حضرت امام علی عليه‌السلام نے فرمایا: اپنی رائے میں کسی بزدل کو شریک نہ کیا کرو، کیونکہ وہ تمہاری رائے کو کمزور بنادے گا اور ایسی چیز کو بڑا بناکر پیش کرے گا جو در حقیقت بڑی نہیں ہوتی۔ غررالحکم حدیث10090

*الباب السادس: الصناعات الخمس*
المقدمة فی مبادئ الأقیسة
الیقینیات
تمرینات
المظنونات
المشهورات
الوهمیات
المسلمات
المقبولات
المشبهات
المخیلات
أقسام الأقیسة بحسب المادة
فائدة الصناعات الخمس على الإجمال
الفصل الأول: صناعة البرهان
البرهان لمی و انی
اقسام البرهان الإنَّی
الطریق الأساس الفکری لتحصیل البرهان
البرهان اللمّی مطلق و غیر مطلق
معنى العلة فی البرهان اللمّی
توضیح فی أخذ العلل حدودا وسطى
شروط مقدمات البرهان
معنى الذاتی فی کتاب البرهان
معنى الأوّلی
الفصل الثانی: صناعة الجدل أو آداب المناظرة
المبحث الأول القواعد والأصول
المبحث الثانی المواضع
المبحث الثالث الوصایا
الفصل الثالث: صناعة الخطابة
المبحث الأول الأصول والقواعد
المبحث الثانی الأنواع
المبحث الثالث التوابع
الفصل الرابع: صناعة الشعر
الفصل الخامس: صناعة المغالطة
المبحث الأول المقدمات
المبحث الثانی أجزاء الصناعة الذاتیة
المبحث الثالث أجزاء الصناعة العرضیة

المنطق حصہ سوم

الفصل الرابع: صناعة الشعر

تمهید:

إن الشعر صناعة لفظیة تستعملها جمیع الأمم على اختلافها. والغرض الأصلی منه التأثیر على النفوس لإثارة عواطفها: من سرور وابتهاج أو حزن وتألم أو إقدام وشجاعة أو غضب وحقد أو خوف وجبن أو تهویل أمر وتعظیمه أو تحقیر شیء وتوهینه أو نحو ذلک من انفعالات النفس.

والرکن المقوم للکلام الشعری المؤثر فی انفعالات النفوس ومشاعرها أن یکون فیه تخییل وتصویر إذ للتخییل والتصویر الأثر الأول فی ذلک کما سیأتی بیانه فلذلک قیل: إن قدماء المناطقة من الیونانیین جعلوا المادة المقومة للشعر القضایا المتخیلات فقط ولم یعتبروا فیه وزناً ولا قافیة.

أما العرب ـ وتبعتهم أمم أخرى ارتبطت بهم کالفرس والترک ـ فقد اعتبروا فی الشعر الوزن المخصوص المعروف عند العروضیین واعتبروا أیضاً القافیة على ما هی معروفة فی علم القافیة وإن اختلفت هذه الأمم فی خصوصیاتها. أما ما لیس له وزن وقافیة فلا یسمونه شعراً وإن اشتمل على القضایا المخیلات. ولکن الذی صرح به الشیخ الرئیس فی منطق الشفاء أن الیونانیین کالعرب کانوا یعتبرون الوزن فی الشعر حتى أنه ذکر أسماء الأوزان عندهم.

وهکذا یجب أن یکون فإن للوزن أعظم الأثر فی التخییل وانفعالات النفس لأنَّ فیه من النغمة والموسیقى ما یلهب الشعور ویحفزه وما قیمة الموسیقى إلا بالتوقیع على وزن مخصوص منظم. بل القافیة کالوزن فی ذلک وإن جاءت بعده فی الدرجة.

ومن الواضح أن الشعر الموزون المقفى یفعل فی النفوس ما لا یفعله الکلام المنثور سواء کان هذا الفرق بسبب العادة إذ الوزن صار مألوفاً عند العرب وشبههم وتربى لدیهم ذوق ثان غیر طبیعی؛ أم ـ على الأصح ـ کان بسبب تأثر النفس بالوزن والقافیة بالغریزة کتأثرها بالموسیقى المنظمة بلا فرق. والعادة لیس شأنها أن تخلق الغرائز والأذواق بل تقویها وتشحذها وتنمیها.

