حجّتين:

حجّة ظاهرة و حجّة باطنة، فأمّا الظاهرة فالرسل و الأنبياء و الأئمّة عليهم السلام و أمّا الباطنة فالعقول» «2».

و الحلّ لهذا التعارض الظاهري بين الطائفتين، هو: أنّ المقصود من الطائفة الاولى بيان عدم استقلال العقل في إدراك الأحكام و مداركها، في قبال الاعتماد على القياس و الاستحسان، لأنّها واردة في هذا المقام، أي أنّ الأحكام و مدارك الأحكام لا تصاب بالعقول بالاستقلال. و هو حقّ كما شرحناه سابقاً. و من المعلوم أنّ مقصود من يعتمد على الاستحسان في بعض صوره هو دعوى أنّ للعقل أن يدرك الأحكام مستقلّاً و يدرك ملاكاتها. و مقصود من يعتمد على القياس هو دعوى أنّ للعقل أن يدرك ملاكات الأحكام في المقيس عليه لاستنتاج الحكم في المقيس. و هذا معنى «الاجتهاد بالرأي». و قد سبق أنّ هذه الإدراكات ليست من وظيفة العقل النظري و لا العقل العملي، لأنّ هذه امور لا تصاب إلّا من طريق السماع من مبلّغ الأحكام.

وعليه فهذه الطائفة من الأخبار لا مانع من الأخذ بها على ظواهرها، لأنّها واردة في مقام معارضة «الاجتهاد بالرأي» و لكنّها أجنبيّة عمّا نحن بصدده و عمّا نقوله في القضايا العقليّة الّتي يتوصّل بها إلى الحكم الشرعي.

______________________________ (1) بحار الأنوار: ج 2 ص 303.

(2) (*) راجع كتاب العقل من اصول الكافي، و هو أوّل كتبه [ج 1 ص. 16].

أصول الفقه ( مظفر، محمد رضا - طبع انتشارات اسلامى )، ج‏3، ص: 140

كما أنّها أجنبيّة عن الطائفة الثانية من الأخبار التي تثني على العقل و تنصّ على أنّه حجّة اللَّه الباطنة، لأنّها تثني على العقل فيما هو من وظيفته أن يدركه، لا على الظنون و الأوهام، و لا على ادّعاءات إدراك ما لا يدركه العقل بطبيعته.

الناحية الثالثة: بعد فرض عدم إمكان نفي الشارع حجّية القطع و النهي عنه، يجب أن نتساءل عن معنى حكم الشارع على طبق حكم العقل؟

و الجواب الصحيح عن هذا السؤال عند هؤلاء أن يقال: إنّ معناه إدراك الشارع و علمه بأنّ هذا الفعل ينبغي فعله أو تركه لدى العقلاء، و هذا شي‏ء آخر غير أمره و نهيه، و النافع هو أن نستكشف أمره و نهيه، فيحتاج إثبات أمره و نهيه إلى دليلٍ آخر سمعي، و لا يكفي فيه ذلك الدليل العقلي الّذي أقصى ما يُستنتج منه أنّ الشارع عالم بحكم العقلاء، أو أنّه حكم بنفس ما حكم به العقلاء، فلا يكون منه أمر مولوي أو نهي مولوي.

أقول: و هذه آخر مرحلة لتوجيه مقالة منكري حجّية العقل، و هو توجيه يختصّ بالمستقلّات العقليّة. و لهذا التوجيه صورة ظاهريّة يمكن أن تنطلي على المبتدئين أكثر من تلك التوجيهات في المراحل السابقة.

و هذا التوجيه ينطوي على إحدى دعويين:

1- دعوى إنكار الملازمة بين حكم العقل و حكم الشرع، و قد تقدّم تفنيدها في الجزء الثاني (ص 293) فلا نعيد.

2- الدعوى الّتي أشرنا إليها هناك في آخر ص 294 من الجزء الثاني.

و توضيحها:

إنّ ما تطابقت عليها آراء العقلاء هو استحقاق المدح و الذمّ فقط، و المدح و الذمّ غير الثواب و العقاب، فاستحقاقهما لا يستلزم استحقاق‏

أصول الفقه ( مظفر، محمد رضا - طبع انتشارات اسلامى )، ج‏3، ص: 141

الثواب و العقاب من قبل المولى. و الّذي ينفع في استكشاف حكم الشارع هو الثاني و لا يكفي الأوّل. و لو فُرض أنّا صحّحنا الاستلزام للثواب و العقاب، فإنّ ذلك لا يدركه كلّ أحد. و لو فُرض أنّه أدركه كلّ أحد فإنّ ذلك ليس كافياً للدعوة إلى الفعل إلّا عند الأوحديّ‏ «1» من الناس. و على أيّ تقديرٍ فُرض فلا يستغني أكثر الناس عن توجيه الأمر من المولى أو النهي منه في مقام الدعوة إلى الفعل أو الزجر عنه.