بل حتى الکلام المنثور المقفى والمزدوج المعادلة جمله بدون أن یکون له وزن شعری، له وقع على النفوس یهزها کما سبق الکلام علیه فی توابع الخطابة، نعم المبالغة فی التسجیع الذی یبدو متکلفاً به ـ على النحو الذی ألفته القرون الإسلامیة الأخیرة ـ أفقدت الکلام رونقه وتأثیره.

وعلى هذا فالوزن والقافیة یجب أن یعتبرا من أجزاء الشعر ومقوماته لا من محسناته وتوابعه ما دام المنطقی إنّما یهمه من الشعر هو التخییل وکل ما کان أقوى تأثیراً وتصویراً کان أدخل فی غرضه. ویصح ـ على هذا ـ أن یعد الوزن والقافیة من قبیل (الأعوان) نظیر التی ذکرناها فی الخطابة. أما (العمود) فهو نفس القضایا المخیلات فکما تنقسم أجزاء الخطابة إلى عمود وأعوان فکذلک الشعر.

نعم إن الکلام المنظوم المقفى إذا لم یشتمل على التصویر والتخییل لا یعد من الشعر عند المناطقة فلا ینبغی أن یسمى المنظوم فی المسائل العلمیة أو التاریخیة المجردة مثلاً شعراً وإن کان شبیهاً به صورة. وقد یسمى شعراً عند العرب أو بالأصح عند المستعربین.

ومما ینبغی أن یعلم فی هذا الصدد أنا عندما اعتبرنا الوزن والقافیة فلا نقصد بذلک خصوص ما جرت علیه عادة العرب فیهما على ما هما مذکوران فی علمی العروض والقافیة بل کل ما له تفاعیل لها جرس وإیقاع فی النفس ـ ولو مثل (البنود) وماله قوافی مکررة مثل (الموشحات والرباعیات) ـ فإنه یدخل فی عداد الشعر.

أما (الشعر المنثور) المصطلح علیه فی هذا العصر فهو شعر أیضاً ولکنّه بالمعنى المطلق الذی قیل عنه أنه مصطلح مناطقة الیونان فقد فَقَدَ رکناً من أرکانه وجزءاً من أجزائه.

والإنصاف إن إهمال الوزن والقافیة یضعف القیمة الشعریة للکلام ویضعف أثره التخییلی فی النفوس وإن جاز إطلاق اسم الشعر علیه إذا کانت قضایاه تخییلیة.

تعریف الشعر:

وعلى ما تقدم من الشرح ینبغی أن نعّرف الشعر بما یأتی:

«أنه کلام مخیل مؤلف من أقوال موزونة متساویة مقفاة».

وقلنا: (متساویة) لأنّ مجرد الوزن من دون تساو بین الأبیات ومصارعها فیه لا یکون له ذلک التأثیر إذ یفقد مزیة النظام فیفقده تأثیره. فتکرار الوزن على تفعیلات متساویة هو الذی له الأثر فی انفعال النفوس.

فائدته:

إن للشعر نفعاً کبیراً فی حیاتنا الاجتماعیة وذلک لإثارة النفوس عند الحاجة فی هیاجها لتحصیل کثیر من المنافع فی مقاصد الإنسان فیما یتعلق بانفعالات النفوس وإحساساتها فی المسائل العامة: من دینیة أو سیاسیة أو اجتماعیة أو من الأمور الشخصیة الفردیة. ویمکن تلخیص أهم فوائده فی الأمور الآتیة:

1ـ إثارة حماس الجند فی الحروب.

2ـ إثارة حماس الجماهیر لعقیدة دینیة أو سیاسیة أو إثارة عواطفه لتوجیهه إلى ثورة فکریة أو اقتصادیة. 3ـ تأیید الزعماء بالمدح والثناء وتحقیر الخصوم بالذم والهجاء.

4ـ هیاج اللذة والطرب وبعث السرور والابتهاج لمحض الطرب والسرور کما فی مجالس الغناء.

5ـ إهاجة الحزن والبکاء والتوجع والتألم کما فی مجالس العزاء.

6ـ إهاجة الشوق إلى الحبیب أو الشهوة الجنسیة کالتشبیب والغزل.

7ـ الاتعاظ عن فعل المنکرات وإخماد الشهوات أو تهذیب النفس وترویضها على فعل الخیرات کالحکم والمواعظ والآداب.

السبب فی تأثیره على النفوس:

وبعد معرفة تلک الفوائد یبقى أن نسأل عن شیئین:

(الأول) عن السبب فی تأثیر الشعر على النفس لإثارة تلک الانفعالات.

و(الثانی) بماذا یکون الشعر شعراً أی مخیلا؟

والجواب على السؤال الأول أن نقول:

أن الشعر قوامه التخییل والتخییل ـ من البدیهی ـ أنه من أهم الأسباب المؤثرة على النفوس لأن التخییل أساسه التصویر والمحاکاة والتمثیل لما یراد من التعبیر عن معنى والتصویر له من الوقع فی النفوس ما لیس لحکایة الواقع بأداء معناه مجرداً عن تصویره فإن الفرق عظیم بین مشاهدة الشیء فی واقعه وبین مشاهدة تمثیله بالصورة أو بمحاکاته بشیء آخر یمثله. إذ التصویر والتمثیل یثیر فی النفس التعجب والتخییل فتلتذ به وترتاح له ولیس لواقع الحوادث المصورة والممثلة قبل تصویرها وتمثیلها ذلک الأثر من اللذة والارتیاح إذا شاهدها الإنسان.

واعتبر ذلک فیمن یحاکون غیرهم فی مشیة أو قول أو إنشاد أو حرکة أو نحو ذلک فإنه یثیر إعجابنا ولذتنا أو ضحکنا مع أنه لا یحصل ذلک الأثر النفسی ولا بعضه لو شاهدنا نفس المحکیین فی واقعهم. وما سر ذلک إلا التخییل والتصویر فی المحاکاة.

وعلى هذا کلما کان التصویر دقیقاً معبراً کان أبلغ أثرا فی النفس. ومن هنا کانت السینما من أعظم المؤثرات على النفوس وهو سر نجاحها وإقبال الجمهور علیها لدقة تعبیرها وبراعة تمثیلها عن دقائق الأشیاء التی یراد حکایتها.

والخلاصة: أن تأثیر الشعر فی النفوس من هذا الباب لأنّه بتصویره یثیر الإعجاب والاستغراب والتخییل فتلتذ به النفس وتتأثر به حسبما یقتضیه من التأثیر. ولذا قالوا: إن الشاعر کالمصور الفنان الذی یرسم بریشته الصور المعبرة.

وحق أن نقول حینئذ: أن الشعر من الفنون الجمیلة الغرض منه تصویر المعانی المراد التعبیر عنها لیکون مؤثراً فی مشاعر الناس ولکنّه تصویر بالألفاظ.

بماذا یکون الشعر شعراً؟:

إذا عرفت ما تقدم فلنعد إلى السؤال الثانی فنقول: بماذا یکون الشعر شعراً أی مخیلا؟ والجواب: أن التصویر فی الشعر کما ألمعنا إلیه فی التمهید یحصل بثلاثة أشیاء:

1ـ (الوزن) فإن لکل وزن شأناً فی التعبیر عن حال من أحوال النفس ومحاکاته له ولهذا السبب یوجب انفعالاً فی النفس فمثلاً بعض الأوزان یوجب الطیش والخفة وبعضها یقتضی الوقار والهدوء وبعضها یناسب الحزن والشجى وبعضها یناسب الفرح والسرور.