و إذا كان نفس إدراك الحسن و القبح غير كافٍ في الدعوة- و المفروض لم يقم دليل سمعي على الحكم- فلا نستطيع أن نحكم بأنّ الشارع له أمر و نهي على طبق حكم العقل قد اكتفى عن بيانه اعتماداً على إدراك العقل ليكون حكم العقل كاشفاً عن حكمه، لاحتمال ألّا يكون للشارع حكم مولوي على طبق حكم العقل حينئذٍ. و إذا جاء الاحتمال بطل الاستدلال، لأنّ المدار على القطع في المقام. و الجواب: أنّه قد أشرنا في الحاشية (ج 2 ص 294) إلى ما يفنّد الشقّ الأوّل من هذه الدعوى الثانية، إذ قلنا: الحقّ أنّ معنى استحقاق المدح ليس إلّا استحقاق الثواب، و معنى استحقاق الذمّ ليس إلّا استحقاق العقاب، لا أنّهما شيئان أحدهما يستلزم الآخر، لأنّ حقيقة المدح و المقصود منه هو المجازاة بالخير لا المدح باللسان، و حقيقة الذمّ و المقصود منه هو المجازاة بالشرّ لا الذمّ باللسان. و هذا المعنى هو الّذي يحكم به العقل، و لذا قال المحقّقون من الفلاسفة: «إنّ مدح الشارع ثوابه و ذمّه عقابه» «2». و أرادوا هذا المعنى.

______________________________ (1) في ط 2 بدل «الأوحديّ»: الفذّ.

(2) لم نظفر به.

أصول الفقه ( مظفر، محمد رضا - طبع انتشارات اسلامى )، ج‏3، ص: 142

بل بالنسبة إلى اللَّه تعالى لا معنى لفرض استحقاق المدح و الذمّ اللسانيّين عنده، بل ليست مجازاته بالخير إلّا الثواب و ليست مجازاته بالشرّ إلّا العقاب.

و أمّا الشقّ الثاني من هذه الدعوى، فالجواب عنه: أنّه لمّا كان المفروض أنّ المدح و الذمّ من القضايا المشهورات الّتي تتطابق عليها آراء العقلاء كافّة، فلا بدّ أن يُفرض فيه أن يكون صالحاً لدعوة كلّ واحدٍ من الناس. و من هنا نقول: إنّه مع هذا الفرض يستحيل توجيه دعوة مولويّة من اللَّه تعالى ثانياً، لاستحالة جعل الداعي مع فرض وجود ما يصلح للدعوة عند المكلّف، إلّا من باب التأكيد و لفت النظر. و لذا ذهبنا هناك إلى أنّ الأوامر الشرعيّة الواردة في موارد حكم العقل مثل وجوب الطاعة و نحوها يستحيل فيها أن تكون أوامر تأسيسيّة (أي مولويّة) بل هي أوامر تأكيديّة (أي إرشاديّة).

و أمّا أنّ هذا الإدراك لا يدعو إلا الأوحديّ‏ «1» من الناس فقد يكون صحيحاً، و لكن لا يضرّ في مقصودنا، لأنّه لا نقصد من كون حكم العقل داعياً أنّه داع بالفعل لكلّ أحد، بل إنّما نقصد- و هو النافع لنا- أنّه صالح للدعوة.

و هذا شأن كلّ داعٍ حتّى الأوامر المولويّة، فإنه لا يترقّب منها إلّا صلاحيّتها للدعوة لا فعليّة الدعوة، لأنّه ليس قوام كون الأمر أمراً من قِبَل الشارع أو من قِبَل غيره فعليّة دعوته لجميع المكلّفين، بل الأمر في حقيقته ليس هو إلّا جعل ما يصلح أن يكون داعياً، يعني ليس المجعول في الأمر فعليّة الدعوة. وعليه، فلا يضرّ في كونه صالحاً للدعوة عدم امتثال أكثر الناس.

______________________________ (1) في ط 2 بدل «الأوحديّ»: الفذّ.

أصول الفقه ( مظفر، محمد رضا - طبع انتشارات اسلامى )، ج‏3، ص: 144