فالوزن ـ على کل حال ـ بحسب ما له من إیقاعات موسیقیة یثیر التخیل واللذة فی النفوس. وهذا أمر غریزی فی الإنسان. وإذا أدى الوزن بلحن ونغمة تناسبه مع صوت جمیل کان أکثر إیقاعاً وأشدّ تأثیراً فی النفس لا سیما أن لکل نغمة صوتیة أیضاً تعبیراً عن حال: فالنغمة الغلیظة ـ مثلاً ـ تعبر عن الغضب والنغمة الرقیقة عن السرور وهیجان الشوق والنغمة الشجیة عن الحزن. فإذا انضمت النغمة إلى الوزن تضاعف أثر الشعر فی التخییل ولذلک تجد الاختلاف الکثیر فی تأثیر الشعر باختلاف إنشاده بلحن وبغیر لحن وباختلاف طرق الألحان وطرق الإنشاد حتى قد یبلغ إلى درجة النشوة والطرب فیثیر عاطفة عنیفة عاصفة.

2ـ المسموع من القول یعنی الألفاظ نفسها فإن لکل حرف أیضاً نغمة وتعبیراً عن حال کما أن تراکیبها لها ذلک الاختلاف فی التعبیر عن أحوال النفس والاختلاف فی التأثیر فیها فهناک ـ مثلاً ـ ألفاظ عذبة رقیقة وألفاظ غلیظة ثقیلة على السمع وألفاظ متوسطة.

ثم إن للفظ المسموع أیضا تأثیرا فی التخییل أما من جهة جوهره کأن یکون فصیحاً جزلاً أو من جهة حیلة بترکیبه کما فی أنواع البدیع المذکورة فی علمه وکالتشبیه والاستعارة والتوریة ونحوها المذکورة فی علم البیان.

3ـ نفس الکلام المخیل أی معانی الکلام المفیدة للتخییل وهی القضایا المخیلات التی هی العمدة فی قوام الشعر ومادته التی یتألف منها.

وإذا اجتمعت هذه العناصر الثلاثة کان الشعر کاملاً وحق أن یسمى (الشعر التام). وبها یتفاضل الشعراء وتسمو قیمته إلى أعلى المراتب أو تهبط إلى الحضیض.

وبها تختلف رتب الشعراء وتعلو وتنزل درجاتهم: فشاعر یجری ولا یجری معه فیستطیع أن یتصرف فی النفوس حتى یکاد تکون له منزلة الأنبیاء من ناحیة التأثیر على الجماهیر وشاعر لا یستحق إلا أن تصفعه وتحقره حتى یکاد یکون أضحوکة للمسهزئین وبینهما درجات لا تحصى.

أکذبه أعذبه:

من المشهورات عند شعراء اللغة العربیة قولهم: (الشعر أکذبه أعذبه) وقد استخف بعض الأدباء المحدثین بهذا القول ذهاباً إلى أن الکذب من أقبح الأشیاء فکیف یکون مستملحاً، مضافاً إلى أن القیمة للشعر إنّما هی بالتصور المؤثر فإذا کان کاذباً فلیس فی الکذب تصویر لواقع الشیء.

وهذا النقد حق لو کان المراد من الشعر الکاذب مجرد الإخبار عن الواقع کذباً. غیر أن مثل هذا الإخبار ـ کما تقدم ـ لیس من الشعر فی شیء وإن کان صادقاً.

وإنما الشعر بالتصویر والتخییل. ولکن یجب أن نفهم أن تصویر الواقع تارة یکون بما له من الحقیقة الواقعة بلا تحویر ولا إضافة شیء على صورته ولا مبالغة فیه أو حیلة فی تمثیله. ومثل هذا یکون ضعیف التأثیر على النفس ولا یوجب الالتذاذ المطلوب.

وتارة أخرى یکون بصورة تخییلیة ـ على ما نوضحه فیما بعد ـ بأن تکون کالرتوش التی تصنع للصورة الفوتوغرافیة إما بتحسین أو بتقبیح مع أن الواقع من ملامح ذی الصورة محفوظ فیها أو کالصورة الکاریکاتوریة التی تحکی صورة الشخص بملامحه الممیزة له مع ما یفیض علیها المصور من خیاله من تحریفات للتعبیر عن بعض أخلاقه أو حالاته أو أفکاره أو نحو ذلک.

فهذا التعبیر أو التصویر من جهة صادق ومن جهة أخرى کاذب ولکنه فی عین کونه کاذبا هو صادق. وهذا من العجیب. ولکن معناه أن المراد الجدی ـ أی المقصود بیانه واقعاً وجداً ـ من هذا التخییل صادق فی حین أن نفس التخییل الذی ینبغی أن نسمیه المراد الاستعمالی کاذب.

ولیتضح لک هذا المعنى تأمل نظیره فی تصویره الصورة الکاریکاتوریة فإن المصور قد یضفی على الصورة ما یدل على الغضب أو الکبریاء من ملامح تخیلها المصور ولیست هی حقیقیة لصاحب الصورة بالشکل الذی تخیله المصور وهی مراد استعمالی کاذب. أما المراد الجدی وهو بیان أن الشخص غضوب أو متکبر فإن التعبیر عنه یکون صادقاً لو کان الشخص واقعاً کذلک أی غضوباً أو متکبراً.

فإذن، إنما التخییل الکاذب وقع فی المراد الاستعمالی لا الجدی.

وکذلک نقول فی الشعر ولا سیما أن أکثر ما یأتی فیه التخییل بالمبالغات کالمبالغة بالمدح أو الذم أو التحسین أو التقبیح؛ والمبالغة لیست کذبا فی المراد الجدی إذا کان واقعه کذلک ولکنها کاذبة فی المراد الاستعمالی. ولیس هذا من الکذب القبیح المذموم ما دام هو لیس مراداً جدیاً یراد الإخبار عنه حقیقة.

مثلاً قد یشبه الشعراء الخصر الدقیق بالشعرة الدقیقة فهذا تصویر لدقة الخصر. فإن أرید به الإخبار حقیقة وجداً عن أن الخصر دقیق کالشعرة أی أن المراد الجدی هو ذلک فهو کذب باطل وسخیف ولیس فیه أی تأثیر على النفس ولا تخییل فلا یعد شعراً. ولکن فی الحقیقة أن المراد الجدّی منه إعطاء صورة للخصر الدقیق لبیان أن حسنه فی دقته یتجاوز الحد المألوف فی الناس وإنما یکون هذا کاذباً إذا کان الخصر غیر دقیق لأن الواقع یخالف المراد الجدی. أما المراد الاستعمالی وهو التشبیه بالشعرة فهو کاذب ولا ضیر فیه ولا قبح ما دام المراد به التوصل إلى التعبیر عن ذلک المراد الجدی بهذه الصورة الخیالیة.

وبمثل هذا یکون التعبیر مستغرباً وصورة خیالیة قد تشبه المحال فتجلب الانتباه وتثیر الانفعال لغرابتها. وکلما کانت الصورة الخیالیة غریبة بعیدة تکون أکثر أثراً فی التذاذ النفس وإعجابها. ولذا نقول أن الشعر کلما کان مغرقاً فی الکذب فی المراد الاستعمالی بذلک المعنى من الکذب کان أکثر عذوبة وهذا معنى (أکذبه أعذبه) لا کما ظنه بعض من لا قدم له ثابتة فی المعرفة. على أن التخییل وإن کان حقیقة أی فی مراده الجدّی أیضاً فإنّه یأخذ أثره من النفس کما سنوضحه فی البحث الآتی:

القضایا المخیلات وتأثیرها:

ونزید على ما تقدم فنقول:

إن المخیلات لیس تأثیرها فی النفس من أجل أنّها تتضمن حقیقة یعتقد بها بل حتى لو علم بکذبها فإنّ لها ذلک التأثیر المنتظر منها لأنّه ما دام أن القصد منها هو التأثیر على النفوس فی إحساساتها وانفعالاتها فلا یهم ألا تکون صادقة إذ لیس الغرض منها الاعتقاد والتصدیق بها.

والجمهور والنفوس غیر المهذبة تتأثر بالمخیلات أکثر من تأثرها بالحقائق العلمیة لأن الجمهور أو الفرد غیر المهذب عاطفی أکثر من أن یکون متبصراً وهو أطوع للتخییل من الإقناع.

ألا ترى أن الکلام المخیل الشعری قد یحبب أمراً مبغوضاً للنفس وقد یبغض شیئاً محبوباً لها. واعتبر ذلک فی اشمئزاز بعض الناس من أکلة لذیذة قد أقبل على أکلها فقیل له: أنه وقع فیها بعض ما تعافه النفس کالخنفساء مثلاً أو شبهت له ببعض المهوعات. فإن الخیال حینئذ قد یتمکن منه فیعافها حتى لو علم بکذب ما قیل.

ولا تنس القصة المشهورة لملک الحیرة النعمان بن المنذر مع ندیمه الربیع وقد کان یأکل معه فجاءه لبید الشاعر وهو غلام مع قومه للانتقام من الربیع فی قصة مشهورة فی مجامع الأمثال فقال لبید مخاطباً للنعمان:

مهلاً أبیت اللعن لا تأکل معه ** أن أسته من برص ملمعه

وأنه یدخل فیها إصبعه ** یدخلها حتى یواری أشجعه

فرفع النعمان یده من الطعام وتنکر لندیمه هذا وأبى أن یستکشف صدق هذا القول فیه بالرغم على الحاجة وقال له ما ذهب مثلاً من أبیات:

قد قیل ذلک إن حقاً وإن کذباً ** فما اعتذارک من قول إذا قیلا

واعتبر ذلک أیضاً فی تصویر الإنسان بهذه الصورة اللفظیة البشعة (أوله نطفة مذرة وآخره جیفة قذرة. وهو ما بین ذلک یحمل العذرة). فإن هذه صورة حقیقیة للإنسان ولکنها لیست کل ما له من صور وللنفس على کل حال محاسنها التی ینبغی أن یعجب بها لا سیما من صاحبها وإعجاب المرء بنفسه وحبه لها أساس حیاته کلها. ولکن مثل ذلک التصویر البشع یأخذ من النفس أثره من التنفر والاشمئزاز حتى لو کان أبعد شیء فی التأثیر فی التصدیق والاعتقاد بحقارة النفس. وسبب هذا التأثر النفسی هو التخییل الذی قد یقلع المتکبر عن غطرسته ویخفف من إعجابه بنفسه. وهذا هو المقصود من مثل هذه الکلمة.

واعتبر أیضاً بالشعر العربی فکم رفع وضیعا أو وضع رفیعاً وکم أثار الحروب وأورى الأحقاد. وکم قرب بین المتباعدین وآخى بین المتعادین.

ورب بیت صار سبة لعشیرة ** وآخر صار مفخرة لقوم

على أن کل ذلک لم یغیر واقعاً ولا اعتقاداً. ومرد ذلک کله إلى الانفعالات النفسیة وحدها وقد قلنا أنها أعظم تأثیراً على الجمهور الذی هو عاطفی بطبعه وعلى الأفراد غیر المهذبة التی تتغلب علیها العاطفة أکثر من التبصر.

والخلاصة: أن التصویر والتخییل مؤثر فی النفس وإن کان کاذباً بل ـ وقد سبق ـ کلما کانت الصورة أبعد وأغرب کانت أبلغ أثراً فی إعجاب النفس والتذاذها.

و أحسن مثال لذلک قصص ألف لیلة ولیلة وکلیلة ودمنة والقصص فی الأدب الحدیث.

و السبب الحقیقی لانفعال النفس بالقضایا المخیلات الاستغراب الذی یحصل لها بتخییلها على ما أشرنا إلیه فیما تقدم.

ألا ترى أن المضحکات والنوادر عند أول سماعها تأخذ أثرها فی النفس من ناحیة اللذة والانبساط أکثر مما لو تکررت وألفت الآذان سماعها. بل قد تفقد مزیتها وتصبح تافهة باهتة لا تهتز النفس لها. بل قد یؤثر تکرارها الملل والاشمئزاز.

واذا قیل فی بعض الشعر أنه (هو المسک ما کررته یتضوع) فهو من مبالغات الشعراء. وإذا صح ذلک فیمکن ذلک لأحد وجهین:

(الأول) أن یکون فیه من المزایا والنکات ما لا یتضح لأول مرة أو لا یتمثل للنفس جیداً فإذا تکررت قراءته استمرى أکثر وانکشفت مزایاه بصورة أجلى فتتجدد قیمته بنظر المستمع.

(الثانی) أن عذوبة اللفظ وجزالته لا تفقد مزیتها بالتکرار ولیست کالتخییل.

هل هناک قاعدة للقضایا المخیلات؟

قد تقدم أن قوام الشعر بثلاثة أمور: الوزن والألفاظ والمعانی المخیلة فلابد لمن یرید أن یتقن صناعة الشعر من الرجوع إلى القواعد التی تضبط هذه الأمور فنقول:

أما (الوزن والألفاظ) فلها قواعد مضبوطة فی فنون معروفة یمکن الرجوع إلیها ولیس فی علم المنطق موضع ذکرها لأنّ المنطق إنما یهمه النظر فی الشعر من ناحیة تخییلیة فقط.

وأما (الوزن) من ناحیة ماهیته فإنما یبحث عنه فی علم الموسیقى. ومن ناحیة استعماله وکیفیته فیبحث عنه فی علم العروض.

وأما (الألفاظ) فهی من شأن علوم اللغة وعلوم البلاغة والبدیع.

وعلى هذا فلابد للشاعر من معرفة کافیة بهذه الفنون أما بالسلیقة أو بالتعلم والممارسة مع ذوق یستطیع به أن یدرک جزالة اللفظ وفصاحته ویفرق بین الألفاظ من ناحیة عذوبتها وسلاستها. والناس تتفاوت تفاوتاً عظیماً فی أذواقها وإن کان لکل أمة ولکل أهل لغة ذوق عام مشترک. وللممارسة وقراءة الشعر الکثیر الأثر الکبیر فی تنمیة الذوق وصقله.

أما (القضایا المخیلات) فلیس لها قاعدة مضبوطة یمکن تحریرها والرجوع إلیها لأنّها لیست من قبیل القضایا المشهورات والمظنونات یمکن حصرها وبیان أنواعها إذ القضایا المخیلات ـ کما سبق ـ کلما کانت بعیدة نادرة وغریبة مستبعدة کانت أکثر تأثیراً فی التخییل والتذاذ النفس. وقد سبق أیضاً بیان السبب الحقیقی فی انفعال النفس بهذه القضایا.

وعلیه فالقضایا المخیلات لا یمکن حصرها فی قواعد مضبوطة بل (الشعراء فی کل وادٍ یهیمون). ولیس لهم طریق واحد مستقیم معلوم.

من أین تتولد ملکة الشعر؟

لا یزال غیر واضح لنا سر ندرة الشعراء الحقیقیین فی کل أمة. بل لا تجد من کل أمة من تحصل له قوة الشعر فی رتبة عالیة فینبغ فیه ویتمکن من الإبداع والاختراع إلاّ النادر القلیل وفی فترات متباعدة قد تبلغ القرون.

ومن العجیب أن هذه الملکة ـ على ما بها من اختلاف فی الشعراء قوة وضعفاً ـ لا تتولد فی أکثر الناس وإن شارکوا الشعراء فی تذوق الشعر وممارسته وتعلمه.

وکل ما نعلمه عن هذه الملکة أنها موهبة ربانیة کسائر مواهبه تعالى التی یختص بها بعض عباده کموهبة حسن البیان أو الخطابة أو التصویر أو التمثیل ... وما إلى ذلک مما یتعلق بالفنون الجمیلة وغیرها.

ومن أجل هذا الاختصاص الربانی اعتبر الشعراء نوابغ البشر. وقد وجدنا العرب کیف کانت تعتز بشعرائها فإذا نبغ فی قبیلة شاعر أقاموا له الاحتفالات وتهنئها به القبائل الأخرى. ولو کان یتمکن أکثر الناس من أن یکونوا شعراء لما صحت منهم هذه العنایة بشاعرهم ولما عدّوه نبوغا.

غیر أن هذه الموهبة ـ کسائر المواهب الأخرى ـ تبدأ فی تکوینها فی النفس کالبذرة لا یحس بها حتى صاحبها فإذا اکتشفها صاحبها من نفسه صدفة وسقاها بالتعلیم والتمرین تنمو وتستمر فی النمو حتى قد تصبح شجرة باسقة تؤتی أکلها کل حین.

ولکن اکتشاف الموهبة لیس بالأمر الهین وقد یکتشفها الغیر العارف قبل صاحبها نفسه. وقد تذوی وتموت المواهب فی کثیر من النفوس إذا أهملت فی السن المبکر لصاحبها.

صلة الشعر بالعقل الباطن:

والحق أن الشاعر البارع ـ کالخطیب البارع ـ یستمد فی إبداعه من عقله الباطن اللاشعوری فیتدفق الشعر على لسانه کالإلهام من حیث یدری ولا یدری على اختلاف عظیم للشعراء والخطباء فی هذه الناحیة.

ولیس الشعر والخطابة کسائر الصناعات الأخرى التی یبدع فیها الصانع عن رویة وتأمل دائما. وإلى هذا أشار صحار العبدی لما سأله معاویة: ما هذه البلاغة فیکم؟ فقال: (شیء یختلج فی صدورنا فتقذفه ألسنتنا کما یقذف البحر الدرر) وهذه لفتة بارعة من هذا الأعرابی أدرکها بفطرته وصورها على طبع سجیته.

ومن أجل ما قلناه من استمداد الشاعر من منطقة اللاشعور تجده قد لا یواتیه الشعر وهو فی أشد ما یکون من یقظته الفکریة ورغبته الملحة فی إنشائه. قال الفرزدق: (قد یأتی علیّ الحین وقلع ضرس عندی أهون من قول بیت شعر).

وبالعکس قد یفیض الشعر ویتدفق على لسان الشاعر من غیر سابق تهیؤ فکری والشعراء وحدهم یعرفون مدى صحة هذه الحقیقة من أنفسهم.

وأحسب أنه من أجل هذا زعم العرب أو شعراؤهم خاصة أن لکل شاعر شیطاناً أو جنیاً یلقی علیه الشعر. والغریب أن بعضهم تخیله شخصا یمثل له وأسماه باسم مخصوص. وکل ذلک لأنهم رأوا من أنفسهم أن الشعر یواتیهم على الأکثر من وراء منطقة الشعور وعجزوا عن تفسیره بغیر الشیطان والجن.

وعلى کل حال فإن قوة الشعر إذا کانت موجودة فی نفس الفرد لا تخرج ـ کما تقدم ـ من حد القوة إلى حد الفعلیة اعتباطاً من دون سابق تمرین وممارسة للشعر بحفظ وتفهم ومحاولة نظمه مرة بعد أخرى. وقد أوصى بعض الشعراء ناشئا لیتعلم الشعر أن یحفظ قسماً کبیراً من المختار منه ثم یتناساه مدة طویلة ثم یخرج إلى الحدائق الغناء لیستلهمه وکذلک فعل ذلک الناشئ فصار شاعراً کبیراً.

إن الأمر بحفظه وتناسیه فلسفة عمیقة فی العقل الباطن توصل إلیها ذلک الشاعر بفطرته وتجربته: إن هذا هو شحن القوة للعقل الباطن لتهیئته لإلهام الشعور فی ساعة الانشراح والانطلاق التی هی إحدى ساعات تیقظ العقل الباطن وانفتاح المجرى النفسی بین منطقتی اللاشعور والشعور أو بالأصح إحدى ساعات اتحاد المنطقتین. بل هی من أفضل تلک الساعات. وما أعز انفتاح هذا المجرى على الإنسان إلا على من خلق ملهما فیؤاتیه بلا اختیار.

***